أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بانكين عبدالله - سيكولوجية المحن















المزيد.....


سيكولوجية المحن


بانكين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 6994 - 2021 / 8 / 20 - 02:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بداية علينا أن نعرج على البعض من القوانين الكونية التي تشكل بنية الحياة لكل الموجودات المادية والمعنوية وتضمن سيرورتها بدءاً من "قانون القيمة" لدى "كارل ماركس "، "وابن خلدون" و" آدم سميث"، وبعيداً أيضاً عن سياق تناول هؤلاء الفلاسفة لهذا القانون، فهو من أحد أهم قوانين الكون إذما تناول الجانب التكافلي في علاقة الموجودات باختلاف النسبة فيها، ومروراً بقانون "الثنائية الكونية" ووصولاً الى قانون التغيير الضامن لصيرورة الحياة لكل الموجودات.
ولأننا نحيا عالم احتمالي بحسب "الفيزياء الحديثة " (نظرية الكوانتم)، لا ثابت فيها، الكل متغير متجدد باستمرار، وربما هذا القانون الكوني الذي ينص على أن "لا شيء يتغير سوى التغيير"، هو نفسه من أحد "السيرورات النفسية اللاشعورية" (بحسب سيغموند فرويد) الذي يتحكم بطباع البشر ويدفعه نحو القيام ببعض السلوكيات بهدف التغيير وبدافع الرغبة المشتغلة بفعل السيرورة النفسية اللاشعورية تلك، وأن الكون جزء لا يتجزأ.. الكل يكمل ويكتمل مع الآخر "بجدلية هيجلية " بحثاً عن تركيبة أجمل لعالمه "الاجتماسياسي" إذا خصصنا الكائن البشري بالذكر.
بل وأن هذا ما يجعل النفس البشريةُ تكره الروتين وتبحث دائما عن التغيير. لأن الروتين يعني الركود، والركود يجعل ماء الحياة جاثماً، فيموتُ فيها الإبداع وتقوض العزيمة، وتكتسب النفس البشرية رتابة توصلها الى حالة من "العجز المكتسب" إذا استسلم للواقع ولم يبحث عن حلول أكثر جدوى تفيد في عملية التغيير وخلق عالمه ذاك.
لذا، كان لا بد لنا أن نعرج على هذه القوانين لما تحمله من قيمة بنيوية في تشّكل أُسس حياتنا الاجتماسياسية المرتبطة عن كثب ببنية هويتنا النفسية المرتكزة على تلك القوانين، ومنها: قانون "السبب والسببية" وغيره من القوانين التي ستشكل بنية نقاشنا المنطلق من جدر الخلافات العلمية بين العلماء الذين وضعوا أُسس عملية التغيير الاجتماسياسية المبنية في أغلب الأحيان على الهوية النفسية، فمنهم من رفض التحليل واعتمد المنطق والتجربة واختلفت مناهجهم ومدارسهم باختلاف البراهين والأدلة رغم التشابك والارتباط الحاصل فيما بينها في مختلف الميادين التي تكاد تكون عصية عن التفكك إذا ما حاولنا فرزها بغرض الاستدلال.
إذاً حالة من الدراماتيكية تسود العلاقات الكونية هذه وتنفرد كل منها بخصوصية عن غيرها لتلتقي بالكليات معها في نفس المضمار. تشبه بشكل كبير "جدلية هيجعل" وتتداخل تماماً مع "نسبية أنشتاين" في قوله: "الشيء واللاشيء نفس الشيء"؛ بالنسبة للخصوصيات والعموميات لكل ثنائية جمعاً أو فرادى.
لذا؛ ومن الضروري بمكان الاستشهاد بالجانب السايكولوجي واعتباره من العوامل البنيوية في انجاح أي عملية تغيير تهدف الى إصلاح حال المجتمع اجتماسياسياً، والذي يكاد أن يكون من الضرورات الحتمية التي لا مناص منها عند ولوجنا في تحليل أي واقع اجتماسياسي لما يتضمنه من مكنونات دفينة تحت ركام الانشغال بالروتين اليومي سواء سياسياً أو اجتماعياً أو الى ما هنالك؛ دون وعينا منا بأنها تشكل التربة الأزوتية التي تغذي جذور تلك السلوكيات التي نشتكي منها جميعاً والتي تتحول غالباً الى نقاط خلافٍ واختلاف.
هذا ولا يمكننا أن نخفي حقيقة التشابك الحاصل في الميادين الاجتماسياسية عند قيامنا بتحليل الوقائع في مثل هذه الابحاث. لذا، عليّ أن أنوه هنا بأنني لست بصدد تقيم الشخصية وإطلاق الاحكام على السلوكيات والممارسات اليومية. وان ما سأتطرق إليه هنا هو البعض من المكنونات النفسية التي استنتجها من خلال عملي وبحثي في هذا المجال ومن قراءتي لواقعي الاجتماسياسي، ولست أدعي المعرفة المطلقة بتلك المكنونات، وإنما أحاول الإشارة فقط بغرض الاستدلال وتسليط الضوء، ولا أدّعي براءتي مما سيتأخر من حديث عن صفات الشخصية ومكنوناتها تلك.

الهوية النفسية: هي عبارة عن شفيرة عنما يحمله الانسان من قيم ومعتقدات وأفكار كونت وعيه، وشكلت سلوكه، وطرق تعاطيه مع الوقائع والمحيط الخارجي والداخلي وادراكه لهم، والتي تشكلت من مجموعة مختلفة من العوامل التي تؤثر سلباً وايجاباً في شخصيته كالبيئة واللغة والعرق والجنس واللون والأثنية والديانة والبقعة الجغرافية والعشيرة والعائلة والترتيب العمري بين أفراد الاسرة، ومستوى التعليم، وحالته المادية.-بمعنى- (ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية والمناخية والزمكانية... الذي ولد فيهم، هذا وإن أردنا أن نفصل أكثر فبإمكاننا إضافة شكل المنزل واتجاهه وعدد غرفه، بل وحتى لون جدرانه الى العوامل المؤثرة في تشكل الهوية النفسية).
لذا، وقبل الدخول في تخصيص النص لمناقشة الهوية النفسية للفرد والمجتمع الكوباني، لا بدا لنا أن نذكر بأنه لا يسعنا الإلمام الكافي بسرد مقتبس من كل مدارس علم النفس والتطرق الى جميع أنماط الهوية النفسية وتقسيماتها باختلاف مدارس علم النفس وعلم النفس الموازي. لذا، سنركز على الأهم منها من وجهة نظرنا وهي "الهندسة النفسية (NLP)" وضمناً علم النفس التطبيقي التطبيقي.

حيث يعتُبر "علم النفس التطبيقي" أن السبب الوحيد والرئيسي لكل هذه المشاكل التي نمر بها يعود إلى عدم معرفتنا بأنظمتنا وأنظمة الآخرين النفسية وكيفية تشكلها، والتي تعطينا الشكل والطريقة، وتخلق لنا المعانِ التي نقابل بها محيطنا الداخلي والخارجي، حيث يقسم النفس البشرية الى نظامين رئيسيين هما: (الانطوائيون والانبساطيون).
فيقول: "أن هناك كل شخص من ثلاثة أشخاص حول العالم من النظام الانطوائي"، ويسأل في هذا السياق عن سبب إسّرارنا على معاملتهم بمعاملة النظام الانبساطي؟!
ويرى ضمناً أن جذر المشكل يكمن هنا، ليجب لاحقاً بأننا ومع الاسف مجتمع نتعلم بالتجربة ونحكم على الاشياء والاشخاص من حولنا بالطريقة المرآتية. (نحن مجتمعاً نتعلم بالتجربة ونحكم على الامور والأشياء بالطريقة المرآتية).
وفي هذا السياق نرى أنه من المعيب بمكان اعتبار التجربة فقط أساس للتعلم. لكن ومع الأسف نجد أن التجربة تتبوأ مكانة عالية في طريقة تعلمنا واستخلاصنا للدروس، بل وبناءً عليها نحكم على الامور الحياتية عامةً وكأننا نقف أمام المرآة في مجتمعنا الشرق أوسطي عامة.
فنعتبر أن ما نراه في مرآتنا الداخلية العاكسة للحياة الخارجية؛ هي الحقيقة دون سواها. ولكن المشكلة ليست فقط فيما نراه بقدر ما هي في كيف نراه وما هو حكمنا عليه. وهذا ما يعيق تقدمنا وتطورنا بشكل سليم لأننا نكرر تجاربنا بنفس الاسلوب والخطوات، ونستخدم فيها نفس المواد والأدوات، ونتوقع نتيجة مختلفة في ذات الوقت. حيث لا يمكن للنتيجة أن تتغير إلا إذا غيرنا الطريقة والاسلوب، وربما الأدوات.
لذا، يجب ألا ننظر إلى المجتمع بالطريقة المرآتية -من أنا الكل من حولي هكذا- ونتوقع أن يتغير محيطنا أو عالمنا الخارجي قبل أن نغير أنفسنا وعالمنا الداخلي، وطريقتنا في ترجمة للوقائع والتعامل معها. بل، و"أنه من الغباء أن ننتظر نتيجة مخالفة في تلك الحالة". (وهذا بحسب: "انشتاين" أيضاً الذي تناول هذا الموضوع مسبقاً في نظرياته، حيث قال: "من الغباء أن نكرر التجربة بنفس الاسلوب والطريقة وننتظر نتيجة مختلفة في كل مرة").

لذا، وإن نظرنا الى مجتمعنا الشرق أوسطي وفق وجهة نظر "علم النفس التطبيقي" (حيث يرى أننا مجتمع نتعلم بالتجربة وننظر إلى الأشياء والآخرين بالطريقة المرآتية) وقسمناه إلى نظامين رئيسيين كما سبق وأشرنا أعلاه (الانبساطيون والانطوائيون) وقمنا بدراسة الهوية النفسية للفرد الكوباني وفقهم، سنجد حالة من التداخل بين النظامين في شخصية الفرد الشرق اوسطي والسوري خاصة. ولكن علم النفس التطبيقي قد برر موقفه من هذه الاشكالية الافتراضية مسبقاً وأجاب بإمكانية التداخل في أغلب الصفات، ولكن نفى امكانية التطابق بينهم وقال: "بأنه ستكون هناك صفات غالبة في طباع الشخص التي تجعله أكثر قابلية والأقرب الى أحد النظامين من الآخر. وأن ما دون ذلك يمكننا أن نسميه بالشخص أو النظام المرن". واستنبط هذه الفرضية من "الهندسة النفسية" التي بنتْ قواعدها في عملية التغيير على مرتكزات ثلاثة وهم: البرمجة واللغة والأعصاب لما تربطهم من علاقة بنيوية في عملية التغيير وفق رأيه، والتي منها جاء اسمها "البرمجة اللغوية العصبية (NLP)" أو "الهندسة النفسية" باللغة العربية. وبهذا يفند علم النفس التطبيقي ذاك التداخل ولا ينفيه.
وهنا دعوني أقدم لكم تعريفاً للأنظمة النفسية مصاغاً بلغتي من تعريف "علم النفس التطبيقي" وأبني عليه مختبري التشريحي لكي أعود اليه فيما بعد لتشريح فكرتي بغرض البحث عن سبب التداخل فيما سبق أعلاه بقولي: (لو قمنا بدراسة الهوية النفسية للفرد الشرق أوسطي وفقهم سنجد حالة من التداخل بين النظامين) حفاظاً بنية على نصي "الأبستمولوجي" وربطه بقانون "السبب والسببية".
والنظام الانبساطي هو: طريقة تفاعل الشخص مع محيطه الخارجي والداخلي وكيفية تعاطيه معهم، وهو النظام النفسي الذي يعبر عن الشخص الذي يميل إلى الشجاعة والاقدام على التجربة، المفعم بالحيوية والنشاط والمحب اللعب واللهو، جذاب وشيق، تسعد بوجده من حولك كما يسعد هو بوجوده بين الجموع، مرح ومحبوب لا يحب العزلة والوحدة، كثير الكلام والحركة، يحب الأضواء والشهر والخروج، يحكي تجاربه ويشاركها مع الآخرين، يمكنه القيادة في الأزمات، قوي في التعبير اللفظي، ولكن يفشل كثيراً في علاقاته، لا يكمل غالباً ما يبدأ به، يمل بسرعة، يأخذ قرارته بسرعة وغالباً ما تكون متسرعة وخاطئة-لأنه قليل الاستماع والصبر. يتكلم عن أهدافه كثيراً فيوقع نفسه في الفخ النفسي وهو الشعور ب"الإشباع الزائف" لأنه عندما يتحدث عنها يتحدث بشغف وتفاؤل كبيرين فيصل الى حالة من الاشباع الزائف وكأنه حقق أهدافه وعاشها فعلاً، فيفقد الرغبة والدافع لتحقيقها على أرض الواقع لأنه عاشها في الخيال خلال تحدثه ووصفه لها بتلك الطريقة. (ويمكننا هنا الاستشهاد بقانون من "قوانين نشاطات العقل الباطن" لنفهم السبب الكامن وراء وصول الشخص الانبساطي لحالة "الشعور بالإشباع الزائف" تلك وهو: "أن العقل البشري لا يفرق بين الواقع والخيال". ومنها يمكننا أن نعرف السبب الكامن وراء فشله في علاقاته أيضاً لأنه يفقد الرغبة والدافع في الاستمرار فيها فيتركها بفضل أن الغاية أو الهدف من العلاقة تحقق بمجرد تحدثه عنها بطريقة شغوفة أكثر من مرة والتي تولد لديه ذاك الشعور "الاشباع الزائف" وكأنه وصل الى ما يريده وحقق أهدافه واكتفى من تلك العلاقات بالتحدث عنها).

أما النظام الانطوائي: فهو بعكس الانبساطي تماماً في طريقة تفاعل وتعاطيه مع المُحيطين الداخلي والخارجي، وهو النظام النفسي للشخص الذي يميل الى الحذر والتأني في اتخاذ قرارته، يميل الى الحزن والانزواء، قليل الكلام والحركة، يكره الأضواء، أكثر ما يهمه مساحته الخصوصية، سريع الانفعال، يفرح في بقائه لوحده، يفكر ويستمع أكثر مما يتكلم، حكيم في قرارته، إذا بدأ امراً أكمله غالباً، قوي في التعبير الكتابي، دقيق الملاحظة يهتم بالتفاصيل، ودود وصبور لكنه كثير الشكوة واللوم، يأخذ وقتاً طويلاً في الخروج من المواقف النفسية-توصله أحياناً الى حالة الاكتئاب. يجيد فن صناعة الحزن، فتجده يدخل في حالة الحزن الشديدة ويشعر نفسه بالألم والظلم وكأن الدنيا أقفلت جميع ابوابها بوجهه، يشتكي ويلوم الى أن يصل الى حالة بكاء وعزلة وبعد أن يدخل تلك الحالة ويّشعر نفسه بأنه مظلوم، عندها يشعر بالرضا عن نفسه (انه مظلوم) وأنه على حق عندها يخرج ماسحاً دموعه وكأنه انتصر على كل من ظلمه، لا يمكنه البقاء في الأضواء، لا يمكنه القيادة في الأزمات والمواقف التي تتطلب قرارات سريعة، ضعيف في التواصل والتعبير اللفظي.
ولنكون أكثير علميين في طرحنا هذا باعتباره (العلم) لغة العصر، لا بدا لنا من الاشارة الى خاصية التنشط لدى هذين النظامين لعرفة المكامن والماروائيات التي تقف خلف سلوكهم وطريقة تفاعلهم وتعاطيهم مع الآخرين. فمن ضمن العوامل المشكلة للهوية النفسية، هناك عامل علمي مهم جداً يلعب دوراً ريادياً في تكوين الوعي الفردي -وله جذر وراثي أيضاً- وهو "كيمياء الجسد " التركيبة الكيميائية لجسد كل من النظامين الانبساطي والانطوائي.
حيث يؤثر المركب الكيميائي "دوبامين" بشكل كبير في خاصية التنشط لديهم وعلى آلية علاقاتهم وتفاعلاتهم. و"الدوبامين" مركب كيميائي يفرزه الجسم بأمر من العقل عندما تأتيه أفكار ايجابية تشعره بالسعادة ليعزز هذا الشعور ويخلص الجسم من التوتر والقلق والضغط النفسي، ووظيفية "الدوبامين) هي تحفيظ الدماغ على التعامل مع المحفظات الخارجية بالمكافئات. لذا، عندما نرى الشخص الانبساطي منزعجاً فهو بحاجة إلى الخروج والحركة حتى ترتفع عنده "الدوبامين" ويعود الى نشاطه وطبيعته لأن الدوبامين هو ما يبقيه نشطاً وسعيداً وودوداً. وبقائه وحيداً دون حركة وبعيداً عن الجموع والأضواء تُخفض نسبة "الدوبامين" لديه فينزعج ويصبح حزيناً أو غير سعيد، لأن كيمياء الجسد عنده تُفعل خاصية التنشط لديه بهذه الطريقة.
وبعكسه تماماً الشخص الانطوائي، عندما ينخفض عنده هذا المركب فهو بحاجة الى عزلة أكثر والبقاء وحيداَ، لأن كثرة الحركة والبقاء وسط الجموع والأضواء تتعبه وتزعجه وبذلك تنخفض نسبة "الدوبامين" لديه فيغضب ويشعر بعدم الراحة ويصبح غير سيعد. لذا، فهو بحاجة الى الهدوء ومساحة من الخصوصية حتى يعود الى طبيعته ونشاطه لأن كيمياء الجسد عنده تفعل خاصية التنشط لديه بهذه الطريقة. لهذا، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ما ورده أعلاه عند تعاملنا مع هذين النظامين وقبل الحكم على سلوكياتهم العامة والخاصة.

وبالعود الى السياق.. فاذا قمنا بتشريح فكرتنا عن التداخل في مختبرنا ذاك بتمعننا في تعريف هذين النظامين واسقطناهم على الشخصية الشرق أوسطية ستصدح جميع المدافع صوب الفكرة التي ستدور في ذهننا فيكون السؤال الأول: ما الجديد الذي يمكن أن نستكشفه من عملية تشريح جسد تلك الفكرة خصوصاً أن "علم النفس التطبيقي" فسر ذاك التداخل ووجد أن القدرة على التميز بينهم تكمن في الصفات الغالبة في سلوك كل شخصية؟
وحتى نتمكن من الاجابة على مثل هذا السؤال علينا أولاً أن نعرف السبب الكامن وراء كل عملية تغيير تطرأ على السلوكيات الفردية والجمعية، ليصبح السؤال الأكثر الحاحاً بعدها: كيف تتغير السلوكيات الفردية والجمعية؟ يحمل ضمنه الجواب لسابقه.
فعند تعرضنا لظروفٍ حياتية ضاغطة خلال المحن (كالفقر والهجرة والحروب والكوارث الطبيعية والنزاعات المجتمعية و...الخ.) فإننا نمر بالكثير من المواقف التي تؤثر سلباً وايجاباً على سلوكياتنا الفردية والجمعية في جميع نواحي حيواتنا الشخصية والعائلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمهنية وتظهر علينا خلالها (المحن) بعض الأعراض النفسية كنتيجة طبيعية لأحداث غير طبيعية خارجة عن المألوف، والتي تخالف طبيعة الانسان المبنية على الرقة والحس المرهف والرأفة والمودة والرحمة. والتعرض لمثل تلك الظروف الضاغطة تسبب جروحاً في ذاكرتنا القريبة والبعيدة، فتقتل فينا بعض الأعصاب الحسية المسؤولة عن آلية عمل الذاكرة وتنظيم الذكريات كنتيجة طبيعية لقساوة المشاهد التي نضطر لمشاهدتها أو التعامل معها خلال المحن. وتتوقف مدى تأثيرها (الظروف الضاغطة) على فترتها الزمنية وموقعنا من الحدث المنشط (المحنة) كفعال أو مفعول به أو حيادي ومتفرج، باختلاف نسبة تأثير كل منا به بحسب موقعه ذاك، إضافة الى المرحلة العمرية التي يمر بها كل منا في تلك الفترة- فترة تعرضنا للمحن.
فالأطفال مثلاً: (مع أخذ نسبة موقعه من الحدث في عين الاعتبار كما نوهنا أعلاه) تظهر عليهم أعراض جسدية وسلوكية ونفسية مختلفة كنتيجة طبيعية لما شاهدوه أو يشاهدوه من أحداث خارجة عن المألوف –مثل- الكوابيس والخوف والبكاء الشديد والسلوكيات العنيفة كالضرب والشتم والعصبية وفرط النشاط وقضم الأظافر ومص الأصابع وأكل التراب والتبول أللإرادي والحواز وتأخر نمو واضطراب النطق ونقص الانتباه والرهاب الاجتماعي و... الخ.
وتظهر على الكبار أيضاً عند الامهات أكثرهم من الآباء أعراض مختلفة كحالات الاطفال منها: التفكير السلبي والحزن والقلق والتوتر والعصبية، وآلام الرقبة والبطن والصدر والركبة، وتنميل الأطراف وضيق النفس والارهاق وانخفاض الطاقة، وتعب جسدي وفكري، والرغبة في العزلة والوحدة والبكاء، ونقص الشهية، واضطرابات في النوم والأكل.
وتظهر عند المراهقين أعراض مختلف مثل النشاط الزائد والاندفاع والتسرع في ردة الفعل، والانفعال السريع والعصبية والحزن والخمول، وفقدان الشهية والرغبة والتوقف عن ممارسة نشاطاتهم اليومية، والانعزال والتفكير السلبي وفقدان الثقة بالنفس والشعور بالإحباط وفقدان الأمل، وتقلبات في المزاج وحالات الاكتئاب وغيرهم ... من الأعراض التي هي جميعاً أعراض لأمراض عصابية باختلافها وتنوعها كنتيجة تعرضنا لظروف حياتية ضاغطة خلال المحن التي مررنا أو نمر بها، لتفرض سيكولوجية المحنة والحرب نفسها.
وخلال تعرضنا للمحن فإن شريط حياتنا بكل ايجابياته وسلبياته يمر أمام أعيننا وكأننا نُعرض على ربنا، فتعرض علينا أعمالنا لنرى ما اقترفته أيدينا من أفعال لنحاسب عنها، فتتداخل مشاعرنا بين الحزن والفرح والندم والانجاز.
هي الحياة بكل تجلياتها تتجسد أمامنا بمشهدٍ صاخب، غدٍ مبهم، ماضي تولى وحاضراً يندب حظه كأُم ثكلى أفجعتها الحياة بأبنها البكر.
وهذا الاختلاط يترك الأبواب مفتوحة أمام الكثير من التساؤلات الفلسفية تتعلق غالباً بأحداث شريط حياتنا لتصبح قائمة من الاسئلة حديثنا الاعتيادي واليومي.
من نحن؟ ماذا نريد؟ ما ذنبنا؟ ماذا نفعل؟ من؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ ولماذا؟ لتبدأ معها سلوكياتنا الخاصة والعامة بالتغيّر التدريجي، فنراقب التقويم لأول مرة ونصبح أكثر العارفين بالساعة والزمن بدايةٍ، ونهتم لأول مرة بأحداثٍ حدثت في الماضي لم تكن تثير اهتمامنا قبل ذلك، ونصبح أكثر تسامحاً ورأفتً من الماضي لخوفنا من "اقتراب الساعة التي لا ريب فيها" فنسامح المخطئين ونصل الأرحام، وتراودنا الكثير من أفكار الهجرة والانتحار وغيرهم.
حيث ويعتبر هذا التغيير ردةُ فعلٍ طبيعية في بداية أغلب المحن قبل أن تصبح المشاهد أكثر صخباً وعنفاَ ويتصدر الخوف قائمة المشاعر لتزداد معه الاسئلة إلحاحاً وشبقاً، فنبدأ بعدها بالفقدان التدريجي لمبادئنا لتكون أولى الضحايا هي عزة النفس.
وما أن نفقد عزة النفس حتى يصبح التنازل عن المبادئ طقساً ترغمنا على ممارسته المحن، فننكسر أمام أنفسنا وتهتز صورتنا الداخلية وتبدأ مشاعرنا تأخذ شكل جديداً لتصبح أكثر حدة وأكثر انفعالاً وأكثر قساوة بالتدريج لتصبح مراسيم الشهداء والموت أحداثاً روتينية تغيرت نسبة تأثيرها فينا مع مرور الوقت، وتفقد مشاهد القتل هيبتها، ويصبح منظر الدم مألوف في شوارعنا لتدفع "غريزة البقاء" بعضنا إلى اتخاذ موقف أشد حزماً من الحياة والاصرار أكثر في معاركتها بعد أن كنا نفكر في الانتحار والخلاص بدايةٍ، وينتحر بعضنا الآخر إخلاصاً لأفكاره الأولية تلك، فتزداد السلوكيات عدوانية، وتصبح النفس أكثر أنانية وشبقاً، ويصبح الايمان موضع شك والله موضع الاتهام، لأن البقاء على قيد الحياة يتطلب غالباً ضرب المبادئ عرض الحائط مرغماً، وركوب القطار الى محطة البقاء حياً، ووقائع الأحداث المنشطة خلال المحن تتحكم بدرجة كبيرة في قراراتنا، وتسيطر على منطقية تفكيرنا وتفقدنا التوازن، وقد يصل الحال بالبعض منا إلى حالة من الفصام، وكل هذه الاحداث والتغييرات؛ تغير معها قيمنا ومعتقداتنا، وربما عاداتنا وأعرافنا التي تربينا عليها وفطمنا عنها قبلاً، لنضحك تارة وتبكي تارة أخرى. فإلى أين نمضي ترى؟ وما بالنا نقتل بعضنا بعض على ما ليس لنا، ونختلف على ما هو أصلاً خلافنا؟.



#بانكين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ترامب: جامعة كولومبيا ارتكبت -خطأ فادحا- بإلغاء حضور الفصول ...
- عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف منفذي هجمات سيبرانية
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني يعلن حزمة إصلاحات جديدة
- الاحتلال يقتحم مناطق بالضفة ويشتبك مع فلسطينيين بالخليل
- تصاعد الاحتجاجات بجامعات أميركية للمطالبة بوقف العدوان على غ ...
- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بانكين عبدالله - سيكولوجية المحن