أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجلاء أبوعجاج - الفضاء الثالث والإرث الاستعماري















المزيد.....



الفضاء الثالث والإرث الاستعماري


نجلاء أبوعجاج

الحوار المتمدن-العدد: 6836 - 2021 / 3 / 10 - 23:44
المحور: الادب والفن
    


تُعنى هذه الدراسة بتقديم تعريف مفصل لمفهوم "الفضاء الثالث" في كتاب هومي بابا الشهير"موقع الثقافة" ، وتعرض لأثر هذا المفهوم في مجال النقد الأدبي وفي المجال الثقافي بشكل عام،وتصباهتمامها كله على هذا الكتاب المهم "موقع الثقافة"، وعلى هومي بابا المفكرالمؤثر في سياقنا المعاصر، وإن أعمال بابا إجمالًا تتمتع بقدر من التعقيد يجعله جاذبًا للاهتمام، وحقًا، كما يقول ثائر ديب مترجم كتاب "موقع الثقافة" إلى اللغة العربية أن تقرأ هومي بابا "يعني أن تعيش تلك اللحظات من الغرابة المقلقة، على الحدود ما بين الثقافات والأمم والهويات والعوالم، في الممر الفاصل الواصل، على الجسر" (9)، وأن تتفحص منظور ما بعد الاستعمار لبحث إمكانية الانعتاق من الثنائية التاريخية: المستعمِر /المستعمَر، وأن "تسمع ذلك الاعتراف المدوي بأن النظرية ما بعد الكولونيالية لا يمكنها تفادي بنى المعرفة الغربية، وإنْ سلطت نقدها على عماياتها وضروب انغلاقها" (11)، وأن تتتبع أثر ميشيل فوكو وجاك لاكان وجاك ديريدا على رؤى هومي بابا النظرية، وكذلك أثر فرانز فانون وإدوارد سعيد وجون ستوارت ميل وكارل ماركس، وأن تخرج من التجربة محملا بأسئلة لا يبدو أن هومي بابا تمكن من التعاطي معها بشكل يفكك الأزمة التي يعيشها عالمنا المعاصر والمتعلقة باستمرار هيمنة الخطاب الغربي على عدة مستويات، بعضها سياسي واضح أو اقتصادي صريح أو ثقافي ناعم، هذه الأزمة التي يعترف بها هومي بابا في موضع من كتابه، ولا يعيرها اهتمامًا تحليليًا كافيًا، هذه الأزمة تتمثل في لغة الاقتصاد السياسي التي تكرس الاستغلال والهيمنة والفجوة بين العالم الأول والعالم الثالث، ولغة الدبلوماسية التي تعبر عن القوة السياسية والعسكرية والتي نرى فيها تضخمًا للإحساس القومي الأنجلو-أمريكي (بابا 20)، وتتمحور هذه الدراسة حول الهوة التي يخلقها تنظير هومي بابا بين ما هو حياتي، وسياسي، وواقعي، وأيديولوجي، وبين ما هو خيالي بمعنى أنه يسكن عالم الأفكار، وتزعم هذه الدراسة أن هومي بابا ينقل مناقشة مفهوم الهوية من عالم الحياة اليومية إلى فضاء تخيلي يخلق عالمًا موازيًا نظريًا تقف جميع الثقافات فيه على مسافة متكافئة من بعضها البعض، وبالتالي تُكَوّن مع بعضها البعضعلاقات متحررة من الجنس والعرق والطبقة والموقع السياسي والموقع الجغرافي والإطار التاريخي، ولديها رفاهية الدخول في علاقات تفاوضية دائمة، هذا في حين أن البقاء على قيد الحياة في حد ذاته في مساحات شاسعة من العالم، تلك التي تغطيها الصراعات والنزاعات المسلحة مثلًا، يعتمد على وضوح مفهوم الهوية وعلى وضوح الحدود الجيوسياسية والثقافية على حدٍ سواء، ولا وجود لهذا العالم الموازي على حلبة الصراع في بؤر الأزمات هذه، كما أن هذا العالم الموازي لا يملك أية صلاحيات تسمح له بالتأثير في لغة الاقتصاد السياسي أو لغة الدبلوماسية، وبالتالي فإن الدخول إلى هذا العالم الموازي والغرق في أطره النظرية بما تخلقه من عمليات عقلية متشابكة ومعقدة من شأنه أن يشوش الرؤية لدى المتضررين من لغة الاقتصاد السياسي ولغة الدبلوماسية، مما يضعف من قدرتهم، أو بمعنى أدق، يمحو قدرتهم على إدراك الضرر، ناهيك عن اتخاذ إجراءات للتعامل معه، وهذا حال الشعوب التي تحررت من الاستعمار وبات لزامًا عليها أن تكافح من أجل صياغة هويتها القومية وأن تبني اقتصادها ومؤسساتها وقدراتها العسكرية، ولكنها عوضًا عن ذلك، غرقت في سياسات ما بعد الاستعمار المالية التي كبلت أفريقيا، مثلًا، بعدد من المبادرات الاقتصادية ذات الشروط القاسية، وذلك ضمن سياسات الاستعمار الجديد، كما أوضح كوامي نيكروما في كتابه "الاستعمار الجديد: المرحلة الأخيرة من الإمبريالية" (1965) .
ولقد صادفت أعمال هومي بابا الكثير من الاهتمام في الدوائر الأكاديمية المتخصصة، وفي الدوائر الأدبية والثقافية والفلسفية بشكل عام،كما يعرض ثائر ديب في مقدمته لترجمته لكتاب "موقع الثقافة"، فبينما يرى البعض أن الكتاب مجردٌ بشكلٍ كبيرٍ، وأنه بالغ الصعوبة، وأنه ليس سياسيًا بالقدر الكافي، يرى آخرون أنه سياسي جدًا، وأنه يُعلي من قيمة النص والسميوطيقا على حساب ما هو مادي، وأنه يخلق حالة من الحوار الدائم بين ثقافة المستعمِر وهويته، وبين ثقافة المستعمَر وهويته بشكل يخالف وقائع التاريخ المليء بمخازي الاستعمار وفشله في تحقيق أي قدر من التلاحم والتعاون مع أهالي المستعمرات، وأنه يحتفي احتفاءً شديدًا بما يسكن الهامش وبالهجن وبالأقلوي وبالمهاجر في مقابل عدم الاعتناء بالجموع العريضة، كما أنه يُتهم بالاشتباه في الإسهام في إضعاف القدرة على التعرف على الممارسات الاستغلالية التي تتعرض لها هذه الجموع، حيث تُسهم المُراوحة في عدم تحديد أية ممارسات استغلالية وحسمها، وبالتالي عدم القدرة على التصرف حيالها، وذلك وسط أجواء ضبابية من عدم التسيد الذاتي الذي يسم خطاب القوة المسيطرة أو المستغلة (ديب 24-30)،وكذلك عدم القدرة على التحقق المستقل المكتفي بذاته لدى الجموع المضطهدة أو المستغَلة.
هومي بابا أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب الأمريكي، عمل مديرًالمركز "ماهيندرا" للدراسات الإنسانية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر حاليًا من أهم الأسماء في عالم دراسات مابعد الاستعمار، وهومي بابا هندي-

أمريكي، ولد في بومباي بالهند في 1949، وحصل على الدرجة الجامعية الأولى من جامعة بومباي بالهند، ثم على درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة أكسفورد، وعمل محاضرًا في الأدب الإنجليزي بجامعة ساسيكس بالمملكة المتحدة لمدة عشر سنوات، ثم انتقل إلى جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية، وعمل بعدئذ في عدد من الجامعات الأمريكية مثل جامعة بنسلفانيا وجامعة شيكاغو والجامعات الإنجليزية مثل جامعة لندن. ومن أهم مؤلفات هومي بابا كتابه "موقع الثقافة" وكتاب آخر عن ادوارد سعيد، وعدد من المقالات والفصول في كتب حول الكوزموبوليتانية والحداثة والثقافة واليهود، والديمقراطية، وحقوق الكتابة، وتراث الحرب الثقافية، ومقدمة لكتاب فرانز فانون الشهير "البؤساء في الأرض" ، وغيرها، ويتمثل جوهر تأثير هومي بابا في مجال دراسات مابعد الاستعمار في تعريفه لعدد من المفاهيم التي ترتكز عليها هذه الدراسات مثل "التهجين"، و"المحاكاة"، و"المراوحة"، والمفهوم الذي تُعنى به هذه الدراسة، وهو "الفضاء الثالث"، ونرى أنه من الضروري تقديم تصورات هومي بابا لهذه المفاهيم الأربعة قبل النظر في النصين الأدبيينالذين يعرضهما في كتابه "موقع الثقافة" لتبيان "الفضاء الثالث"، وهما "قصة ولدي" لنادين جورديمر، و"المحبوبة" لتوني موريسون.
التهجين (Hybridity):
يُعرف معجم ميريام ويبستير الهجينHybrid بأنه: (أ) وليد حيوانين أو منتج نباتين ينتمي كل منهما لجنس مختلف، (ب) شخص له خلفية ثقافية تتكون من مزيج من ثقافتين أو تراثين، (ج) شيء لا يتمتع بالتناغم بين مكوناته، مثلا اجتماع خصائص من أسلوب العصور الوسطى وأسلوب عصر النهضة في عمل فني واحد، أو hybrids of complementary DNA and RNA strands في علم الأحياء)، شيء مثل مولد كهربائي أو سيارة أو دائرة إلكترونية به نوعان من المكونات يقومان بالوظيفة ذاتها، وكلمة Hybrid اسم وصفة في اللغة الإنجليزية.
وفي سياق الدراسات الإنسانية يشير التهجين بصفة عامة إلى صيغ ثقافية جديدة تتشكل عند نقاط التماس بين ثقافتين أو أكثر في إطار الظرف التاريخي المعروف بالاستعمار وما تلاه من بعض حركات الهجرة إلى المملكة المتحدة تحديدًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لحاجة المملكة المتحدة وقتئذ إلى الأيدي العاملة، أو في إطار عصر العولمة الذي يتميز بسهولة الهجرة والانتقال من مكان إلى مكان، أو في سياق بناء المجتمعات الجديدة بصفة عامة في أمريكا الشمالية وأستراليا، ويأخذ التهجين أشكالًا متعددة، منها التهجين اللغوي والعرقي والثقافي والسياسي، ويرى هومي بابا أن التهجين إشكالية من إشكاليات التمثيل الاستعماري وإمكانية التفرد، والتهجين يقلب آثار اللامبالاة الاستعمارية بالآخر رأسًا على عقب، فبسبب التهجين تتسرب مكونات معرفية ينكرها الاستعمار ويتجاهلها إلى خطابه الاستعماري السائد، وتخلخل أسس سطوته وسيطرته وقواعد إدراكه لذاته (بابا 114)، وتُرعب السلطة الاستعمارية (115)، وتهز القول بنقاء الهوية الأصلية للمستعمِر (112)، فالتهجين يُهدد ممارسة السلطة الاستعمارية ليس فقط من خلال الإشارة إلى استحالة نقاء هوية المستعمِرـ ولكن أيضًا من حيث إن التهجين يعبر عن صعوبة التنبؤ باستمرار وجود هوية المستعمِر النقية (114).
أما الهجين، على الطرف الثاني من الصورة، فيرى هومي بابا أنه يحتفظ بقدر من التشابه مع الرمز السلطوي الذي يهدد هذا الهجينوجوده من خلال المقاومة التي يقوم بها الهجين تجاه الرمز السلطوي، إن هذاالهجينصاحب الوجود الجزئي الغريب لديه القدرة على زعزعة استقرار البناء المنظم المحكم للمعرفة الاستعمارية التي تقوم على التصنيف والاستبعاد، مما يجعل "الثقافي" إذا ما نظرنا إليه على أنه أداة من أدوات السلطة يصبح غير واضح المعالم إلى الحد الذي لا يمكننا معه التعرف عليه، فالثقافي، كفضاء استعماري يسمح بالتدخل وإحداث أثر إيجابي، كأثر لتحرك الرمز ليصبح علامة، والثقافي يمكن أن يتحول ويتغير بفضل رغبة التهجين الجزئية وبفضل كون التهجين لا يمكن التنبؤ به، وبالتالي تُحْرَم المعرفة التي تنتظم في إطارها السلطة الثقافية من الوجود الكامل، ويُمكن لها فقط أن تترجم من خلال صيغ المعرفة المحلية، وإلا تواجه هؤلاء الرعايا التي يجب عليها أن تحكمهم ولكنها لا تستطيع أن تمثلهم، وقد يؤدي ذلك، كما في حالة السكان المحليين خارج مدينة دلهي، إلى التساؤل حول ماهية السلطة وقدرتها، وهذا التساؤل لا تستطيع مصادر السلطة، حتى الإنجيل ذاته، أن تجد إجابات له، وهذه العملية لا تعد تفكيكًا لنظام ثقافي يحدث بفعل عوامل من الهامش أو بسبب تناقض داخلي، كما أنها ليست التقليد الذي يطارد الشيء الأصلي الذي يقلده،كما هو الحال عند ديريدا في مفهوم Double session، أو الجلسة المزدوجة، وإن ظهور التهجين، بقدرته العجيبة على التقليد أو المحاكاة يرعب السلطة الاستعمارية بسبب الخديعة التي تجعل من التعرفعليه عملية صعبة، وهذا يعود إلى قدرته على المحاكاة، وعلى السخرية، وإن النظر إلى تهجين الثقافة الاستعمارية يقلق الأساس الذي يمثل قلب الأسطورة الخيالية التي تقول بقوة الاستعمار، هذا الأساس الذي يرى أن الفضاء الذي تشغله هذه الثقافة لا يحده حدٌ، وأن واقعها ووجودها يصادف بزوغ تاريخ الإمبريالية وقصتها الكبرى، وأن خطابها أحادي، وأن رسالتها ومقولاتهاموحدة لا تحمل أية آثار للاختلافات (بابا 115)، كما أن ممارسة السلطة الاستعمارية تستلزم إخراج الاختلافات الثقافية وتجليات الهوية بشكل يمسح الشعوب الخاضعة للاستعمار من الوجود حال ظهور أي قدر لديها من القوة أو أية إشارة منها للقوة (111).
وفي هذا الصدد تبرز الرؤية التي استند عليها الاستعمار والتي مفادها أن العالم ينقسم إلى أجناس يتمتع بعضها بالتفوق الطبيعي على الآخرين، وهذه سمة أساسية من سمات العنصرية الاستعمارية، وفي القرن التاسع عشر تبلورت هذه الرؤية إلى تصور مفاده وجود حدود قاطعة لا يمكن تخطيها أو مناورتها بين الأوروبيين البيض وغيرهم من الأجناس، ثم جاء مصطلح التهجين ليصف السياق الذي نتخطى فيه هذه الحدود القاطعة، هذا التخطي الذي ينتج عنه اختلاط غير شرعي للأجناس، ومن هنا نشأت مصطلحات ذات مدلولات سلبية لتصف حالات الاختلاط هذه، مثل "مولد" و "لقيط"، وفي ذلك حفاظ على نقاء الهوية البيضاء، حيث إن تلك المصطلحات تشير إلى كون نتاج هذا الاختلاط غير نقي عرقيًا ولا ثقافيًا، وإن هذا الذعر الذي يحيط بعملية اختلاط الأجناس قد أدى إلى الربط بين المهجنين وبين انتشار الأمراض وممارسة التحلل الخُلقي، ولكن وجود علاقات جنسية بين أناس ينتمون لأجناس مختلفة، وتحديدًا علاقات جنسية غير شرعية بين البيض والسود يشير إلى رغبة استعمارية مدفونة نحو الآخر العرقي، والتهجين هنا يكون على المستوى الجنسي البيولوجي، ولكنه يحمل أيضًا مكونات ثقافية، فتتكون الهوية المهجنة المعقدة عرقيًا، والتي تعني امتزاج كيانات ثقافية متفردة، كل منها يتمتع بتفرده، لخلق كيان جديد متفرد أيضًا (بولاتاجيسي 75-76)، وعند النظر لهذا الكيان ترى بولاتاجيسي أنه يصعب التفرقة بين العناصر المختلفة التي تدخل في تكوينه (76)، وهذا يقودنا إلى النظر في مفهوم "التهجين الثقافي" على وجه التحديد، ويتمحور التهجين الثقافي حول الجهود في سبيل الحفاظ على نوع من التوازن بين ممارسات وقيم وعادات ثقافتين أو أكثر، ففي التهجين الثقافي، يُكوّن المرء هوية جديدة تعكس إحساسًا مزدوجًا بالوجود، هذا الوجود الذي يقع بداخل حدود الجنسية والعرق والطبقة الاجتماعية والتعدد اللغوي وخارج هذه الحدود في آنٍ واحدٍ، والعديد من المهاجرين مثلًا يواجهون هذه العملية عند محاولتهم احتواء بيئات جديدة وخبرات جديدة، في ذات الوقت الذي يتمسكون فيه بمبادئهم الاجتماعية والثقافية الأصلية (التي تنتمي إلى السياق الأصلي الذي جاءوا منه)، وفي هذا السياق تكون اللغة مصدرًا مهمًا يمكن أن يستخدم في بناء هوية ما أو تبني بيئة ثقافية جديدة، أو فهم خبرات جديدة، أو كل هذه الأمور مجتمعة .
وبالتالي فإن النظر إلى التهجين يكون على مستويين، مستوى المستعمِر الذي لحقت بهويته وبخطابه وبصورته شائبة وجود "الهجين"، ومستوى المستعمَر الذي تخلّص من الاستعمار التقليدي الفعلي، وهاجر إلى الغرب سواء إلى أرض الدولة التي كانت تستعمر موطنه الأصلي أو إلى غيرها، وخاصة إلى مجتمعات العالم الجديد في كندا والولايات المتحدة وأستراليا، وفي هذا الإطار تأتي الدراسات عن أهمية مفهوم التهجين لفهم نماذج من الأدب المعاصر في كندا مثلا، حيث إن عددًا من الكتاب المعاصرين المرموقين في كندا من أصول عرقية مختلفة، جاءوا إلى كندا مهاجرين، وعندما يكتبون أدبهم فإنهم يكتبون قصصهم التي جلبوها معهم من موطنهم الأصلي (جونستون وريتشاردسون 124)، ويؤكد الكاتبان جونستون وريتشاردسون أن مفهوم التهجين كما قدمه هومي بابا يعطي لمعلمي اللغة الإنجليزية في كندا فرصًا أوسع للتحرك في آفاق أكثر رحابة من مجرد تدريس نماذج من الأدب الإنجليزي أو الأمريكي التي تنتمي إلى الجوهر المعترف به لهذا الأدب السائد والغارقة في أطرهالمتمحورة حول الثقافة الأوروبية، كما أن مفهوم التهجين يمكن أن يُنظر إليه كما يرى ميتسوتاني على أساس أنه يتحدى البعد الزمني للخطاب الاستعماري، يتحدى منطق هذا الخطاب الذي يقول بالوجود الدائم أو بالهوية الثابتة غير القابلة للتغيير.
المحاكاة (Mimicry):
يُعرف معجم ميريام ويبستير"المحاكاة" Mimicry بأنها فعل التقليد Mimic، والفعل Mimic يعني: (أ) التقليد الدقيق، (ب) التقليد بهدف السخرية، (ج) المحاكاة، والمثال: "أطباق الخضروات التي تحاكي اللحوم، (د) وفي علم الأحياء يعني التقليد بمعنى أخذ الشكل، والمثال: "الفراشة التي تأخذ شكل (أو تشبه) ورقة الشجر".
ويَعني هومي بابا بالمحاكاة "أن يكون الشيء هو الشيء نفسه الذي يحاكيه ولكن ليس بالضبط" (بابا 86)، ويقول إن مشكلة المحاكاة تكمن في أنهاتقوم على الرؤية المزدوجة التي في كشفها عن مراوحة الخطاب الاستعماري تزعزع سطوة هذا الخطاب (88)، ويشرح هومي بابا المحاكاة بالإشارة إلى لاكان ، فيقول إن لاكان يذكرنا أن المحاكاة مثل التمويه، فهي ليست عملية تناغم وانسجام مع قمع الاختلافات، بل هي نوع من التشابه الذي يختلف عن الوجود ويدافع عنه من خلال عرض جزء من هذا الوجود، عرض الجزء للإشارة للكل، أي الكناية أو المجاز المرسل. والخطر الذي تمثله المحاكاة يكمن في كونها "تُنتِج بشكل استراتيجي هائل مؤثرات هوية خيالية وعنصرية وتحتوي على تناقضات، وذلك في لعبة القوة المراوِغة، حيث إنها لا تُخفي جوهرًا ما، لا تُخفي ذاتًا ما" (90).
المُراوحة (Ambivalence):
هذه الكلمة (Ambivalence) اسم في اللغة الإنجليزية، وتعني (أ) مشاعر وتوجهات متناقضة تحدث في ذات الوقت مثل الانجذاب إلى شيء ما والنفورمنه في ذات الوقت، و(ب) التراوح المستمر بين الشيء ونقيضه، (ج) عدم اليقين بشأن السبيل الذي يجب أن يُتّبع، ولما كانت هذه الكلمة قد وردت في سياقات عدة في كتاب هومي بابا "موقع الثقافة"، ولما كانت هذه الكلمة ترتبط بكل من التهجين والمحاكاة والفضاء الثالث، فمن الضروري تتبع أهم المواضع والسياقات التي جاءت فيها، حيث وردت كلمة (Ambivalence)، المُراوحة، في سياقات عدة، منها سياق الوصف، فالمُراوحة تصف المحاكاة التي هي عملية ينتج عنها "منتجٌ هو ذات الشيء الأصلي تقريبًا ولكن ليس هو بالضبط"(بابا 86)، كما أنها تصف عملية إنتاج المعنى، فيرى هومي بابا بصفة عامة أن إنتاج المعنى لا يتطلب "أنا" و"أنت" فقط، ولكنه يستلزم أيضًا تحرك هذين العنصرين ومرورهما من خلال فضاء ثالث يمثل الظروف العامة للغة والمعاني الضمنية المحددة للكلام في هذه اللغة، وذلك في إطار استراتيجية تمثيلية مؤسسية، وإنتاج المعنى لا يمكن أن يكون واعيًا بهذا الفضاء الثالث ولا بالعلاقة بينه وبين عملية إنتاج المعنى، وهذه العلاقة التي لا يمكن أن نعيها تخلق المُراوحة في المعنى عند القيام بعملية التفسير (36)، وتتأكد هذه المُراوحة عندما ندرك أنه ما من سبيل يجعل مضمون القول يكشف عن الموقع الذي يأتي منه هذا القول، فما من سبيل لقراءة السياق من خلال المضمون كما لو كان المضمون يضاهي السياق (36)، ولما كانت طبيعة الإنسانية قد أصبحت تتسم بالغُربة في السياق الاستعماري، فإن المُراوحة في عملية التعرف على الذات تدعو إلى الدراسة المستفيضة لصورة الذات كما يقدمها فرانز فانون في كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" (42)،"ومن ناحية فإن ما تواجهه في التصوير المنقوص للبرجوازية الاستعمارية، عزيزي القاريء، الذي يشبه المفكرالمتمدين قريب الشبه بسكان المدن الأوروبية من المستعمرين بشكل مريب، ما تواجهه هنا هو المُراوحة في شعورك بالرغبة في الآخر(...) هذه الرغبة في الآخر يُضاعف منها الرغبة كما تتبدى في اللغة التي تشطر الفرق بين الذات والآخر، بحيث يصبح موقف كل من الذات والآخر موقفًا جزئيًا، موقفًا غير قائم بذاته" (50)، واستكمالا لشرح هذه العلاقة بين الذات والآخر يقول هومي بابا "إنه فقط من خلال فهمنا للمُراوحة والعداء الكامنين في الرغبة في الآخر يمكننا أن نتفادى التبني السهل لمفهوم الآخر ككيان متناغمة مكوناته، ونتجه نحو تبني سياسات الهامش والأقليات، تلك السياسات الاحتفالية المُعارضة" (52)، ويرى هومي بابا وجود استراتيجيات المُراوحةضمن مكونات عملية التعرف الذي يحدث تحديدًا في الفجوة البينية، حيث يسقط ظل الآخر على الذات" (60).
كما ترد المُراوحة فيسياق التساؤلات، فيتساءل هومي بابا عن "الصيغ المُهجنة التي يمكن لسياسات القول النظري أن تبزغ من خلالها، عن التوترات والمُراوحة وعدم اليقين المحيطين بهذا الموقع الذي تتحدث منه النظرية" (بابا 22)، ويقول إن "السياسة يمكنها أن تكون مُمثلة، وأن تعبر عن خطابٍ حقًا يهم المجموع العام فقط من خلال المُراوحة في لحظة ميلاد هذه السياسة" (24)، وفي هذا الصدد يلفتهومي بابا الانتباه إلى خصائص الكتابة والبلاغة ويكشف عن المُراوحة الاستطرادية التي تجعل "السياسي" ممكنًا (24)، والنظر إلى موقف الاستعمار الإنجليزي في الهند عندما واجه، وواجهت المسيحية معه، تحديات تمثلت في الهندوسية التي تحدت سطوة كلمة الإنجيل المكتوبة وتحدت معها أيضًا (بابا 33) المفهوم ما بعد التنويري القائل بأن المسيحية دليلٌ في حد ذاتها ودليلٌ على سبقها التاريخي وأهميتها، هذا المفهوم الذي كان مفهومًا مركزيًا في الاستعمار الإنجيلي التبشيري، يشير إلى أنه لم يعد بإمكاننا أن نثق أن الكلمة (الكلمة هنا بمعنى كلمة الله حيث إن كلمة Wordفي النص الإنجليزي تبدأ بحرف استهلالي) تستطيع أن تحمل الحقيقة لو كتبها أو نطق بها المبشرون الأوربيون في المستعمرات، فكان لابد من البحث عن معلمين للديانة المسيحية من أهل المستعمرات أنفسهم، وهؤلاء جاءوا ومعهم مكونات من ثقافتهم بها المُراوحة والتناقضات الخاصة بها، وعادة ما كانوا يأتون بهذه المكونات تحت ضغوط شديدة من أسرهم ومجتمعاتهم (34).
وكذلك يرد ذكر المُراوحة عند النظر في تكوين السلطة الاستعمارية، حيث يرى بابا أن السلطة الاستعمارية تتراوح بين المحاكاة والخطر، فالمحاكاة تشير إلى اختلاف لا يكاد يكون ملحوظًا ولكنه ليس بالضبط اختلافًا، في حين يشير الخطر إلى اختلاف تام ولكنه ليس تامًا بالضبط (بابا 91)، وهذه المُراوحة تقع في أصل السلطة الاستعمارية، حيث توجد في وثائق الاستعمار البريطاني للهند، في كتابات ماكولاي عن وارين هاستينج رئيس شركة الهند الشرقية مثلًا، حيث إنه من الممكن ألا يلاحظ من يكتب عن المستعمرات وهو على بعد آلاف الأميال منها التناقض الذي وقع فيه الاستعمار في هذه البلاد بين ضرورة أن يكون الإنجليز مثل الآباء للسكان الأصليين، في الوقت الذي يجب أن يكونوا فيه أيضًا حكامًا أقوياء (95)، فالذي يهدد سيطرة السلطة الاستعمارية هو هذه المُراوحة في خطابها – بين موقف الأب وموقف الحاكم القمعي، أو بين النظر إلى السكان المحليين بوصفهم محكومين أو بوصفهم مكروهين (97)، "إن المُراوحة عند نقطة الأصل في الخطاب التقليدي عن السلطة تسمح بوجود نوع من مناوءة هذه السلطة وتقويضها والتشكيك فيها، ويقوم هذا على عدم اليقين الذي يُحول الظروف الاستطرادية للسيطرة إلى أسس للتدخل، فمن الحكمة الأكاديمية تقليديًا أن نقول إن وجود السلطة يتم تأسيسه جيدًا من خلال إبعاد الأحكام الشخصية وإقصاء العقول التي تضع نفسها في صراع مع العقل السلطوي، فالاعتراف بالسلطة يتطلب اعتماد صحة مصدرها، ويجب أن يكون هذا الاعتماد فوريًا، وأن يكون قائمًا بشكل عفوي - لديك في مظهرك هذا ما يجعلني أناديك تلقائيًا "سيدي"- وأن يكون له قبول عام، وما يبقى بلا توثيق ولا اعتراف به هو المأزق المتعلق بطلب اعتماد الصحة هذا، وما نتج عن هذا المأزق من مُراوحة في مواقف السلطة" (112)، وهكذا يُقوض هومي بابا نظريًا التسيد الواثق الذي نجده في الخطاب الاستعماري وفي الممارسات الاستعمارية بكل وضوح.
"ومن المهم أن نتذكر أن التركيب الاستعماري لما هو ثقافي، وهذا الثقافي هو الأرض التي تتم عليها المهمة الاستعمارية المتمثلة في تقديم الحضارة للشعوب غير الأوروبية، هذا التركيبتركيبٌ سلطوي يتم من خلال عملية اللامبالاة لدرجة أنه ينبني حول المُراوحة التي نراها في الانشطار، والنكران، والتكرار، وكلها استراتيجيات دفاعية تُسلح الثقافة بوصفها بناء يتقبل كل المكونات، ووبوصفها استراتيجية حرب هدفها الاستمرار في المعاناة، لا الاختفاء الكامل لثقافة موجودة من قبل" (بابا 114)، "ولكن القوة السردية والنفسية التي يأتي بها مفهوم الأمة ليصبغ بها الإنتاج الثقافي والإسقاط السياسي، هذه القوة من أثر المُراوحة التي نراها في مفهوم الأمة كاستراتيجية سردية، فالأمة بوصفها آلية من آليات القوة الرمزية تنتج انزلاقًا في التصنيفات مثل تلك التي تتم حسب الميول الجنسية، أو الانتماءات الطبقية، أوالتمسك الجنوني بالأرض، أو الاختلاف الثقافي، وذلك ضمن فعل كتابة الأمة ذاته، وما نجده أمامنا هنا في ظل تبديل المصطلحات لأماكنها، وفي ظل عملية التكرار، هو الأمة بوصفها مقياسًا لمدى كون الحداثة الثقافية تقف بين بين، أو لمدى بينية الحداثة الثقافية" (140).
"ففي وسط التقدم والحداثة، تكشف لغة المُراوحة عن سياسات لا حدًا زمنيًا لها، كما كتب ألتوزير عن الفضاء بلا مكان والزمن بلا فترة زمنية تحده، وأثار بمقولته هذه الكثير من التساؤلات والتعليقات، فتتطلب كتابة قصة الأمة أن نُعبّر عن المُراوحة المغرقة في القدم التي صبغت زمن الحداثة، ويمكننا أن نبدأ بالتشكك في صورة السير نحو التقدم وفق مفهوم التناغم الاجتماعي الحداثي - الكل في واحد- التي تشترك في الإيمان بها النظريات التي ترى كلا من الثقافة والمجتمع كيانًا يتمتع بوحدة عضوية، والنظريات التي تنظر إلى النوع والطبقة الاجتماعية والعِرق على أنها كليات تُعبر كل منها عن خبرات جمعية متوحدة" (بابا 142)، "فالمقتطفات، والرُقَع، وفتات الخبرات والأحداث التي تقع في الحياة اليومية لابد أن تتحول دائمًا وبشكل متكرر إلى علامات للثقافة القومية، وذلك في حين أن فعل الأداء السردي ذاته يُنتج دائرة متزايدة من مواطني الثقافة القومية، ففي إنتاج الأمة كسرد هناك انشطار بين استمرارية وتراكمية التصور التربوي الزمنية، وبين استراتيجية الأداء التكرارية، ومن خلالعملية الانشطار هذه تصبح المُراوحة المفاهيمية للمجتمع الحديث نقطة كتابة الأمة" (145-146).
ويرى هومي بابا أن بنديكت أندرسون قد فشل في تحديد زمن اغتراب العلامة التعسفية (وجود علاقة تعسفية بين الدال والمدلول في العلامة) في فضاء الجماعة المُتخيَلة الذي وصفه، وهو فضاء قومي عناصره في علاقات طبيعية مع بعضها البعض، ويرى بابا أن أندرسون، بالرغم من استعارته لمفهوم الزمن الفارغ المتناغم لقصة الأمة الحديثة من والتر بنجامين، فإنه يفتقد هذه المُراوحة العظيمة التي تضع بنجامين في العمق من قصة الحداثة، حيث يحدثنا بنجامين عن الفجوة التي يراها في سرد هذه القصة، فإن سياسات الحياة والإرادة تتحدى قصص الشعوب المعاصرة للحظة، تتحدى ثقافات البقاء والمقاومة لديهم، وتبزغ المُراوحة في قصة المجتمع الحديث من هذا الانشطار في القول، تظهر في قول هذا الراوي المتأخر، هذا إلى جانب المضمون الذي يُكَرر بلا رشد ولا مواساة في وسط وفرة (161).
وإن أصل الأجناس يثير عددًا من الأسئلة التي أمدت الحداثة والمجتمعات الحديثة بتاريخ لحاضرها وبتبرير لهيمنتها الثقافية وإحساسها بتميزها في علاقاتها بغيرها من المجتمعات في الشرق، ولكن الخطاب الذي يعبر عن هذه العلاقة ظل مشوبًا بالمُراوحة بين مفهوم المحلية من حيث الثقافة والعرق والرؤى التنموية من جهة، وبين مفهوم التطور الذي يُعبر عن الانتقال الثقافي من مرحلة لأخرى من جهة ثانية، كنوع من التقدم المضطرب، (...)ويظل مفهوم التطور هذا ضمانة للتقدم (بابا 246)، ولكن تظل هذه المُراوحة تُمثل مصدرًا للتوتر في المجتمعات التي دخلتها الحداثة بين الرؤى التقليدية الإثنية وبين الآمال الحداثية العلمانية، ويرى هومي بابا "أن حاضر الحداثة الفعال المنتج للمعنى الذي (يُقدمه)، هذا الحاضر يُمكنه أن يمدنا بفضاء سياسي للإفصاح عن الهويات الثقافية والاجتماعية المهجنة وللتفاوض بشأنها" (250).
الفضاء الثالث والإرث الاستعماري:
يُمثل الفضاء الثالث محصلة المفاهيم الثلاثة سالفة الذكر، والتي ترسخ فكرة ميوعة الثقافة وعدم وضوح حدودها واحتوائها على متناقضات بداخلها واحتياجها الدائم لوجود الآخر ورؤيتها لذاتها فقط في إطار الآخر، حيث إن الذات الأصيلة غير موجودة من الأساس وكذلك الهوية الثقافية والثقافة ذاتها، فالثقافة تقوم على علاقات دائمة ومتجددة بين مكونات ثقافية تنتمي لثقافتين: ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر، مما يؤكد عدم ثبات ماهية الثقافة، وهذا أمر لابد من فحصه بشكل واع لتبيان الدور الذي تقوم به هذه المكونات الثقافية، ولأي جهة تنتمي، ومقدار ثقلها في المنظومة التي يطلق عليها في النهاية "الثقافة"، ولما كان كتاب هومي بابا يُعنى بشكل أكثر تفصيلًا بثقافة المستعمَر، ثقافة البلدان التي تحررت من الاستعمار، وفي تحررها تبحث عن ماهية ثقافية خاصة بها، فنجد من يقوم بمحاكاة ثقافة المستعمِر، ومن يبحث في ازدواجية ثقافته، ومن يُعنى بالتهجين وينظر في أمره، ومن هنا جاء تعريف "الفضاء الثالث" حيث يقول هومي بابا: "إنه هذا الفضاء الثالث الذي لا يمكن تمثيله في حد ذاته، هذا الفضاء الثالث الذي يُمثل أسسًا تفاوضية للقول تضمن أن معاني ثقافة ما أو رموزها لا تتسم بالوحدة والثبات الأزليين، وأن العلامات ذاتها يمكن مقاربتها وترجمتها والنظر إليها في إطار تاريخي مختلف وقراءتها قراءة جديدة" (37). وبالتالي فإن هذا الفضاء يُمثل "مساحة لاستراتيجيات الذات المعقدة التفصيلية، سواء أكانت هذه الذات ذاتًا مفردة أم جمعية، وهذه الاستراتيجيات تخلق علامات جديدة للهوية، ومواطن مبتكرة للتعاون والنقاش، في إطار تعريف فكرة المجتمع ذاتها" (1-2).
ويأتي ذكر الفضاء الثالث في كتاب هومي بابا "موقع الثقافة" في عدد من المواضع نعرض أهمها في محاولة لوضع تصور تفصيلي لهذا المفهوم الذي يُعَد المفهوم الرئيس في هذه الدراسة، فيقول بابا "إن تداخل الفضاء الثالث في عملية القول أو الإفصاح، هذا التداخل الذي يجعل من تركيب المعنى ومن عملية الإشارة عمليات تتسم بالمُراوحة، هذا التداخل يدمر مرآة التمثيل التي عادة ما يُظَن أنها تُظهر المعرفة الثقافية على أنها نسق متكامل ومنفتح وقابل للامتداد، وهذا التداخل يتحدى بشكل كبير إحساسنا بالهوية التاريخية للثقافة على أنها متجانسة وقوة موحدة جامعة يؤكد أصالتها ماضٍ هو أصل وجودها، ويتم الاحتفاظ به حيًا في التراث القومي للشعوب، وبمعنى آخر، إن آنية القول أو الإفصاح التي تعرقل دائمًا تحقق المعنى تخلخل مكانة قصة الأمة الغربية التي يصفها تفصيلًا بنيديكت أندرسون على أنها مكتوبة وفق إطار زمني متجانس ومتسلسل" (بابا 37)، فيرى بابا، إذن، أن مفهوم الفضاء الثالث، بما يتضمنه من مُراوحة، وآنية القول، وفقدان الثقافة القومية وبالتالي فقدان تاريخ تراث الأمة للاتساق، يُقوض اتساق الثقافة القومية واستمرارية تاريخها وتراثها وتسيدها، مما له أكبر الأثر على رؤية الشعوب التي تحررت من الاستعمار لذاتها وثقافتها وهويتها وقدرتها على صناعة المستقبل، هذا في حين يرى بابا أن "القدرة الإنتاجية لهذا الفضاء الثالث لها أهمية كبرى من حيت تأصيل الاستعماري وما بعد الاستعماري، حيث إن قبول النزول إلى هذه الأرض الغريبة - التي (قادنا إليها بابا) – يمكن أن يكشف عن الاعتراف النظري بالفضاء المنشطر الذي تتم فيه عملية القول والذي يُمكن أن يفتح الطريق نحو صياغة ثقافة عالمية، لا تقوم على غرابة التعددية الثقافية وجاذبية مكوناتها، ولا على التنوع الثقافي، ولكنها تقوم على تسجيل تهجين الثقافة والتعبير عن هذا التهجين، ولهذا الغرض يجب أن نتذكر أن السابقة "inter" (في الكلمة الإنجليزية "international" التي ترجمناها في هذا النص إلى "عالمية")، هذه السابقة التي تقع في أبرز مكان في عمليات الترجمة والتفاوض، وهي الفضاء ما بين، هذه السابقة تحمل عبء معنى الثقافة" (38)، وإذا انشعلنا باستكشاف الفضاء الثالث، كما يرى بابا، فإننا "قد نتفادى سياسات التصنيف إلى قطبين اثنين، ويتضح لنا أننا الآخر بالنسبة لأنفسنا" (39).
وفي موضع آخر من كتابه "موقع الثقافة" يوضح هومي بابا "أن مفهوم الفضاء الثالث يُدخل عمليات المُراوحةإلى بنية مفهوم العالمية عند فريدريك جيمسون، فمن ناحية، هناك اعتراف بالفضاءات والعلامات الانتقالية وغير المتسقة مع بعضها البعض، هذه الفضاءات والعلامات المهمة لظهور الموضوع التاريخي الجديد في المرحلة المتأخرة عابرة القوميات من الرأسمالية، ولكن تحديد جيمسون لموقع صورة الحاضر التاريخي في الدال في قصة سردية لا تتمتع مكوناتها بوحدة عضوية، يجعله ينكر آنية الإزاحة، والتي هي حرفيًا وسيلتها في التواصل، فجيمسون يرى أن إمكانية التحقق لما هو تاريخي تتطلب تضمين هذا الزمن الاجتماعي المتهرء" (217)، وإن الزمانية غير المتصلة للثقافات العالمية والمحلية تفتح فضاء ثقافيًا - الفضاء الثالث – يخلق فيه التفاوض بين الاختلافات التي لا يمكن أن تصل إلى نقطة التقاء، يخلق التفاوض هذا توترًا لا نجده إلا في الوجود على الحافة أو على الحدود (218).
ولما كانت النماذج الأدبية التي يدرسها هومي بابا باستفاضة في كتابه لا تنتمي إلى الثقافة السائدة، بل تحتل موقعًا هامشيًا، يتمثل في الأدب المساند للسود في جنوب أفريقيا و الأدب الأفرو- أمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية، ولما كان الموضوع المسيطر على هذه النماذج الأدبية يتمثل في العلاقة بين أبناء الثقافات الهامشية والثقافة السائدة، يتضح أن دراسة "الفضاء الثالث"، هذه المساحة التي تدور فيها كل هذه العمليات تختص بشكل محدد بالكتابات التي تعبر عن الهامش أو تلك التي تأتي من الهامش، فيدرس هومي بابانموذجين من أعمال كل من نادين جورديمر وتوني موريسون بغية توضيح نظريته المتعلقة بماهية الهوية الثقافية، ويرى أنهما "يعبران عن الضرورة المعاصرة لتجاوز ما مضى، لتحويل الحاضر إلى ما بعد،( ...)، لتلمس المستقبل من هذه الوجهة" وذلك من حيث الثقافة (بابا 18)، أما بخصوص العلاقات السياسية والاقتصادية فيرى أنه من المشروع التعبير عن علاقات الاستغلال والسيطرة عند الحديث على مستوى السياسة والاقتصاد، والوقوف على الحدود الفاصلة بين العالم الأول والعالم الثالث، بين الشمال والجنوب" (20)، حيث إن عالم العلاقات الدولية المعاصر شهد سطوة القومية الأنجلو-أمريكية التي تعد قوة إمبريالية جديدة لا تُبدي أي اهتمام باستقلال الأمم والبلدان في العالم الثالث وسيادتها (20)، ويقدم بابا تصورًا مفاده الاعتراف بقوة الكتابة، هذا الخطاب المجازي، هذه المنظومة المنتجة القادرة على تعريف ما هو "اجتماعي" وجعله هدفًا للفعل في حد ذاته (23).
وفي هذا يغفل هومي بابا تأثير الثقافة على الوعي وفهم الفعل السياسي، حيث إن مواطني العالم الثالث، الذي خرج من محنة الاستعمار والذي تعرض للاستغلال الاقتصادي والسياسي في الفترة التي تلت حصوله على الاستقلال، منشغلون بهذا الخطاب المجازي الذي يُدخلهم في حلقة مفرغة لا يرتكز وجودهم فيها على أية منطلقات ثابتة، فيتشتت وعيهم ويصبحون غير قادرين على رؤية العلاقات السياسية الاقتصادية التي يعيشون في إطارها، حيث إن التوجه نحو ترسيخ فكرة خضوع الهوية الثقافية للتفاوض المستمر يخلق حالة من السيولة في رؤية الذات، فتنشغل الشعوب التي تحررت من الاستعمار بفحص عمليات التفاوض هذه وبمحاولات الوصول إلى هذا الفضاء الذي تحدث فيه هذه العمليات، ظنًا أن هذا الطرح يحمي الأمل في تجاوز حالة الاستعمار التي أدت بها إلى الاحتياج لعمليات التفاوض هذه.
ويُروج هومي بابا لمرحلة التجاوز هذه والوصول إلى ال "مابعد" على المستوى الثقافي، مستوى ما بعد قصص البدايات (1)، ما بعد الذات للعودة مرة أخرى بروح المراجعة وإعادة البناء (3)، ولكنه لا يضع تصورًا لهذه المرحلة إلا التفاوض المستمر والحركة الدائمة في داخل المنطقة التي تقع بين الثقافتين، وذلك دون أن يوضح آليات هذا التفاوض وقوانين هذه الحركة، ويجب أن نتذكر أنه لا يُمكن أن تحدث أية أنشطة إنسانية بدون ضوابط معينة تحكمها وتسمح لبني البشر أن يفهموها وأن يضعوها في إطار ذي معنى، أما القول إن هذه المنطقة حرة تمامًا ولا تحمل إرثًا ثقيلا من التاريخ، ولا تخضع لعلاقات القوة قد يكون عاريًا من الصحة وغير منطقي. هذا بالإضافة إلى أن "التجاوز" ذاته يطرح عددًا من الأسئلة التي تستوجب إعادة طرح إشكالية المستعمِر/المستعمَر، خاصة وأن هومي بابايعترف أنه على المستوى السياسي والاقتصادي من حقنا أن نُصور علاقات الاستغلال والسيطرة التي يتضمنها التقسيم الجدلي للعالم إلى العالم الأول والعالم الثالث، إلى الشمال والجنوب، حيث إنه بالرغم من الرؤية "العالمية" التي تروج لها الشركات متعددة الجنسيات وشبكات التواصل التي خلقتها الصناعات التكنولوجية الجديدة، فإن حركة العلامات والسلع تقع فريسة للدائرة الجهنمية لفائض القيمة التي تربط رأس مال العالم الأول بأسواق العمل في العالم الثالث من خلال نمط منتشر عالميًا يرسخ الفصل بين الأيدي العاملة وبين طبقة المستفيدين الموالين للقوى الاستعمارية الخارجية، فلدى جياتري سبيفاك، كما يرى بابا، كل الحق في أن تصل إلى مقولة مفادها أنه من مصلحة رأس المال أن يحافظ على وجود طبقة المستفيدين الموالين له في ظل وجود تشريعات عمالية وبيئية بائسة (بابا 20)، ثم يضيف بابا أنه مقتنع كذلك بأن لغة الدبلوماسية العالمية تتضمن تضخمًا كبيرًا للإحساس بالقومية الأنجلو-أمريكية، والتي بدورها تعبر عن قوة اقتصادية وعسكرية من خلال أفعال سياسية تعكس عدم اهتمام الإمبريالية الجديدة باستقلال شعوب العالم الثالث وسيادتها واستقلال وسيادة أراضيها (20)، وبدلا من أن يُقدم بابا رؤى نظرية تشرح كيفية التعامل مع هذا الظرف التاريخي الذي يعيشه العالم الآن، والذي تسيطر عليه أدوات الاستعمار الجديد، كرس بابا كتابة للتأكيد على سيولة الهوية الثقافية وجعل الرسالة الكبرى التي يخرج بها القاريء أن الهوية كيان مرن يخضع للمفاوضات والتأثيرات والتغيرات، ولا يستطيع التعرف على حدود كينونته، ولا يتمتع بالتسيد والوجود المستقل.
والقول إن الهوية الثقافية في حالة تشكل دائم ومفاوضات دائمة يُضعف من قدرة الشعوب التي تحررت من الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين على مواجهة هذا الظرف التاريخي الذي تُهيمن فيه الإمبريالية الجديدة على مقدرات الأرض، ويثير أسئلة تتمثل في الآتي:
1) كيف يمكن النظر للفترة التاريخية الاستعمارية التي صنعت فيها الدول الأوروبية إمبراطورياتها العابرة للبحار؟
2) كيف يمكن التعامل مع الآثار الاقتصادية والثقافية والاجتماعية واللغوية والنفسية التي تركها الاستعمار، خاصة أن بعض الدول التي تحررت من الاستعمار احتفظت بلغة المستعمِر لغة رسمية لها تحرر بها مستندات الدولة وتستخدمها في التعليم والإعلام؟
3) كيف يمكن للتجاوز أن يتم على المستوى الثقافي في ظل علاقات سياسية واقتصادية غير عادلة؟
وحتى نتمكن من مقاربة هذه الأسئلة ومقاربة تصورات هومي بابا عن الفضاء الثالث والتفاوض وميوعة الهوية الثقافية من الضروري أن ندرس مرحلة الاستعمار لنتبين الجُرم الذي ارتكبه المستعمِر في حق الشعوب التي خضعت للإمبراطوريات الأوروبية، ولننظر إلى الإمبراطورية البريطانية مثلا وسيطرتها على شبه جزيرة الهند ومساحة كبيرة من قارة أفريقيا وضلوعها في حرب الأفيون في الصين.
فيتحدث سير ألفريد كومن ليال عن الاستعمار البريطاني لشبه جزيرة الهند قائلا إن مهمة الحكومة الإنجليزية الاستعمارية في الهند كانت إخضاع الأقاليم المحلية والقبائل ورؤساء القبيلة "لسيطرتنا الحامية" سواء كانوا يرضون بذلك أم لا، وكان التفاهم المشترك بين الطرفين "أننا" سنحميهم من أي عدوان خارجي بشرط ألا يتعاملوا مع أية قوى خارجية إلا إنجلترا، فكنا نحيط أنفسنا بنطاق من الأرض، ضيق أو واسع بحسب الظروف، نطبق عليه التحريم السياسي فيما يخص التعامل مع أية قوى منافسة لنا قد يكون من ورائها خطر علينا، فبالتالي تمتد "سيطرتنا السياسية خلف حدود الأرض التي نملكها بالفعل"، فجوهر الأمر هنا والهدف الأساسي يتمثل في أن حدود السيطرة البريطانية في آسيا، هذا الخط الذي نلتزم بحمايته والدفاع عنه ومنع الغرباء من تجاوزه، لا يتطابق نهائيًا مع السياج الخارجي للمساحة الشاسعة التي تقع تحت "سيطرتنا" الإدارية، وفي هذا المساحة يكون كل الناس مواطنين بريطانيين تصنع لهم "حكومتنا" القوانين، إن هذا الخط لا يشمل فقط هذه المساحة، ولكنه يتمدد ليغطي مساحات كبيرة من الأراضي التي وضعها التاج البريطاني تحت حمايته بأشكال ودرجات مختلفة، طبقًا لظروف وملابسات مختلفة، وهذه الحماية يمكن أن تتضمن الالتزام بالحفاظ على الأمن الداخلي، والتمتع بسيادة غير واضحة المعالم، أويمكن أن تقوم على وعد بالحماية ضد العدوان الخارجي، ولكن مهما كان شكل الحماية في إقليم ما أو في مساحة ما، وحتى لو كانت السيادة البريطانية التي "اخترنا" أن نسبغها على الإقليم أو المساحة باهتة، فإن الهدف دائما التخلص من أي وجود منافس "لنا"، وهذا الحق في السيطرة "وحدنا" على هذه المساحات والأقاليم يلزمنا بواجب الدفاع عنها، إذن فإن هذه الحدود الخارجية للبلاد التي نلتزم بالدفاع عنها هي الجبهة التي يقع عندها هذا الخط.
أما أفريقيا، فقد تعرضت لهجمة استعمارية في نهايات القرن التاسع عشر، وبدأ الأمر في عام 1880 عندما أعلن عدد من الدول الأوروبية عن سيطرتها على مساحات من الأرض في أفريقيا، فأصبحت المنطقة شمال نهر الكونغو تحت الحماية الفرنسية بعد إبرام معاهدة بين ماكوكو ملك ال "Bateke" وبين المكتشف الفرنسي "Pierre Savorgnan de Brazza"، وفي عام 1881 أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية، واحتلت إنجلترا مصر في عام 1882، وفي ذات العام بدأت إيطاليا في احتلال إريتريا، وفي عام 1884 تكونت الصومال البريطانية والصومال الفرنسية، وفي ذات العام احتلت ألمانيا جنوب غرب أفريقيا والكاميرون، وتم خلق شرق أفريقيا الألماني وتكونت توجو، وسيطرت أسبانيا على "Rio de Oro"، وفي 1884-1885 وضع مؤتمر برلين أسس تقسيم أفريقيا بين القوى الاستعمارية الأوروبية، وقرر أن الإبحار في نهري النيجر والكونغو مكفول للجميع، وللحصول على الحق في إعلان الحماية على أرض ما يجب على المستعمر الأوروبي أن يثبت سيطرة فعلية على هذه الأرض، وأن يُكون مجالًا واضحًا لهذه السيطرة، وفي غضون عشرين عامًا كان وجه أفريقيا قد تغير، فقط بقيت ليبيريا (مستعمرة يديرها عبيد أفرو-أمريكيين بعد حصولهم على الحرية) وأثيوبيا بعيدتان عن السيطرة الأوروبية.
أما الصين فقد حصل التجار الإنجليز على مزايا جمة تحكم التجارة في المنطقة طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتطور الأمر إلى الدرجة التي أدت بعدد من التجار الإنجليز إلى الإتجار في الأفيون، بالرغم من أن هذه التجارة ممنوعة في الصين بحكم القانون، ولقد أصبح الأمر فجًا للدرجة التي جعلت المفوض الإمبراطوري الصيني يصدر بيانًا في عام 1839 يطالب فيه التجار الأجانب بتسليم ما لديهم من شحنات الأفيون للسلطات الصينية، ويشرح أنه على مدار عشرات السنوات قام التجار الأجانب بإغراق البلاد بهذا المخدر وحققوا من وراء ذلك ثروات طائلة، ويوضح لهم أن قوانين بلادهم ذاتها لا تبيح الإتجار في المخدرات، فيجب احترام ذلك في بلادهم وفي البلدان الأخرى أيضًا، ويهيب بهم أن يكتفوا بالأرباح التي يحققونها من التجارة في الصين بوجه عام ومن السلع التي يأخذونها من الصين إلى بلادهم، ويؤكد أن الصين لا تمنعهم من الإتجار في أي من السلع، سواء المزروعات أم النسيج أم غير ذلك، فليتخلوا إذن عن الإتجار في الأفيون، وليحافظوا على علاقات جيدة من البلدان التي يتاجرون فيها، حيث إنهم يأتون عبر البحار والمحيطات للتجارة مع شعوب غريبة، ومن المهم أن تكون علاقاتهم بهذه الشعوب جيدة ويسودها السلام والوئام ، ولم يتحقق ذلك، فقد انطلقت حرب الأفيون بعد هذا البيان بين إنجلترا وإمبراطورية Qing في الصين في صورة مناوشات ومعارك عسكرية استمرت من 1839 إلى 1842، وانتهت عند عقد معاهدة Nanking بين إنجلترا والصين، والتي نصت على إلغاء اقتصار التجارة على مقاطعة Canton، وفتح مراكز أخرى للتجارة من بينها شنغهاي، كما أنها ألزمت الحكومة الصينية بدفع تعويضات للتجار نظير الأفيون الذي صادرته.
وهكذا كان الاستعمار يسعى وراء ثروات العالم وفي سبيل الحصول عليها يُخضع شعوب بلاد بأكملها ويكبل إرادتها سواء باستخدام القوة العسكرية أو الاتفاقيات المقيدة لحريات هذه البلاد في حماية تجارتها وثرواتها سواء الطبيعية أم البشرية، وفي هذا الإطار يصبح تصور "تجاوز" الحقبة التاريخية الاستعمارية من الأمور التي يصعب تحقيقها، خاصة وأنه لم يصدر عن أي من القوي الاستعمارية تصرف أو قرار يفيد أنها ندمت على ما فعلت بشعوب الأرض أو أنها تود تعويض الشعوب التي عاشت سنوات من تاريخها تحت نير الاستعمار، فيصبح، إذن، مفهوم الفضاء الثالث مفهومًا ملغزًا، إذ لا يمكن التصور أن عبء تحقيق "التجاوز" يقع على المستعمَر وحده، وأن المستعمَر وحده عليه أن يدخل في متاهات التفاوض الدائم المستمر حول تشكيل الهوية.
الفضاء الثالث والنص الأدبي:
جدير بالذكر أن هومي بابا يشير إلى روايات كل من توني موريسون ونادين جورديمر للتدليل على قوله بأهمية الفضاء الثالث وبضرورة تجاوز ثنائية المستعمِروالمستعمَر، وكل من الكاتبتين تنتمي إلى سياق ثقافي له خصائص مغايرة لسياق الاستعمار التقليدي.
توني موريسون الكاتبة الأفرو- أمريكية الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب في عام 1993، ولدت في لورين بولاية أوهايو في 1931لأسرة تعشق ثقافة السود بكل مكوناتها من قصص وموسيقى وأغان، فكانت هذه سنوات التكوين لتوني موريسون، وحصلت موريسون على الدرجة الجامعية الأولى من جامعة هاورد، ثم حصلت على الماجستير من جامعة كورنيل في 1955، ثم قامت بالتدريس في جامعة جنوب تكساس لمدة عامين، ثم في جامعة هاورد، وعملت محررة لدار نشر راندوم هاوس، ثم بدأت في تدريس الكتابة في جامعة ولاية نيويورك في عام 1984، ومنذ 1989 حتى بلوغها سن التقاعد في 2006 عملت موريسون في جامعة برنستون، وأول رواية لموريسون ظهرت في عام 1970، وحملت عنوان "العين الأكثر زرقة"، ثم تبعتها رواية "سولا" في عام 1973، ثم "أغنية سولومن" في 1977، و"بيبي تار" في 1981، و"المحبوبة" في 1987، و"موسيقى الجاز" في 1992، و"الجنة" في 1998، و"الحب" في 2003، و"الرحمة" في 2008، و"ليساعد الله الطفل" في 2015 ، وفي مجمل إنتاجها الأدبي تُعنى موريسون بتصوير تجربة السود في الولايات الأمريكية، فشخصياتها تناضل من أجل الوصول إلى هوية خاصة بها في وسط إطار ثقافي يكرس تفوق ثقافة البيض ويرسخ امتيازاتهم.
أما نادين جورديمر فقد فازت بجائزة نوبل في الأدب في عام 1991، وهي الكاتبة التي ولدت في جنوب أفريقيا في عام 1923 لأسرة من المهاجرين اليهود، فالأب من لاتفيا والأم من انجلترا، وكانت أسرتها تنتمي للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، فتلقت جورديمر تعليمًا متميزًا وظهرت براعتها في الكتابة، فكانت أول قصة تُنشر لها عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وساعدتها قراءاتها الواسعة على المعرفة بالظروف السياسية في جنوب أفريقيا، ومن بينها حالة التفرقة العنصرية التي أصبحث جورديمر من أكثر المعارضين لها، وتتميز أعمالها ومن بينها المجموعة القصصية بعنوان "وجهًا لوجه" (1949)، ورواياتها "الأيام الكاذبة" (1953)، و"قوم جولاي" (1981)، و"قصة ولدي" (1990) بالتعبير عن الآثار المدمرة للتفرقة العنصرية على حياة المجتمع في جنوب أفريقيا، وتصوير النضال من أجل المساواة.
ويدرس هومي بابا رواية "المحبوبة" لتوني موريسون ورواية "قصة ولدي" لنادين جورديمر، في رواية "المحبوبة" (1987) لتوني موريسون يصحب الندم الأم، سيث، التي انتزعت حياة ابنتها في أثناء الهرب من مزرعة العبيد التي كانت تعيش فيها، فقد اختبأت سيث مع أبنائها في كوخ أثناء مطاردة سيدها لها، وعقدت العزم على انتزاع حياة أبنائها حتى لا تعود بهم إلى حياة العبيد اعتقادًا منها أنهم سيكونون بعد الموت في مكان أفضل، ونفذت الخطة في ابنتها الكبرى فقط، ثم نجت بالباقين واستكملت رحلة الهروب، ودفعت بالسر إلى الكتمان، ولكن ظل شيء ما يخيم على منزلها في سينسيناتي، فابنتها الصغرى دينفر لا تغادر المنزل، وولداها هربا من العائلة، ووالدة زوجها توفيت، وعندما يزور بول دي، أحد العبيد الذين رحلوا أيضًا عن المزرعة، المنزل ينجح في طرد الروح المسيطرة على المنزل وتبدأ حياة الابنة دينفر، ثم ما لبثت أن ظهرت على باب المنزل فتاة تدعى محبوبة، وتشعر سيث بتعاطف معها وترى أنها ربما تكون ابنتها التي قتلتها منذ سنوات، خاصة وأن ما كتب على قبر ابنتها كان كلمة واحدة، هي "المحبوبة"، فتستضيف سيث محبوبة وتنفق عليها ببذخ وتسيطر محبوبة على الجو النفسي في المنزل إلى أن تنجح دينفر في الاستعانة بمجتمع السود في المدينة، وتصل إلى المنزل مجموعة من السيدات لتطهير محبوبة، وفي ذات الوقت يخطو إلى المشهد رجل أبيض، كان قد ساعد والدة زوج سيث منذ فترة وأهداها المنزل الذي يعيشون فيه، أتى هذا الرجل بناءً على طلب دينفر المساعدة في الحصول على وظيفة، ولكنه يلقى حتفه على يد سيث التي هاجمته ولم تكن تعلم بما كانت تخطط له ابنتها، وهنا تختفي محبوبة، وتنتهي الرواية بالجمع بين سيث وبول دي الذي يعبر عن حبه لسيث ورغبته في الاستمرار في الحياة معها، بينما تصبح دينفر من أعضاء المجتمع العاملين الناشطين، ويرى هومي بابا أن النقد النسائي في التسعينات من القرن العشرين يجد متنفسًا في الموقف المؤلم أخلاقيًا الذي تجد فيه امرأة من العبيد وهي تنتزع حياة ابنتها في رحلة الهروب من مزرعة العبيد، تماما كما يجد متنفسًا في قصص التحرر (بابا 6)، أما المنزل فيحمل قدرًا كبيرًا من الثقل المجازي، ويذكر هومي بابا أن المنزل يحمل "الذاكرة العرقية" (13) شأنه في ذلك شأن المنازل في رواية نادين جورديمر "قصة ولدي" (1990).
ويقول هومي بابا في شأن الأهمية الرمزية للمنازل في رواية نادين جورديمر "إن كل منزل في رواية جورديمر به سر يسكنه أو مؤامرة، به حركة غير مطمئنة"(13)، فهناك المنزل الذي يقع في الحي المنعزل، وهذا المنزل الذي يحوي التوجه العدائي الذي يشعر به الملونون نحو البيض، وهذا المنزل يرتبط بالكذب وبخيانة سوني الذي على علاقة بإمرأة بيضاء مؤيدة لحقوق السود والملونين في جنوب أفريقيا، وهناك منزل زوجة سوني، إليا، الذي يستخدم للتغطية على الأنشطة الثورية، وهناك المنزل الليلي، منزل ويل، ابن سوني، وهو الراوي في هذه الرواية، وفي روايته يصف ويل ميلاد العنقاء في منزله، في حين يجب أن تتحول الكلمات في فمه إلى رماد، والعلاقات في رواية "قصة ولدي" معقدة، فكل طرف يُخفي عن الآخرين علاقته بالحركة الثورية، وويل يخفي عن والدته ما اكتشفه عن علاقة والده بالسيدة البيضاء، هانا، والابنة، بيبي، تخفي عن الجميع علاقتها بالثوار وإنجابها طفلا في زامبيا، حيث تسافر إليها إليا بين الحين والآخر، ثم تختفي هانا من المشهد بعد نقلها إلى وظيفة في مدينة أخرى، ثم تختفي إليا، ويبقى سوني وولده في المنزل وحدهما.
وفي هذا يقول هومي بابا إن الروايتين تصفان السياق التاريخي لعبودية السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وللنضال ضد التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، ولكنهما أيضًا تعبران عن "الضرورة المعاصرة للمضي قدمًا، لتحويل الحاضر إلى ‘ما بعد‘" (18)، ولكن "التجاوز" الذي يراه بابا في الروايتين يقع عبء تحقيقه على أصحاب الثقافات المهمشة، فالروايتان تأتيان من الهامش، ولا تمثلان ثقافة البيض السائدة، وهذا يثير تساؤلات حول مدى مشئولية الثقافة البيضاء السائدة عن تحقيق "التجاوز"، ويضع أدب الهامش في مأزق حيث يضطر إلى التعامل مع مقولة هومي بابا الشهيرة التي ترى أن الثقافات لا تتمتع بالوحدة الذاتية أبدًا (36)، حيث "إننا عندما نفهم أن المقولات الثقافية كلها والأنساق الثقافية تتكون في هذا الفضاء الذي يخضع للتناقض والازدواجية، هذا الفضاء الذي يحدث فيه ميلاد القول، ندرك أن التصور أن الثقافات أصيلة نقية لا يمكن الوصول إليه، وذلك حتى قبل أن نعرض إلى اللحظات والأمثلة التاريخية التي تثبت تهجين الثقافات،...، وذلك حيت إن الفضاء الثالث، هذا الي لا يمكن تمثيله أو التعبير عنه، هو الذي يوفر الظروف الجدلية التي يحدث فيها القول، والتي تؤكد أن معنى الثقافة ورموزها لا وجودًا قبليًا لها، ولا تتمتع بالوحدة ولا الثبات" (37).ويزيد هومي بابا القصيدة بيتًا بقوله "إن الولوج إلى صورة الهوية يكون فقط ممكنًا في حالة نفي أي معنى للأصالة عن هذه الصورة أو أي تصور للاكتمال، حيث إن عملية الإحلال والاختلاف (الغياب/الحضور، والتمثيل/التكرار) تجعل من الهوية واقعًا انتقاليًا" (51)."إن مفهوم الثقافات القومية متناغمة المكونات، والتوارث واضح الحدود والمتفق عليه للتقاليد التاريخية، والجماعات العرقية العضوية – وتعتبر أسسًا للمقارنات الثقافية – في حالة عملية هائلة لإعادة التعريف" (5)، فالروايتان، إذن، وفق رؤية هومي بابا لا تقومان بدورهما في ترسيخ وتعزيز الثقافة التي تنبع منها كل منهما، وهذا يختلف عن رؤية النصوص التي تأتي من قلب الثقافة البيضاء السائدة، حيث تنتهي رواية "ممر إلى الهند"(1924) للكاتب الإنجليزي إي إم فورستير ((E.M. Forster A Passage to India بالتأكيد على أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يجتمعا، بالرغم من المحاولات التي بذلها عزيز من أجل تبني الثقافة الإنجليزية من حيث اللغة وقواعد الملبس والتصرف،ولا يفوتنا في هذا المجال ذكر رواية جوزيف كونراد "في قلب الظلام" (1899)(Heart of Darkness) التي تصف سطوة الأوروبيين في أفريقيا وتصور التاجر الأوروبي الذي عاش وسط الأفارقة وصادق إمرأة أفريقية وهو يفارق الحياة في حالة من الهذيان وهو يصرخ "الرعب".."الرعب".
وهكذا يقع عبء التحرك نحو الآخر وتمثل مكونات ثقافته والترحيب بمؤثراته على أبناء الثقافات المهمشة، أبناء أية ثقافات غير ثقافة الإنسان الأبيض مؤسس الحضارة الغربية ومنشيء الامبراطوريات الاستعمارية، ومؤسس العالم الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى التي بزغت بعد انهيار الامبراطوريات الاستعمارية عقب الحرب العالمية الثانية، ويصبح القول بميوعة الثقافة وبخضوع الهوية للتفاوض المستمر في فضاء ثالث ليس له تعريف واضح وليس هناك توصيف للآليات التي تحكم عمليات التفاوض التي تحدث بداخله أمرًا يستلزم النظر بعين ناقدة.
المراجع العربية:
ثائر ديب، المترجم، "موقع الثقافة"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004.
المراجع الأجنبية:
Bhabha, Homi, (1994) The Location of Culture, Routledge, London & New York.
Bolatagici, T. (2004) "Claiming the (N)either/(N)or of Third Space : (re)presenting hybrid identity and the embodiment of mixed race", Journal of Intercultural Studies, Vol. 25, No. 1, pp. 75-85.
Chinese ProclamationOrdering Foreigners to Deliver Up Their Opium (1839).
Conrad, J. (2007) Heart of Darkness, Coyote Canyon Press, USA.
Fanon, F. (2004) The Wretched of the Earth, Translated by Richard Philcox, Grove Press, New York.
--- (2008) Black Skin White Masks, Translated by Charles Lam Markmann, Pluto Press, London.
Forster, E. M. (2020) A Passage to India, Wisehouse Classics, Sweden.
Gordimer, N. (2003), My Son’s Story, Bloomsbury, London.
Johnston. I. & Richardson, G. (2012) "Homi Bhabha and Canadian Curriculum Studies: Beyond the Comforts of the Dialectic", Journal of the Canadian Association for Curriculum Studies, Vol. 10, Vo. 1, pp. 115-137.
Lyall, A. C. (1911) The Rise and Expansion of the British Dominion in India, 5th ed, John Murray, London, pp. 331–37& 351–56.
Merriam Webster, https://www.merriam-webster.com.
Mizutani, S. (2009) “Hybridity and History: A Critical Reflection on Homi Bhabha’s Post-Historical Thought”, Institute for Research in Humanities, Koyoto University, no page numbers.
Morrison, T. (2007) Beloved, Vintage Classics, London.
Nkrumah, K. (1965) Neo-Colonialism: The Last Stage of Imperialism, International Publishers, New York.
Sardar, Z. (2008) “Forward to the 2008 Edition”, Frantz Fanon, Black Skin White Masks, Translated by Charles Lam Markmann, Pluto Press, London, pp. VI-XX.



#نجلاء_أبوعجاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نجلاء أبوعجاج - الفضاء الثالث والإرث الاستعماري