أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح نجم عبدالله - نزهة الحرب بين صمت الاسد...وصريخ عبد الرزاق الربيعي ...صباح نجم عبدالله















المزيد.....


نزهة الحرب بين صمت الاسد...وصريخ عبد الرزاق الربيعي ...صباح نجم عبدالله


صباح نجم عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 6954 - 2021 / 7 / 10 - 19:51
المحور: الادب والفن
    


نزهة الحرب بين
صمت الأسد.. وصريخ عبد الرزاق الربيعي
صباح نجم عبد الله
لازلتُ حين أكتب عن مبدع أشاعرا أم قاصا, تتراءى أمامي المقولة الشهيرة أن الإبداع لا يأتي من خارج الذات, ومازالت فيّ بقايا عناد بل تنطّع لمقولة ( موت المؤلف) ، ومعاملة النص بعيداً عن صاحبه والاكتفاء بالدلالات والعلامات اللغوية, وأشهد أن ذلك أسرني أكثر من أي وقت مضى وأنا أنظر بديوان عبد الرزاق الربيعي الصادر بعد غزو العراق من قبل ما يسمى بدول الائتلاف أو التحالف أو الاحتلال؛ ذلك أنني أعرف عبد الرزاق أكثر مما أعرف قصائده ولا بد لمعرفتي هذه أن تضيء لي جوانب من الطريق للوصول إلى تلك القصائد, ولست أقصد بمعرفة الشاعر أو الناثر أن أدون التفاصيل الدقيقة عن يومياته, ولكنني في الأقل أقف في محطات لافتة من سلوكه, وتعامله مع المواقف وأوّل هذه المواقف أنّ الرجل مهموم بالوطن والإبداع فحسب وليس له شأن بغير ذلك, بل إنهما – أي الوطن والإبداع-, يتماهيان لديه إلى درجة لا تستطيع أن تفصل أحدهما عن الآخر, وأنا أعرف أن القارئ بمثاليته المعهودة سيرد من فوره على هذا القول بقول منطقي هو أن كل الخلق يحبون أوطانهم ويعنون بإبداعهم إن كانوا مبدعين, وعندها يحق لي أن أعبر عن استيائي, فلست أعني أن عبد الرزاق الربيعي هو الوطني الوحيد أو المبدع الوحيد وإنما أبادر إلى القول إنه من القلة القليلة التي تنظر بهذا المنظار, ثم أن هذا الحب الذي ألمسه عند عبد الرزاق هو حب العذريين والزهاد الخالي من الادّعاء أو انتظار الجزاء ، أو الشكر, وتلك مسألة إن تراها سهلة ميسورة في الكلام فهي صعبة لا تتمكن منها إلا تلك القلة النادرة التي أشرت إليها, إن الربيعي زاهد في عالم الشراهة يرى في الوظيفة قيداً يجور على الإبداع, ويستهجن أولئك الذين يكتبون ليتقاضوا ثمنا لإبداعهم وإن كان مشروعا ما يطرحون
يرى في تقييس الإبداع وتقويم ثمنه إلا إساءة وكفرا في ذلك الإبداع الذي يصل عنده إلى حد من القدسية والتصوف إنه يهبه لوجه الله تعالى, ولم يحصل أن اشترك الربيعي في مجلس ودار النقاش فيه حول الأجور والمكافأت إلا وأدار لهذا المجلس ظهره ، أقول هذا وأنا على بينة من أن كثيرا من المبدعين يبيعون أقلامهم وكتاباتهم على أساس السطور والألفاظ, بل إن بعض من اشتهر منهم يبيع ظله إن هو مرّ بجوار مؤسسة بما يدهشك ويصدمك من الدولارات, مثله مثل الفنانات والفنانين الذين يتعاملون (باللقطة), وبعد فلا تقل لي تلك حقيقة في عصرنا الحاضر, فكيف بغيرها يأكل المبدع أو يلبي متطلبات حياته, لأنني أعرف ذلك تماما ولا أبخسهم حقهم, لكنني في الوقت ذاته أتعجب من ذلك الذي يزهد وتصعد فيه الروح المثالية إلى حدود تقربه من ذلك الذي تبرع بفطوره الرمضاني لثلاثة أيام متتالية وهو لا يملك شيئا فاستحق أن يكون سببا لنزول الآي: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا"
وليست الآية عامة تنطبق على الجميع, بل إن من كان في مستواها أمس واليوم وغدا - أنْ وجد - هم القلة النادرة فقط, هذه الحالة أو الميزة جعلت عبد الرزاق يتعذب ويشتعل ثم ينطفئ مرارا ويبكي من أجل الوطن والإبداع في حين أتحسر أنا – وغيري من الكثرة- لساعات ثم يتلاشى فينا ذلك إلى مناسبة أخرى – إن الرجل مسكون بالإبداع حقا وأمنيته الكبرى أن يغادر الوظيفة حتى وإن كانت لصقا بالإبداع ليتفرغ تماما لحضانة الإبداع!!! بل قل ليعتكف من أجل الإبداع ومن لم يكن عراقي الألم والمرارة ، فلن يقدر فهم الربيعي على ما يرام !!
تحولات أسد بابل :
يؤكد غير العراقيين المطلعين على حضارة وادي الرافدين, أن أسد بابل يحتل حيزا في تشكيل الذاكرة العراقية, الغائرة في القدم, بل لعلهم يرون فيه رمزا لتلك الحضارة وفنها العتيد, وشموخها, أما العراقيون فهو ليس ذلك فحسب, وإنما يرون فيه أيضا واحدا من مكونات ذاكرة الطفولة لدى أبنائهم وبناتهم, فهو لا يزال حيا يُزار, وتلتقي عنده الرحلات يوميا حتى صار من أبرز الفعاليات اليومية التي لا يُستغنى عنها عند إعداد جداول السياحة أو الثقافة أو الفن أو التربية.
لم يكن الربيعي عاطفيا مزاجيا حين اختار الأسد لوحة لغلاف ديوانه, ولا هو اختيار من بين أشياء عدة لإظهار عراقيته, أو عراقية الحدث, بل كان جزءا من دفق المعاناة والمخاض الذي لا يقل عن معاناة إنتاج الإبداع نفسه ولعل القارئ النابه المنصف لا يستهين بالمختارات سواء أكانت نصوصا أم لوحات فنية, لأنها – أأي المختارات- أقاعلاقعنبانتقانباتنقابتقنباتقباتياتسيابتنسيارنؤتيسغخأي المختارات تخضع لذائقة النقد, وثقافة المبدع وتدخل في نسيج إبداعه, ولا أجور إذا قلت أنها تناص جميل خضع لتقنية فتحت النص الإبداعي ليكون شفافا مرنا يقبل التأويل الفني المقنع غير المكبل الأسير ببعض ما يفرضه المبدع ، ومن هنا تأتي أهمية كتب المختارات كالحماسة وشروحها فهي دالات على من أجادوا الاختيار. ورغم أن عبد الرزاق الربيعي رأى بعينه الدامعة, وقلبه الدامي أن أسد بابل الرهيب تمتطيه بنات آوى من الجنود الجهلة الذين لا يعرفون دلالاته وقيمته, أو العارفين بتلك الدلالات القادمين لإذلاله, إلا أن الشاعر حسنا فعل حين لم يوثق تلك الصورة, لا خَجِلا من الموقف, أو محوا لها من ذاكرة الأجيال القادمة, أو تمني مالا يتمنى أن يحصل, وإنما لأنه لو فعل ذلك لكان الاختيار للوحة ضّيقا جدا إلى درجة لا يثير إلا إشارات محدودة لعبثية المحتل, إما وقد جيء بأسد بابل كما هو فهذا هو الاختيار الفني الموفق, فهو في هذه الصورة نص مفتوح يقبل التأويل والتحولات ويوسع من أفق القارئ والناقد وسيشكل وجود هذا الأسد تساؤلات عدة, وأفكاراً متعددة, أهو يدين أهله, أم يستغيث- وهو سيد الغابة- أم يبكي مجده التليد؟ أهو صيحة للحضارة الغابرة في وجه حضارة الأوباش والهمجية المتعولمة اللامتعلمة؟ أم أن الأسد نفسه في قفص الاتهام والخيانة حين سمح لنفسه أن يكون مطية لمن لا يستحق ركوبه؟!! بمعنى أن الشاعر يحتج على الأسد لأنه لم يرفس المارينز:
يا للأسد الحجري الذي
ركب الكون الكائن
على راحة الله الواسعة
لماذا لم ترفس جندي ( المارينز)
الذي اعتلى ظهرك
على مرأى الفجيعة
والأقمار الصناعية
أسد بابل هو الذي قلنا أنه يحتل الذاكرة العراقية ويسمها بسماته مسكون في هذه الصورة بذات الدهشة والغرابة اللتين أصيب بهما مواطنوه حين تناوشته بنات آوى, كيف تحولت قلعة الأسود, إلى ساحة لبيع الضمير, وسوق لشراء المذلة, وكيف تحولت ( السباع) إلى ( واوية) في لحظة؟ ومن هذا المسؤول عن هذا التحول ؟ وإذن فإن عبد الرزاق الربيعي منح القارئ والناقد مساحة واسعة بإتيانه الأسد الصامت الناطق, وجعله عبارة عن ثنائيات متضادة وهي تقنية فنية بنى معظم قصائد ديوانه عليها, هذا إذا لم أرد القول أن الثنائية المتضادة تبدأ من الغلاف ذاته ، فكيف تخرج الحرب للنزهة؟!! وكيف يكون الأسد- رمز القوة والعنف سائحا ؟ ثم يكون ساحة للتنزه يعبث بها المحاربون؟!!!
وأخيرا أتراني أقرأ على خرطوم الأسد عبارة تقول: يالثارات الرافدين؟!!!
اليومي والمألوف :
لولا بعض اللقطات التراثية التي استدعيت لغرض فني وتغلغلها في نسيج قصائد الديوان, لقلت أن الديوان بأكمله يقوم على لغة الحياة اليومية, وإيقاع المعاناة التي تصور هؤلاء الذين كُتِب عليهم أن يتجرعوا من ويلات الحروب وأن يكونوا جميعا أبطالا وشخصيات نامية لمشاهد هذه المسرحية الممتدة التي لم تتقيد بزمن في حين تمسكت بالمكان ولم تبارحه!!!
تجد لغة الحياة اليومية ابتداء من لعبة ( الدعبل) التي يمارسها الصغار ( لم ينس كرياته الزجاجية الملونة) , إلى أدوات المستشفيات والآلات الجارحة والمعالجة ( الادوية والضمانات والمشارط),
حتى لتشف تلك اللغة في اقترابها من اليومي لتتماهى مع مفردات ( العامية الفصيحة)
( افطروا قلوب الأمهات)
والعراقي وحده – لا تفاخر- هو الذي يحس بإيقاع لفظة ( فطر القلب), فلا يكون كذلك إلا بفجيعة كالتي فجع بها معظم العراقيين.
وإذا تنقل الكاتب بين قصائد هذا الديوان بقصد رصد معجم للغة اليومية فسيجده يتشربها أو ينثرها في غالب القصائد, وهو أمر يجعلنا في غنى عن وضع هذا المعجم ويكفيك أنك تجد في قصيدة واحدة كل هذه التنويعات (المدارس, صالونات الحلاقة, المكتبات العامة, المساجد, الخبز, إلخ..)
غير أن عبد الرزاق لا يسطر لك ألفاظا ومفردات ويصفّها مع بعضها في بناء صندوقي ، إنما هو يعطر بناءه هذا برائحة الأجواء المحلية ونكهتها, بنقل الممارسات اليومية للناس, ولعل خير ما ينسجم مع الموقف هو الخروج بالجنائز الذي كان احتفاليا سواء أكان زمن الحرب أم غيره,
علينا أن نخرج لملاقاتها
من جلودنا وأسمائنا اللينة
وننظم إلى موكبها السائر إلى
مقبرة السلام,
ويعرف الناس, العراقيون- ما معنى مقبرة السلام, فهي مقبرة النجف الشهيرة ذات الدلالات العميقة المحفورة بذاكرتهم ، وقد يقوم عبد الرزاق – عبر إيجاز شديد- بنقل لقطة قصيرة لعراقيين ينظرون إلى الطائرت تحرق عاصمتهم وهم فوق سطوح المباني:
فوق بغداد هناك
تحرق السماء
والهواء
انظروا هناك
الطائرات/ الطائرات/ الطائرات
فوقنا
سيكون لألفاظ الحرب مفرداتها حصة بين المعجم هذا وهي موضوعة في مكانها المناسب من القصيدة, وليست مذكورة حشوا ( الطلقات, الشاجور, الحربة البيضاء, الرصاص, القنابل, القناص, الطائرة, القصف) وكثير غيرها.
لقد كان على الربيعي أن يوثق هذه اليوميات عبر مزاج فني مرير, فهو كتبها بالدم المشوب بالحرقة, وبالإيقاع المملوء بالأنين, وصوّرها من زاوية مأساوية ربما خفيت على الكثيرين فشكّل في ديوانه حاله يمكن أن نطلق عليها:
اللقطات المدهشة:
ولعل قصيدة (مقابر جماعية) تمثل- بشكل واضح- تقنية اللقطات التي اعتمدها الربيعي في استفزاز قارئه, ومرة أخرى نشير إلى أن هذه اللقطات هي من رحم اللغة اليومية لا رتباطها بالواقع المعيشي, هكذا كشف عن المأساة حين روى:
بثيابهم المنزلية/ وبدون وصايا/ ومحاكمات/ وعزاءات/ تناثرت عظامهم/ بالريح التي/ كشفت عورة الدكتاتور وجماجمهم المعصوبة/ غير أنه لم يقف إلى الحد بل أمعن في التقاط أكثر اللقطات والمشاهد فظاعة:
ملامحهم/ أكلتها الأرض/ واختلطت مفاصلهم ببعضها/ لذلك /
قالت أم لجارتها المنكوبة:
أعيدي إلي
ترقوة ابني
وهاك إبهام أخي
تذكار موت جماعي
ثم تعددت اللقطات- لتنوع المأساة- واحتفاليات الموت التي يجد عبد الرزاق نفسه أمام مهمة تصويرها جميعا قبل أن تفلت منه لحظة
أب قبّل جمجمة ابنه
الذي خرج من أحضانه
للمدرسة
وعاد إلى السماء السابعة
على عجالة من
أمر الوطن!!!
********
وآخر اكتفى
بالفك الأيسر
من شقيقه
الذي عرفه
من حشوة مؤقتة
لسن الغزال
********
نقبوا الوطن جيدا
نقبوه...
ستجدون
في كل شبر جثة
وفي كل جثة طلقة
ووراء كل طلقة ديكتاتور
ووراء كل ديكتاتور
سلسلة
من المقابر الجماعية
وإذا كانت تلك القصيدة مبنية هكذا فهذا ، لا يعني أن القصائد الأخرى تخلو منها, بل إنك في الأصح تجد في كل قصيدة غير لقطة تجسد المأساة, وقد تكون الصورة تعبر لذاتها عن المشهد المأساوي أو أن الشاعر قام
بعملية جمع مكاني محكم يمزج صورتين متضادتين تبدوان سخرية من سخريات القدر ( لكن الرماح تناوشت لحم النخيل
وكان دمع القلب يسقط كالقنابل
فوق أسيجة المنازل
غير أن مذيعة الأنباء
في " لندن"
تمطّق صوتها بالعلك في غنج
تقاطع نشرة الموتى بإعلان عن الكولا
ومسحوق الغسيل
فقد كانت هذه المذيعة إذاً تقطّع بقلب الملايين مثلما قطعت الربيعي ولننظر مرّة أخرى الى لفظه ( تمطّق ) ، وهي لفظة عراقية محضة لها وقعها الذي يثير الغضب والحنق ، ومن هنا فجرت مرارة القلوب وتظل مرارة كاميرا عبد الرزاق تدبج لنا صورا تهز الضمير حتى يوشك أن يطيح بصاحبه:
أولاد أخي
في درس التاريخ
يصدّع المعلمون أدمغتهم ب ( سومر)
و ( أكد)
و ( بابل)
و (أور) و..و..و..
أولاد أبناء " العم سام"
في درس التاريخ
ماذا يقرأون سوى أخطاء ( كريستوفر كولمبس)
وفضائح البيت الأبيض؟
عبد الرزاق يمتلئ بمرارة المشاهد ورغم أنه شبع منها وألفها ، لكن عاطفته لم تتوطن عليها, لذلك ظل ينزف دما ومرارة وهو دائم السفر والبحث عن وطن ليس فيه دماء ولا كذب ولا مقابر جماعية ، لكن عبد الرزاق يبدو تعبا من هذا السفر الذي لم يلق فيه سوى النصب ( لقد لقينا من سفرناهذا نصبا) فقد تحولت المرارة إلى إحباط ويأس:
تعبت
من المذبحة
وهي تسير بنا
للخلاص
إلى مذبحة
وتعبنا
من الطائرات التي مزقت
كلما عطشت
للسماء
صلاة لأمي
قبل المنام
اعذرونا
إذا ما طوينا
ستارة ( ملهاتنا)
وعلى هذا الأساس صار الموت يأتي دون إدلاّء إلى ضالته ؛ ليشيع الخراب:
فإذاصادفتم موتا ضالا
في أحد شوارع بغداد
لا تأخذوا بيده
فهو لا يحتاج إلى أدلاء
إنه يعرف طريقه جيدا
إنه يذهب إلى الشموس الأولى
والأعناق
إنه يذهب إلى المكتبات
والمساء العريق
إنه يذهب إلى الحدائق المعلقة
في القلوب
حاملا خرائط الغزاة
من أسلافه
إنه يذهب إلى الطفولة
التي تفيض من أثداء دجلة
لتغرفها بمحبتها
إنه يذهب
حيث تشاء النهايات المفتوحة
وعليه...
إذا صادفتم موتا ضالا
في أحد شوارع بغداد
لا تأخذوا بيده
بل قولوا له:
تفضل
أنت في بيتك
أيها الخراب
وبعد فإنني أتصور أن هناك علاقة قوية جدا بين الموقف والبنية الشعرية, وهذا ما يؤكد أن الإبداع ابن البيئة حقا, والبيئة هي الشاعر في بعض جوانبها.
تقنية التناص وتوظيف التراث :
لم يمنع اليومي والمألوف الربيعي استدعاء اللغة العربية التراثية أو الأجواء المعفرة برائحة التاريخ بتفرعاته من التسلل إلى نصه الشعري ، بعد أن تشظت وأصبحت في إطار نسيجه دون أن تشكل نتوءات عالقة, أو زيادات مقحمة أو نشازا غير مرغوب فيه, بل لعلها من التناص الذي استبطن القصيدة, لكنه صار في صميم لحمتها وسداتها. ولست هنا بصدد التنظير لطرق استدعاء التراث وتقنياته من توظيف خارجي, أو بالإيماءة والإشارة أو تلاقي النصوص المتنوعة, لأن هذا التنظير سيبعدنا عن أصل القصد, لكننا لا بد من أنصاف عبد الرزاق – في الأقل- فنشهد أن تعامله مع التراث بأنواعه كان واعيا وصحيا ذلك لأن الرجل لم ينشأ من ( لاشيء) حداثيا سطحيا, إنما هو خرج من رحم التراث ونشط تلميذا في حضرة أهل التراث, ولم ينقلب عليهم قدر ما أفاد من تجربتهم ليغني تجربته الحداثية, أقول قولي هذا ولا أعني بالتراث ألفاظه ومعانيه فأسهم في زيادة الضيق والتضييق عليهم وانما على العكس أجدني أدعو إلى سعة في الأفق فاستثمار العامية من خلال عبارة مؤثرة توردها الألسنة هو توظيف للتراث والإيماء إلى الحادثة التراثية أو الواقعة التاريخية هو إفادة من هذا التراث وإدخاله في قنوات الفن الإبداعي وهكذا مع النص القرآني والشخصية التراثية مهما كان انتماؤها؟وليس لنا أن ننسى المكان وعبقريته وكيف يتحول من حدود جغرافية ضيقة إلى معطى قابل للسعة و الترميز والمحاورة.
قد يكون المعطى التراثي موظفا في صورة عبارة تنتج إيجاز القصر في البلاغة العربية وتبسط ظلالا من المعنى, وقد تكون العبارة مستوحاة من آي الذكر الحكيم, لكنها تغلغلت في النفس العراقية وصارت لازمة من لوازم الاستعمال اليومي كعبارة ( إلى يوم يبعثون) حيث وردت في الديوان متماهية معا في جو القصيدة ازرعوا الزهور/ فالمقابر ستنمو/ وتفاصيل كهذه ضرورية لرفع معنويات الموتى المعلقين في رقابنا إلى يوم يبعثون, أو يأتي باستثمار العبارات الجاهزة على ألسنة الناس في مواقف معينة ونقلها مع شيء من التحوير إلى موقف استعمال آخر لافت كما هو الحال في القصيدة نفسها.
سنضطر لأكل الجبال الراسيات/ والناس والحجارة/ فهي بحاجة إلى أي شيء يجعلها / على قيد الدخان .
والمقصود هنا ( قيد الدخان) بديلة لعبارة على قيد الحياة المتداولة, ولم نشر إلى الناس والحجارة لأنها مما يشبه الإثارة إلى ( يوم يبعثون) ونتجاوزما يمكن أن نسميه التناص الإشاري المتمثل في ( ألف ليلة وليلة, والتوحيدي, وألفية بن ماللك, وروضات الجنات, ابن جبير, سقط الزند, والحلاج ، هابيل وقابيل ، مردوخ, والحسين, الريح الصرصر)
وغيرها أقول نترك هذا لنأتي إلى نوع من التقنية اقامة الربيعي على التناص الذي يزحزح النص عن مكانه ودلالاته ليخرج منه نصا آخر لأغراض القصيدة.
يقول عبد الرزاق ( إن الخاكيين إذا دخلوا دفتي زهرة فسد البستان) ,, ولا تحتاج إلى كبير عناء لكي تحال إلى الآية الكريمة ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)
وبقي على القارئ – غير العراقي- أن يعرف الخاكيين لكي تكتمل عنده الصورة , فهم العسكريون إشارة إلى لون ملابسهم , وهم ملوك من حيث سلطتهم وعلى أيديهم فسدت أرضناالجميلة بمغامراتهم او كذبهم اوخداعهم ، وتلك مسألة لا تحتاج إلى تفاصيل. وعلى ذات الأسلوب يقتنص عبد الرزاق من الآي الكريم ما يعطي النص طاقة تحويلية هائلة المعنى فيقول في مكان آخر .
أغيد... ثو....نا
فنسعى في مناكبها التي ضاقت بنا فرط الفضاءات العريضة ويكفيك أن تعود إلى الآية القرآنية ( هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)
وتقارن التباين المقصود في هذا التناص الجميل
ومن نفس القبيل
الظلام
أرخى بسدول الصمت
حيث يأخذك إلى عوالم امرئ القيس
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
وقد تمتزج الأجواء القرآنية والأسطورية مع الرؤيا المنتزعة من ألفاظ التراث العربي ذات الجزالة من جهة,واشتراك الاستعارة النصية مع التناص في قصيدة واحدة,ولكن مع دقة النسيج الشعري ووحدته إلى جانب الحرص إلى تنوعات التوظيف, ولعل قصيدة التمثال من أطيب الأمثلة على ذلك إذ يبدأ الشاعر بإشاعة أجواء أسطورية .
مخيفا / في ليل الساحة/ كان التمثال
قويا/ تطلع من جبهته الاسمنتية نار...
ثم يرتكز إلى القوى الغيبية ذاهبا إلى القرآن الكريم نصوصا وأجواء تتماهى في أسلوبها وتتشظى لتشكل نصا إبداعيا جديدا :
يشفي الأكمه والأبرص/ يحيى الموتى / من رقدتهم / في الحال ويمعن الشاعر في إشاعة تلك الأجواء وتتصاعد في نفس درامي قوامه بث الأنفاس القرآنية, مازجا ذلك بخرافات يختلقها الناس يعيشون عليها أو يحتمون بها من قبضة الخراب والاستبداد .
رأيناه يكلم من في المهد صبيا
أتى بالشمس من المغرب لو
شاء / وأضاف مجوس العصر : / لقد جاء يخلّصنا من عطش النار / ومن لبس الاسمال ..
ثم لا يني الربيعي أن يدخل روح الأسطورة وأسلوبها موحيا بنداءات تطلقها الآلهة القديمة
" أطفئ جمرة
قلبي / حطم كلي/ اكسر صدأ الأقفال"
كما يستعين بحافظته وخزينة التراثي ليستوحي
من قصة الزير سالم وحرب البسوس عبارة المهلهل الشهيرة لتكون في صميم ذلك النص الأسطوري فتزيده
تأثيرا
قال الرائي
سرا للموج: أرى طوفان الريح
يسبح
وأعناقا تتدلى
وتبوء بشسع نعال
والعبارة الأخيرة تحيل الى القصة بأكملها, ولعلها إشارة إلى استهتار الطاغوت أيضا, وبدل من أن يقذف بالطاغية إلى ( مزبلة التاريخ) وهي عبارة أصبحت روتينية ربما فقدت بريقها وجرسها استبدلها بعبارة ( حاوية الأزبال) . وهي عبارة تركت بلا شك أثرا يشفي الصدور المملوءة غيظا وغضبا.
وأعود فأكرر القول غير مرة أن تلك القصيدة ليست وحدها التي تتقاسم توظيف التراث بأنواعه وأساليبه, بل أن هذا التوظيف منحى واتجاه في جل قصائد الديوان, ولك في قصيدة أضحية منذ عنوانها واهدائها الموسوم بشخصية ابن جبير المعروف , وسيرته عبر النص الشعري حتى موته فهي مزيج من الأجواء والألفاظ التراثية ويكفيك منها:
لا عذر لرأس
زحزح عن موضعه
وسط دم النطع
أرى إني أذبحك
افعل ما شاء السيف
ألا تخشى؟
لأكن خاتمة الحفل
تشاهد
أشهد أن دم اللحظة
لن يبرأ
وهكذا بدا لنا انحراف النص التراثي بسهولة ومرونة على يد الشاعر ليشكل دون افتعال أو تكلف وبامتياز النص الإبداعي الجديد.
إن تناول تجربة شاعر عبر أحد دواوينه لا تكفي لإنصاف الشاعر وإبداعه, وإذا كانت هذه السطور قد أماطت جانبا من اللثام, فإن الأمر بحاجة إلى النظر مليا بإنتاجه للكشف عن جوانب أخرى, ربما لا تشكل هذه السطور سوى ضوء لإيضاح بعض جوانب المنجز الإبداعي لهذا الشاعر الزاهد المسكون بالإبداع والوطن.



#صباح_نجم_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح نجم عبدالله - نزهة الحرب بين صمت الاسد...وصريخ عبد الرزاق الربيعي ...صباح نجم عبدالله