أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - برهان غليون - تحرير الإنسان هو الأصل















المزيد.....

تحرير الإنسان هو الأصل


برهان غليون

الحوار المتمدن-العدد: 35 - 2002 / 1 / 14 - 18:39
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    



عدت لتوي من رحلة إلى المنطقة العربية واكتشفت أن قضية الحريات الفكرية والسياسية لاتزال -رغم كل التحولات الدولية وتغير البيئة العالمية وانهيار النظم الشمولية- هي المحور الرئيسي للصراع القائم بين النشطاء الاجتماعيين من مثقفين وسياسيين وأعضاء المجتمع المدني من جهة، ونظم الحكم التي تقودها في هذا الميدان أجهزة الأمن من جهة أخرى. ولاتزال عمليات التشهير وتشويه سمعة النشطاء الاجتماعيين وعزلهم عن الرأي العام وإخضاعهم بجميع الوسائل أو إيداعهم السجن لأتفه الأسباب سائدة في أكثر من بلد عربي.


إذا كان أي حديث
عن التغيير أو التعددية السياسية أو الدعوة إلى الديمقراطية واحترام الحريات يشكل جرما سياسيا واعتداء على الدولة وتهديداً للاستقرار، فهذا يعني أن النظام
لا يدافع عن احتكار السلطة فحسب ولكنه يطالب أيضا بالتسليم له بالشرعية والقيادة بصورة مطلقة
وأبدية



وتعكس هذه السياسات التي تسير عكس مجرى التاريخ ولا تأخذ بالاعتبار التحولات العميقة التي تعيشها المجتمعات في كل مكان وتدفعها إلى رفض كل أشكال الوصاية، اضطراب الحياة السياسية في البلاد العربية، وتشير إلى الأساليب الشاذة التي لاتزال تعيق تنمية هذه الحياة وتنظيمها.. وهي تثير مسائل عديدة لا يمكن أن تستقيم حياة المجتمعات ويتحقق ازدهارها من دون حلها بصورة ايجابية وصحيحة، فهي تطرح:

أولا مسألة العلاقة الصعبة بين السلطة والمجتمع، فمن الواضح أن أصل المشكلة وراء التهم الشكلية الموجهة للناشطين هو رفض أغلب النظم القائمة إشراك المجتمع عبر فئاته المختلفة -بما في ذلك أكثر الفئات ليبرالية واعتدالا وتفهما- في مناقشة الشؤون العمومية، مما يعني أنها لاتزال مصرة على استبعاد أي حياة سياسية ورفض القبول بأي شكل من أشكال الحوار في الموضوعات المتعلقة بالشأن العام انطلاقا من القاعدة التي سنتها لنفسها وهي احتكار القيادة الاجتماعية والسياسية، فالحكم عبر الحزب أو الأجهزة البيرقراطية يصوغ ويبلور ويقرر ويملي عبر مسؤوليه والمجتمع يتلقى وينفذ ويخضع من دون اعتراض ولا تردد ولا حق في النقاش، وكل ما يتجاوز هذه القاعدة الذهبية يمثل إثارة للحرب الأهلية وتهديدا لأمن الدولة واعتداء على الدستور.
وتطرح هذه السياسات ثانيا مسألة العلاقة بين السلطة والقانون، فلا يبدو أن هناك أي اعتبار لحرمة القانون واستقلاله، فقد كان ولايزال في نظر النظم القائمة أداة سياسية من أدوات تثبيت الحكم والدفاع عنه ضد كل منتقديه أو بالأحرى غير المناصرين له، ولا يتردد الحاكم في استخدامه حسب ما تقتضيه الحاجة ليحبط إرادة خصومه السياسيين أو الفكريين ويخرجهم نهائيا من الساحة العمومية، ولا يضيره في ذلك أن تكون التهم غير حقيقية أو أن يفقد القانون أي صدقية.
وتطرح هذه السياسات ثالثا مسألة تداول السلطة في هذه المجتمعات، فإذا كان أي حديث عن ضرورة أو احتمال التغيير أو توطين التعددية السياسية أو الدعوة إلى الديمقراطية واحترام الحريات الأساسية يشكل جرما سياسيا يقع تحت طائلة الاتهام بالاعتداء على الدولة وتهديد الاستقرار، وإذا كانت الانتخابات معدة بشكل لا يمكن أن ينجم عنه سوى إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة والتمديد للحكم ورجاله عقودا بعد عقود، وإذا كان أي حديث من خارج صفوف الحكم عن الإصلاح أو تداول السلطة يبدو عند بعض الأنظمة أنه تعبير عن إرادة انقلابية وعدوانية تهدف إلى تغيير السلطة بوسائل غير شرعية ويستحق بالتالي أقسى أنواع العقاب، فهذا يعني بكل بساطة أن النظام لا يدافع عن احتكار السلطة المطلق فحسب ولكنه يطالب أيضا بالتسليم له بالشرعية والقيادة بصورة مطلقة وأبدية.

ما الفرق بين سيطرة الدولة الشمولية التي تفرض سياساتها بالقوة على المجتمع وبين الهيمنة الدولية القائمة على الاحتكار والاستفراد بالقرار الدولي واستخدام التفوق العسكري والاعتماد على الردع الأمني؟!

لكن فيما وراء ذلك وأبعد منه تطرح هذه السياسات المسألة الأكثر خطورة التي تمثل اليوم موضوع النقاش العالمي الأول والأكبر، أعني مشكلة العنف السياسي. فإذا كانت السلطة العمومية لا تسمح لأي فئة من فئات المجتمع بالدفاع عن مصالحها أو التذكير البسيط بهذه المصالح أو التعبير عما يثير قلقها ومخاوفها بأي وسيلة من وسائل العمل السياسي، أي إذا كان من غير المسموح استخدام التظاهر أو الاعتصام أو الإضراب أو النشر أو التنظيم السياسي أو التنظيم النقابي بل حتى اللقاء الفكري أو الحديث في الصالونات (المنتديات) للتعبير عن نفسها والتذكير بمصالحها، فماذا يبقى أمام الأطراف التي تشعر بالإجحاف أو التي تريد أن تزيل ظلما وقع عليها غير اللجوء إلى الإرهاب والعنف الأعمى، وما الفرق بين سيطرة الدولة الشمولية التي تفرض سياساتها بالقوة على المجتمع والهيمنة الدولية القائمة على الاحتكار والاستفراد بالقرار الدولي واستخدام التفوق العسكري والاعتماد على الردع الأمني؟

إن ابتداع السياسة لم يكن يهدف إلى شيء آخر سوى تكوين حيز للتوسط بين السلطة التي تخضع لمنطق خاص بها هو منطق الحفاظ على الوحدة والسيادة والشوكة، والمجتمع الذي يتكون من فئات ومصالح وتيارات واعتقادات مختلفة بالضرورة ومتنافسة إن لم تكن متنازعة، بحيث يساعد هذا الحيز على إيجاد التسويات الاجتماعية وينفس التوترات والاحتقانات الناجمة عن التنافس والتنازع الطبيعيين، ويعمل بالتالي على تجنيب المجتمعات السقوط في محنة علاقات القوة المحضة التي تعني أن الأقوى عسكريا هو الذي يفرض رأيه ومصالحه على الآخرين، ويخلد من ثم الحرب الأهلية.

وهكذا نشأ حقل من العلاقات تدعمه مجموعة من وسائل الضغط والتعبير السلمية يقع في تلك المنطقة الوسطى بين الفكرة والقوة، ويمكّن جميع الأطراف من أن تضمن حدا أدنى من إمكانية التأثير بوسائل سلمية في الأطراف الأخرى وفي القرار العمومي يقيها خطر الدمار والموت والانسحاق ولا يضطرها في الوقت نفسه إلى اللجوء إلى العنف والقوة.

فإذا قرر أحد الأنظمة إلغاء هذا الصعيد الوسيط أو التوسطي الذي يسمح لجميع الأطراف بالدفاع عن نفسها ومصالحها بوسائل سلمية، أي من دون أن تهدد استقرار النظام العام، فهو لا يحرم المجتمع من أي فرص مبادرة وحوار وتفاهم ويفرض على النظام السياسي الجمود المطلق فحسب، ولكنه يدفع حتما إلى جعل القوة المجردة مبدأ القيادة وقاعدة الحكم.


عندما يكون ميزان القوى بين الدولة والمجتمع شبيها في اختلاله بميزان القوى الدولي، فلن يكون هناك مجال لتأكيد الذاتية إلا بطريقة إرهابية انتحارية، وعندئذ سيكون من الصعب الحديث عن وطن أو وطنية أو حتى عن مجتمعات إنسانية



وبقدر ما يدين النظام نفسه بالحكم عن طريق القوة فإنه يفرض بأن لا يكون هناك أي تغيير أو تعديل أو إصلاح إلا بالقوة، وهو يخلق من دون أن يشعر ربما شروط نمو التنظيمات السرية والباطنية التي تعتمد القوة وتنتظر الفرصة التي تسمح لها بالانقضاض عليه والحلول محله. وإدراكا لذلك، وحتى لا يترك النظام لهذه القوى مثل هذه الفرصة لا يجد له بديلا عن تضخيم أجهزة الأمن حتى تستطيع أن تطبق على المجتمع من كل الجهات، وكي ما تنجح هذه الأجهزة في سد كل الثغرات لا تجد مهربا من خنق كل شكل من أشكال الاستقلالية والحرية والمبادرة والحرمة الفردية والجماعية، وهكذا يتحول المجتمع -من دون إرادة واعية لأحد- إلى معتقل كبير لا تستقيم فيه حياة اجتماعية ولا ثقافية ولا اقتصادية ولا أسرية.

ليس هناك إصلاح مهما بلغت درجته من الاعتدال والشكلية من دون قبول النظام بحد أدنى من حرية الضغوط الاجتماعية السلمية، فإذا أصبح من غير الممكن والمشروع استخدام أي وسيلة من الوسائل السياسية السلمية للتأثير في الأوضاع والسياسات المتبعة بما في ذلك الكلام والخطاب والمقال، أي إذا نجح النظام في أن يقفل الباب تماما أمام أي نمو لأي شكل من أشكال التعبير عن الاحتجاج أو النقمة أو النقد أو المعارضة ورفض القبول بأي مخاطرة مهما كانت ضئيلة باسم الأمن أو الوحدة الوطنية أو المصالح الشعبية أو لأي سبب آخر، فلن تكون النتيجة ما يشاع من استقرار هو أقرب إلى صمت المقابر، أي دفن الشعب كوعي وإرادات فردية ومدنية حيا فحسب، ولكن أكثر من ذلك فرض العنف والتمرد والخروج على النظام وتحديه كأساس وحيد لتأكيد الوجود والاستقلال الفردي والمساواة والحرية. وعندما يكون ميزان القوى بين الدولة والمجتمع شبيها في اختلاله بميزان القوى الدولي، فهذا يعني أنه لن يكون هناك مجال لتأكيد الذاتية حتى بالعنف إلا بطريقة إرهابية انتحارية، عندئذ سيكون من الصعب الحديث عن وطن أو وطنية أو مواطنية أو حتى عن مجتمعات إنسانية.


إن التحدي الكبير
الذي تواجهه الشعوب والمجتمعات في القرن الواحد والعشرين ليس منع الناس من الحديث في الشأن العام ولكن تحفيزهم على الالتزام والمشاركة السياسية لأن هذه المشاركة هي القاعدة الوحيدة لدفع الأفراد إلى
تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية
والعمومية




حان الوقت كي ندرك جميعا أن السياسة والعمل السياسي والرغبة في المشاركة في مناقشة القرارات التي تمس المصير العام -أي مصير جميع الأفراد- ليست مسألة ثانوية، ولا ينبغي بأي شكل أن تكون مجال اتهام أو حكرا على شخص دون غيره وليس هناك بابوات سياسية، أي وكلاء سياسيون عموميون وأبديون معتمدون لتفسير آيات السياسة الوطنية ونصوصها.

وإن التحدي الكبير الذي تواجهه الشعوب والمجتمعات في القرن الواحد والعشرين هو -بالعكس تماما مما هو شائع عندنا- ليس منع الناس من الحديث في الشأن العام ولكن تحفيزهم على الالتزام والمشاركة السياسية لأن هذه المشاركة هي القاعدة الوحيدة لدفع الأفراد إلى تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية والعمومية، وتحمل هذه المسؤولية هو اليوم شرط قبول التضحية وبذل الجهد الخلاق المطلوب في كل المجتمعات لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين والخروج من طرق البيرقراطية المسدودة.

ليست السياسة مصدر الخطر أو مجاله في المجتمعات الإنسانية، ولكن -بالعكس تماما من ذلك- غيابها وتغييب إرادة الأفراد وإنكار مصالحهم وآرائهم والقضاء على استقلالهم الفكري والسياسي، أي اغتيال إنسانيتهم. ومن يراجع تاريخ الشعوب الغربية المعاصرة يدرك أن مسيرة التقدم الحضاري الحديث كانت مرتبطة ارتباطا جدليا في كل حقبة وعصر بتقدم شروط الحرية، أي بنجاح المجتمعات في انتزاع وتكريس المزيد من المبادرة والاستقلالية الفكرية والسياسية الفردية والجماعية، أي كانت تتقدم مواكبة لعملية بناء الإنسان والحقيقة الإنسانية، وبالعكس إن جميع المكاسب والإنجازات المادية والتقنية والعلمية مهما بلغت عظمتها ودرجة تراكمها لا تستطيع أن تقاوم طويلا انحطاط الإنسان وانهيار قيمه المدنية والسياسية.
_______________

أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون باريس.



#برهان_غليون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصل العنف في مجتمعاتنا ... والسياسات الدولية غير العادلة ذرا ...


المزيد.....




- مقتل 5 أشخاص على الأقل وإصابة 33 جراء إعصار في الصين
- مشاهد لعملية بناء ميناء عائم لاستقبال المساعدات في سواحل غزة ...
- -السداسية العربية- تعقد اجتماعا في السعودية وتحذر من أي هجوم ...
- ماكرون يأمل بتأثير المساعدات العسكرية الغربية على الوضع في أ ...
- خبير بريطاني يتحدث عن غضب قائد القوات الأوكرانية عقب استسلام ...
- الدفاعات الجوية الروسية تتصدى لمسيرات أوكرانية في سماء بريان ...
- مقتدى الصدر يعلق على الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريك ...
- ماكرون يدعو لمناقشة عناصر الدفاع الأوروبي بما في ذلك الأسلحة ...
- اللحظات الأخيرة من حياة فلسطيني قتل خنقا بغاز سام أطلقه الجي ...
- بيسكوف: مصير زيلينسكي محدد سلفا بوضوح


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - برهان غليون - تحرير الإنسان هو الأصل