أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضاهر شوكت - من الواقعيه النقديه في الراويه المعاصره ( سباق المسافات الطويله ) إنموذجا او الرحله الئ الشرق للكاتب عبدالرحمن منيف















المزيد.....



من الواقعيه النقديه في الراويه المعاصره ( سباق المسافات الطويله ) إنموذجا او الرحله الئ الشرق للكاتب عبدالرحمن منيف


ضاهر شوكت

الحوار المتمدن-العدد: 6879 - 2021 / 4 / 25 - 18:47
المحور: الادب والفن
    


من الواقعيه النقديه في الراويه المعاصره
(( سباق المسافات الطويلة )) إنموذجاً د .ظاهر شوكت
الرحلة الى الشرق
تمهيد
لان الواقعية النقدية ترى أن للادب رسالة إصلاحية وأنه أداة قد تكون أهم من غيرها في التغيير , تتخذ من الواقع منطلقاً للعمل الادبي , وهي لاترسم الواقع كما هو , انما يقوم الروائي المنتمي الى الواقعية النقدية باعادة صياغة الواقع على وفق منهجه الفكري , وخدمة للغاية التي يسعى الى تحقيقها , فالروائي يرصد الواقع بدفائفهلا ليسجله بطريقة تاريخية محايدة تماماً , إنما يتدخل في إعادة صياغته بايجاد علاقات جديده يبتكرها هو او ينتبه اليها هو مستعينا بالتاريخ وبعلم الاجتماع وبعلم النفس وبكل مايحتاجه في التحليل والتعليل . ويصل الى نتائج يتميز الكاتب هو في رصد العلاقات الجديدة بين الاحداث , وعندها يحولها الى ظاهرة . والروائي المتمكنلايقف اهتماٍمه لدى التحليل والتعليل في جوانبها العقلية , إنما بحرص اشد الحرص على عرض ذلك باسلوب لذيذ ومؤثر يغري المتلقي بالمتابعة والافادة . الرواية واقع مادي , لكنها تعيد صياغة الواقع من وجهة نظر الروائي , وبذا تصبح الرواية فوق الواقع والواقعية النقدية تحرص على خروج الاحداث من الجزئية ضمن ازمنة متباعده الى ظاهرة تخترق الزمن لنجلب حقائق شاملة وطرق معالجتها فتعمل مثل الفلسفة في صياغتها للحقائق العامة فلذا ندرك حرص الروائي على اختيار عنوان الرواية بدقة ليتميز العنوان بالشمول والايحاء بالرمز لاثارة المتلقي وخدمة الموضوع . ومن المفيد أن نطلع على نحو سريع بحادثة كانت بمثابة الاطلاقة الاولى لابتداء السباق . أنتخب الدكتور مصدق لدورتين 1951 , 1953 رئيساً للوزراء في إيران , وكان محامياً معروفاً وقد أقدم في الدورة الثانية على تأميم شركات النفط مما اثار حفيظة الاميريكان والانكليز , وقاما بعملية مخابراتية أطلق عليها الانكليز اسم operation Boot بمعنى التمهيد وأطلقت المخابرات الاميريكية عليها اسم Ajax protect وهدف العملية إسقاط مصدق وإرجاع الاوضاع الى ما كانت عليه قبل التأميم . وقد أدرك الاميريكان والانجليز ان استعمال القوة المباشرة لم تعد وسيلة ناجعة , إنما اعتمد الاسلوب الجديد للاستعمار الا هو الاحتواء , وتفريغ الحدث من محتواه الجوهري لتصبح النتائج لصالحها . ولكلا الطرفين أعوان وعملاء أيتام هناك , فما عليها الا استثمار جهودهم لتنفيذ خطة الاحتواء . السباق لغة يعني محاولة التقدم على طرف آخر , وابعاده عن ثمرة السباق , والسباق يحتوي على عنصر الصراع بين الاطراف المتسابقة وهذا ماحدث فعلاً , وقد تجسد السباق على مستويات متعددة فهناك 1- السباق الستراتيجيوقد مثله توافق الانجليز والاميريكان بالاقتراب بحذر ونية عدوانية من الطرف الذي أعلن تأميم , أي من العدو الرئيس لاختيار الوقت المناسب , وضربه الضربة المميتة . 2- السباق بين الطرفين المتحالفين ضد العدو المشترك فالانكليز مصرون وبثقة تامة كما ورد في أحاديث المسؤولين عن العملية , مصرون على الفوز بالكعكة كاملة لا بجزء منها . قال راندلي وهو المدير المسؤول عن متابعة التقارير الواردة من ضابط المخابرات الانكليزي بيتر الذي أرسل الى هناك ليرصد وليكتشف وليكتب التقارير . قال راندلي لبيتر قبل سفر الثاني : (( بالتأكيد سننجح . هذا مهم , ولكن الاهم من ذلك أن لا نترك الاخرين ينجحون مثلنا .. أن يفرضوا علينا مايريدون , ونصبح عندئذٍ كالخنازير نركض وراءهم )) ( )
أما الاميركان فكانوا يعبرون عن هذه الرغبة العارمة بالافعال ,
وعلى النحو الاتي 1- التعبئة العددية في القوة البشرية المتواجدة على أرض الشرق , خزيناً مستعداً للعمل في لحظة التوقد وهذا ما أشار اليه بيتر في تقريره الى راندلي : (( في الايام الاخيرة جاءت مجموعة كبيرة , وبدأت باتصالات غامضة )) ( ) واوضح بيتر من قبل . (( انهم يجيئون على شكل سياح ورجال أعمال , لكنهم يفعلون شيئاً غامضاً لا أستطيع أن أحدده بالضبط , ماذا يعملون ؟ لكنهم بالتأكيد يفعلون شيئا رديئا )) ( ) 2- الابتعاد عن كل حديث صريح حول أفكارهم وأهدافهم مع الانكليز , إنهم كانوا يتهربون من الاجابات الكاشفة لنواياهم , إنهم يعتمدون الغموض حين يلتقون بالطرف الحليف : الانكليز : الصديق العدو هنا التقى بيتر عدة مرات بـ (هوفر , آرنولد , ماكس) الاميريكان وهم يعملون في السفارهالاميريكية هناك ((ان شيئاً غامضاً لدى هؤلاء الرجال يخلق الحيرة في نفسه . انهم أطفال , معتوهون لكنهم يعرفون أيضاً مايريدون .. انهم يريدون كل شيء ))( ) وبيتر لم يحكم في الامر من مرة واحدة , انما من خلال مرات عديدة : بيتر((: كيف تقومون الاوضاع الان يامستر هوفر ؟ ــــــ لايعرف الانسان ماذا يريد هؤلاء الشرقيون . بيتر ــــ تقصد ان لهم مطالب محددة ؟ ــــــ لا اقصد شيئا محدداً .. لايمكن ان نقدر رد الفعل بدقة .))( ) 3- تقديم الاميريكان مساعدات مادية تكون دعاية عملية كما قال بيتر : (( اما المواد الغذائية التي جاءوا بها , فقد كان مهرجاً بائساً : صور الملابس القديمة , وصور الايدي المرسومة على اكياس الطحين , وصناديق الحليب . الابتسامات تملأ وجه السفير ومستشاره الاقتصادي , حين تسليم المعونه , كانت هذه الاشياء أقرب الى الدعاية البائسه من المعونة الحقيقية ))( ) إن الفعاليات المتقدمة تحتاج صبراً وقوة وقدرة على كتمان أغراضها . إنه صراع ثقيل أثناء السباق . أما الوجه المركزي في الصراع , يكمن في الصراع بين الغرب وبين أهل الشرق الذين أمموا شركات النفط .. وسنوضح جوانبه في الفصول القادمة حين نتناول خصائص الشرقيين . 3- السباق على المستوى الفردي الرسمي وقد تجسد في صراع بيتر ورئيسه راندلي . من خلال المراسلات أكد بيتر على أمور تجري على أرض الواقع بعيداً عن تعليمات الكاهن المسن ــ راندلي ــ كما أسماه ــ راندلي كان يرد على بيتر . وكأنه الرجل العالم بحقائق الدنيا وخاصة الشرق , وبيتر مازال غراً يحتاج الى نصائح خبير . كتب راندلي الى بيتر (( هذه البقعة من الارض لنا , ولايمكن لأية قوة في العالم أنَ تنتزعها , نحن نعرف كل شبر فيها , ولا أبالغ إذا قلت لك يابيتر إننا نعرف كل رجل .. ( ) وذكر , رأيه في الاميريكان قائلاً : إن هؤلاء حمقى بالمعنى الحقيقي , وأعتقد أنهم سيبقون كذلك حتى لو ملكوا جميع ثروات العالم المسألة يابيتر متعلقة بالحضارة , متعلقة بالذكاء ....... وهم في حركاتهم يثيرون الضجة والغبار أينما ذهبوا لكنهم عاجزون عن فعل شيء ))( ) وهناك صراع للغلبة وتحقيق المأرب بين عملاء الانكليز : عباس الوزير السابق الذي إعترض على انشاء (( منظمة الدفاع عن الوطن )) كما صرخ رافضاً(( عملية الاغتيالات )) التي اقترحها صديقه ميرزا ضابط المخابرات , السابق . قال عباس (( إن هذه المنظمة ستكون شراً لايمكن محاصرته أو السيطرة عليه ))( ) وكان أشد خوفاً من فكرة الاغتيالات وقال : (( إذا بدأ القتل فلن يتوقف , وسوف تؤدي الى مضاعفات تمنعنا من إزاحة العجوز وتغيير النظام ))( )
أما ميرزا . فإنه يرى :(( القتل موقف سياسي ))( ) وأنه مع نشاط منظمة الدفاع عن الوطن التي ستسهم في إنضاج الواقع بسرعة . إن عباس يتسابق ليرجع المال وأراضيه التي صودرت وميرزا يتسابق على السلطة أما شيرين القطة أو النمرة ــ كما كان يسميها بيتر ــ هي العاشقة لبيتر , كانت منشغلة بأنوثتها , بعيدة عن ابداء الرأي في المواقف , ويبدو في نهاية المطاف أنها كانت تنتظر التغيير للنظام وإن كان من قبل الاميريكانلانها قالت لبيتر في الحفلة التي أقامها قبل سفره : (( لقد تغيرت الامور الان كثيراً ... ويجب ان تعرف الوجه الاخر من الشرق , وجه الانتصار والفرح )) ( ) لا شك ان هذا السباق يجرى في أماكن متباعدة جداً فلذا اكتسب صفة (( المسافات الطويلة )) فهناك سباق بين انكلترا وامريكا , وهناك سباق بين بيتر ورئيسه وهو يحاول أن يصل الى الحقائق التي تخدم بريطانيا العظمى كما كرر اكثر من ست مرات او الامبراطورية التي ذكرها خمس مرات , وأمامه راندلي الذي تحول الى كاهن مسّن (( لايزال يعيش في القرونالماضية ... مازال يحلم وعقله مملوء بالإحلام))( ) حين يقول لبيتر عن الاميريكان(( أترك هؤلاء الصبية , إنهم قليلو التجربة والخيرة ... وانهم عبء علينا في الوقت الحاضر ))( ) ولماذا وضع الكاتب عنوانا رديفاً (( رحلة الى الشرق )) ؟ إن العنوان (( سياق المسافات الطويلة )) عنوان غير مخصص , ربما يتوهم المتلقي ان السباق ليس على هذه الشاكلة , فكلمة الشرف أعطته شحنة تستفزه ليدرك أن وراء الاكمة شيئاً فيشرع في البحث , ويفترض أن لهذا السياق مواصفات تستحق الاطلاع عليها . وهذه ميزة من ميزات الادب المبدع , وهي الاثارة بالرمز والايحاء .

القسم الاول
الاعداد لأغراض الاحتواء * والتفريغ*
لأن الغرب استبعد الخيار العسكري وسيلة للتغيير , إعتمد لغة العقل ولغة العاطفة , ونشاطات يقوم بها أفراد ينتسبون اليه لذا احتاج الصراع الى معلومات كما قال راندي , المدير المسؤول عن متابعة الاوضاع بعد التأميم في ايران عن طريق التقارير التي يكتبها ضابط المخابرات بيتر , المكلف بالعيش هناك ورصد كل شيء . تم الكتابة الى لندن لتتخذ ماتراه مناسباً . قال راندي: ((مهمتنا في الشرق أن نتخذ القرارات , ومادام الامر كذلك , يجب أن يكون قراراتنا مستندة الى معلومات ... وهنا تلعب المخابرات دوراً رئيساً اذ بمقدار مانمتلك من المعلومات نمتلك قدرة على التحرك , وبالتالي اتخاذ القرارات التي من شأنها تغيير كل شيء ))( )التعامل – عادة مع الاخر ينطلق من أ- معرفتنا بأنفسنا وبقدراتنا وأغراضنا ب-معرفتنا بالاخر , وبقدراته , وأغراضه
أ- معرفة الانجليز بأنفسهم ليس المقصود بالانجليز هنا الشعب او العنصر الانجليزي انما ماورد على الستة راندلي وبيتر المكلفين بادارة الصراع ومتابعته لغرض التغيير وقد سبق التعريف بشخصيتيها الرسمية : راندلي : قال عنه بيتر (( إن راندلي مخلص , يحب بريطانيا أكثر من أي شيء آخر في هذا الوجود , يتحدث , يردد دون انقطاع اسم بريطانيا , وحين يفكر لايجد أمراً جديداً بالتفكير والمناقشة إذا لم يكن لبريطانيا علاقة( ) به , أما ملابسه , حتى الداخلية فانها من لندن كان واثقاً من قدرات بريطانيا , فهي القادرة على رسم الخرائط كما تريد , ولن يكون نصيب الاخرين الا الفشل . هذه الفكرة جعلت راندلييستهزيء بحليفهم الاميريكان , ووصفهم بالحمقى والخنازير على رقابها قلائد من ذهب , لكنهم بعيدون عن التحضر كتب راندلي الى بيتر حول الاميريكان(( إن هؤلاء حمقى بالمعنى الحقيقي , واعتقد انهم سيبقون كذلك , حتى لوملكوا جميع ثروات العالم . المسألة يابيتر متعلقة بالحضارة , متعلقة بالذكاء , وليس بمقدار مايملكه الانسان من نقود ... وهم ( الاميريكان في حركاتهم يثيرون الضجة والغبار أينما ذهبوا , لكنهم عاجزون عن فعل شيء ))( )كان راندلي واثقاً من قدرات بريطانيا , وكان مفتخراً الى درجة الغرور فهو يقول عن أرض الصراع (( هذه البقعة من الارض لنا , ولايمكن لأية قوة في العالم أن تنتزعها , نحن نعرف كل شبر , ولا أبالغ إذا قلت لك يابيتر إننا نعرف كل رجل , لقد أحسنا لكل انسان هناك ... دفعنا لهم أطنان الذهب كل عام . إن كل شيء ينطق بذلك : المدارس , المستشفيات , الطرق , بكلمة واحدة ... لقد صنعا منهم شيئاً ))( ) هذه الافكار جعلته يعيش أحلام القوة والاقتدار والامتلاك النهائي للحقائق , فلذا لم يأخذ تقارير بيتر عن نشاط الاميريكان على محمل الجد . لقد كتب بيتر الى رئيسه راندلي : (( يجيئون على شكل سياح ورجال أعمال وعلماء آثار , لكنهم يفعلون شيئا غامضاً , لا استطيع أن احدده بالضبط ماذا يعملون ؟ لكنهم بالتأكيد يفعلون شيئا رديئاً ))( ) ظل راندلي يتبجح بقدرات بريطانيا , ويسخر من الامريكان كما مر سابقاً , بينما كان الاميريكان يعملون بكتمان وصبر واستطاعوا إخراج بريطانيا من السباق مذعورا كما سنرى في الفصل الثالثوراندلي هذا الكاهن المسن كما وصفه بيتر بصدد تعليمات الى بيتر , حتى على مستوى السلوك الشخصي , وكأنه أحاط بكل العلوم , وتفوق في اختيار أفضل أساليب العمل للفوز بسباقه , وإن حرصه وحذره كانا يوحيان بأنه لايوجد أحد – مهما بلغ من فطنة . يستطيع أن يخترق خططه أو يدرك ماهيتها وأغراضها . لقد أصدر تعليمات لبيتر يرسم له سلوكه الشخصي فيقول له :
أ- (( محظور عليك أن تظهر في علاقاتك العامة نظافة زائدة ... إن القذار , بعض الاحيان , وسيلة توصلك الى ماتريد , لاتكن طاهراً إذا تطلب العمل ذلك , يجب أن تقيم علاقات من أنواع عديدة , ومتنوعة , دون خشية ))( ) وكان راندلي حذراً على نحو خرافي فلذا يقول لبيتر
ب- ((حتى أثناء الحمام يجب أن تتأكد من النافذة ومن الجدران ))( ) ت- (( محظور عليك السكر , يمكن أن تشرب , لكن بحذر , وإتقان , ويجب أن تتوقف عن الشرب عندما تجد ان الشرب أصبح لذيذاً ))( ) ولم يفت راندلي ان يتطرق الى موضوع النساء : حـ - (( يجب أن تقيم علاقات نسائية , ومتنوعة وستكون عاشقاً , عربيداً ... وفي طريقك الى قلب المرأة , تعرف اشياء كثيرة , وعن طريقها توقع الاخرين , ستكون المرأة ممتعة لك وللاخرين ... لكن إحذر من الوقوع جدياً في الحب ! ( ) هكذا توهم راندلي بانه حصن ضابطه الذي وقع في حب شيرين وشرب الويسكي وكاد أن يتحول الى هيكل عظمي أما وصايا هذا الكائن المسن لبيتر على مستوى العمل , فلا أدري على ماذا يراهن في كسب الزمن والاصرار على عدم التوصل الى اتفاق مع الطرف الاخر , ويسمي تلك السياسة مبتهجا (التخلص) ؟! (( كل مانريده منك أن لا تصل الى نتيجة في المفاوضات ستبدأ معهم البحث , ستطول المناقشات , سوف تقضي أياما كثيرة , وأنت تبحث , لكن دون ان تصل لاية نتيجة , وهذا مانسميه بـ التخلص )) ( ) ماذا كان يتوقع راندلي ؟ أيتوقع أن يتنازل الطرف الاخر ببساطة ؟ هل هناك خطة بديلة ستأتي بالنتائج الايجابية لصالح بريطانيا ؟ لم يحدث هذا , ولم نعثر على أشارة اليه ! فما فائدة قوله ؟ ((ابدأ معهم يابيتر من حيث يريدون , ولكن يجب أن نوصلهم الى حيث نريد , أتفهم ماعنيت ؟ ))( ) إنها – كما ارى – كلمات كبيرة أعجب بها راندلي وأوحى بها الى عمق تفكيره ولكن بلا جدوى كما تبين أخيراً إن مثل هذا ناتج – كما ارى – من أسباب نفسية وتاريخيه قد تجاوزها الزمن , لكن راندلي مازال يعيش على لذتها وهي :
1- اعجابه الشديد بيريطانيا , وربما هذا مايرضعه الانجليز ابناءهم به , فينشا عاشقاً لها , وينعكس هذا العشق بطريقة . اللاوعي في تصرفات وسلوك الانجليزي .
2- كانت هذه البلاد مستعمرة للانجليز من قبل وراندلي يتصور أنها مازالت لهم فيقول : (( هذه البقعة من الارض لنا , ولايمكنلاية قوة في العالم أن تنتزعها , نحن نعرف كل شبر فيها , ولانبالغ إذا قلت لك يابيتر أننا نعرف كل رجل , لقد أحسنا لكل إنسان هناك )) ( )
3- يؤمن راندلي ان بريطانيا هي أم الحضارة وان أبناءها هم الاذكياء وحدهم , بل ان اصول الامريكان من الجزيرة البريطانيه , لكنهم نسوا أصولهم , فبعد ان وصف الاميريكان بالحمقى والخنازير على رقابهم قلائد ذهب قال ((لقد فقدوا أصولهم الحقيقة , اصبحوا نوعاً جديداً من البشر , وهذا النوع لايعرف شيئا سوى المال , المال بالنسبة لهم التاريخ والقوة والحضارة ... وكل شيء )) ( ) بينما بريطانيا مازالت مكلفة برسالة كما قال راندلي في وصيته الى بيتر : (( إن العمل الذي نقوم به اكثر من كونه نوعاً من حضاري , عمل إنساني , ويجب أن لا نتردد في القيام بدورنا هناك )) ( ) وقد قالوا : الوهم والسياسة لا يلتقيان , لكنهما التقيا في هذه التجربة وماذا نتوقع من راندلي ان يقول عن الشرق والشرقيين ليضع الخطط التي تناسب العملية . فمن أقوال راندلي وصايا الى بيتر (( لاتظهرإحتراماً لهؤلاء الشرقيين , إنهم يحبون من يعاملهم بقسوة ... دعهم يفعلون أشياء كثيرة من أجلك , إنهم يحسون بالرضى حين يفعلون ذلك . أما اذا كنت بسيطاً متواضعاً فسوف نجدهم وقد تسلقوا على كتفيك )) ( ) كما قال : (( هؤلاء الناس لايعرفون معنى للزمن , يكذبون كثيراً , يعدون كثيراً , اذا لم تكن حازماً , هربوا منك كما تهرب الاسماك , يجب أن لاتتعب من ترداد الاشياء البسيطة أمامهم مرات كثيرة , حتى تتأكد أنهم فهموا , ليس ذلك كل شيء , يجب أن تحدد ماتريده بنفسك , إذا لم تفعل , فان هؤلاء يخلقون لك متاعب كثيرة )) ( )ويتخيل راندلي أن الشرقيين لايفكرون وإنما هم (( كالقطيع , إنهم دائماً يركضون وراء الدابة الكبيرة )) ( )أما بيتر فقد كان مسكوناً باسم بريطانيا فهو لايذكرها الا مع صفة العظمى , وفعل ذلك ست مرات وذكر الامبراطورية خمس مرات نورد امثلة منها : (( وأحرقوا دمية تمثل بريطانيا العظمى )) (( بريطانيا العظمى ... امبراطورية الماضي والحاضر والمستقبل )) (( ان تاريخ الامبراطورية حافل بالانتصارات الرائعة وهذه الانتصارات , ثمرة العبقرية )) ( )(( قال بيتر بفخر : من بريطانيا العظمى )) ( ) هذا الشعور العارم بالتقديس لبريطانيا , وما سمعه من رئيسه راندلي , جعلا من بيتر أن يكون على ثقة تامة أنه كائن متميز , متفوق على العناصر الاخرى , ومن هنا تفهم رأيه في الحليف الاميريكي , فقد نعتهم بالوحوش وبالبعد عن الحضارة (( هؤلاء الاميركيون وحوش يلبسون ثياباً غالية الثمن ... لكنها ثياب مجة تفتقر الى الحضاره وتفضحهم بسرعة ... ولانهم وحوش يسمحون لانفسهم بكل شيء ... )) وينعتهم بالبذاءه في التصرف مع الاخرين (( كانت الليلة الفائته مليئة بالغرائب . البذاءة الاميريكية ذاتها التي تتكرر باستمرار من أدنى المستويات الى أرفعها , التحدي , الجهل , الكتمان المفضوح القهقه العابثة المجنونه , قراءة الروايات الرديئة , متابعة البيسبول وكأن مصير العالم يتوقف على هذه اللعبة ... وماذا ايضا ؟ الحديث من الانف , السيجار المقضوم على طريقة الفئران الجائعة , غمزات العيون البلهاء دلالة الانتظار ! )) ( )هل بقيت صفة محمودة للحليف ؟! الغرور والوهم بالكمال يدفعان الى هذة النظرة الدونية للاخرين ! ترى كيف ينظر الى الشرق والى الشرقيين ؟! يبدو أن بيتر يكره الشرق والشرقيين الا شيرين تلك النمرة التي جعلته يخرج على تعليمات رئيسه راندلي ,حين وقع اسير هواها , إنها الشبق الذي يمثل الشرق كما قال بيتر : (( ومثل حيوان مفترس , مثل غريق يحارب ضد كل شيء , لم تتركني ... وفي تلك المرة عرفت اكثر من أية مرة سابقة أن الشرق هو الشبق ... وانه اللعنه التي تصيب الانسان , وخاصة الرجل ... فيتحول الى شبح ))( ) لقد فطنت شيرين الى أن بيتر لا يحب الشرق قالت شيرين : (( يبدو أنك لاتحب الشرق ابداً ))( ) وكان التمهيد للوصول الى هذه النتيجة عند شيرين هو تكرار إدانة الشرقيين من قبل بيتر : قال بيتر لشيرين : (( انتم في الشرق تحلمون كثيراً ... تتصورون أن الاشياء بسيطة الى درجة يمكن أن تفعلوا ماتريدون في لحظة ... أما الصعوبات ... أما الحقائق فتخافون منها ... تهربون !)) قالت بلهجة مرحة : لقد سمعنا لقد سمعنا منك هذا الحديث عشرات المرات : ))( )
نعت الشرق والشرقيين بأردأ الصفات وأقبحها كما سنوضح في الصفحات التالية , فهو علاوة على ما تقدم , إصطاد صفات يتمتع بها الانجليز وامن بها ايماناً تاماً مثل : )) ولكن شكراً لله انهم (الشرقيين) لم يقرأوا , ولن يدركوا كيف سنتصرف . حين نتحرك لانتوقف أبدأ , ونكنس أمامنا كل هذه الحثالات ))( ) وقد اعجب جداً حين جاء بالعبارة . (( نحن الانكليز نشبه النمل في أمور كثيرة : المثابرة , الاصرار , العمل الدؤوب , النظام , وماذا ايضاً ؟ إننا نعرف مانريد ... وهذه ليست ميزة لنا فقط إنها تعطينا تفوقاً ساحقاً على الاخرين ... لواننا انفعلنا في جو العنف الذي كان يسود البلاد خلال الفترة الاولى , لحزمنا أمتعتنا منذ وقت مبكر ورحلنا , لكننا لم نفعل كنا مستعدين للأنتظار فترة طويلة , ليس الانتظار ألأبله , وإنما الانتظار الواعي المرتبط بالعمل ))( ) إذن هو واثق من نتيجة الصراع ولا يشكل الشرقيون خطراً عليهم , (( واذا كانت عادتنا نحن الانكليز ألانتكلم الا اذا دعينا للكلام , فانهم (الاميريكان) الان يتفوقون علينا في هذه العادة ))( ) والرواية تعكس خلاف هذه الصفة , لقد تحدث الانجليز كثيراً كثيراً بينما لاذ الاميريكان بالكتمان وقلة الكلام . للاسباب المتقدمة إزداد بيتر عتواً , وازدراءً للشرق وللشرقيين . لنعرف الاوصاف التي اطلقها على الشرق وعلى الشرقيين . ان هذه الصفات لم تستند الى مصدر أو مرجع علمي , إنما ملاحظات فردية صادفته أو تصوررهاراندلي وبيتر وصولها الى ظاهرة تتصف بالتعميم غير المنصف وغير الدقيق , فهل من المعقول أن يتساوى الشرقيون في صفات الرداءة والتخلف ؟ ولو كان الامر كذالك كيف خرج مصدق وجعلهم في حيرة من أمرهم ؟ لقد نسي بيتر نفسه حين وصف شيرين بـ (( وهذه المرأة أكثر ذكاء مما تصورت ... إنها الان أقرب الي من أي وقت سابق )) ( ) أليست هذه من الشرق . وإن كان الشرقيون بليدين على النحو الذي صورتهم , فكيف تخلى ميرزا , ضابط المخابرات في النظام السابق عن تعاونه مع الانجليز, لانه أدرك ان الانجليز حكماء في النصائح والتحق بالامريكان الذين عملوا بهدوء , وحصلو على الكعكه بكاملها ؟ الم تقل انت يابيتر ؟ (( من حق ميرزا ان يعمل مايريد , من حقه ان يصبح وزيراً أو رئيساً للوزاراء , هو وحده الذي يقرر , مادمنا قد عجزنا عن ترويضه أو اقناعه )) ( ) ؟؟ لا نستغرب ولن نأخذ توصيفاته على محمل الجد انها رغبة انجليزية في ادعاء العلم بكل شيء في الشرق وهي رغبات البرجوازية التي تتعالى على الاخرين . بيتر وتوصيفه للشرق : اتسع مفهوم الشرق في هذا المجال , فقد شمل اكثر من مكان , وجدناه يذكر بيروت ويتذكر اليونان ولكن معظم التوصيفات ورد على أرض المواجهة , والحديث موجه الى أهلها , وقد كانت ردود أفعال لتصرفات قد تكون فردية , يحاول ان يرتفع بها الى التعميم , كما ورد في محادثته مع شيرين , أو سائق التاكسي مثلاً اما الافعال الجماعية فهي مدانة وهو في لندن مع رئيسه راندلي , او في غرفته بعد ان يتناول قدحاً أو قدحين من الويسكي . ترى كيف وصف الشرق أولاً . ماذكر الشرق مرة الا وقد نعته بصفة رديئة , فهو الوغد والعفن , هنا جاء بصفتين مترادفتين (( هذا الشرق الوغد العفن , أي شيء يمكن ان يكتب الانسان عنه ))( ) وهذا الشرق اللعين لكنه مغرٍ فهو يريد اكتشافه (( يخطيء من يظن اني مرغم على السفر , الا ان هذا الشرق اللعين يغريني )) (( انها المرة الاولى التي يصل فيها الى هذا الشرق اللعين كما يجب أن يطلق عليه ))( )والشرق يتصف دائماً بالمتناقضات , فهو يجمع العصور الحجرية الى العصور الحديثه , وكل شيء يثير الاستغراب (( الشرق مستودع للتناقضات , تناقضات من جميع الانواع والمستويات , العصور الحجرية الى جانب العصور الحديثة ... كل شيء في هذا الشرق يثير الاستغراب والتساؤل )) وحتى خيال الشرق مريض . (( لان جزءاً مهماً من هذه المعلومات نتيجة الخيال الشرقي المريض ))( ) وتجربته مع العشيقة شيرين جعلته يصف الشرق بالشبق . انه يعكس تجربته وغريزته المستعرة على الشرق حتى يجعله شبقاً, ((في تلك المرة عرفت أكثر من أيه مرة سابقة , أن الشرق هو الشبق )) ( ) وقد ذكر بيتر أن للشرق وجوهاً كثيرة , وقد أجاب بيتر بسخرية , شيرين في الحفلة التي أقامها قبل سفره , وبعد فشل تجربة الانجليز (( هذا الشرق له وجوه كثيرة , وليس بمقدوري أن اكتشف كل هذه الوجوه )) هذا هو الشرق الذي مسخته في أوصافك , الان تعترف بأنك غير قادر على اكتشاف كل هذه الوجوه, ليس هذا فقط انما قلت ((وليس بمقدوري أن اكتشف كل هذه الوجوه حتى لو قضيت حياتي كلها هنا ))( ) أما الصفات التي جاء بها للشرقين فهي رديئة , بذيئة أحياناً , ظالمة , فيها تعميم غير منصف , وفيها تناقض أيضاً ’ كما مر في وصفه لشيرين , أو ميرزا , فيها كل شيء رديء ومتخلف ولايمكن أن يجاري الشرقيون الانجليز او يقتربوا منهم , او يتعلموا منهم , فلو أخذنا تلك الصفات بجديه , كان علينا ان نلغي الشرقيين الذين مرغوا شرف الابراطوريه في الوحل - كما قال بيتر - من التاريخ . ((لقد مرغ شرف الامبراطوريه في الوصل حين اقدمت هذه الدوله على اتخاذ هذه الاجراءات متنكرهلابسط قيم العداله والمنطق )) ( ) العدالة من وجهة نظره أن تبقى الشعوب خانعه , تابعة تسلم الانجليز مواردها , والمنطق – كما يرى – بيتر يقتضي ذلك , لان راندلي ينظر بعيداً , ولايسمح ان تنتشر هذه التجربة وينتقل العدوى الى الصغار ليتجرأوا على الكبار , وبريطانيا العظمى من الكبار ! ((الخطورة ليست في الشيء الذي حصل وانما في الشيء الذي سوف يحصل ... ماحصل يمكن أن نحتمله بشكل ما , يمكن أن تتكيف مع النتائج التي ترتبت عليه , مع ان هذا يسبب لنا خسائر واثاراً سيئه للغاية : الشيء الذي لايمكن أن تحتمله أبداً : العدوى ... أتفهم ماذا تعني العدوى ؟( ) العدوى الى الشرق خارج هذه البقعة وحينئذ الطامة الكبرى , لان راندلي يرى (( من يكسب الشرق , يكسب المستقبل )) اذن بقاء الوضع السابق للتأميم أو ارجاع الوضع الحالي اليه , مهمة تقتضي التضحية , لان المنطق من وجهة نظر الانجليز أن ينقسم العالم الى صغار وكبار , الى مستغل في ثرواته وافكاره والى مستغل يقوم بذلك الاستغلال , هذا هو العدل , وهذا هو المنطق (( يجب ان ننتصر في هذه المعركة , لان إستمرار خسارتنا لهذه المعركة معناه خسائر متلاحقة , خسائر لايوقفها حتى الله وخسائر من هذا النوع تعني نهاية الامبراطورية ونهاية وجودنا في الشرق ))( ) إنه المنطق الانجليزي : لايجوز للصغار أن ينطقوا ان يطالبوا بحقوقهم قال راندلي (( يجب أن نفعل أشياء كثيره من أجل مصلحة الحضارة الانسانية , ومن أجل مصلحة هذه الشعوب ذاتها ... يجب أن نفعل ذلك , واذا لم نفعل , فان الفوضى تعم الإرض , وسوف يتطاول الصغار على الكبار , وتبدأ هذه البلدان الصغيرة , المنسية تفرض أسلوبها ومنطقها في العلاقات الدولية ))( )
ب – الشرقيون من وجهة نظر بيتر : لقد اساء بيتر للشرقيين كثيراً , فهو – وبنية مسبقة – يصطاد مفتخراً صفات يصوغهاإعتماد على تجربة فردية , يحاول أن يعمم رد فعله على الشرقيين جميعاً , ومن غير الاستناد الى مصدر او الى مرجع كما ذكرت سابقاً , وهذه الصفات تناولت أشكالهم , أفكارهم , طبائعهم وتصرفاتهم , ملابسهم , أطعمتهم , سكناهم , أثر الطبيعة فيهم مجالسهم , أحاديثهم , أحلامهم ... الخ وليس فيها صفة حسنة , لأنها تخالف الانجليز في كل ذلك وقد عزمت أن أورد تلك الصفات حسب ورودها بالتسلسل في نصوص الرواية :
1- الحماقة في أفكارهم وتصرفاتهم : (( فان كل افكارهم وتصرفاتهم تتسم بهذا المقدار الكبير من الحماقة , وأيضاً متسرعون , شديدو الغضب يتصورون أنه يمكن قطع المسافة بين الإرض والقمر في لحظة الامر الذي لايمكن ان يتحقق أبداً , لكنهم لايسلمون , ولايعترفون بالخطأ )) ( ) 2- السرية , الغموض , البلاهة : (( ان سلاح الشرقيين السرية والغموض . الطفرات المجنونة التي لايمكن لأي انسان عندهم توقعها )) ( ) ان بيتر يبالغ في حرص الشرقيين على السرية , حتى أنهم يعدون اسماءهم اسراراً . (( إن هؤلاء الشرقيين , يعتبرون كل شيء سراً , إنهم مهوسون بالأسرار الى الدرجه التي يعتبرون أسماءهم أسراراً . إنهم في حالات كثيرة يفضلون عدم ذكر أسمائهم أو ينتحلون أسماء كاذبة ))( ) 3- الثرثرة , وفي الغالب هم منفرون , أصواتهم عالية حين يتحدثون . (( لا أعرف كيف يعيش الناس هنا , لكنهم في الغالب منفرون , كثيرو الكلام , يتكلمون بأصوات عالية للغاية , الامر الذي لا استطيع أن أفهم له سبباً ))( ) 4- الغش والسرقة وكأنها طبع فيهم , وصفة تميزهم عن غيرهم . (( وكل شيء هنا يحتمل الغش , لذلك لا أطمئن أبداً , اشم رائحة اللحم الذي يقدم لي قبل أن أتناوله , أتحسس جيوبي في كل لحظة وأخرى خوف أن أسرق ))( ) (( والسكان الاصليون , رغم الابتسامات الكثيرة التي يوزعونها , ورغم أنهم يتعمدون الحديث مع الاجنبي لاظهار معرفتهم باللغات , وبعض الاحيان لمساعدتهم فلا يمكن أن يطمئن الانسان اليهم , ربما كانوا يعملون ذلك لكي يحققوا بعض المنافع , وربما لكي تسهل السرقة بالنسبة لبعضهم ))( ) إن استعمال (ربما) مرتين هنا يدل على نية مسبقة في التصور لهؤلاء الشرقيين , ولأول مرة يستعمل بيتر كلمة (لبعضهم) وهذا يدلل على أن التعميم الذي إعتمده بيتر او راندلي خطأ صريح . 5- السذاجة في إقامة العلاقات , وهذه السذاجة تدل على أن الشرقيين ليسوا سيئين بالشكل الذي حاول بيتر وراندلي جاهدين تصويرهم . (( ولكن هؤلاء الشرقيين لا ينسون ابداً , ليس الامر هكذا فقط , مجرد أن يلتقوا بانسان رأوه من قبل مرة واحدة , يعتبرونه صديقاً لهم , ويتصرفون معه على هذا الاساس ))( ) 6- يحبون القسوة في التعامل معهم . هذا منطق الانجليز للتعامل مع الاخرين من الشعوب الصغيرة والمنسية كما اطلقوا عليها . قال راندلي في وصيته لبيتر : (( لا تظهر إحتراماً لهؤلاء الشرقيين , انهم يحبون من يعاملهم بقسوة ))( ) 7- فقدان الاحساس بالزمن , الكذب (( هؤلاء الناس لايعرفون معنى للزمن , يكذبون كثيراً ... واذا لم تكن حازماً , هربوا منك ))( ) لقد جار بيتر على الشرقيين حين قال للتعبيرعن فقدانهم الاحساس بالزمن عبارته القاسية جداً : (( هؤلاء الشرقيون ولدوا للموت ... الموت ينبع من كل شيء فيهم , من النظرات , من التأمل الأبله من الرخاوة , إنهم اموات بمعنى معين ))( ) وحين حاول بيتر ان يعرف سر الكذب الكثير لم يجده الا عند خادمه أمين , الذي قال : (( الكذب ملح الرجال ))( )
هذه ليست حقيقة ولكنها تعكس ما اعتقده أمين او حاول ان يعتقده بحضرة بيتر لسبب ما ! 8- الغموض والتناقض ... كان بيتر يتمنى أن يكشف الشرقيون عن رؤوسهم وقلوبهم ليرى بيتر مافيها , لان بيتر يعتقد ان الشرق ملكه , وإن الشرقيين عبيد له . (( هؤلاء الشرقيون , لايعرفهم حتى الله , إنهم غريبون في كل شيء , في أشكالهم , تصرفاتهم , سلوكهم , ولا يعرفون ماذا يريدون , كما لايعرفون الاصدقاء من الاعداء ))( ) انهم معقدون , بل في غاية التعقيد والغموض : (( لايمكن فهم هؤلاء الشرقيين , اذ بقدر ماهم بسطاء , بقدر ماهم في غاية التعقيد والغموض , حتى أقرب الناس اليك , لاتستطيع أن تكتشف مايدور في رأسه , إذ كثيراً ماتفاجئك تصرفاته وردود أفعاله ويكرر بيتر بعض العبارات ليظهر الشرقيين بصورة ممسوخة . ((فانهم غامضون لاتعرفمايدور في رؤوسهم إنهم يفعلون الشيء ونقيضه ))( ) وقد نجد التناقض في سلوك خادمه أمين إنه مؤمن , لايشرب , ويعرف أن الله سيعاقب الشاربين , لكنه لايعترض على شرب بيتر , ولا يتوانى ان يضع الثلج – وبسرعة – في كأسه ( ) 9- إنهم شكليون يقدسون المظاهر كثيراً . لهذا أوصى راندلي بيتر بالتصرف الاتي :- (( إذا التقيت بواحد مؤمن لايشرب , فلا تحاول أن تذكر الخمر أمامه , وإذا وجدت واحداً مؤمناً فيجب أن تظهر إيمانك العميق ... إن هؤلاء الناس يقدسون مظاهر كثيرة . ( )10- الكسل , الثرثرة , أحلام اليقظة يبدو ان قسماً من هذه الصفات كانت قريبة من بيتر فعكسها على الشرقيين , فقد قضى فترات طويلة في شرب الويسكي , ومغازلة شيرين , وتكلم كثيراً , وكان يحلم بانتصار الانجليز وهذا لم يحدث (( لكن هؤلاء الشرقيين , يتكلمون كثيراً , يعدون , يحملون كثيراً , وهم ايضاً كسالى , ويفضلون أن يظلوا في اماكنهم لا يفعلون شيئاً )) ( ) ويرى بيتر أن سبب كسلهم هو فعل الشمس الحاره وأظن انه لايعتمد على هذا السبب لنقرر صفات نهائية للشعوب , والا كيف كانت الحياة تسير ؟ قد تكون الحرارة من جملة الأسباب وليس السبب الرئيس الذي جاء به بيتر : (( في معظم أيام السنة (يفعل الشمس) لا يميلون الى الكلام , ولا يطيقون الثرثره , وهي إحدى هوايتهم ويفضلون النوم ))( ) وقال لشيرين وكأنه أستاذ في علم الاجتماع : (( انتم في الشرق تحلمون كثيراً , تتصورون الاشياء بسيطة يمكن أن تفعلوا ماتريدون في لحظة , أما الصعوبات , أما الحقائق فتخافون منها ... يتهربون !( ) 11- العناد . تذكر بيتر قول رئيسه الذي أوحى لنا بأنه خبير بطبائع الشعوب , الشرقية خاصة (( لاتقل لهم شيئاً نهائياً . إنهم عنيدون , اذا تصوروا ان لنا رأياً غير رأيهم , فسوف يصبحون خصوماً لنا . انهم يظنون أن مايقولون وحده هو الصحيح ))( ) وعنادهم يقترن بالانفعال وسرعة الغضب . (( انهم عنيدون , سريعو الغضب , انفعاليون , محبون للعنف والفوضى , قصيري النفس]قصيرو[ ... ))( ) 12- المساومة والبخشيش : في هذه النقطة اعتمد على ماقاله من سبقوه الى الشرق . (( وعجيب هؤلاء الشرقيين , إن أفضل شيئين بالنسبة لهم المساومة والبخشيش )) ( )13- انهم بدائيون ورعاع . (( وما دام الامر يتعلق بالدهاء , فسوف يرى هؤلاء البدائيون كيف أنهم لايحسنون قواعد اللعبة )) ( ) ولم يوضح بيتر أي نوع من الرعاع هم , بالتأكيد ان رعاع الانكليز لايشملهم الحط من مكانتهم ! (( هؤلاء الرعاع يمكن ان يتحولوا في لحظة واحدة )) ( ) 14- استعمال الايدي حين يتحدثون : (( يبدو إن الشرقيين بصورة عامة يحبون استعمال الايدي أو ان الايدي وسيلة إضافية في التعبير , والا كيف يمكن تفسير هذه الحركة المستمرة ؟ )) ( ) 15- الحذر والارتياب والشك في كل شيء بالاضافة الى التخبط . (( فهم أقرب الى الحذر والارتياب , يشكون كثيراً في كل شيء رغم الثبات الظاهري الذي نلمسه في وجوههم , إنهم أقرب الى الحيوانات المتوحشة لايثقونبالاخرين , ولايمكن أن يفسر سلوكهم وتصرفاتهم بحسن نية وهذا الشيء تلمسه في كل المستويات , من سائق التاكسي حتى قمة السلطة , يبدون أغلب الاحيان مهذبين , يستمعون بأدب , يبتسمون , ينظرون اليك نظرة ودودة , لكن نحس وراء هذا كله أنهم لايثقون أبداً في كل ماتقول أو تفعل ! ))( ) من المقصود بفاعل الفعل نحس ؟ كان المفروض ان تقول (أحسن انا) , لانك انت الذي تتوجس منهم دائماً , واذا كانوا لايثقون بك فمن حقهم ذلك , الم يقل لك راندلي– وكما مر – ابداً معهم من حيث يريدون , ولكن المهم ان ينتهوا الى مانريد ألم يقل لك ان المهم جداً عدم الوصول الى نتيجة ؟ 16- الاحتيال : يعلل بيتر لجوءهم الى الاحتيال بالفقر المنتشر في البلاد من غير أن يشير الى من ينهب ثرواتهم وبسبب الفقر (( وإن حالة الفقر المسيطرة في هذه البلاد , يدفع ( ) الانسان الى الاحتيال , والى اتباع الاساليب الملتوية )) 17- المبالغة . ويعتقد بيتر ان المبالغة ميزة يتميز بها أبناء الشرق , ولا اظن أن هذا التخصيص دقيق فالمبالغة لها اسبابها , لا يكون المكان سبباً في ظهورها , انما الظروف والتربية النفسية والفكرية توجد المبالغة بغص النظر عن المكان , الايبالغ الانجليز في عيدميلاد الملكة ؟ (( قضية أخرى تمييز الشرقيين : قضية المبالغة في كل مايقولون أو يفعلون . ان الكلمات لاتعني شيئاً محدداً , وهم لذلك يقولون أشياء كثيرة لايعنونها أكان الوفد المفاوض يتميز بذلك , أم الانجليز كانوا مبالغين في التحفظات ؟ 18- القذارة والسرية والتلوث : (( إنهم أبناء اللحظة , والحياة الشرقية أيضاً مليئة بالقذارة والسرية والتلوث ))( ) 19- الاسراف في الاكل والشرب . وهذا الاسراف جزء من المبالغة كما سماها بيتر , اليس كذلك ؟ (( منذ الصباح الباكر يبدأون الاكل وحتى ساعة متأخره في المناطق البارده تقتضي بأن يأكل الانسان كمية معينة من المواد الدهينة , فإن الشرقيين يأكلون هذه المواد في أقسى ايام الصيف حرارة )) ( ) وكذلك يفعلون في تناول الحلويات الشرقية (( وما ينطبق على الطعام , ينطبق على الحلويات الشرقية انها خليط من المواد المتناقضة , صنعت بطريقة خاصة , وهي شديدة الدسم والحلاوة , بحيث يتعذر أن يتناول الانسان أكثر من كمية محدده , ولكن الشرقيين يسرفون في تناولها , ويتفاخرون والابتسامة تملأ وجوههم حين يقولون بطريقة غامضة ومحببة , إنها نفيدهم جداً في الفراش , لولاها لخربت الدنيا , وفقد الانسان كثيراً من المتع الضرورية ))( ويرسم بيتر صورة مضحكة للشرقيين وهم يملأون جيوبهم بأنواع من الحبوب : (( واذا تعبوا من الاكل الدسم , الذي لايملونه , ملأوا جيوبهم بأنواع من الحبوب , وبدأوا بشكل بهلواني , يلقونها في الهواء ثم يلتقطونها بشفاههم أو السنتهم , وكأن كل واحد عقد رهانا بينه وبين نفسه على أن لا يتوقف ))( ) وهم كذلك يسرفون في المشروبات المتنوعه أ- الماء والشاي : (( انهم يشربون كميات كبيره من الماء )) ب- المنبهات : (( ويشربون كميات اكبر من الشاي )) حـ - المدفئات : (( ويشربون أنواعاً من السوائل يزعمون أنها تدفيء العظام , وهي شديدة الحرقة , ومذاقها لا يستسيغه الانف أو الحلق ))( ) ء- المسكرات: (( لهم مشروباتهم المحلية , وهي شديدة الفعالية وتأثيرها سريع , ولها مذاق خاص غريب ايضاً والشرقيون بمقدار الاسراف الذي يميزهم , فان إسرافهم في الشراب يفوق ويتجاوز كل الحدود ))( )وفي الفصل الثاني سنطلع على مجالس الشراب عندهم . 20- إزدواجية المواقف : ويعلل بيتر ذلك بانهم لايملكون موقفاً (( وهؤلاء الشرقيون مع أنفسهم , ومع الشيطان وفي كثير من الاحيان لايقدرون مصالحهم أويقفون مع الذي يعطيهم اكثر )) ( ) 21- إنهم مصابون بعقد نفسية مزمنة : (( ان الشرقيين مصابون بعقد نفسية مزمنة وهم شديدو الكبرياء ))( ) 22- انهم مخيفون : (( ان هؤلاء الشرقيون مخيفون بكل معنى الكلمة ولايمكن أن يثق الانسان بأي شيء يقولون أو يفعلون )) ( ) 23- الميل الى فلسفة الافعال بسبب الدين : (( ويبدو أن الشرقيين الغارقين في الدين , لايفعلون شيئاً الا اذا كان مرتكزاً على فلسفة )) ( ) 24- الانفعالية وسرعة الغضب , والميل للعنف , الفوضى , قصر النفس : هذه مجموعة صفات جمعها بيتر في قوله : (( انهم عنيدون , سريعو الغضب , إنفعاليون , محبون للعنف والفوضى , قصيروا النفس , كما يبدون في الكثير من الاحيان كالاطفال في سرعة هياجهم , الحاحهم , وهم كثيرو الشكوك الى درجة أن أي شيء تعرضه عليهم , لايمكن أن يوافقوا عليه رأساً )) 25- الخوف والتردد(( وينظرون الى أبسط الامور واكثرها وضوحاً نظرة خوف وتردد ))( ) 26- الانانية وسوء التقدير , قدرتهم على التخريب وخلق المتاعب : (( إنهم لايتركون أمراً من الامور يسير في الطريق الصحيح , كما إنهم قادرون على التخريب وخلق المتاعب لأنفسهم وللأخرين نتيجة الانانية وسوء التقدير , إضافة الى الكسل والتشبث بالاساليب البدائية . بكلمة واحده , إنهم يفعلون الشيء غير المناسب في الوقت غير المناسب )) ( ) 27- التقليد غير المعقلن : (( إن الشرقيين تقليديون الى درجة كبيرة . إنهم في حالات كثيرة يراقبون الاشجار وأعمدة الهواتف ... وربما الاشباح , ولايدركون , ولايحسون أي تطور يحصل بالنسبة للطرف الاخر , يقولون لهم راقبوا ... يراقبون ... أما أي شيء يراقبون , لماذا يراقبون ؟ فانهم لايعرفون أبداً )) ( ) لو كان الامر هكذا يامستر بيتر , فلماذا جاءك ضابط الشرطة حين ذهبت الى مكان بعيد قدلايصل اليه أحد , وقال لك (( مستر ماكدونالد ... نحن نعرفك جيداً , ومن الافضل أن تتوقف عن المناقشه , وتهيء نفسك للسفر بأسرع وقت ))( ) إذا كان الشرق والشرقيون بهذه المواصفات الرديئة , فلماذا تنشغل بريطانيا العظمى بهما ؟ أمن اجل الحضارة أم من أجل الثروة , ألم يقل عرافكم أوعرابكم (( من يملك الشرق ... يملك العالم ))( ) وكما مر أيضاً الشرق هو المستقبل ج – أراء الاخرين في الانجليز الحليف الاكبر(الاميريكان) والذين لجأوا الى العمل بسرية تامة , أدركوا أن الانجليز أي الحكومة الانجليزية وليس الشعب الانجليزي مشغولة بالتشخيص والتوصيف للاشياء الصغيرة , اعتمدت على اسلوبها الخاص , لاسيما وان أغراضها تختلف كما قال الاميركي فوكس وكان مخموراً : (( مستر ماكدونالد = (بيتر) يمكن أن تقنع لندن بهذا الرأي . أما بالنسبة لنا , فان الامر اكثر خطورة مما تتصور ... ثم يجب ان تعرف ... أميركا غير بريطانيا وما يهم أميركا ويقلقها ويزعجها ... بل مايهدد أميركا مختلف تماماً بالنسبه لبريطانيا ... انتم مازلتم تفكرون وتتصرفون بعقلية المرابين , أما نحن فان مسؤوليتنا في العالم تضطرنا أن نفكر ونتصرف بشكل اخر ))( ) بريطانيا تفكر بارجاع الاوضاع الى سابقتها , قبل التأميم اما امريكا فتفكر في الوصول الى المياه الدافئة وهذا هدف ستراتيجي يخص منطقة الشرق الاكبر لا الشرق = ايران كما تناسلت في الرواية . إذن هدف الامريكان اكبر فلذا قال فوكس وقد (( رد بعصبية ـــــ هذا ما أريدك أن تفكر فيه يامستر ماكدونالد ... يجب أن تعرف أن الاخرين ينتظرون اللحظة المناسبة لكي يقفزوا ويصلوا الى المياه الدافئة ... لقد كان هذا حلمهم منذ مئات السنين , وسيبقى هذا الحلم الهاجس الوحيد الذي يدفعهم ... وأنتم بالطريقة التي تفكرون بها تساعدونهم على الوصول ... وبسرعة )) ( ) والاميركان كانوا يؤمنون بأن الانجليز هم الذين سببوا الوصول الى هذه النتيجة = تأميم الشركات فلذا قالوا لبيتر :- (( أنتم الذين دفعتم الامور لان تصبح هكذا ... ماذا تريدون ان نفعل الان ؟ عليكم ايها الانكليز أن تلتفطوا الكستناء من النار بأصابعكم , لا أن تستعملوا أصابع الاخرين ... يجب أن تدركوا أية تغيرات هامة وقعت في هنا العصر ))( ) وعاب الامريكان على بيتر انشغاله بالهموم الصغيرة , فقد قال مستر فوكس لبيتر : (( توقف يامستر ماكدونالد , عن تصديع رؤوس الاخرين بالهموم الصغيرة ... إن الهموم الصغيرة لاتهم الناس الاخرين كما يتوهم البعض ))( ) وقد سبق لشيرين أنها قالت له : لقد سمعنا منك هذه الاقوال عشرات المرات . أما على مستوى الناس أو اهل الشرق الذي يعملون على أرضه , فقد كتب بيتر ينقل أراء ومشاعر الناس الى رئيسه راندلي : (( في مرات عديدة كنت أسمع من أصدقائنا كلمات قاسية , وكنت ألمس السخرية , كانوا بعض الاحيان يقولون : لقد انقضت على وجودكم هنا عشرات السنين , ولقد حصلتم من هذا البلد على خيرات لاتقدرولاتوصف , فماذا كانت النتيجة ؟ أنظروا الى العقد والمصاعب التي تعاني منها , انظروا الى الاحقاد التي تولدت , هذه الاحقاد لم تعد مقصورة عليكم , لقد امتدت لتطال كل من له علاقة بكم ... إن اخطاء كثيره وقعت وتسببت المشاكل والمآسي التي نعاني منها الان ))( ) وفي مستوى الافراد , عباس الوزير في النظام السابق كان واثقاً بالانكليز اعتقد انهم سيعيدون له أراضيه التي صودرت , كان يحمل ذكريات وردية عن الانكليز فقال : (( المسألة ببساطة : إن الانسان يستطيع الاعتماد على هؤلاء والثقة بهم ... لايعرفون , مثلنا , الكذب والنفاق ... إنهم صادقون , مستقيمون , وهم لاينسون شيئاً أو احداً ... ثم لماذا الانكار ؟ هل يستطيع أحد أن يعمل شيئاً دون مساعدتهم ))( ) فلذا قرر أن يقضي مابقي من حياته في الريف الانكليزي بعد ان فشلت تجربة الانكليز في اعادة الاوضاع الى ماكانت عليه , ولم تعد انكلترا قادرة على إرجاع امواله . وميرزا , ضابط مخابرات في النظام السابق مد يده الى الانكليز ليعمل من أجل التغيير وأسهم في ايجاد (( منظمة الدفاع عن الوطن )) ثم اقترح مشروع الاغتيالات لانه قال (( يجب أن لا نفهم من الاغتيالات أننا سنحمل المسدسات والبنادق وننزل الى الشوارع , في وضح النهار , ونبدأ باطلاق الرصاص ... المسألة لاتتعدى عمليات صغيرة مدروسة بعناية , ونستهدف أشخاصاً معنيين , أما الرجال الذين سيقومون بها فانهم رجال محترفون لايتركون وراءهم أي أثر ))( ) (( إنها ليست عملية قتل بالمعنى التقليدي , إنها موقف سياسي , تماماً كما هو الاعدام موقف سياسي ! ))( ) وحين تعرف الامريكان على ميرزا وعرف المبشر بالتغيير ترك الانكليز الى الطرف الاخر , فلذا قال بيتر في النهاية (( من حق ميرزا أن يصبح وزيراً أو رئيساً للوزراء هو وحده الذي يقرر مادمنا عجزنا عن ترويضه أو اقناعه ( ) واشرف اية الله المستشار القانوني , المعروف بكفاءته , إنتقل الى الطرف الاخر(الامريكان) . بيتر قال عن ميرزا و أشرف (( فهذان الرجلان حاولا أن يكونا مخلصين لبريطانيا ... لكن بريطانيا لم تكن مخلصة لنفسها أو لهما , لذلك ذهبا الى الجهة الاخرى , والاميركيون اكتشفوا في الوقت المناسب الكفاءة والطموح , وعرفوا كيف يتبادلون المصالح . إن الاميركين يبحثون عن هذا النوع من الرجال وهاهم قد وجدوه ... أو صنعوه منذ وقت طويل .))( )

القسم الثاني
من ملعب السياق
كان في الملعب ثلاثة متسابقين , لكل أسلوبه وأغراضه , هناك الانجليز وهناك الاميريكان ثم أصحاب الملعب . فالانجليز كما ورد في أقوال راندلي وبيتر , كانوا يميلون الى الحركة البطيئة , والى الاهتمام بتفصيلات لم توصلهم الى ماكانوا يحلمون به , ويبدو أن بيتر كان معجبا بل ومؤمنا بمقولته : ((اُعتقد أن أضخم الاهرامات مبنية من أدق المواد واكثرها خفاء , رغم مايبدو من ضخامتها ووحدتها الظاهرية ... والسياسة تشبه الاهرامات أيضاً , خاصة في هذا الشرق , لانه بدون معرفة التفاصيل الصغيرة , دون معرفة مايفكر فيه الناس ومايفعلونه . لايمكن معرفه مايفكر فيه الحكام والوصول الى داخلهم ))( ) كما اعجب بالتشبيه الذي ابتكره واتخذه دليلاً للعمل , ومحفزاً للامل حين قال : (( نحن الانكليز نشبه النمل في أمور كثيرة : المثابرة , الاصرار , العمل الدؤوب , النظام , وماذا ايضاً ؟ إننا نعرف مانريد ... وهذه ليست ميزة لنا فقط , إنها تعطينا تفوقاً ساحقاً على الاخرين )) ( ) لذا وجدنا بيتر خلال الرواية منشغلاً برصد أ- الظواهر الطبيعية والاجتماعية والفكرية وحتى المعمارية يستنتج صفات سيئة للشرقيين من خلالها , فكل شيء غريب ومتخلف عن بريطانيا . إن ثلثي عمله إنشغل بالتوصيف والكشف او الاكتشاف كما اعتقد بيتر . أما الثلث المتبقي فقد توزع الى نصفين نصف انشغل بتلك النمرة شيرين وشرب الويسكي , والنصف الاخر من هذا الثلث لامس العمل المكلف به ليحدث التغيير ولم يحدث . هنا (( فصل الربيع ينفجر بشكل مباغت دون تمهيد أو انذار ... في الاماكن الاخرى , في بريطانيا , وحتى في القسم الجنوبي من فرنسا المحاط بالجبال والمعروف بدفئه النسبي , بيدأ الربيع يعلن قدومه باحتفالات صغيرة متلاحقة . هنا لايبدأ الربيع هكذا , إنه إنفجارمفاجيء , ولايمكنللانسان أن ينساه أبداً )) ( ) ترى أتعلم الشرقيون من المفاجأة من الربيع أم تعلم الربيع منهم ؟ لم يشر بيتر الى ذلك . والشمس تحتل مساحة واسعة من حياة الشرقيين , وتجعلهم لاينسون أثرها في نشاطهم (( فالشمس هي إلاهة الشرق , هي التي تكون كل شيء فيه , والشرقيون يخافون الشمس الا لاهه اكثر مما يحبونها ... وتنعكس آثار الشمس هنا على الحياة كلها , فالحياة أثناء النهار كسولة ملولة تزقة كما تظهر في أخلاق الناس وسلوكهم . انهم في هذه الفترة من السنة , وهي في الحقيقة معظهم إيام السنة , لايميلون الى الكلام , ولايطيقون الثرثرة , وهي إحدى هواياتهم , ويفضلون النوم , ويلجأون الى كل الاساليب السهلة التي من شأنها مقاومة الحرارة , يضعون خرقاً مبلولة على رؤوسهم وجباههم , يشربون كميات كبيرة من السوائل , يرشون الارض أينما جلسوا بالماء ... ونتيجة لهذا الجو فان البيوت أعدت بشكل يوفر أقصى حد من البرودة لذلك فان جميع البيوت تقريباً , عدا الحديثة , يبنى قسم منها تحت الارض ...)) ترى هل استفاد بيتر من كل هذا في خطته المعدة للتغيير ؟ ومن المضحك أن يقول بيتر إن الناس هنا , (( لايذكرون الشمس الاهمساً , عكس مايتردد في الاشعار الانكليزية , وفي لوحات أوربا ويفاخر بعض الناس أنهم لم يروا الشمس من وقت طويل , وفي هذا دلالة كافية على الكراهية التي يكنونها لهذه الالهة ))(3) اعتقد هذه التحليلات بعيدة عن الواقع , إنما ترد في ذهن بيتر , كيف إذن تجري الحياة , وقد قال إن هذه الحالة تمتد لمعظم ايام السنة . (( في الليل يطيب الهواء , في الليل تتفتح خلايا الانسان للحياة والشهوة والغرق في الاشياء . تصبح لذه الحياة , في الليل المتأخر , جارحة ومتفجرة وراغبة في أن نفعل ونتفاعل , ويبدو ان هذه الحالة سبب في السرية التي تميز حياة الشرق والشرقيين ... وتظل معها الى ان تطلع الشمس من الجهة الشرقية ويبدأ الخوف , ومع الخوف تنتقل كل الاشياء الى الداخل )) ( ) لا أظن أن علم النفس أو علم الاجتماع يستفيدان من هذه التحيليلات والنتائج التي توصل اليها بيتر (( أما الحيوانات فأقل مايقال عنها إنها حيوانات شرقية , كسوله , بليدة , بطيئة الحركة , عديمة الاستجابة , يقف الحمار ساعات طويلة في مكانه تحت الشمس المحرقة ولايتحرك . أما القطط والكلاب وغيرها من الحيوانات , فانهالاتستجيب مطلقاً لدعوه الاكل , إنها تفضل الاماكن الرطبة , وتجلس وتنام فيها ساعات طويلة , معرضة نفسها للاذى والمخاطر )) ( ) أعتقد ان بيتر بسحب الصفات التي ابتكرها للشرقيين على الحيوانات وكأنها تعي أنها شرقية فلا تريد أن تخرج عل المألوف في الشرق . إنها مبالغات , مبالغات , يريد بيتر أن يوحي لنا , بأنه عالم كبير , يعرف طبائع الاشياء , ماذا أفاد من كل هذه التوصيفات في خطته ؟ ثم يصوغ معادلة كبيرة كما يعتقد فيقول (( الحرارة هنا لاتصهر كل شيء , وانما تبلده )) ( )وربما كان مستر هوفر الامريكي مصيباً حين قال لبيتر : (( أنتم الانكليز ميالون الى التشاؤم )) ( ) 2- المدن : بيروت : محطة في الطريق . قال راندلي لبيتر (( في بيروت تبدأ ... لديك أموال كثيرة , عش كأي ثري , يعرف كيف ينفق أمواله ))( ) ثم اضاف قائلاً : (( بيروت مكان مليء بالنساء , ويجب أن تتصرف ))( )أعجب بيتر جداً بهذه المدينة وعدّها من المدن العجيبة : (( في هذه المدن العجيبة ... بيروت تشبه الكرنفال , عشرات الاشكال والازياء والجنسيات , خاصاً , عدا الاحياء الفقيرة )) ( ) وكانت التعليمات تلزمه أن يتخذ من بيروت محطة على الطريق , بيروت متميزة ومنها يبدأ كما أخبره رئيسه وهي مكان ملئ بالنساء , وعليه أن يجرب العلاقات مع النساء ليكتشف نساء الشرق , قال راندلي (( لذلك يجب أن تقضي وقتا في بيروت , وتكتشف نساء الشرق , والاقامة في بيروت ضرورية لكي تتدرب ))( )وبيتر لم يقف عند الاستماع , إنما اضاف صفات الى بيروت من خلال الاقامة فيها فقال : (( بيروت تشبه كل شيء , ولاتشبه شيئاً , ويبدو ان المدن الساحليه كلها تتمع بهذا المقدار الكبير من البلاهة والتنافر ... لكن بيروت فوق ذلك كله مكان اخر ... الشمس مثلا ! وبيروت محطة , محطة رئيسيه على الطريق !))( ) طهران : ملعب السباق ان بيتر لايحب هذه المدينة ويشعر بحقد نحوها كما صرح به هو : (( تبدو هذه المدينة كبيرة , لكنها ليس كأي من المدن الكبيرة التي رأيتها . أشعر تجاهها بحقد . كل شيء فيها قبيح ومخيف . لا أدري كيف استطيع قضاء شهور عديدة هنا . إن مجرد التفكير بذلك يخلق في النفس إنقباضاً يصل حدود المرض . كيف يمكن للانسان أن يعيش هنا ؟ القذارة في كل مكان , انعدام الامن يهدد كل انسان , البدائية في كل الاشياء , الملابس , التصرفات , الطقوس الدينية . لا , إن كلمة (( البدائية )) لاتعني شيئا , يجب أن نحدد الامور بدقة اكبر . إن حالة من التخلف والوحشية تبرز في جميع مناحي الحياة ... كان يجب أن أتردد طويلاً قبل المجيء الى هذه المدينة اللعينه )) ( ) مادام بيتر يشعر بحقد تجاه هذه المدينة فلا غرابة أن يختار اردأ الاوصاف لها ولأبنائها . لقد نسي أنه جاء كما قال
(( لكي انقذ سمعتها واعيد لها أهم درة في التاج . وأنت – كما قلت أنك (( ابن الاميراطورية التي لاتغيب عنها الشمس , والذي خدمت بريطانيا وقدمت لها دمي ))( ) فلم تشعر بالندم لانك لم تتردد حين طلب اليك السفر الى هنا ؟ ويبدو بيتر يتحدث بعقلية وخيال الطفل الذي يتصور أن المكان يمكن نقله , لقد كان يتوقع أن يرى لندن نفسها في هذه البلاد البعيدة ؟! 3- الاسواق : وكعادته جمع بيتر لها صفات سيئة فهي مكتظه , ضيقة , مليئة بالعفونه , تتسم بالقسوة والقذارة , بليدة , فارغة من البضائع , وأصحاب الدكاكين الصغيرة فاميل الى الراحة وطلب الدفء , والاشياء المعروضة مبتذلة , والملابس الشعبية المعروضة تمثل بلاهة الشرقيين . (( إن الاسواق المكتظة التي سبق ان مر بها بالسيارة , بدأ يحس هذه المرة أن الاشياء التي يراها اكثر واقعية وبؤساً وتتسم بالكثير من القسوه والقذارة )) ( ) ويضيف بيتر الى هذه الاسواق : (( كانت الاسواق هذه الفترة من السنة بليدة فارغة من البضائع ... أما أصحاب الدكاكينالصغيره فأميل الى الراحة وطلب الدفء , وكانت الاشياء المعروضة أقرب الى الابتذال أو متروكة ... بدت له الملابس مجموعة من الخرق الملونة البلهاء سأل نفسه : لماذا يحب الشرقيون هذه الالوان كلها وكيف يوفقون بينها ؟ هز رأسه دلالة السخريه وأجاب : هذه الملابس تمثل بلاهة الشرقيين ))( ) ولكن زوجته لو جاءت الى هنا , ستقضي الجزء الاكبر من وقتها (( تأخذ حمامات شمسية , وحين تفرغ من ذلك ستهرع الى الاسواق الضيقة , المليئة بالعفونه , لتشتري أشياء تافهة ))( ) لكن (باتريشيا ) زوجة بيتر تبحث عن معانٍ اخرى ستقول له : (( أنظر ياعزيزي ما أروع هذه الاشياء , إنها صناعة يدوية , ماأدق هذه الصناعة وما أروعها , في لندن سيفتحون أفواهم من الدهشه حين يرونها )) ( )مايستفز الانسان وصفه للملابس بالبلهاء أليست هذه الصفة متكلفة ؟ إنه يريد أن يلصق هذه الصفة بالشرقيين , فيقول إنها تمثل بلاهة الشرقيين . ومن صفات الباعة بشكل عام المساومة والبخشيش فلذا أوصى راندليمرؤسه بيتر ((تظاهر بالبله تماماً , واذا عرضوا سعراً تردد قليلاً , ساوم , ثم وافق بشكل ما مع إبتسامة , واذا استطعت فبعض الكلمات التي توصي برضاك واقتناعك . أما إذا رأيت أناساً لايحبون المساومة , ويظهر ذلك من الجهامة في الوجوه أو سوء الخلق أو النظر اليك بكراهية , فلا تردد في ان تترك لهم بعض القروش الزائدة , تظاهر أنكلاتملك قطعاً صغيرة ... اذا فعلت ذلك إشتريتهم الى الابد))( ) ولكن بيتر لم يشترهم الى الابد ! إن الانجليز يحبون صياغة النصائح نتيجة حكمتهم كما كانوا يدعون ! 4- الحمامات : وهي تركيه مليئهبالقذاره والشذوذ ((قال لي أحد الزملاء , زار حماماً من هذا النوع , الرائحة كانت خانقة , وليس الامر متعلقاً بالرائحة فقط , هناك القذارة والشذوذ أيضاً))( ) 5- زيارة المتحف : هذا البلد المتخلف , اللعين الابله وما الى ذلك من صفات كالها بيتر , يوجد( ) متحف وبيتر قد زاره , وتحدث طويلاً عن الفن الشرقي 6- الجوامع : زار بيتر في الاسبوع الثالث من وصوله زار الجوامع مع السكرتير الاول للسفاره الجوامع , وأوجد تعليلاً لسلوك الناس في عباداتهم . ((ونظر باهتمام ممزوج بالاستغراب والقرف الى الرجال والنساء الذين يصلون , ويبكون في هذه الجوامع . وقال في نفسه , هؤلاء الشرقيون يخافون من شيء ما ... والا لما تصرفوا بهذا الشكل ... وفي إحدى الليالي حلم بامرأه كانت تقف الى جانب ضريح وتبكي , ثم ما لبثت هذه المرأة , أن هجمت عليه واخذت تقبله وتشد على جسده , وهو بين أن يستجيب لها أو أن يدفعها , بقي فترة من الزمن حائرا , ثم أخذ يتلفت حوله ويطلب النجدة , لكن في لحظة اقترب منها كثيراً واحتضنها وغمر رأسه في صدرها , ثم في لحظة أخرى ضربها وأبعدها عنه بقوة , شعر أنها تريد أن تأكله , وفجأة نهض من النوم والعطش والخوف يسيطران عليه))( )هذا الحلم – اعتقد – يعبر عن عقلية بيتر في اللاوعي , فالمرأة شغلت مساحة واسعة من اهتمامه فلذا كان الحلم انعكاساً لذلك , ولم ينس أن يذكر صفة لها – كما يعتقد بيتر – انها تريد ان تأكله مثل غيرها من الشرقيات . 7- الملابس : لقد أوجد لورنس العلاقة بين الملابس وحقيقة اللابسين فقد قال : ((اذا لبست اللباس الشرقي , كن شرقياً بكل معنى الكلمة , أترك على الساحل كل ماهو انكليزي))( ) كما اعتقد بيتر أن الزي له فلسفته والشرقيون يفتقرن الى فلسفة الزي الاوربي (المتحضر) . ((ان ملابس الشرقيين تعكس طبيعتهم . صحيح ان عدداً كبيراً ومتزايداً يلبسون الزي الاوربي , لكن يحس الانسان أنهم يفتقرون الى فلسفة هذا الزي , اذ كثيراً ما يلجأون الى المبالغة , وتظهر منهم دلائل كثيرة توكد أن لا علاقة لهم بالزي الاوربي , من الالوان الصارخة التي يفضلونها , من التناقض الكبير بين الزي ورباط العنق أو لون الجوارب , الازرار الملونة الكبيرة التي يضعونها لأكمام القمصان , ومن العطور التي يستعملونها أيضاً . لبس هذا فقط , فقد اعترف لي عدد من الشرقيين ونحن نتحدث عن الملابس , أنهم ينتظرون المحطة المناسبة لكي يتخلصوا من الزي الاوربي أو حالما يصلون الى بيوتهم , يخلعون هذا الزي فوراً ويسنبدلونه بملابس شرقية ملونة ... وهذا دليل واضح واكيد على ازدواج الشخصية لدى هؤلاء الشرقيين))( ) في حين ان ((الوان الملابس (الشرقية) بدائية جداً , ولاتتعدى الالوان الرئيسية , أقصد ألوان الطيف , إنهم يجمعون على أجسادهم ملابس فضفاضة جداً))( ) ... بيتر مولع بتكرار كلمة القذارة ((الفقراء بصورة عامة أقرب الى التشابه وان كانت ملابسهم تتميز بالقذارة الشديدة عكس الفقراء الانكليز , اذ اتهم رغم فقرهم , يحرصون على نظافة الثياب واناقتها إن الشرق والنظافة في حالة عداء مستمر))( ) وكل هذه الملاحظات على الملابس تظهر أقوى في ملابس النساء . ((ما ينطبق على ملابس الرجال , يمكن ملاحظته , وبشكل أقوى واكثر وضوحاً في ملابس النساء))( ) لقد كان بيتر دقيق الملاحظة والتشخيص , لايمل أبداً من استنتاج الصفات القبيحة للشرق وللشرقيين لكن ماذا أفادت الملابس في خطة التغيير التي جاء من اجل الاعداد لها ؟ 8- الاطعمة وآكلوها : وكما اعتادت اسماعنا على التوصيفات السلبية لكل شيء في الشرق , حتى الهواء , المطر الشمس , الانسان , الحيوان ... الخ ((فالطعام الشرقي من التعقيد والتنوع والكثافة الى درجة كبيرة , اذ لايمكن معرفة المواد الاولية المحضر منها)) . والادهى من ذلك : ((الشرقيونلايأكلون بقصد الفائدة , إنهم يأكلون بقصد اللذة , ووجبات الطعام بالنسبه لهم من الطقوس الخرافية التي يمارسونها وهم في حالة الغيبوبة))( ) وقد سبق ذكرنا أشياء عن الطعام واكليه حين تعرضنا الى صفات الشرقيين من وجهة نظر الانجليز . 9- مجالس الشراب عند الشرقيين : لقد فصل بيتر في وصف تلك المجالس ووصف مشروباتهم ((ان لهم مشروباتهم المحلية الخاصة , وهي شديدة الفعالية وتأثيرها سريع , ولها مذاق خاص وغريب وكما كان الشرقيون مسرفين في كل شيء , ((فان إسرافهم في الشراب يفوق ويتجاوز كل الحدود , انهم يشربون بنهم ودون توقف ...))( ) ثم يتساءل لماذا يشرب الشرقيون ؟ أو لماذا يشربون بسرعة ؟ ويجيب بيتر مستنتجاً كعادته قائلاً , ((إنهم يشربون , خاصة في البداية , بسرعة , وكأنهم يحاولون الانتقال دفعة واحدة من حالة نفسية أو عقلية معينه الى حالة اخرى مختلفة . وخلال فترة قصيرة , وبعض الاحيان بشكل مفاجيء يتغيرون))( ) ثم يسهب في انقسام المجلس الى مجاميع ثم قد يتعاركون , وأصواتهم عالية جداً , وهناك ظاهره ترافق المجالس هذه هي ظاهرة البكاء ... ( ) ويبدو أن بيتر حين يتناول ظاهرة يتصور أنها البوابة أو المفتاح لفهم الشرقيين بصورة عامة ((إن ظاهرة السكر الشرقي من اكثر الظواهر التي تستدعي الدراسة والاهتمام , لان اكتشاف جذورها اكتشاف للشرق كله ... ويمكن ان تكون مفتاحاً لفهم الشرقيين بصورة عامة))( ) وحين يتناول موضوع المرأة , يقول أيضاً إنها مفتاح لفهم الشرق والشرقيين . 10- المرأة شغلت المرأة مساحة واسعة من رأس بيتر قال راندلي لبيتر : ((البلاد التي ستذهب اليها مملكة النساء , والنساء يحكمن من وراء الستار , والمرأة بمقدار ماتستطيع أن تحكم , تستطيع أن تفتح ابواباً كثيرة , كما يمكن أن تقتلك , وتسد في وجهك الابواب , لذلك يجب أن تقضي وقتاً في بيروت وتكتشف نساء الشرق))( ) ولكنه كما مر سابقاً حذره من الوقوع جدياً في حبها , لكن لم يكن في الامكان ابدع مما كان , فقد وقع بيتر في حب شيرين . والمرأة في الشرق تمثل حالة محيرة فهي ((مخلوق يختلف عن الرجل الشرقي , وعن المرأة الغربية))( ) ثم أسهب في وصف مخاوفها ووصف حالتها في الفراش ثم ملابسها , واثارتها للرجل عن طريق معدته , وتكلم عن جسدها الطري ورائحته التي لا يمكن ان ينساها الرجل نتيجة استعمالها العطور المشبعه ببعض النباتات ... وبهذه الوسائل تستطيع المرأة الشرقية أن تدخل الى قلب الرجل وتسيطر عليه))( ) وينقل وبيتر قولاً شائعاً هو معجب به ((حتى قيل كثيراً , أهم القرارات وأخطرها يتخذ في مخادع النوم !))( ) وهذه المرأة قد تكون ((الام أو الاخت أو العشيقة))( ) وقد نسي بيتر مجالس الشراب التي عدها مفتاحاً لفهم الشرق والشرقيين فقال هنا مرة اخرى ((انهن مفتاح الشرق وأعظم اسراره))( ) وهذه المرأة الموصوفة استطاعت ان تحول بيتر من صياد الى طريدة , إنها النمرة شيرين التي فعلت ذلك . 11- المؤسسات وادارة الدولة : فرحاً قال بيتر : ((المؤسسات في الشرق شيء وهمي . الاحزاب والدولة والمجالس وكل الاشكال الظاهرية الاخرى لاتزيد عن أن تكون ديكوراً , لان هناك دائماً الفرد الذي يفرض مايريد , وعلى الاخرين أن ينفذوا ويطيعوا , وفي نطاق التنفيذ يلجأون الى بعض الصيغ المقتبسة من الغرب تعرض القرارات للمصادقة , وان تناقش في المجالس والمؤسسات , لكن ليس من أجل تغييرها أو تعديلها أو الاعتراض عليها , وانما من أجل ابراز عبقريتها والاشادة ببراعة وذكاء واخلاص الذي اتخذها))( ) والحكومات هنا تختلف عن الحكومات في أوربا : ((واذا تعودنا في أوربا أن نسمع الكثير من الحكومات فالحكومات هنا , لاتقول شيئا اغلب الاحيان , واذا قالت فالناس متأكدون من كذبها , ومخادعتها , وأنها تعني شيئاً مختلفاً عما تقوله الكلمات . أمر اكثر ظهوراً وخطورة : إن الناس لايثقون بما تكتبه الجرائد , ويفضلون عليها الجرائد غير المكتوبة , الجرائد التي ينقلها الافراد من لسان الى آخر في المقاهي والاسواق ومن العادات الشرقية اللافته للنظر أيضا ,إن الناس هنا يتبادلون المعلومات بسرعة .))( ) ((وقد صدق مرات كثيرة , أن جملة الاخبار التي سمعناه منقولة من أفواه الناس في المقاهي ثم مالبثت أن تحققت بعد فترة من الزمن .))( )وهل وظف بيتر هذه المعلومات أوهل استثمر بيتر هذه المعلومات الخطيره لخدمة الخطة ؟ لم يظهر هنا لحظة الشروع في تنفيذ النشاطات كما سنرى أ- ألم يدرك كاتب الرواية أن هذه التفصيلات قد تبعده عن النقطة المركزية : العمل الجاد للتغيير ؟ كان يدرك ذلك تماماً , لكنه كاتب واقعي , صور شخصية راندلي , وبيتر المغرورين المتعاليين على الناس , اللذين يدعيان العلم في الاحاطة بكل شيء , وهذا مانجح فيه , وسنرى في القسم الثالث كيف يكتشف بيتر انه كان مخدوعاً !
ب-الشروع في تنفيذ خطة الاعداد : لاحظنا في القسم (أ): مدى انشغال بيتر في التوصيف والتحليل والاستنتاج للظواهر الطبيعية والفكرية والاجتماعية , وقد اخذ مساحة واسعة , ولم يبق الا ثلث المساحة لتنفيذ الخطة , تصف هذا الثلث اخذت شيرين والويسكي ولم يبق الا النصف الاخر من هذا الثلث صنفناه على النحو الآتي 1- رصد المظاهرات والكتابة عنها الى لندن . لقد راع بيتر ماوجد : ((كانت المظاهرات صاخبة عنيفة , وتتميز بذلك الطابع الذي يمكن أن يؤدي الى القتل دون تردد . وجوه الناس محتقنة , أصواتهم عالية , وفيها بحة التعب والتحدي , وتصرفاتهم وردات أفعالهم سريعة جادة , كل شيء تمليه اللخطة أو الاشخاص الذين يقودون المظاهرات . وكان يرى فرقاً كبيراً بين هذه المظاهرات والمظاهرات التي يراها لندن أو تلك التي سمع عنها في أماكن أخرى إن مايراه الان شيء أقرب الى الجنون الكامل , والا ماذا يعني هذا الصراخ , التحدي والعنف ؟( ) وقد استطاع بيتر أن يشخص هوية المتظاهرين الطبقية من خلال ملابسهم وتصرفاتهم : ((وهم من الفقراء يأكلون الخبز وحده , يمخطون , يبصقون دون خجل أو اعتبار . إن هذه التصرفات لايفعله الا الرعاع . أحرقوا دميةتمثل بريطانيا العظمى))( ) لفت بيتر أن التظاهرات هنا خليط غير متجانس من البشر , في ملابسهم وأعمارهم . ((التظاهرات هنا عبارة عن خليط غير متجانس من البشر , والملابس والاشياء . المشاركون تتراوح أعمارهم بين الخمس سنوات والستين سنة ... الاطفال في مقدمة المظاهرة كالطيور الصغيرة , يحملون العصي , ويقلدون الكبار , يصدرون التعليمات الى اصحاب الحوانيت , كما يوقفون السيارات , ويتصرفون في حالات كثيرة تصرفات تبدو اكبر من اعمارهم))( ) ولم يغفل بيتر دور النسوة الذي كان بمقدار محدود ((وفي هذه المظاهرة لاتشارك النسوة الابمقدار محدود اذ غالباً ما يقفن على أبواب البيوت))( ) ويعلل بيتر سبب مشاركة الكثير من المتظاهرين بدوافع الفقر ومحاولة التغلب على البرد . إن الجزء الثاني تعليل غريب لم يأت به الا بيتر . ((وربما كان أحد دوافع الفقراء للمشاركة في هذه المظاهرات محاولة التغلب على البرد والكسل , ففي هذه الكتل المتهيجة , يزول البرد . )) إن أي اجنبي لايستطيع أن يتجاهل المظاهرات , وكيف يمكن لبيتر أن ينسى ((ذلك النظر المرعب الذي استقبله منذ اللحظات الاولى لوصوله الى مدينة جديدة والى شعب جديد ؟ ))( ) 2- بعد أن لاحظ بيتر مجيء أعداد كبيرة من الاميركان على هيئة سياح , رجال اعمال , علماء اثار , كتب الى راندلي الذي غض النظر عن الامر نتيجة غروره , حاول بيتر نفسه اكتشاف نوايا الاميريكان , لكنهم كانوا يلوذون بالكتمان والتهرب , وربما بمعلومات تزيد من شكوك ومخاوف بيتر فقد قال :- ((حين انتهت المقابلة تأكدت أن هؤلاء الاميريكانلايريدون ان يتكلموا , حتى الكلمات القليلة التي يتبادلها مسافران في قطار)) ( ) وقد مثل الاميريكان دوراً متقناً لتحقيق هذا الكتمان والتهرب من الاجابة ((حين التقينا في الطابق العلوي من السفارهالاميريكية , وكان يرافقني مستشارنا الاقتصادي , بدا لي الرجل منهمكاً بقراءة رسالة , وتظاهر انه لم يلحظ وجودنا , حتى اذا اقتربنا كثيراً ولم تعد بيننا سوى خطوات قليلة نهض بخفة , مستنداً الى ذراع المقعد , بعد ان طوى الرسالة بيد واحدة وبعصبية ؟ طوال اللقاء مثل دور المستمع كأنه يريد أن يفهم المشكلة , حسب التعبير الذي استعمله , وأن يفهم وجهة نظرنا بشكل خاص ! كنت اعرف أنه يكذب ... كان يسأل ببلاهة حول أمور بديهية ومعروفة وشديدة الوضوح أيضاً ... كان يفتح عينيه بدهشه ويهز رأسه دلالة الاستغراب حين ذكرت له المطالب والمراحل , ثم الاقتراحات التي عرضناها ... وكأنه يكتشف أمراً جديداً , ويستغرب كيف أن العجوز (مصدق) رفضها ... ورفض مجرد مناقشة المبدأ ! ))( ) وقد مر سابقاً كيف قالوا لبيتر لاتصدع رؤوس الناس بأمور صغيرة , وكيف قال الامريكي (فوكس) وكان مخموراً :- إن امريكا تفكر في الوصول الى المياه الدافئه فلذا قال كتب بيتر الى لندن ((وكما تؤكد المعلومات , لا يتوقفون (الاميركان) ولايهدأون , عرضوا على العجوز ان يقدموا له مساعدات سخية , وأن يتوسطوا لدينا , وعرضوا أن يقوموا بمشاريع مجنونة , وفي هذا الوقت بالذات ! ))( )الاميركان سيفعلون ذلك ليمنعوا العجوز من التحول الى الطرف الاخر , ولكن بيتر يرى غير ذلك ((مايشير اليه الاميركيون من احتمال الاتفاق مع الاخرين , لايعدو أن يكون من جملة المخاوف الاميركية التقليدية , وأرى ذلك أمراً مستبعداً في الوقت الحاضر))( ) 3-عناصر مجندة واهمها عباس الوزير في النظام السابق , وقد صودرت أراضيه ويحلم بان الانكليز سيعيدون له أمواله وميرزا ضابط المخابرات في النظام السابق , يحلم باعادة السلطة اليه . عباس كان يحاول ان يقنع الانكليز باستعمال القوة في التغيير : قال عباس بحقد : قلت لك يامستر ماكدونالد , إن الامور اكثر تعقيداً مما تتصور , وليس أمامنا سوى أن نمزق العجوز ... يجب أن نضرب , أن نضرب بشدة , هذا هو الحل( ) اما ميرزا فكان اكثر ايماناً باستعمال القوة , واكثر معرفة في وسائل استعمالها . قال ميرزا بأسى ((ماهو الزمن , عشر طلقات مدفعية , ومائة جندي , هذا هو الزمن , اذا فكرتم بشكل اخر تخطئون كثيراً , لقد خسرتم كل شيء , وخسرنا معكم , وحان الوقت لأن تفهموا ذلك)) ولكن بيتر كان يراهن على عنصر الزمن ليحوله الى صالح الانجليز , فقال بيتر : التدخل ... إنزال قوات , لانفكر فيه الان , مانريده شيئاً اخر ... مانريده تحويل الزمن الى عنصر يعمل لمصلحتنا , إنه الان يعمل لمصلحتهم . كيف نستطيع أن نغير الزمن ؟))( ) لحد اللحظة لم يطرح الانجليز على لسان بيتر وتعليمات راندلي أي مشروع عملي فيه حدث , انما الانتظار والمراهنة على الزمن . فبيتر ظل مشغولاً بمعرفة ميرزا أهو عسكري ام لا ؟ لان عباس حين قدمه قال ((دعني , ياسيدي , أقدم لك اصدقائي : ميرزا محمد رجل أعمال))( ) وكان مشغولاً بعيني ميرزا لانهما لاتستقران وميرزا رجل عسكري محترف فلذا اقترح ان يشكلوا ((منظمة الدفاع عن الوطن)) واجهة لنشاط المخابرات الانجليزية على ملعب السباق , وقد زرعت مجموعة من الرجال في معظم التنظيمات السياسية , وقد اختارت مجموعات من الرجال الذين انهوا دراستهم في الغرب , خاصة في بريطانيا))( ) وسموا هذا النشاط بـ (فتح النوافذ على الجهات الاربع) , ومهمة هذه المنظمة ((تركزت في هذه المرحلة على خلق حالة من الاضطراب والفوضى في كل شيء))( ) فقد اصدرت منشورات تحريضية , تهاجم أطرافا وخاصة بعض رجال الدين بقصد اثارة الفتنة . ((وما دام الدين عنصراً هاماً في حياة الشرق , فلابد ان تتطرق البيانات وبالحاح الى مهاجمة الدين , واتهام رجاله , واذا كانت الصياغة متقنه , فسوف توحي بان كاتبها يمثل الفئة المنافسة , وباعتبار رجال الدين سريعو]سريعي[ الغضب , فيمكن اثارتهم بسهولة))( ) وعباس لم يرض عن ذلك وقال : ((ان هذه المنظمة ستكون شراً لايمكن محاصرته أو السيطرة عليه))( ) ثم اقترح ميرزا مشروع القيام بالاغتيالات لانه يرى ((أن من العوامل التي تساعد على إنضاج الاوضاع بسرعة , قيام منظمتنا باغتيال عدد من الافراد من عدة منظمات سياسية , ويجب أن تكون العمليات متقنة بحيث تعطي انطباعاً أكيداً ان عمليات تصفية مادية بدأت بين القوى السياسية))( )وثارت ثائرة عباس الرافض لهذا المشروع قائلاً ((اذا بدا القتل فلن يتوقف ... واذا كنا فعلنا شيئا حكيماً خلال الفترة الماضية فهوا اننا لم نرفع السلاح , وهذا هو السبب الذي منع الاخرين من رفع السلاح في وجوهنا وقلنا , أما الان ... اذا بدأنا القتل فلا يمكن ان تمنع الاخرين من اللجوء الى القتل !))( ) واضاف منفعلاً جداً ((وسوف يؤدي الى مضاعفات تمنعنا من ازاحة العجوز وتغيير النظام ... أوافق على كل شيء عدا القتل))( ) ولم نجد موافقة بيتر , كما لم تظهر عملية اغتيال واحدة . لقد بقيت هذه الفكرة في مرحلة الاقتراح . إن عباس وبيتر يراهنان على الزمن , لايريدان أن يفعلا شيئاً , وإنما يتصوران أن الزمن سيتغير لصالح الانجليز , لذا ترك ميرزا بيتر وعباس وانتقل الى الطرف الاخر (الامريكان) أو تعبير أدق إن الامريكان كانوا يبحثون عن مثله ليخدم مصالحهم فوجدوه ! أما الحليف الامريكي الذي سمى خطته بـ Ajax protect بخلاف الانكليز الذين اطلقوا تسمية Operation Boot بمعنى التمهيد أو الانتظار بقوا في المرحلة , تخطى الامريكان مرحلة الانتظار الى المباشرة بالفعل على النحو الاتي :- 1- إرسال أعداد كبيرة من الاميريكا على هيئة سواح أو رجال أعمال أو علماء اثار , يتصلون بالناس ويحصلون على أشياء نافعة لهم وهذا ما أشار اليه بيتر في تقاريره الى لندن 2- اتباع أسلوب الكتمان والتهرب من أسئلة الحليف الانجليزي وهنا ما مربنا 3- تقديم المساعدات المادية للناس ((اما المواد الغذائية التي جاءوا بها فقد كانت مهرجاناً دعائياً بائسا , صور الملابس القديمة , وصور الايدي المرسومة على اكياس الطحين , وصناديق الحليب . الابتسامات تملأ وجه السفير ومستشاره الاقتصادي , حين تسلم المعونه . كانت هذه الاشياء أقرب الى الدعاية البائسة من المعونة الحقيقية , لكن الاميركيين مؤمنون بحقيقة أساسية , الدعاية تصنع كل شيء))( ) هذا ماكتبه بيتر الى لندن كما قال عن الاميركيين وانهم قدموا وعداً بمساعدة العجوز , لكن راندلي كما تصور بيتر قال له الغ عقلك ولاتنظر حواليك وصدق ماتقوله لندن ... لقد وجد الامريكان المستشار الاقتصادي للسفارة الانجليزية كفاءة لا يستهان بها , ووجدوا الجنرال العسكري ضابط المخابرات في النظام السابق كما وجدوا أمثاله واستطاعوا على حين غفله ان يغيروا النظام , بينما ظل الانكليز يقومون بالتوصيف والاستنتاج وصياغة الكلمات الكبرى . أما المتسابق الثالث وهو أهل الملعب فقد , اندفعوا في سلوكهم وتصرفاتهم وأجبروا رعايا دولة بريطانيا على الرحيل خلال أربع وعشرين ساعة ((لقد مرغ شرف الامبراطورية في الوحل , حين اقدمت هذه الدولة على اتخاذ هذه الاجراءات متنكرة لابسط قيم العدالة والمنطق ... ضاربه عرض الحائط بالمواثيق والقوانين ... لم يقتصر الامر ذلك , لقد تجاوزه كثيراً : اضطر رجالنا الى الرحيل خلال أربع وعشرين ساعة ... لقد وقف البريطانيون في قاعة المطار وفي الميناء مثل القطط المذعورة , ينتظرون الرحيل ... كانت البنادق بايدي رجال الجيش الذين يطوقون المطار والميناء , وكأنهم يطوقون مجموعة من القتلة واللصوص . ان منظر مواطنينا , وهم يتكومون بالعشرات في قاعة المطار تبعث على الفزع , وتحرك الدماء في الافاعي أيام الشتاء .))( ) في بداية الامر , رفض أهل الملعب حتى مبدأ المناقشة ((اما الموقف تجاه المفاوضات فقد اصبح اكثر تعقيداً , ويتحمل الا نستطيع الوصول الى نتائج من اي نوع ... بكلمة لاشيء يبشر بالخير))( )في البداية كانت الامور اكثر تعقيداً وخطورة لانه كما يقول بيتر ((في البداية كنا نواجه كتلة صلبة من الاراده والاصرار))( ) وكانت المظاهرات تتجدد كل يوم , واعتقد أن هذه القضية أدت الى اهمال العمل أو عدم القيام به بالشكل المطلوب , والذي كان يؤمن الحالة فلذلك بدأت الاوضاع تزداد سوءاً ((الاسعار ترتفع , المواد الضرورية غير موجودة , التذمر في أوساط واسعة يزداد ويقوي , والحالة بصورة عامة الان لاتقاس بالسابق , خاصة وان الحماس للاوضاع الراهنة ضعيف ويتقلص كل يوم))( ) لذا تغير وضع المفاوضين قليلاً , وقد قال بيتر ((في البداية كانت الامور اكثر تعقيداً وخطوره . الان تبدو اكثر تفاؤلاً , ويمكن أن نتحرك))( ) فلذا وجدنا حالة جديدة فقد ((كانوا أثناء المفاوضات (الاخيرة) شديدي الرغبة في أن نصل الى اتفاق ... قال رئيس الوفد المفاوض لاشرف على مسمع الجميع , وبما يشبه الدعاية : ـــــ سيادة المستشار , يمكن أن تترك الاجتهادات القانونية جانبا ... اعرف ان هذا امر صعب بالنسبة لك , لكن الموضوع الذي نبحث فيه اكبر من القانون , واكبر من الاجتهادات ... المهم الان الاتفاق على المبادئ , على القضايا الاساسيه ... واشرف الذي رفض وجهة النظر هذه , قال باستغراب : يبدو ان الطرف الاخر قد غير مواقفه ...))( ) ولكن وصلت برقية الى بيتر نصها ((بعد أن اطلعت لندن على المراحل الاخيرة من المفاوضات , جاء الرد حاسماً وقصيراً : أوقفوا المفاوضات حتى اشعار اخر وكالعادة ((التحفظات التي قدمها الجانب البريطاني مبالغ فيها , ويمكن ان تخلق لنا متاعب كثيرة)) هذا ما قاله بيتر ( )ان هذه التحفظات لم تخلق لهم المتاعب وحسب , انما جعلتهم يخسرون كل شيء لقد أدرك بيتر أن الاميركان يقودون اللعبة ((الاميركيون يقودون اللعبة كلها , ونحن مجرد مساعدين أو ديكور باهت))( ) لقد استطاعوا ان يخرجوا لعبة متقنه جاءت بنهاية مصدق وكل الاحلام الوردية ((فبعد أن غادر العاهل المفدى , كما يحلو حتى لرئيس الوزراء أن يطلق عليه , رغم العداء الذي لايخفى ابداً , وأصبح بعيداً , جاءت الارادة الملكية إقالة رئيس الوزراء , تكليف أحد العسكريين المطرودين بتشكيل وزارة جديدة , دعوة المجلس للاجتماع .))( ) لقد رأى بيتر بأم عينه رجالاً في الساحه التي تجمع الناس مبتهجين ومتعاطفين مع العاهل بل صاروا يعطفون عليه , رأى رجالاً يخرجون دولارات امريكية , يعطونها من هو قريب منهم . والاهم من ذلك , لقد حدث ماوصفه بيتر في الساحة أيضاً : ((ونفس الناس ... حين سمعوا بتنحية رئيس الوزراء قالوا : ((هذا الرجل المسن الذي تحمل الكثير أيام الجوع والصعوبات لا يمكن أن نتخلى عنه الان .))( )



القسم الثالث
تقنيات الرواية
سباق المسافات الطويلة من الروايات التاريخية الهادفة . واذا كان التاريخ يعنى بتسجيل الاحداث التي وقعت , فالرواية تتجاوز هذه الحقيقة من غير الاستغناء عنها , الى حقيقة مهمة أخرى وهي : كيف كان ينبغي أن تقع كما قال أندرية جيد : ((الرواية تاريخ يمكن أن يقع , والتاريخ رواية وقعت فعلاً))( ) فالواقعية لاتعني كل ماوقع , إنما تمتد الى كل ماهو ممكن الوقوع , فلذا يصبح الادب برنامج بناء إجتماعي غايته تحفيز الطاقات لغرض التغيير وربما حقق ذلك التحفيز بالايحاء1-الافكار والمضامين : سباق المسافات الطويلة رواية تاريخية , لم تقف عند تسجيل الاحداث على نحو تقريري , انما وجدنا وراء التسجيل ظلالاً لذيذة , أفكاراً وأحلاما كثيرة بل إضافات للمتلقي في وعيه ولغته وخياله , لان الكاتب يصدر عن مكنة عاليه يستفيد من علم النفس وعلم الاجتماع والمورث انه يستثمر كل شيء لانجاز غايته , وهو يتخفى وراء ذلك .تتناول الرواية الصراع بين قوى الاستعمار والاستغلال المتمثلة بالانجليزوالاميريكان من جهة , وبين تطلعات شعب تم استغلال ثرواته , وقد بلغ درجة من الوعي دفع الى الثورة على المستغلين بالاجراءات التي تحاول إالغاء امتيازاتهم عن طريق تأميم شركات النفط . وهذا من أهم الموضوعات التي تهتم بها الواقعية النقدية التي تشخص الواقع وتعري مساوءه , وتحفز للتفكير البديل الذي قد لايتحقق مرة واحدة , لكنه يبقى أملاً ملازماً وحلماً قد يتحقق في لحظة ما . كان المستغلون ينظرون بعين واحدة . كانوا يعتقدون أن الشعوب وخيراتها ملك لهم , وانه لايجوزلابنائها الخروج على سادتهم كما كان المستعمرون يعتقدون . قال راندلي لبيتر ((هذه البقعة من الارض لنا , ولايمكنلاية قوة في العالم أن تنتزعها))( ) ونتيجة التراكم الكمي لاستغلالهم , أدى ذلك التراكم الى تغيير نوعي , حين أقدم بعض الواعيين مثل الدكتور مصدق رئيس الوزراء عام 1953 على تأميم شركات النفط . وبذا إمتدت يد مصدق الى النار المقدسة التي أحرقته فعلاً , لكنها خلفت بداية للشعوب ((لقد مات منذ اللحظة التي إمتدت يده الى هذه النار المقدسة , إن هذه النار تحرق كل شيء))( ) لقد كتب مصدق لنفسه ولشعبه لحظات من التجلي حين حكم عليه بالاعدام وجيء به للتنفيذ ((ان الرجل لم يكن قادراً على السير , كان عدد من الرجال يحملونه الى المشنقة , وكانت الدماء تملأ ملابسه ووجهه , وكانت عيناه مغمضتين لاتكاد تنفتحان الا بصعوبة ... تلفت حواليه , جمع قواه وبصق على المكلفين بتنفيذ الحكم ودفع الكرسي الصغير بنفسه وهوى ... مختتماً فصلاً من فصول المرحلة))ان الواقعية النقدية تمجد مثل هذه الجرأة , وتحيل هذه الحادثة الى معانٍ كثيرة , تحفز الطاقات لاستلهام أفكارهم ربما العمل من اجل تحقيق ماعجز مصدق عنه , لقد أعدم من أجل شعبه وكرامته وثرواته ! ولو لم يكن الكاتب يؤمن بالواقعية النقدية لاختزل الموقف وقال : لقد تم تنفيذ حكم الاعدام بهذا المارق ( ) وتكشف الرواية عن نفسيات المستغلين , إنهم يشعرون بالغرور وينظرون الى الشعوب التي يستغلونها نظرة تعال واحتقار ويعتقدون انهم اغبياء بالفطره وقد مر ذكر النعوت التي الصقها بيتر وراندلي بالشرق وبالشرقيين في الوقت الذي كانوا يرفعون شعارات ((من يملك الشرق ... يملك العالم)) او ((من يكسب هذا الشرق يكسب المستقبل)) ((الشرق هو المستقبل))( )
وتكشف الرواية عن أن المستغلين يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة , فلا ضير من الكذب حتى على أبنائها , الحليف الامريكي يلجأ الى الكتمان والسرية في العمل والكذب عليهم وقد مرت نصوص تثبت ذلك على حليفهم الانكليز , والانجليز صاروا يكذبون حتى على بيتر , فقد صار الانكليز يرسلون بجماعات من غير أن يخبروا بيتر , انما اكتشف ذلك بالصدفة لدى زيارته للسفارة . ((بدأت تأتي من بريطانيا وفود جديدة , وفودهم أبلغ عنها من قبل ... لقد عرفت ذلك بالصدفة من خلال ترددي على السفارة , واحتكاكي ببعض العاملين))( )وكان راندلي يكرر على بيتر : ((ليس مهماً أن نحقق نصراً من أي نوع , الشيء الوحيد المطلوب الان , في مرحلة الشهور القادمة : أن لانترك الاخرين يحققون نصراً علينا))( ) فالغرب يعتمد الفلسفة الاتية : ((النصر مع الاخلال بالوعد افضل من الهزيمة))( ) وبيتر الضابط المكلف بمتابعة الواقع هناك صرخ اخيراً : لقد خدعت ... نعم خدعت ... وانا الذي خدعت نفسي))( ) ولم يعد بيتر يتردد في أن يقول بعد أن استلم البرقية التي تضمنت الامر بايقاف المفاوضات وقد لمس بيتر رغبة الطرف الاخر بالتفاوض الجدي قال بيتر : ((وماذا أقول للرجال الذين ظللنا ساعات طويلة نناقش معهم أدق التفاصيل واكثرها خفاء ؟ لندن تريدني أن أقتل ككلب سائب , تريد أن نكرس بشكل نهائي الصورة التي يحملها المعارضون , الانكليز لايصدقون في اية كلمة يقولونها . انهم مجرد مخادعين ]مخادعون[ ويريدون سرقتنا وقتلنا ... هذا كل مايريدون , أما الكلمات ... اما الوعود ... فانها اتعني شيئاً))( ) هكذا إنهارت قصور التين فوق رؤوس الانكليز ومضى الزمان واستطاع الامريكان الحصول على الكعكة واستعد الانكليز للرحيل . وقد كشف الكاتب – من خلال المظاهرات – الهوية الطبقية للمتظاهرين , كانوا فقراء يأكلون الخبز وحده ... وقد مر ذكر ذلك . كشفت الرواية اهتمام الانجليز بالشكليات وإدعاء التعمق في الاحاطة بالاحداث وتوصيفها لوضع خطة ناجحة , وتبين أنهم إهتموا بالكلمات الكبرى ولم يفعلوا شيئاً . إنهم لم يأتوا للمفاوضات الجادة لانهم اعتمدوا سياسة (التخلص) كما مر سابقاً حين طلب راندلي من بيتر ألا يتوصل معهم الى حل , لان الانجليز يراهنون على الزمن ويريدون ان يتحول لصالحهم . قال راندلي لبيتر : ((كل مانريده منك أن لاتصل الى نتيجة في المفاوضات سنبدأ معهم البحث , ستطول المناقشات , سوف تقضي اياماً كثيرة , وأنت تبحث , لكن دون ان تصل لاية نتيجة , وهذا مانسميه (التخلص) ... ))( )اما الحليف الامريكي فقد كان عملياً في هذا الموضوع اعتمد الكتمان وانفق المال والمواد الغذائية , وعثر على الرجال الذين يخدمون مصالحه واعتمد اسلوب الكتمان وعدم افادة الحليف بأية معلومة تنفعه , واستطاع الامريكان ان يحصلوا على مايريدون ان ماارادوه خطوة أولى للوصول الى هدف اكبر هو الوصول الى المياه الدافئه بينما كان هدف الانكليز أن يرجعوا الاوضاع الى ماقبل التأميم , ولم يحصلوا على شيء لانهم تعاملوا مع القضية بعقلية المرابي كما وصفهم احد الامريكان . في الشرق وأشارت الرواية الى ان الدولة قوة مادية في الشرق فبمجرد أن سمع الناس بالارادة الملكية التي أقالت رئيس الوزراء انقلبوا الى متعاطفين مع العاهل المسن ... شرحنا ذلك
2- الاسلوب : أوضح تعريف له هو : طريقة الاديب في تناول الموضوع وتلك الطريقة تكشف عن قدراته الخاصة المتميزة لغرض التأثير والاقناع . وللاسلوب عناصر هي : أ- السرد : ومعناه في النص ((نقل الاخبار والحوادث باسلوب حكائي , ممتع يستهوى المتلقي لما فيه من جاذبية وتجسيد للافعال ... والسرد في الرواية عرض موجه لمجموعة الحوادث والشخصيات المتخيلة بواسطة اللغة المكتوبة ))( ) فالسرد عنصر مكون في الرواية , لذا يصبح السرد ((هو مجموع المكونات الروائية))( )قبل الشروع في كتابة السرد , يعمد الكاتب الى المراقبة الدقيقة للاشياء حتى يكون ((نواة ذهنية فكرية , حول موضوع روايته . تساعد النواة على الابتكار والابداع من خلال التخييل الذي يستدعي صوراً تتجاوز الواقع الملموس الى عالم خيالي تذوب فيه عناصر الواقع , فيتفاعل الواقع مع الخيال فينتج عن هذا التفاعل عمل روائي تكون نواته من الواقع وعناصره من الخيال))( ) تميز السرد في رواية سباق المسافات الطويلة بـ 1- التفصيل 2- الدقة 3- الاثارة في السرد , لم يأت عبدالرحمن منيف بفائض يجعله مترهلاً , إنما يشعر المتلقي ان لكل كلمة دورها الذي لا غناء عنه , فهو يلجأ الى التفصيل ويحرص على الدقة ليثير المتلقي بواقعية مايكتب , من وجهة نظره بطريقة خفية . في رواية سباق المسافات الطويلة تناول الانسان والحيوان والمدن , والمظاهر الاجتماعية والفكريه فيها , بل وبعضاً من تقاليدها وعاداتها , تناول مظاهر الطبيعة في أزمنة واحوال مختلفه , وكان مقتدراً بارعاً وأسوق على سبل المثال نماذج من ذلك الوصف الدقيق المثير , المتماسك , البعيد عن الترهل أو البرود وهو لايكتفي بنقل السطح الظاهر من الاشياء , إنما يرى مابعدها أحياناً ويغوص الى اُعماق النفس البشرية إذا كان الوصف متعلقاً بالانسان . ((كان الرجل القصير , والذي يحمل عكازاً , مثلما قدر بيتر تماماً , كان وجهه يحمل مقداراً كبيراً من الغموض والعنف , فاذا بدا يتحدث يمتلئ ذلك الوجه بالتجاعيد , حتى يصبح أقرب الى الجلد القديم الذي اكتسب ملامح لاتتغير بفعل الزمن والتعب , لكن اذا بدا يصغي لبيتر وهو يتحدث اليه فعندئذ يتغير وجهه فجأة , ينفرد كله وتزول منه التجاعيد , حتى ليبدو سائبا ليناً كأنه بلا ملامح . أما العينان منفتحتان بطريقة أليه مثيرة ربما من الدهشة أو المرض أو من شيء اخر ينفعل في الداخل))( ) يستطيع الرسام أن يرسم اكثر من صورة لعباس من خلال هذا الوصف . وهذا نموذج اخر في التفصيل والدقة ثم الاثاره ((كانت شيرين في ثوب أزرق , وتضع فوقه معطفاً دون أن تلبسه , وعلى شعرها وضعت شالاً بلون يتناسب مع المعطف الرمادي , وكانت تضع نظارات سوداء كبيرة . بدت في ذلك الصباح وكأنها خرجت لتوها من حمام ساخن , كانت بشرتها رقيقة , ووجهها متورداً , أما شفتها السفلى فقد تركتها فترة سائبة فظهرت ممتلئة سخية , ثم بدأت تغزل لسانها فوق الشفة , حتى عادت الى طريقتها في الليلة الفائتة))( ) إنه يلتقط الجمال الطبيعي في شيرين , والجمال المكتسب عن طريقة الملابس والنظارات ... يلتقط الالوان , ينسقها يربط بين الزمن الحاضر والماضي . ودقة الوصف وتفصيله لايقتصر على الاشياء المفردة وانما يبهرنا في وصف مجالس الشراب فهو يعرف شرابهم المحلي , وزمن شربهم , طريقة الشرب , اجتماعهم للشرب , إنقسامهم بعد قليل , ظاهرة البكاء , الصراخ , ثم لماذا يشرب الشرقيون بهذه الطريقة ... الخ أنت امام لوحة متحركة الاجزاء , ساخنة , مذهلة وبعدها يتقد ذكاء بيتر , فمن خلال هذه المجالس يمكن أن يعثر على مفتاح الشرق , يأتي عباس بنظرية جديدة فيقول بيتر :
((لقد تعودنا يامستر ماكدونالد , أن تتغلب على الغثيان وضعف الشهية والدوار بأن نواصل الشراب منذ ساعات الصباح الاولى))( ) بخلاف مجالس الشرب التي تكون مساءً . ((إنهم يشربون بنهم ودون توقف , وغالباً مايشربون في الليل , وماعدا حالات خاصة ومحدودة , فانهم لايشربون في النهار , ورغم المانع الديني لايخافونولايترددون أثناء الشراب . حين يشربون تتغير طباعهم كثيراً , يصبحون بشراً من نوع مختلف , يصبحون أكثر عنفاً وصخباً , ويميلون الى المعارك والغناء والبكاء . لقد رأيت بعيني عشرات المرات بشراً يبدون في منتهى التوازن والمنطق قبل الشراب , وبعضهم أقرب الى الخجل والصمت لكن حين تدور الخمرة في رؤوسهم يتحولون الى بشر آخرين , يصبحون عدوانيين , ويظهرون كرهاً حقيقياً للاجانب , ويلجأون كثيراً الى استعمال الايدي , يضربون الطاولات , يشدون على الزجاجات والاقداح , يضربون رؤوسهم بالجدران , وليس أسهل من قيام المعارك الطاحنة في مثل هذه الحلات . إنهم سريعو التهيج والاثارة , وحتى أقرب الناس الى بعضهم لايلبثون أن يتحولوا الى خصوم , وقد يستعملون الايدي في فض المناقشات وقد يلجأون في لحظات أخرى الى البكاء . إن ظاهرة البكاء في الشرق من أبرز المظاهر التي يقابلها الانسان لدى السكارى , وحين يبكون يصبحون كالاطفال الصغار بتصرفاتهم , وبرغبتهم في أن يستندوا الى صدر أو جدار وأن يبوحوا باشياءلايستطيعون أن يقولها في الاوقات الاخرى! إنهم يشربون , خاصة في البداية , بسرعة , وكأنهم يحاولون الانتقال دفعة واحدة من حالة نفسية أو عقلية الى حالة اخرى مختلفه . وخلال فترة قصيرة , وبعض الاحيان بشكل مفاجيء يتغيرون تماماً : ترتفع اصواتهم , تصبح أقرب الى الصخب , يتحدثون جميعهم في وقت واحد , أو ينقسمون الى مجموعات صغيرة , وغالباً كل إثنين وحدهما . ويتحدثون , وكل المحاولات للسيطرة على الجماعة وإعادتها الى الوحدة التي كانت تميزها في البداية تنتهي الى الفشل , ماعدا الاحاديث عن الجنس والنكات الرديئة . ان احاديث من هذا النوع , كما قيل لي , تلقى عندهم فضولاً لايمكن مقاومته , إذ من جديد يغرق الصخب أو تحل مكانه الاشارات الفاضحه والتمثيل الكامل , وقد لاحظت أن الرجال الذين يقومون بهذه الادوار غالباً مايكونون ثانويين في البداية , لكن لايلبثون أن يصبحوا محوراً للاهتمام بعد ذلك . اذا انتهت مثل هذه الاحاديث , ينفجر الصخب مرة أخرى ويكون اكثر عنفاً واتساعاً , ويشارك فيه الجميع , على شكل قهقهات مجنونة وعربدات , ويرافق ذلك استعمال الايدي , بضربات على الاكتاف غالباً وبتحديات تأخذ أشكالاً مختلفة , لكن اكثر ماتكون هذه التحديات بكميات جديدة يشربونها , وعلى دفعات سريعة , وفي حالات عديدة تندلق المشروبات على ملابسهم وعلى الطاولات , لكن لايبالون بذلك أبداً , وكأنه جزء من طقوس الشراب , ويغيرون نوع المشروبات التي يتناولونها مرة بعد أخرى , وتتكوم على الطاولات الصغيرة الزجاجات الفارغة , وبقايا الطعام والاقداح , وعلب السجائر والجرائد , وبعض الاحيان الكتب ...))( ) هل ترك شاردة أو واردة لها علاقة بالمجلس لم يلتقطها ؟ وباسلوب تدرج في ارتفاع الحمى في المجلس وكأنه يستدرج المتلقي للمواصلة ومعرفة الطقوس كاملة . كان يرسم صوراً للفعل ولردود الفعل , لدواخل الشاربين وتصرفاتهم وما ينعكس على المجلس من حيث الاصوات , الاضطراب , العراك وقد مر بنا كيف نقل المظاهرات من واقع مادي الى اللغة وكذلك الامر في إعدام مصدق , وفي الرواية عشرات النماذج التي تكشف عن التفصيل والدقة والاثارة في السرد .
ب- الحوار : وسيلة من وسائل الاسلوب , فهو مواز للسرد , يضفي على الرواية طابع الواقعية لتكون مقنعة مؤثرة , والكاتب المبدع يتخفى وراء شخوصه , فيضع أفكاره وعواطفه واحاسيسه على السنة الشخوص وأفعالهم . وقد خلا الحوار من الازدواج اللغوي : أي انه لم يستعمل اللهجة العامية في الحوار بجانب اللغة الفصيحة في السرد كما مارس ذلك في روايات : أرض السواد ومدن الملح .وكانت لغة الحوار تتناسب مع الواقع النفسي والثقافي والفكري والاجتماعي للشخوص . ( ) لغة راندلي وهو يملي التوصيات على بيتر كانت لغة رصينة , عميقة الفكرة , مثيرة , كلماتها كبيرة تتناسب مع وظيفته , فهو المدير المسؤول عن إدارة العملية من لندن , فاللغة تعكس أهمية هنا الرجل وخبرته الواسعة وثقته العالية بالمستقبل : قال راندلي , في أحد اللقاءات الاخيرة : ((قد تبدو الامور صعبة في البداية , لكنك ستكشف بنفسك كيف انها سهلة للغاية كيف ؟ تماماً كما يتصور الانسان قبل أن يطلق شاربيه ... لفترة طويلة يتصور انه لن يمتلك شاربين , انظر الى نفسك الان في المراةيابيتر , لقد بدأت الحمرة تظهر فوق شفتك بوضوح , وخلال الايام العشرة التي ستقضيها في بيروت , ستجد نفسك وكأنك ولدت بشاربين . لاحظ هذه الثقة العاليه بنفسه ((بالتأكيد سننجح ... هذا مهم , لكن الاهم من ذلك ان لانترك الاخرين ينجحون قبلنا .))( ) وقد وردت اقوال كثيرة لراندلي . أما بيتر فكان في بداية العملية تلميذاً مطيعاً يستمع باحترام , ويفتخر بهذا الاختيار له , يصدق أقوال راندلي : ((ويهز بيتر رأسه بحيرة , ويردد في نفسه إبدأ معهم من حيث يريدون , لكن المهم أن نوصلهم حيث نريده))( )بيتر يكرر عبارة راندلي ليحفظها وحين استقر هناك وصار يرصد الاشياء إنفجرت عنده قدراته اللغوية والفكرية ليصف الشرق والشرقيين بصفات رديئة , بكلمات كبيرة فيها الكثير من الفلسفة المستنده الى العقلية الانجليزية , وبقي مغروراً بانتسابه الى بريطانيا العظمى والى الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس وقد مرت عباراته التي تتناول هذه المواضيع ولكن بعد أن يأس من إستجابةراندلي او لندن للحالة الخطيرة التي نبه اليها , وهي أن الامريكان يفدون بشكل مجاميع , متنوعة الصفات والاغراض , بدأ الشك براندلي أو باولئك القابعين في لندن , بدأ مرحلة الشكوى من إهمالهم , وصار يسمي راندلي بالكاهن المسن ... انها لغة اليأس والتردد : ((لو كتبت مجدداً الى لندن فسوف تنهال علي مرة أخرى كلمات التقريع , وسوف يقولون ويظنون اشياء كثيرة ... أما اذا تركت الامور تجري هكذا ووقعت المفاجأة بعد ذلك فسوف تفتح لندن فمها كما يفتح القرش فمه وتسأل : أين كنت يامستر ماكدونالد ؟ لماذا لم تبلغنا في الوقت المناسب يامستر ماكدونالد ؟ وهل كنا نحن هناك أم انت ... يامستر ماكدونالد ؟))( )وزاد ألمه فصار يتجاوز في لغته على لندن حيث قال إنها تريد أن أموت ككلب سائب , وبلغت لغته ذروة اليأس حين صرخ خدعت كما مر سابقا أما لغة باتريشيا زوجة بيتر فحملت مخاوف الانثى قالت : ((ومن يضمن أن تسير الامور كما تريد يابيتر)) كما قالت : ((اعرف اني لن استطيع السفر معك يابيتر ... لكن هؤلاء الرؤساء الحمقى ... الا يعرفون مدى المصاعب التي يمكن ان يواجهها رجل وحيد في مكان لايعرف أحداً فيه ولايعرف عنه اي شيء))( ) شيرين كانت لها لغتان في الحوار : جسدها , ولسانها ... وقد استعملت لغة الجسد اكثر , ولكنها حين تكلمت في المرات القليلة عبرت عن حبها للشرق كما استفزت بيتر لكثرة فلسفته بلا جدوى قالت :
((كلكم انتم الرجال تبحثون عن المتاعب , فاذا لم تجدوا مايكفيكم منها , خلقتم أو توهمتم متاعب اضافية لتعيشوا فيها , إنكم عباقرة الاحزان والمتاعب , وبعد ذلك تلقون على النساء ما يفيض عنكم ... لاتكتفون بذلك انكم مولعون بالشكوى !))( ) كلام واضح ورصين وصادر عن رصد وفلسفة تتناسب مع شخصية شيرين . وقد سبق لها أن قالت له لقد سمعنا منك هذا عشرات المرات , كما قالت له , يبدو إنك لاتحب الشرق , وفي الحفلة الختاميه لبيتر قبل رحيله قالت ((وهي تضحك : لقد تغيرت الامور الان كثيراً ... ويجب أن تعرف الوجه الاخر من الشرق , وجه الانتصار والفرح !))( ) هذه التعابير تكشف عن أن شيرين لم تكن امرأة ساذجة رغم دفئها وهذه تعابير تقودنا الى السؤال : هل كانت علاقتها ببيتر خالية من أغراض سياسية مثلا؟! أما لغة عباس زوج شيرين , الوزير في النظام السابق كانت انفعالية , فهو قد طلب من بيتر مرة أن يضرب ولكنه لم يوافق على عمل ((منظمة الدفاع عن الوطن)) وجن جنونه حين سمع بعمليات الاغتيال وقال أوافق على كل شيء الا القتل , وحين انتهت مهمة الانكليز قال بيرود : ((كل ما اتمناه أن استرد صحتي بسرعة ... واذا حصل ذلك فسوف أقضي ماتبقى من ايام في الريف الانكليزي , وهناك لن افعل شيئا سوى كتابة المذكرات))( ) الكلام صفة المتكلم , عباس لم يملك خيالاً ليصوغ عبارات غير تقريرية , وكان الكاتب ماهراً حين اختار له هذه اللغة , فهو مفتون بفكرة عودة المال اليه أما ميرزا ضابط المخابرات في النظام السابق فلغته كانت نارية حتى قال ((القتل موقف سياسي))( ) إنه يحلم بالسلطة فلا يستعمل كلمات مترهله انما يعلن عن افكار بدون تردد .
ج : الشخصيات : لاتوجد قصة من غير شخصيات بل ((تصبح الشخصيات مكونا رئيساً لان الشخصيات تقود الافعال , وتنظم الاحداث , وتعطي للقصة بعدها الحكائي))( ) في الرواية ظهرت الشخصيات الاتية : 1- الشخصيات الرئيسة : أ- راندلي . الذي كان يصدر الاوامر والتوصيات الى ضابطه بيتر في ساحة اللعب . كان راندلي شخصية نمطية لم تتطور . فقد ظل معجباً ببريطانيا الى حد العشق , وكان يتوهم بأنه قد أحاط بكل شيء علماً , ولكن الواقع أثبت عكس ذلك , كان يحب المراهنة على تحويل الزمن لصالح بريطانيا , كيف ؟ لايدري أحد ولم يتحول . كان شخصيه برجوازية في نظرتها للاخرين , يحط من قدراتهم , كان معجبا بصياغة جمل من كلمات كبيرة توحي بأنه عليم بما سيجري ... وظل هكذا حتى أجبر البريطانيون على الرحيل من ساحة اللعبة , ورحل هو عن الحياة , ونام تحت شجرة صار بيتر يحسده على الامان الذي يتمتع به ((لقد انتهى راندلي , وربما كان يفضل ان يغمض عينيه قبل أن يشهد نهاية الامبراطورية البريطانية , وقد فعل ذلك , وهو ينام مستريحاً في مكان رطب تحت شجرة من أشجار السرو))( )
ب – بيتر : وقد خاض السباق بعقله ومشاعره مندفعاً في البدايهلانه اعتقد أنه يخدم الامبراطوريه بدأ يتراجع حين لمس أن راندلي لا يأخذ تقاريره عن خطر الاميريكان على محمل الجد , وحين اكتشف أن لندن بعثت مجاميع من غير إخباره تمزقت قناعته وصار يقول : إن راندلي يريد أن أقتل هنا ككلب سائب , ثم صرخ بأعلى صوته ... لقد خدعت ! وهكذا تغيرت هذه الشخصية من الايمان بخدمة الاميراطورية الى الاستهانه بهذه الافكار وقرر بناء على أوامر لندن الرحيل وعاد اليها بخفي حنين .
ح – ميرزا محمد : ضابط المخابرات في النظام السابق وقد جعلته ضمن الشخصيات الرئيسه , لدوره الفاعل , هو الذي ((أوجد منظمة الدفاع عن الوطن))( ) وهو الذي اقترح الاغتيالات , كان يقرأ المستقبل بعين حكيمة , وحين لم يجد من الانكليز إستجابة , انتقل الى الطرف الاخر , (الاميريكان) , أو أن الاميركيين قد عثروا عليه وجندوه فلذا قال بيتر - كما مر سابقاً – من حق ميرزا أن يصبح وزيراً أو رئيساً للوزراء ... وقد ذكرت ذلك سابقاً
2- شخصيات ثانوية : أ- عباس : الوزير السابق في النظام السابق واسمه الحقيقي رضا صفراوي عباس , وأصدقاؤه ينادونه عباس ! فقد كان حريصاً على إظهار شخصية عباس واثقاً من الانكليز , ويأمل أنهم سيعيدون له المال , لكنه يريد كل شيء , ولايفعل أي شيء ! يشرب الويسكي منذ الصباح ليتغلب على التعب والغثيان , ويسمح لزوجته أن تشرب وتجالس الرجال , وربما كان يعرف علاقة شيرين ببيتر الجنسية , ولكنه يحلم بعودة المال , عباس ليس له موقف صلب أو ثابت , لانه صار يفكر بقضاء بقية العمر في الريف الانكليزي وكأن شيئاً لم يكن .
ب – شيرين : القطة أو النمرة , كما كان بيتر يسميها , إمرأة فاتنه , لم تظهر في مقدمة العمل , انها كانت تحلم بالتغيير لانها تبحث عن الفرح , لكنها كانت فاتنة وتمتلك لغة رصينة , فلذا طلبت من بيتر ان يرى وجوه الشرق الاخرى , وجوه الفرح والانتصار .
ء – أمين : خادم بيتر , كان مؤمناً يصلي ولا يشرب الخمر لكنه يضع الثلج وبسرعة في قدح بيتر , وحين حاول أن يدعوه الى كاس , قال انا لا اشرب , وقال بيتر فكيف تسمح لي أن اشرب قال الله سيعاقب الشاربين .انه رجل فقير , مجبر على العمل لتوفير لقمة العيش لعائلته فلذا شعر بفزع حين مازحه بيتر وقال انه سيستغني عنه ... فهو لايتجاوز هذه الحدود . أما الشخصية الامريكية التي كانت تعبر عن شخصية جماعيه , كانت قوية , مخيفة , تعمل بصمت وتهدف الى هدف اكبر من اهداف الانكليز , الا وهو الوصول الى المياه الدافئة . ولم تظهر شخصية منفردة تتفاعل مع الحدث مثل بيتر , وانما أقوال او إشارات احيانا مبثوثة وهي قليلة وقد ذكرنا منها شخصية فوكس الذي كان مخموراً وقال لبيتر إنهم يحلمون بالوصول الى المياه الدافئة . والشخصية الجماعية التي توزع أدوارها على عدد من الموظفين إمتازت بالكتمان , والاصرار على عدم الكشف عن نواياهم الا ما صدر عن فوكس وكان مخموراً . وبيتر كان يجزم أنهم يكذبون وقد مر في لقاءه في غرفة من السفارة الاميريكيه بمسؤول كبير الذي إدعى جهله بما يجري . لاتوجد تفاصيل عن افراد هذه الشخصية وتبقى شخصية رئيسة وان لم تفرد له ساحة واسعة للظهور , تلك هي شخصية من أقدم على تأميم شركات النفط . وقد لقبه الانكليز والامريكان بالعجوز ووصفوه بأنه صلب الارادة , مؤمن بما أقدم عليه , غير عابيء بالنتائج , كان الجنود يتساقطون حوله ولكنه ظل يقاوم . قال بيتر : ((والان ... ورغم العداء الذي لايمكن أن أنساه أو اتنازل عنه , أشعر ان هؤلاء الشرقيين يتمتعون بمقدرة خارقة على العناد , ولا أقول الذكاء , فقد ظل العجوز يناطح مثل ثور , ظل يحارب دون توقف , دون تراجع , وغير عابيء بالنتائج , كان الجنود يتساقطون حوله ... لكنه ظل يقاوم وظلوا يقاومون))( ) هذه العبارات تصفه ولم يظهر خلال حدث أو احداث الا حين تم تنفيذ حكم الاعدام به , وقد سبق ذكر ذلك . قال بيتر : ((سقط العجوز وهو واقف , وبدا لي في سقوطه اكبر وأخطر مما كنت أفترض أو أتصور))( ) وهذه هي الواقعية النقدية تبحث عن المعاني الايجابية وراء الاحداث , بيتر الذي كره الشرق والشرقيين الا شيرين , هو الذي يستنتج هذه المعادلة , إنها افكار الكاتب الواقعي على لسان أحد شخوصه , لتصبح الرواية واقعية , مقنعة , مؤثره
هـ - المنلوج : monologueمن المنجزات الكبيرة لعلم النفس اكتشافه أن للانسان عالمين : الوعي واللاوعي , ومن خلال اللاوعي نستطيع أن نرسم حقيقة أفكار وآمال ومواقف الانسان , والكاتب الروائي المبدع مثل عبدالرحمن منيف , لايمكنه أن يهمل عالم اللاوعي عند شخوصه , وإنما يستفيد منه ليرسم تلك الشخوص بعوالمها الداخلية ... والمونولوج هو(( حديث النفس والنجوى , وهو حوار يوجد في الروايات , ويكون دائماً بين الشخصية وذاتها , أي ضميرها , بمعنى اخر : هو الحوار مع النفس ... فالمونولوج حديث يتجه نحو دواخل الشخصيات وهو ((تحليل أعماق الذات الانسانية نفسياً ... انه الكشف عن أسرار عالمها الخاص ...))( ) إن الرواية الواقعية تزاوج بين الذات والموضوعية وتكشف التأثير المتبادل بينهما فهي ((تأخذ وحدتها من الوجود الانساني , إنتظام عناصرها من الروائي)) ( ) حين يصعب على اللغة الولوج الى اعماق النفس يستعين الكاتب الواعي بالمونولوج , ويثير خيال المتلقي , فالمونولوج لايمكن الاستغناء عنه في الرواية الواقعية . والمونولوج كثير في هذه الرواية , فكل ما قاله بيتر عن الشرق والشرقيين كان حديثاً مع ذاته لايبوح به , وهناك امثلة كثيرة اخذت بعضاً قال بيتر عن شيرين : لو أن شيرين سألت الاسئلة التي دارت في رأسها لاختلف الامر ... ((كانت طريقتها في الحديث شديدة الاغراء ... إنها مرة من المرات القليلة التي أحس أنني أحب الغموض وأبحث عن شيء أعرفه ولا أعرفه ... وهذه المرأة أكثر ذكاءً مما تتصورون ... انها الان أقرب الي من أي وقت سابق , ولابد أن أصل ... انتظر بعض الوقت يابيتر ... انتظر))( ) وحين لم يصدق أحلام راندلي قال بيتر لنفسه ((انا ابن الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس ... اذا جاز لي أن أفكر وأتصرف بهذا الشكل ... فان بريطانيا العظمى تتصرف بالشكل الذي يرضيها ... بالشكل الذي يناسبها ... لكن لم اعد استطيع فهم الاسباب ... كانت تصرفاتهم وكان تفكيرهم في هذه الفترة يمثلان الحماقة بعينها))( )انتفض بيتر على استمراره في وضعه وقال : ((ومثلما قلت في وقت اخر : لست قديساً , لكن لااقبل ان اكون غبياً بهذا المقدار الذي تفترضه لندن أو تريده ... الفرد بمقدار مايكون جزءاً من الكتلة , بمقدار مايخدم هذه المصالح , فانه موجود ومقبول , ويمكن أن يصبح ذكياً ومرغوباً ! وفي اللحظة التي يختلف , يؤذي المصالح , فلا بد أن يسحق ... أهذه هي الدولة ؟ ... ولابد أن يتم تصحيح الخطأ وعندها يزول الكابوس الذي يلاحقني في الليل والنهار))( ) هذه أمثلة قليلة فالروايهمتخمه بالمونولوج إن بيتر لايستطيع ان يتكلم بهذه الافكار بصوت عال , انما يتحدث بها الى نفسه , ويكشف أوراقاً مهمة في السباق . و – المكان والزمن : في عالم النقد المعاصر , صار واضحاً بل ومن المسلمات بها , أن المكان لايعني الرقعة الجغرافية , وانما يتكون المكان الروائي من الاحساس به , وكذلك الزمن فهو لايعني الوقت , إنما هو الاحساس بالوقت , لذا لاارى ضرورة الى اثبات هذه المفاهيم بوساطة المصادر والمراجع , وإنما نتناول حالتها في الرواية . فالمكان من الناحية الجغرافية شمل لبنان , اليونان ثم طهران , وإختلف احساس بيتر فيها . في لبنان شعر بيتر باللذة والمتعة مع الخوف كما وصف حالات في بيروت التي قال عنها تشبه الكرنفال – كما مر سابقاً – وهي تشبه كل شيء , ولاتشبه شيئاً , لكنها مدينة خطرة , وهي كغيرها من المدن الساحلية كلها تتمتع بهذا المقدار الكبير من البلاهة والتنافر ... ويتذكر الساعات الاولى لوصوله ((الساعات الاولى في بيروت مليئة بالمطر , ولاتثير في النفس أية دهشة !))( )
وبعد أيام ادرك بيتر : ((لابد أن أعود الى هنا ... وفي وقت قريب , إن بيروت مدينة رائعة ... كل شيء فيها رائع خاصة النساء))( ) ومن خلال الاستذكار ذكر بلاد اليونان , وبفرح قال ((اليونان رائعة . كل شيء فيها رائع , لكن الانسان لايستطيع أن يعيش فيها بسلام , ألاف اليونانيين يفضلون الحياة في الخارج)) وتذكر أيام الحرب ورائحة اليونان آنذاك فقال : ((كانت رائحة اليونان اثناء الحرب قذرة ... رأيت بعض الجزر فقط , لكن كل شيء هناك لايوحي بالاطمئنان ثم الايتذكرون كيف أنقذتهم بريطانيا من اللصوص))( ) تلاحظ الازدواج في مشاعره الفرح مع الخوف في بيروت وفي اليونان . أما طهران فقد عاش مكرهاً وخاصة هو يحمل الحقد والكراهية نحوها – كما مر سابقاً – مدينة كبيرة لكنها ليست كالمدن الكبرى , والناس في هذه المدينة الكبيرة متخلفون , منفرون وقد استحضر كل الصفات الرديئة عنهم , فلذا لم يشعر بالفرح في هذا المكان وانما تعجب فقال : ((كان يجب أن أتردد طويلاً , قبل المجيء الى هذه المدينة اللعينة , حتى الاعتقال والمعسكرات , حتى الايام القاسية الطويلة التي قضيتها أثناء الحرب , أكثر رحمة من الايام التي اعيشها الان))( ) وهو الذي قال قبل هذا – كما مر سابقاً – متوهم من يتصور أني أجبرت على المجيء . إن هذا الشرق اللعين يغريني . بلغ الضيق ببيتر درجة قال : ((كل شيء فيها قبيح ومخيف , لاأدري كيف استطيع قضاء شهور عديدة هنا . إن مجرد التفكير بذلك يخلق في النفس انقباضاً يصل حدود المرض . كيف يمكن للانسان أن يعيش هنا ؟))( ) ومن خلال الصفات التي إبتكرها للشرق وللشرقيين نستطيع ان نكتشف أحاسيس بيتر بهذا المكان او سيكون المكان ملوثاً بتلك الاحاسيس .
الزمن : كان الزمن ثقيلاً , مخيفاً , بل ومرعباً يتوقع فيه أن يقتله الرعاع كما قال أكثر من مرة , لكنه كان لذيذاً مع شيرين واحتساء الويسكي وقد مثلت النصوص في الدراسة كل هذه الافكار
ي – اللغة : كانت اللغة في الرواية فصيحة , معبرة , متوزعة على المستويات الثقافية والاجتماعية للشخصيات فلغة خادمه أمين مثلاً , كانت بسيطة واضحة وتكشف عن مستواه الثقافي , فهي لغة تقريرية تكون إستجابة للسؤال او الحاجة . بينما كانت لغة راندلي وبيتر , مرصوصة , تكشف عن ثقافيتهما , وغرورهما بل وتوهمهما , لقد كانا يصوغان جملاً فيها كلمات كبيرة المعاني وتتجاوز الزمن أحياناً حين يفكر ان مستقبل الامبراطورية . كانت لغة ميرزا واقعية , لكنها تكشف عن خبرة ميرزا بالاحوال , كما تكشف عن إيمانه بكلماته . كانت لغة النار . ومثلما اشتهر اية الله المستشار الاقتصادي بالكفاءة والهدوء وربما الصمت كانت مفرداته اقتصادية عارية من العواطف . ولكن هذا لايعني ان الرواية اكتفت بالجانب النفعي للغة في الاحداث عندما توفر التعبير الصريح عن الحالة . انما إرتقت الى مستوى الفلسفة وباسلوب شعري لذيذ في كثير من الاحيان , مثل : ((كان المطر مجدولاً مثل الحبال وهو ينزل من السماء)) ((حين يبدأ المطر , فالعالم يبدو صغيراً خائفاً))( )((الان يستعيد لحظات قديمة تنبعث منها رائحة الشباب والرعونة))( ) ((وبدا انها تدرك مدى النظرات المحمومة التي يطلقها وتنزلق تحت جلدها))( ) ((احس بشيرين تملأ شراييني تماماً , عيناه تنفذان الى ماتحت الجلد))( )((الثمار الهادئة وحدها تنضج طعاماً لذيذاً))( )




المصادر والمراجع
1- أقنعة الحقيقة وأقنعة الخيال , جبرا ابراهيم جبرا المؤسسة العربية للدراسات والنشر , بيروت , 1992
2- أثر الرواية الواقعية الغربية في الرواية العربية , محبة الحاج معتوق , دار الفكر اللبناني , بيروت ط1 , 1994
3- إدام الفن : دراسات في الادب العربي الحديث , فليح كريم الركابي , المركز العلمي العراقي , بغداد , طبع في لبنان د . ت
4- بناء الرواية السورية , 1980 – 1990 , سمر روحي الفيصل , منشورات اتحاد الكتاب دمشق , 295
5- الرمزية في الادب العربي , درويش الجندي , دار النهضة للطباعة والنشر , ط1 , القاهرة , 1957
6- سباق المسافات الطويلة , عبدالرحمن منيف , المؤسسىة العربية للدراسات والنشر , بيروت , تموز 1972
7- طرائق تحليل السرد الادبي , بن عيسى بوحمالة , منشورات اتحاد الكتاب العرب , دمشق , 1992
دراسات يستفاد منها لفهم الواقعية النقدية من الناحية النظرية ومبادئها وأساليبها مثل :
1- الاشتراكية والفن , ارنست فيشر , ترجمة اسعد حليم , دار القلم , بيروت د . ت
2- ضرورة الفن ارنست فيشر , ترجمة اسعد حليم , الهيئة المصرية العامة للكتاب , 1986



#ضاهر_شوكت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضاهر شوكت - من الواقعيه النقديه في الراويه المعاصره ( سباق المسافات الطويله ) إنموذجا او الرحله الئ الشرق للكاتب عبدالرحمن منيف