أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إشراق العود - ابن سينا بين العقل والإيمان(1)















المزيد.....


ابن سينا بين العقل والإيمان(1)


إشراق العود

الحوار المتمدن-العدد: 6997 - 2021 / 8 / 23 - 15:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أود، بادئ ذي بدء، أن أعبر لكم عن مدى سروري بمشاركتي في دورة المحاضرات هذه حول موضوع مهم بالنسبة لي وهو "الرعاية وحوار الديانات". وبهذا الصدد، أشكر المنظمين الذين أتاحوا لي فرصة تقديم هذا الطبيب الذي لم أنته بعد من اكتشاف فكره: ابن سينا.
كان ذلك بمناسبة اشتغالي برسالة الدكتوراه في التحليل النفسي وعلم النفس المرضي، حيث أثارت انتباهي بعض أفكار ابن سينا حول مفهوم الكل، الخاص، المنفرد والمختلف، وهي مفاهيم استعملها بحدة ذهن فائقة. اكتشفتُ آنذاك نظريته العامة للمعرفة وجعلُه ُ مفهوم الوجود، الذي يعتبر محور فكره، مرجعية له. أدركتُ حينها أيضا إلى أي حد كان هناك تركيز، خاصة في العالم الإسلامي، على فكر الطبيب وذلك على حساب فكر الفيلسوف والمتصوف.
قلة هم، خارج إطار المختصين، من يعرفون أن فلسفة ابن سينا اهتمت بمسألة الوجود التي مكنته من صياغة نظريته في النبوة وذلك بإتباع مسلك التجريد والعقل. سأكتفي بهذا فيما يخص علاقتي بفكر ابن سينا.
أما عن سيرة الرجل وفكره العميق والغني فسأكتفي بالتركيز على ثلاث محطات: الرجل ابن سينا، بعض مميزات آثاره، وأخيرا، سأتوقف عند بعض أفكار الفيلسوف والمتصوف في علاقتها بموضوع هذه الدورة من المحاضرات.
انتهيت بتلقيب ابن سينا باللّّّمّاس (من يهتم بجميع المجالات)، على غرار العديد من كبار المفكرين، لفرط تنوع المواضيع والمجالات التي اهتم بها بشكل صائب، في غالب الأحيان، على رأي معلقيه وأيضا معارضيه الغربيين والمشرقيين أو المغاربيين.
هو أبو علي الحسين بن عبد الله ابن سينا، طبيب، فيلسوف ومتصوف مسلم من أصل فارسي، ازداد في منطقة بخارة، أوزباكستان حاليا، توفي بهمدان عن سن السابعة والخمسين، سنة 1037 .
غالبا ما وصف بالطبيب العربي، وهو ليس بأصل عربي ولَم يغادر بلاد الفرس البتة. ولكنه من أصل عربي بحكم لسانه، حيث لم يكتب إلا باللغة العربية (لغة العلم آنذاك). وربما تؤكد عدد المستشفيات الحاملة لاسمه في العالم سمعة الطبيب أكثر من سمعة الفيلسوف.
ولد من أب موظف في إدارة الدولة السامانية (les Samanides)، وفي سن العاشرة كان حافظا عن ظهر قلب للقرآن مع حيثيات التعليم الشائعة آنذاك والمتعلقة بقواعد النحو والفقه والتفسير.
وقبل سن السادسة عشرة، كان يتقن جميع العلوم اليونانية والعربية-الإسلامية في عصره، كذلك الأمر بالنسبة للفلسفة، العلوم والرياضيات إذ كان متمكنا في هذه السن من نظرية بطليموس والقواعد الأوقليدية الأربعمائة. وكان يتقن، في هذه السن المبكرة، الجدل والتفكير المنطقي وكذلك النقد والبرهنة.
تفاجأت لوجود سيرة ذاتية له طلبها بنفسه من رفيقه الجزياني. ويؤكد المعلقون أن هذا الأمر كان بالفعل نادرا في ذاك العصر. بالنسبة لي، اعتبرت أن الأمر يدل على حنكة الرجل وبعد نظره.
تجدر الإشارة إلى أن الفضل في سمعة الطبيب يرجع إلى نوح ابن منصور الذي عالجه ابن سينا أمام فشل جميع أطباء المدينة. ولقد فتح له أمير بخارة، حامل لواء السامانيين، باب مكتبته التي كانت تضم أهم ما وجد في ذاك العصر.
ولقد ذاع صيته إثر ذاك، وتقلد عدة مناصب سامية جعلت منه رجل بلاط يدير الشأن العام نهارا ورجل علم وأستاذا مساء. وقال عنه رفيقه وكاتب سيرته أنه كانت له ذاكرة قوية ومكتبة في ذهنه. أضيف بدوري أنه كان أول عالم نفس بالعالم الإسلامي وذلك إثر قضاءه على أعراض كان يعاني منها شاب من أبناء أحد الأعيان. قام ابن سينا بوضع تشخيصه لحالة هذا الشاب على أساس تفسير نفسي لعرض جسدي. كانت الأعراض التي كان يعاني منها الشاب راجعة للحب الذي كان يكنه لإحدى الفتيات ولَم يكن يستطيع البوح به.
لا يكتمل معنى استحضار حياة رجل علم دون التذكير بخصائص عصره. كانت الفترة التي عاش فيها ابن سينا متميزة بغليان علمي وسياسي. إنها الفترة التي تلت عصر الترجمات العربية للعلوم والمعارف اليونانية في جميع المجالات ابتداء من القرن السابع والثامن الهجري. وهي فترة كان إبانها المسلمون قد تجاوزوا مرحلة النقل والاستيعاب إلى مرحلة الابتكار والاختراع. وهكذا في العشرين من سنه، عاصر ابن سينا ما يمكن تسميته بزلزال سياسي وديني. أصبح للإمبراطورية الإسلامية ثلاث خلفاء: ببغداد وبدمشق ثم بالمغرب الكبير. بالإضافة إلى أن خليفة بغداد كان ببلاد الفرس تاركا إدارة شؤون المسلمين اليومية، في جميع مجالات الحياة بكل نواحي البلاد، بيد الصدر الأعظم. وبحكم هذا السياق المعقد، قضى ابن سينا حياته في نوع من التحالف مع القوى الحاكمة هاربا من تهديدات البعض، باحثا عن تحالفات جديدة كما فعل مع البويهيين.
وتربط سيرته الذاتية موته المفاجئ بتسمم معوي في حين أن بعض المعلقين يربطونه بكثرة استهلاكه للكحول. من موقعي كقارئة معجبة، حسبت موته مبكرا، ولكن حس التحليل النفسي جعلني في إنصات لقوله انه كان يفضل الحياة القصيرة والممتلئة عن الحياة المديدة والفارغة. كان رجلا يحب النساء، ويحب الخمر (مع تأكيده على أهمية الاعتدال في شربه) والكتابة ولم يكن يتخلى عن المبادئ الأساسية للإسلام.
كان يكرر لكاتب سيرته أن حرية الفكر تستلزم حرية التفكير، بفضل هذه الحرية كان ينتقد معاصريه من العلماء، حيث بعث برسالة لأمير بخارة يثير انتباهه فيها إلى قلة جديتهم ودقتهم.
وعن إنتاجه الفكري، ترك ابن سينا كتابات رائدة من أهمها: القانون في الطب، كتاب الشفاء، كتاب النجاة، كتاب الإشارات والتنبيهات. وهناك كتب أخرى اقل شهرة مثل كتاب المباحثات، ثم آخر كتاباته، الوحيد باللغة الفارسية ( دنش ناميه). ويبقى من أهم كتبه قيمة: كتاب الإنصاف وكتاب الحكمة المشرقية الذين تم حرقهما أثناء السطو على أصفهان.
لإعطاء نبذة عن قوة عقل الطبيب، أشير إلى أن كتابه القانون في الطب كان قد حظى بنجاح واسع، بحيث كان يدرس في أوروبا إلى حدود القرن السابع عشر. كان أول كتاب في الطب قام بوصف وترتيب وتعريف جسم الإنسان وأعضائه وكذا التعريف بالأمراض وأسبابها وعلاجاتها. وكانت ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أهمية قدرة التحليل والتركيب التي كان يتمتع بها ابن سينا والتي مكنته من جمع وتصنيف المعارف الطبية لدى اليونان التي أضاف إليها اكتشافاته الخاصة.
من بين المجالات التي أعاد فيها الابتكار، كالتشريح، أذكر مجال السيميولوجيا، كما كان أول طبيب قد وضع التشخيصات بناء على علامات خارجية كجس النبض. إضافة إلى طب العيون والصيدلة وطب الوقاية من الأمراض.
كان كذلك أول من تحدث عن انتقال الأمراض عن طريق الماء والتراب، وكذلك الأمر بالنسبة للطابع المعدي لمرض السل، ثم أهمية التخدير وعلم التغذية. لقد أكد أيضا على أهمية التشخيص المبكر للسرطان وإيجابية استئصال كل الأنسجة المتضررة.
ومن بين الأفكار السابقة لعصرها لديه، نجد تأثير الطقس والبيئة على صحة الفرد. فتفسير المرض، بالنسبة له، يتم بناء على التكوين الجيني الخاص لكل فرد، طبيعة مزاجه، تكوينه، قوة مختلف قدراته، تأثير وسطه، وكذا عمل الطبيعة وأثرها عليه للمحافظة على وظائفه الحيوية. وكان يؤكد، بالإضافة إلى هذا، على أن "النفس هي ما يتوافق مع طبيعة الكائن البشري، تعمل كأهم عامل محدد وفاعل يتحكم في تطور ونشاط الفرد"(2) كل هذا يدفع للقول بأن الأمر يتعلق بطب فلسفي أو بالأحرى بطب إنسي.
أما عن ابتكاراته في مجال العلاج فيقرر المعلقون بأن العلاج النفسي كان أكثر مجال تقدم فيه بامتياز عن عصره. وكان أول طبيب اقترح ممارسة الاستشفاء وعيا منه بأن بعض المرضى تتحسن حالتهم عند إبعادهم عن وسط عيشهم المعتاد. كما نصح أيضا بمعالجة مرضى الاكتئاب بالاستماع إلى الموسيقى. وبهذا يكون قد أضاف إلى مفهوم الرعاية، في العصور الوسطى، ما يسمى حاليا العلاج بالموسيقى أو الوساطة بالموسيقى التي تسود حاليا بامتياز في العديد من مصالح طب الأعصاب والأمراض العقلية. وأفضل تلخيص يدل على قوة ذهنه كطبيب للنفس قوله: "الطب هو فن الحفاظ على الصحة، وربما الشفاء من الأمراض التي تمس الجسد»(3)، وتؤكد هذه الجملة على التوجه الوقائي لا التنبؤي لطب ابن سينا الذي كان يضع قواعد الصحة والنظافة بمعناهما الروحي والجسدي، في أول القائمة العلاجية.
لقراءة القانون في الطب، يمكننكم التعجب مثلي من كون عقل إنساني تمكن من وصف متناهي الدقة لوظائف الجسم البشري باستعمال الملاحظة المنتظمة بالعين المجردة والتأليف بين أعمال المفكرين السابقين.
بعد أن استنفدت أوروبا علم ابن سينا، اختارت الرجوع إلى علوم اليونان دون المرور بالترجمات العربية، حيث قام الأطباء في عصر النهضة بانتقاد طب ابن سينا مستشهدين بطابعه النظري الذي يعرقل الأبحاث السريرية. وبعد ذلك بدأ الطب التجريبي الحديث يحتل الميدان على حساب الطب النظري والفلسفي.
ونعرف الآن امتدادات هذا الطب الذي هو في طور ما بعد الحداثة. فمن بين أقوى فرضياته الحالية التي تثير الاستغراب، تلك التي تهدف إلى القضاء على الموت كنهاية للحياة.
أما بخصوص ابن سينا الفيلسوف، فقد طور في كتابه النجاة وخصوصا في كتاب الشفاء، مذهب النفس كمبدأ مستقل وفِي نفس الوقت تابع للجسد. فهو يعتبر أن الإنسان هو بمثابة مادة روحانية مستقلة عن طريق النفس العاقلة. ويشارك عن طريق جسده في مسار العالم. ويُبينُ الارتباط الذي يجمع بين النفس والجسد على أن علم النفس لا يمكن فصله عن علم الجسد.
سأحاول في بعض أسطر إعطاءكم لمحة عن مفهوم النفس(4) والوجود عند ابن سينا. تقوم هذه النظرية على نسق العقول العشرة. الكائن عند ابن سينا يمكن تلخيصه حسب مبدأ الاختلاف بين كائن ضروري وكائن ممكن، ثم بين كائن موجدٍ لذاته وكائن موجود من طرف كائن آخر. في هذا الطرح، يبدو ابن سينا، محترما لنظرية الخلق حسب التقليد اليوناني، لكن طريقته في البرهنة على ظهور المادة فيما بعد، ثم الشكل تؤدي إلى خلل في نظرية الخلق حسب الديانات الأحادية. هذا ناتج عن عدم وجود طارئ (أو محتمل) في عملية الخلق في رأيه. يتضمن الواحد فعل الخلق بتأمله لذاته، وعلى هذا فالفكر يتضمن الفعل وعليه يطرح ابن سينا مسألة تبعية الفرد بناء على علاقته بذاته.
إذا اتبعنا هذا الطرح، قد يؤدي بِنَا الأمر إلى اعتبار الفرد مسؤولا عن المرض الجسدي، الذي ينتمي إلى عالم الحسيات، كما هو مسؤول عن شفائه، إذ في الفصل الثامن من الباب السادس لكتاب الشفاء، يوضح ابن سينا كيف أن النفس بحاجة إلى جسد يحتويها حتى تتمكن من تحقيق مبتغاها من العلو في طموحها إلى العقل الخالص وذلك بانفصالها في ما بعد عن عالم الحسيات الذي ينتمي إليها الجسد، فهي تعلن بهذه الكيفية عن استقلالها. ومن هنا نجده في المقالة في النفس بنفس الكتاب، يشرح كيف أن على الفرد الطموح إلى الكمال.
جسد الإنسان هو قوة حيوية تجد تعبيرها في تقلبات المزاج المرتبطة بالطبع. وهكذا فتطور المرض سيكون تابعا للطبع الذي هو تعبير النفس المالكة للجسد، وذلك لأن النفس والجسد بالنسبة لابن سينا، يكونان مجموعة واحدة يتأصل فيها الفكر بالفعل، وعلى هذا الأساس ينبني نسق العقول العشرة.
فالعقل الأول/الأحد بتأمله لذاته، سيكون صلة الوصل بينه وبين المتعدد. هكذا سيتم ظهور النفس الأولى. هذه الأخيرة ستتأمل جوهرها المختلفة علاقته بالسبب، أي الأول/الأحد الذي جعلها ضرورية. من تأمل هذه النفس ستظهر المادة، ويستدرج ظهور العقول العشرة في تسلسل هرمي لا ارتباط له بالعامل الزمني للظهور، بل بالقرب من العقل الأول. آخر العقول العشرة هو العقل الفعّال الذي تستمد منه النفوس الإنسانية إشراقها.
من هنا فإن معرفة الذات تصبح تابعة لذلك الذي يمنح الأشكَال الذي هو الله. أودّ أن أذكر بهذا الصدد كيف أن علو مستوى هذه المعرفة (معرفة الذات) في علاقتها بالعقل الفعّال، هي حسب ابن سينا، مرتبطة بمجال النبوة وكذلك الحلم والتخيل.
هذه الفكرة تبدو أكثر جلاء في الكتابات الصوفية لابن سينا، مثل رسالة حي ابن يقظان، التي تبين كيف أن النفس هي أيضا العضو الذي يُستقبل النبوة المبلغة من طرف ملاك الروح القدس، نفسه الذي يوجه روح الفيلسوف المتصوف. وبهذا تلتقي، حسب ابن سينا، المعرفة لدى الرسول والمعرفة لدى الفيلسوف بشكل يسمح بالتوحيد بين ماهية وكينونة العلم والنبوة. الفرق بينهما هو إلزام النبي المرسل بوجوب تبليغ الرسالة.
هذه بعض الأفكار التي قد توضح كيف أن فكر ابن سينا يبرز من خلال العقل والحب كجدلية مزدوجة، الإمكانية الفطرية للنفس الإنسانية أن تتأمل دون وساطة الحقيقة الأولى وأن تكتسب بناء على هذا قوى خارقة، لكن هذه الأخيرة لن تتعدى قوى الطبيعة.
في كتابه السادس من ميتافيزيقيا الشفاء، يمكن أن نلاحظ كيف أن ابن سينا يحافظ على توتر دائم بين مكانة العقل العملي الممثل في مادية الجسد وقدراته الحركية، وبين العقل النظري، الذي يهتم بتصور الكل، ويتطلع إلى ما هو كوني ومنظم للعلاقة بالخالق.
على هذا الأساس يمكن القول بأن ابن سينا لم يتعد حدود النسق الذي يقر بوجود خالق للكون الذي يخضع الكل لإرادته، وفي نفس الوقت، يقر بإمكانية الحركية والمرونة داخل نفس النسق الذي يعتبره نسقا/نظاما إلهيا أو صدى/ناتج(5) عن الإله.
إن هذا الطرح سبب لي نوعا من الخلط في تقبلي لنظرية ابن سينا إذ كنت أَجِد نفسي أمام فكر شمولي وعميق لم يترك شيئا إلا وفسره بطريقة عقلية وفي نفس الوقت لم يرفض مبادئ التقليد الديني.
نظرا لتميزه بقدرة فائقة على التحليل والتركيب، كان ابن سينا عالما متمكنا من أمور الفكر الإسلامي والغربي. فقد حافظ على مكانة الأحد حسب تعاليم الديانة الإسلامية، التي تقتضي أن لا شيء يوجد خارج إرادته، وفي نفس الوقت تشبع من مراجع الفلسفة اليونانية التي كانت تشيد بدور العقل وقدرات الإنسان. فلسفته تجعلنا نرى إرهاصات لفكرة الفرد التي تعتبر، كما نعلم، من بين العلامات المهمة للفكر الغربي المعاصر لا فكر القرون الوسطى. بل أتجرأ وأقول بأن فكر ابن سينا كانت له إرهاصات لائكية، تلك اللائكية التي لا تغري الإسلام السياسي الذي يصر على اعتبارها ضربا من الإلحاد.
إذا كانت هناك عبرة يجب أخذها من فكر ابن سينا، فهي أهمية وضرورة النشاط الفكري الذي يمكن اختزاله في أفعال مثل "فكر" و"خمّن" وتدبر العلاقة بالخالق والعلاقة بالآخرين. إن هذا هو المسلك الوحيد لتحقيق توازن داخلي وخارجي وخصوصا لبلوغ مستوى السلام الداخلي.
فبالنسبة لموضوع سلسلة محاضراتنا هاته، إذا أخذنا موضوع الموت مثلا، فهي بالنسبة له لا تمثل إلا فرصة للتقرب من الخير المطلق حيث يقول: "المعارف التي تمهد الطريق لكمال السعادة النفسية بعد الموت، تكمن في التعمق في معرفة جلالة الله وكمال عظمته. لا توجد مسالك أخرى تؤدي لهذه النتيجة سوى التقصي عن حالات مخلوقاته، وعجائب ابتكاراته. هذا بشرط أن لا يتفحصها لذاتها ولكن كدلالة على كمال الخالق، قوته وحكمته. كلما كان التعمق في هذا النوع من المعرفة كاملا، كلما اكتسب العقل إشراقا من النور الإلهي»(6).
سأضيف لأسماعكم استشهادا أكثر وضوحا ولا يخلو من جمالية، ذاك الذي نجده في ترجمة هنري كوربان(7) لرسالة الطائر/رسالة حي ابن يقظان: "إخوة الحقيقة، أحبوا الموت لكي تبقوا أحياء". يوصي ابن سينا الكائن البشري بتقبل الموت حتى لا يبقى سجين القلق الناتج عن خشيتها أو انتظارها. ( اسمحوا لي أن أشير هنا إلى مناورته هاته ذات الطابع التحليلي النفسي، وهي ليست الوحيدة بهذا الشأن). فاختيار الاتجاه المعاكس لهذه الفكرة، أي رفض الموت وإعلان الحرب ضدها كما يفعل ذلك عمالقة الإنترنت الخمسة الذين من يسمون بـ GAFAM وجنودهم (GAFAM كلمة أوائلية تتكون من الحروف الأولى لعمالقة الإنترنت الخمسة: Google, Apple, Facebook, Amazon, Microsoft)، قد تسحب من الكائن البشري هذه الملكة الجميلة والمنازعة ألا وهي ملكة الفكر التي تتغذى من الشوق إلى الحياة والوصول إلى الكمال إذ أن قهر الموت سيمد البعض بقدرة التحكم فيها، أو بالأحرى فرضها على الآخرين (يشير فيلم Cloud Atlas إلى هذه الإشكالية).
دحض الموت يعني اعتناق الجسد للأبدية التي تقتضي أن نتخلى عن جانب مظلم ومثير فينا نحن البشر، فهي تقتضي أن نتخلى عن ذواتنا. بهذا نجد أنفسنا أمام أسطورة كالبسو Calypso في الأوديسة، تلك التي تقترح على أوليس Ulysse منحه الأبدية على شرط أن يتخلى عن الرجوع لمسكنه، عن نفسه أي أن يفقد مكانته كبطل، زوج وأب. هذا يذكرني بالمحلل النفسي جاك لاكانJacques Lacan حين يقول: "الموت استيقاظ يساهم في الحلم، الحلم في ارتباطه بالكلام»(8)، دون موت قد يفقد الكائن البشري نشاط الحلم الذي أساسه ملكة الكلام، وبالتالي قد يفقد ما يميزه كإنسان.
أوصى ابن سينا، بإتقانه لمبادئ العقل والإيمان، بأهمية ما أسماه الرجوع إلى مشرق الأصل، أو مشرق الكائن. آخذكم هنا بمعيتي في بستان تيوصوفية (حكمة إلهية) ابن سينا التي أتى إليها عن طريق فلسفته. المشرق هنا بالطبع، ليس له علاقة بالجانب الجغرافي، إنما هو دعوة للرجوع إلى مقر النورانيات في كل كائن بشري، فالمشرق استعارة للكمال والعلو الذي يجب على الفرد أن يطمح له.
الجانب التصوفي وكذا الفلسفي في فكر ابن سينا تمت قراءته واستكماله من طرف فلاسفة ومتصوفين في العالم الإسلامي والغربي، السهروردي وفلسفة الإشراق، هنري كربان على سبيل المثال. فابن سينا لم يشع صيته سوى في مجال الطب. أعماله الفلسفية والصوفية تم استمدادها من طرف مفكرين بالقارات الخمس. وبهذا يجدر الحديث عن الرواية العربية لفكره وكذلك اللاتينية، اليهودية والمسيحية. ويعتبر ابن ميمون أهم رواية يهودية لابن سينا.
أشكركم لإنصاتكم.
الدكتورة إشراق العود
أخصائية نفسية/ باريس

هوامش:
1. محاضرة ألقيت بالكنيسة البروتستانتية بمدينة Montrouge بضاحية باريس 5 أبريل 2018
2. القانون في الطب
3. أرجوزة في الطب، مثله
4. اخترت ترجمة âme بالنفس لا بالعقل أو الروح وذلك لتجنب المعنى الفلسفي للعقل إلي يترجم كذلك ب esprit والمعنى الديني لكلمة الروح في الديانات الأحادية، خاصة الإسلام عندما يؤكد على أن الروح «قل إنما أمرها عند ربي».
5. يمكن استعمال الاصطلاح الفلسفي: العلة و المعلول، لكن نظرية ابن سينا و اعتمادها على جانب تأمل العلة، وسموها بالجانب الروحاني و العملي، جعلني أختار مفهومي الصدى و النتيجة.
6. J. Michot, Avicenne et la destinée humaine. A propos de la résurrection des corps. In revue philosophique de Louvain, 1981M 44M PP. 453-483.
7. Avicenne et le récit visionnaire, Verdier, 1999.
8. Catherine Millot, In, L’Âne, Magazine lacanien, N°3, p. 3.



#إشراق_العود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -بعهد الأخ محمد بن سلمان المحترم-..مقتدى الصدر يشيد بالانفتا ...
- الكشف عن بعض أسرار ألمع انفجار كوني على الإطلاق
- مصر.. الحكومة تبحث قرارا جديدا بعد وفاة فتاة تدخل السيسي لإن ...
- الأردن يستدعي السفير الإيراني بعد تصريح -الهدف التالي-
- شاهد: إعادة تشغيل مخبز في شمال غزة لأول مرة منذ بداية الحرب ...
- شولتس في الصين لبحث -تحقيق سلام عادل- في أوكرانيا
- الشرق الأوسط وبرميل البارود (1).. القدرات العسكرية لإسرائيل ...
- -امتنعوا عن الرجوع!-.. الطائرات الإسرائيلية تحذر سكان وسط غ ...
- الـFBI يفتح تحقيقا جنائيا في انهيار جسر -فرانسيس سكوت كي- في ...
- هل تؤثر المواجهة الإيرانية الإسرائيلية على الطيران العالمي؟ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إشراق العود - ابن سينا بين العقل والإيمان(1)