أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - علي هيبي - لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ (1)















المزيد.....


لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ (1)


علي هيبي

الحوار المتمدن-العدد: 6833 - 2021 / 3 / 6 - 10:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    




قبل كلّ شيء:

عندما تكتب عن شخصيّة سياسيّة بعظمة المنظّر الماركسيّ والمناضل الثّوريّ "لينين" قائد ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى، وعن مكانته الفكريّة ودوره السّياسيّ ومسيرته الثّوريّة والكفاحيّة، تنفتح أمامك ميادين رحيبة من النّشاطات وارفة الآثار والمضامين والأبعاد، فمن الميدان النّظريّ الفلسفيّ والفكريّ إلى الميدان العمليّ الثّوري والكفاحيّ. ستأخذك الكتابة عنه إلى اتّجاهات كثيرة وعديدة بعدد تلك الميادين الرّحيبة التي خاض في مجالاتها هذا المفكّر الكبير، بعدد أبعاد شخصيّته العابرة لكلّ حدود الزّمن والتّاريخ والمكان والجغرافية والطّبيعة والمجتمعات الإنسانيّة والعقل البشريّ. ستأخذك إلى الفكر الماركسيّ وصاحبيْه: "كارل ماركس" (1818 – 1870) وصديقه "فريدريك إنجلز"(1820 – 1895) والبيان الشّيوعيّ الّذي صدر من تأليفهما سنة (1848) وقد ترجمه "لينين" إلى الرّوسيّة سنة (1889) ستأخذك الكتابة إلى ميدان الثّورة البلشفيّة، ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العظمى وإرهاصاتها وانتصارها سنة (1917) في روسيا، وستأخذك إلى ما سبقها من أوضاع وأحداث وثورات، أبرزها ثورة سنة (1905) وفشلها في إسقاط النّظام القيصريّ وحكم القياصرة ونظام الإقطاع وإسقاطاتها على الثّورة الكبرى، وستأخذك إلى تاريخ الإمبراطوريّة الرّوسيّة وحكم سلالة "رومانوف" لثلاثة قرون (1612 – 1913) ستأخذك إلى الحرب العالميّة الأولى الّتي اندلعت سنة (1914) أي قبل انتصار ثورة أكتوبر، والّتي انتهت سنة (1919) أي بعد انتصارها، وما طرأ إثر انتصارها من تغيّرات في الحسابات السّياسيّة والموازين الدّوليّة والأخطار المحدقة بالجانبيْن الدّوليّيْن: الجانب الاستعماري الرّأسماليّ الّذي يسعى لتخليد الوضع الدّوليّ الرّاهن من أجل ضمان مصالحه، والجانب الشّيوعيّ الاشتراكيّ الّذي يسعى للثّورة على الوضع القائم ومن أجل تغييره للمصالح الحقيقيّة للطّبقة العاملة والشّعوب المقهورة والفقيرة، ستأخذك الكتابة عن "لينين" إلى تغيّر أسس الدّولة والمجتمع الدّوليّ، بعد وجود الاستعمار الّذي سيستولي على الشّعوب والأقطار الفقيرة ونهب ثرواتها واستعبادها لمصالحه وأطماعه بعد التّقسيم الاستعماريّ في معاهدة "سايكس بيكو" سنة (1916) لتركة الاستعمار العثمانيّ في الشّرق العربيّ الأدنى والشّرق الأوروبيّ - ذلك الرّجل المريض الّذي مرض في آخر سنواته مرضًا لم يمهله طويلًا فمات - وتركات استعمارات أخرى في الشّرق الآسيويّ الأقصى والجنوب الأفريقيّ والجنوب الأميركيّ اللّاتينيّ، هذه المعاهدة بين فرنسا وبريطانيا وغيرها من الدّول الاستعماريّة الّتي كشف مخاطرها "لينين" على الشّعوب في الشّرق وبيّن أطماعها وفضح أطرافها، وبالمقابل وجود قوّة عالميّة صاعدة هي الاتّحاد السّوفييتيّ والعالم الاشتراكيّ، الّتي ستساعد تلك الشّعوب والأقطار على التّحرّر من ذلك الاستعباد والاستعماريّ لنيل حرّيّاتها واستقلالها وكرامتها وإرساء قيم من العدالة والمساواة.



بعد لينين:

بعد "لينين" قائد الثّورة أيّ رياح هبّت على هذا العالم لم تترك شيئًا في مكانه، تفاقم الصّراع التّاريخيّ السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، تخلخلت القيم والمفاهيم القديمة، وقامت قيم ومفاهيم ومصطلحات جديدة، تزعزعت الدّول واضمحلّت الإمبراطوريّات ولاح في الأفق شيء من الحقّ والحرّيّة والعدالة، وزهق كثير من الباطل والظّلم والاضطهاد والاستعباد. دول تذهب عن مسرح الأحداث والتّاريخ بملامحها القديمة الكالحة ودول تولد وتنمو مع الأحداث بملامح جديدة ومشرقة. بعد "لينين" لم تعد الأشياء كما كانت قبله، صارت النّظريّة الماركسيّة الّتي كانت تعيش وتجول في الفكر الإنسانيّ حقيقة ملموسة ومادّيّة جدليّة تتطبّق في الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ والمجتمع الإنسانيّ، لم تعد المصالح المتبادلة بين الطّبقات الاجتماعيّة هي الّتي تتحكّم بالعلاقات السّياسيّة والاقتصاديّة كما تعتقد البرجوازيّة، بل صار الصّراع الطّبقيّ حتميّ الانتصار لصالح طبقة البروليتاريا هو الفيصل بينها كما ترى الشّيوعيّة، صارت الرّأسماليّة الّتي تقتل الشّعوب بالقهر والإذلال والاستعباد والاضطهاد والاستغلال وتنهب ثرواتها وتعبث بمقدّراتها تحفر قبرها بيدها، وأصبح من كان عاملًا مستغَلًّا ومسلوب الإرادة حدًّا هامًّا في معادلة الصّراع الّذي تعدّى حصره في حدود جغرافيّة وتجاوز وجوده في ضيق الصّراعات القوميّة، بل هو صراع أمميّ أكثر حدّة وأقوى تأثيرًا على تركيبة بُنى المجتمع الطّبقي، إنّه الصّراع الطبقيّ بين المستغَلّين الأكثريّة السّاحقة من مسحوقي العمّال والفلّاحين الّذين لا يملكون إلّا قوّة أذرعتهم وبين المستغِلّين الأقليّة الانتهازيّة المالكة والمهيمنة على سلطات الحكم والأمن وأجهزة الدّولة والجيش والاقتصاد وإدارة المؤسّسات وامتلاك وسائل الإنتاج. بعد "لينين" صار الاحتمال الحالم حقيقة ملموسة وغدت الإمكانيّة المرجوّة واقعًا معيشًا. صار للاشتراكيّة الشّيوعيّة دولة قادرة على الصّمود أمام القوى الرّأسماليّة العالميّة وقادرة على إمداد الشّعوب الفقيرة بالفكر الثّوريّ وبالسّلاح للقتال من أجل الحرّيّة والاستقلال والكرامة في كثير من بقاع العالم وقادرة على التّصدّي للوحش النّازيّ ودحره بالعزيمة الثّوريّة وردّ كيده إلى نحره في "برلين" وفرض مفاهيم جديدة وموازين مختلفة.

بعد "لينين" صارت الدّولة السّوفييتيّة الجديدة تملك العلم وتغزو الفضاء بأوّل رائد في العالم يقوم برحلة إلى الفضاء الخارجيّ لمدّة 12 يومًا سنة (1961) "يوري غاغارين" (1934 – 1968) وتصنع الصّناعات الثّقيلة وتربك الاستعمار الجديد وتواجهه فيحسب لها الحساب. لقد دوّت صرخة "لينين" وما زالت تدوّي في أرجاء العالم حيث وجد الظّلم والاستعمار واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان واستغلال أرباب العمل وملّاك الأرض للعمّال والفلّاحين، "يا عمّال العالم ويا أيّتها الشّعوب الفقيرة والمقهورة اتّحدوا"!

كيف سأكتب عن كلّ ذلك؟ سأسير على منهج التّبئير الّذي عرّبه أو ترجمه إلى العربيّة البروفيسور "إبراهيم طه" واستخدمها كأحد المقاييس في تحليلاته النّقديّة للأعمال الأدبيّة، بمعنى سأكتب جاعلًا شخصيّة "لينين" بؤرة لكلّ تلك الجوانب الفكريّة والنّظريّة والعمليّة وأبعادها السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة في ميادين الثّورة والكفاح، كي نشدّ الخيوط كلّها إلى بؤرة محوريّة في النّسيج الواحد.



البدايات:

انضممت إلى صفوف الحزب الشّيوعيّ في آب سنة (1986) بعد عودتي من أوّل رحلة لي إلى خارج الوطن، إلى رومانيا وهنغاريا الجمهوريّتيْن الاشتراكيّتين آنذاك في شهر تمّوز، لم تكن الزّيارة والتّعرّف على معالم الدّولتيْن السّياحيّة هي المحفّز لانضمامي التّنظيميّ ذاك، وفي رومانيا بالذّات نظام حكم شيوعيّ لا يشجّعك على ذلك، نظام لا يضطهد النّاس يوميًّا بل يصل لحظيًّا بالظّلم والدّكتاتوريّة حدّ كم الأفواه من الخارج وملاحقة الأفكار في الدّاخل، "وويل للمارق"، نظام يقوم على دكتاتور باذخ وَ "السّيكوريتاتي" وهي قوى الأمن الدّاخليّ تعيث فسادًا وقمعًا بالشّعب، وعلى بؤس يحيق من كلّ جانب، يحرمه من اللّقمة الكريمة فيلجأ إلى التّسوّل وقبول الرّشى من الخارج والسّرقة من الدّولة في الدّاخل، وكلّ ما في حياته سلاسل غليظة من الممنوعات السّياسيّة والاجتماعيّة والحرمان من منتوجات ينتجها العامل الرّوماني بنفسه، ورومانيا دولة غنيّة بالموارد، غنيّة بالماء والكهرباء والمزروعات المختلفة ذات الجودة العالية للسّوق الخارجيّة فتدرّ عليها الأموال والعملات الأجنبيّة، ولكن على جيوب رجال النّظام من رأسه حتّى قدمه، ويحرم الفلّاح الزّارع والحاصد لتلك الخيرات منها، فللسّوق الدّاخليّ بضاعة داخليّة هزيلة وشبه فاسدة.

لماذا يحرم نظام اشتراكيّ شعبه من التّغذية الجيّدة والحرّيّة والدّيمقراطيّة والعيش الكريم؟ ولماذا يشكو بسطاء هذا الشّعب من الجوع والبؤس والقهر وقمع الحرّيّات، لا أعرف! ولكنّي قد أخمّن أنّ هذا النّظام ليس نظامًا تحكمه دكتاتوريّة البروليتاريا بل نظامًا يحكمه دكتاتور واحد أوحد وله عصابة، كلّ حكمه وموبقاته تقوم على ظلم البروليتاريا وحرمانها من أسس الحياة الكريمة وأسس الفكر الإنسانيّ الحرّ، باختصار يحرمه من الحرّيّة والتّعبير والتّفكير ومن العيش بكرامة. لماذا انتسبت إذن؟! لأنّ واقعًا في حياة شعبي الفلسطينيّ يرين في وجودي ووجداني! لقد سرقوا فلسطين منه فسرقوا روحه وجسده وأرضه ومدنه وقراه وسلبوا منه خيراته وثرواته ولغته، صرت في وطني "غريب الوجه واليد واللّسان" كما قال جدّي العريق الشّاعر "المتنبي"، وما زالت إسرائيل بحكوماتها المتعاقبة - وهي صديقة لِ "نيقولاي شاوشيسكو" (1918 – 1989) قائد النّظام "الاشتراكيّ" في رومانيا - ما زالت تحتلّ وتستوطن وتقمع وتهدم وتصادر، وكان لا بدّ أن أتصدّى لذلك، وكان لا بدّ من الانتساب لتنظيم ما، لا بدّ من خليّة حزبيّة كما قال "لينين" من أجل تحقيق الأهداف القوميّة واليوميّة، ولم أجد أفضل آنئذٍ من الحزب الشّيوعيّ كحزب مناضل من أجل حقوق شعبي الوطنيّة، وأبرزها الاستقلال والحرّيّة وحقّ العودة والدّولة، ومن أجل حقوق مجتمعي العربيّ هنا في بلادي في المساواة، وهو الحزب الّذي وقف ضدّ كلّ السّياسات والموبقات الإسرائيليّة من سلب للأرض ومصادرة وهدم للبيوت وحرمان من التّعليم والعمل وملاحقة الوطنيّين والشّيوعيّين. وهذا بعض ما تعلّمته في مدرسة الحزب النّضاليّة، ومن خلال النّشاط الميداني. كان "لينين" مفكّرًا ماركسيًّا وقائدًا شيوعيًّا ومناضلًا أمميًّا وثوريًّا يشكّل نموذجًا لحركات التّحرّر الثّوريّة في العالم وعند كلّ الثّوّار، ولذلك انضممت وانضويت تحت لواء الحزب الشّيوعيّ الماركسيّ اللّينينيّ الأمميّ، وهناك تعلّمت وتثقّفت وانصقلت شخصيّتي من خلال القراءة والثّقافة والفكر الاشتراكيّ والكفاح الميدانيّ.



//لينين من أين وإلى أين:

ولد "فلاديمير إيليتش أوليانوف" الّذي اشتهر باسْم "لينين" فيما بعد في 22 نيسان سنة (1870) في مدينة "سيمبيرسك" الّتي تحوّل اسمها إلى "أوليانوفيسك" تكريمًا له ولأسرته. كان النّظام القيصريّ يهيمن ويجثم على مقدّرات الشّعب الرّوسيّ في مساحة جغرافيّة مترامية الأطراف. لكلّ عظيم من العظماء بدايات قد تكون عاديّة أحيانًا، ولكنّ الظّروف الّتي نشأ فيها "لينين" كانت تتميّز ببعض الأحداث الّتي جعلت منه ثائرًا منذ بدايات نشأته. يقال أنّ أباه "إيليّا نيكولايفيتش أوليانوف" كان ابن أحد العبيد في قرية "أندروسوفو"، ولكنّه أصبح فيما بعد مدرّسًا وسرعان ما ارتقى إلى وظيفة مفتّش المدارس العامّة في المدينة. أمّا أمّه فهي "ماريا ألكسندروفنا أولينافا"، يعود انتماؤها إلى جذور سويديّة وألمانيّة، وكانت هي الأخرى تعمل في التّربية والتّعليم وتوفّيت سنة (1916) فالأسرة عمومًا كانت متوسطة الحال، متماسكة ومحبّة للعلم، وكون الأبويْن عامليْن في التّربية والتّعليم فقد شجّعا الأبناء على حبّ العلم والمعرفة واهتمّا بأبنائهما، وخاصّة بالابن الثّالث "لينين" فمنذ الخامسة من عمره أحضر له أبواه مدرّسًا يعلّمه في البيت، وظلّ على تلك الحال حتّى سنّ التّاسعة، إذ أُدخل المدرسة مُبديًا ذكاء واجتهادًا نال إعجاب الجميع، ومن ثمّ التحق بالمدرسة الثّانويّة وأنهى تعليمه فيها بامتياز وتفوّق، وذلك يعود لميله الجارف إلى القراءة، وقد أتقن اللّغتيْن: الإغريقيّة واللّاتينيّة وهو في السّادسة عشرة من عمره.

لم تكتمل أجواء العيش الرّغيد في حياة الأسرة، فقد أحيل أبوه إلى المعاش المبكّر بغير رغبته، لأنّ أحد المسؤولين في المدينة كان رجعيًّا ويرى بالمدارس والعلم تأثيرًا سلبيًّا على المجتمع الرّوسيّ المحافظ والمتخلّف، فتحوّلت الأجواء إلى الحزن، وتوفّي أبوه بعد نزيف حادّ سنة (1886) فحزن عليه كثيرًا، وكان له خمسة أخوة، لهم جميعًا وبشكل متفاوت نشاطات سياسيّة واجتماعيّة، لكنّ أشهرهم وأبرزهم وأكثرهم تأثيرًا عليه كان شقيقه الأكبر "ألكسندر". وكان الحدث الأبرز والأشدّ تأثيرًا على شخصيّة الشّابّ اليافع "لينين" والأقوى إيلامًا في أعماق وجدانه، وهو في مقتبل شبابه وبداية شقّ دربه نحو العلم والحياة بعد حادثة موت الأب هو إعدام أخيه "ألكسندر" الّذي كان يكبره بعاميْن وهو في سنّ الحادية والعشرين سنة (1887) أعدم شنقًا بعد سنة واحدة من موت أبيه، فكان لهذه الحادثة أشدّ الوقع على نفسه الّتي كانت تميل إلى الثّورة بحكم نشأتها الأولى، لقد وجّهت إلى أخيه وكان طالبًا في جامعة "سان بطرسبورغ" يميل إلى الفكر الماركسيّ تهمة التّآمر على القيصر "ألكسندر الثّالث" (1845 – 1894) والمشاركة في محاولة اغتياله واختير هو لتنفيذها ولكن ألقي القبض عليه قبل زرع القنبلة وحوكم بالإعدام، وقد تأثّر "لينين" ممّا قاله أخوه أثناء محاكمته، ورغم أنّه اعترف بالتّهمة المنسوبة إليه فقد أبدى شجاعة نادرة حين قال: "أردت قتل القيصر لأنّها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرّيّة السّياسيّة للشّعب الرّوسيّ". كان لإعدام أخيه دور كبير في تغيير أفكاره الكفاحيّة، إذ فشل بنظره الرّهان على الممارسة الفرديّة النّضاليّة رغم ما فيها من شجاعة، وصار يؤمن بالعمل الجماهيريّ الجماعيّ الكفاحيّ لتحقيق الأهداف العظيمة، لقد آمن بأنّ "صوت رجل بمفرده لا يبلغ مسامع الشّعب كلّه بل يضيع ويختنق في أقبية البوليس". جعلت هاتان الحادثتان "لينين" المعيل الأساسيّ للأسرة، وقام بذلك على أتمّ وجه وظلّت الأسرة متماسكة حتّى النّهاية. وباعتقادي كانت هذه الحادثة وأثرها على نفسه وفكره الشّرارةَ الأولى في تكوّن لهيب الفكر الثّوريّ السّياسيّ والاجتماعيّ في وجدانه وعقله. ولقد تزوّج "لينين" من "ناديا أليزافيتا فاسيليفنا" سنة (1898) ولكنّهما لم ينجبا، وقد تعرّف عليها من خلال النّشاط السّياسيّ والنّضاليّ.

قُبل "لينين" في هذه الأثناء للتّعلّم في جامعة مدينة "قازان"، ولكن سرعان ما فصل من التّعليم فيها بسبب مشاركته في المظاهرات، فقد تزعّم مجموعة للاحتجاج على انعدام الحرّيّة في الجامعة، وطرد على إثرها ولم تفده الطّلبات المتكرّرة للعودة إلى متابعة التّعليم فيها، ومن ثمّ أبعد عن المدينة، لكنّ أمّه استطاعت ومن خلال علاقاتها من أعادته إلى "قازان"، ولكن ليس لمتابعة التّعليم بل لمحاولة إبعاده عن النّشاط السّياسيّ، فاشترت له مزرعة في قرية بعيدة، ولكن هيهات لمن عشّشت السّياسة والإحساس بالظّلم والاضطهاد في وجدانه، لم تجذب الزّراعة "لينين" فاضطرّت أمّه لبيع الأرض. في هذه الآونة سنة (1893) انتقل إلى العاصمة "سان بطرسبورغ" وبدأ تعلّمه الجامعيّ فيها وانضمّ إلى إحدى الجمعيّات الماركسيّة وسرعان ما ترأّس هذه الجمعيّة. في هذه الفترة تعرّف "لينين" على "رأس المال" كتاب الفيلسوف "كارل ماركس" الّذي صدر سنة (1867) وانضمّ للدّائرة الثّوريّة "نيكولاي فيدوسيف"، ومن هناك بدأ اهتمامه بالفكر الماركسيّ الّذي يقول كما وصفه باختصار: "إنّ المجتمع الإنسانيّ يتطوّر على مراحل، وهو ناتج عن الصّراع الطّبقيّ، ونتيجة لهذا الصّراع الدّائم سيفسح المجتمع الرّأسماليّ في نهاية المطاف المجال للمجتمع الاشتراكيّ ومن ثمّ للمجتمع الشّيوعيّ".



الأدب أيضًا شكّل شخصيّة لينين:

عندما كتبت عن بيئته الأسريّة أشرت إلى أنّه عاش بين أسرة على درجة عالية من الثّقافة والاهتمام بالمعرفة وحبّ القراءة، وكان الاهتمام بِ "لينين" زائدًا عن الأبناء الآخرين، ولذلك مال إلى الأدب والأعمال الأدبيّة منذ وقت مبكّر، وكان من عادة أفراد الأسرة الاجتماع في أيّام الآحاد وقضاء الوقت بقراءة أعمال "وليم شكسبير" (1564 – 1616) وَ "غوته" (1749 – 1832) وأشعار "ألكسندر بوشكين" (1799 – 1837) وقد برع "لينين" في اللّغة اللّاتينيّة منذ كان طالبًا في المرحلة الثّانويّة، فقرأ "فرجيليوس" (70 ق.م – 19 ق.م) وَ "أوفيد" (43 ق.م – 17م) وَ "هوراس" (65 ق.م – 8 ق.م) وَ "جوفينال" (من أواخر القرن الميلاديّ الأوّل – القرن الميلاديّ الثّاني)، لقد تأثّر "لينين" بمسرحيّة "فاوست" لِ "غوته" وكان يردّد جملة وردت على لسان أحدى شخصيّاتها "النّظريّة يا صديقي رماديّة لكنّ شجرة الحياة خضراء إلى الأبد"، لقد أدرك منذ البداية أنّ الأدب الرّوسيّ الكلاسيكيّ ملغّم بالسّياسة، في رواية "أبلوموف" للكاتب "إيفان غونتشاروف" (1812 – 1891) يصف الكاتب طبقة النّبلاء بالتّبلّد والكسل، ودعا الشّاعر "بوشكين" الملقّب بِ "قيثارة روسيا" إلى إسقاط القيصر سنة (1825) وأيّد "انتفاضة الدّيسمبريّين". ولا شكّ في أنّ "لينين" قد قرأ أعمال الكاتب الرّوسيّ "نيقولاي غوغول" (1809 – 1852) صاحب رواية "نفوس ميّتة" الّتي كانت تقرأ على الأمّيّين بصوت عالٍ ونالت شهرة شعبيّة واسعة، مع أنّ النّاقد الشّهير "فيلساريون بيلينسكي" (1811 – 1848) شكّك بقيمتها الفنّيّة رغم تلك الشّهرة، ومن هنا وقع أقدم خلاف أدبيّ في الأدب الرّوسيّ بينهما: الكاتب والنّاقد. وقد قرأ "لينين" رواية "غوغول" الشّهيرة الثّانية "المعطف" الّتي أثّرت على كلّ الرّوائيّين الرّوس فيما بعد، وقد قال الكاتب الرّوسيّ "دوستويفسكي" (1821 – 1881) عنها "كلّنا (ويقصد الكتّاب الرّوس) خرجنا من معطف "غوغول"، وينسب القول كذلك إلى الكاتب الرّوسيّ "إيفان تورغينيف" (1818 – 1883) ممّا يدلّل على أهمّيّة الرّواية ومكانتها الفنّيّة، فقد أحدثت منعطفًا في الأدب الرّوسيّ الكلاسيكيّ، وفيها البطل موظّف بسيط، مسحوق لم يستطع لبساطته وقلّة حيلته أن يستعيد حقّه في الواقع البائس، فانتقم من اللّصوص الّذين سرقوا معطفه يوم حصل على راتبه الشّهريّ ومات غمًّا فانتقم شبحه واستعاد المال في الخيال. لقد تأثّر "لينين" أيضًا من تناقضات الكاتب الرّوسيّ الكبير "ليو تولستوي" (1828 – 1910) صاحب الرّواية الملحميّة الرّائعة "الحرب والسّلم" وأعجب بمناصرته للفلّاحين الفقراء رغم انتمائه لطبقة النّبلاء الأرستقراطيّة ذات الثّراء والبذخ الفاحش، وضحّى بزواجه من زوجته الجميلة الّتي رفضت مواقفه الاجتماعيّة وسلوكه الرّفيق والرّقيق مع "العبيد والأقنان"، لقد أدرك "لينين" عمق تلك التّناقضات، لأنّه رأى فيها تصويرًا صحيحًا ساعده على التّحليل السّياسيّ والاجتماعيّ للأوضاع الّتي كانت تعيشها روسيا القيصريّة، ورأى في "تولستوي" مرآة الثّورة الرّوسيّة" في كتاباته عنه.

وقد يكون للكاتب "نيقولاي تشيرنيشيفسكي" (1828 – 1889) أكبر التّأثير على "لينين" - وعلى جيل كامل من "المتطرّفين" والثوريّين فقد كان "تشيرنيشيفسكي" فيلسوفًا مادّيًّا واشتراكيًّا ولكنّه كان من عامّة النّاس ونال شعبيّة كبيرة بين الشّباب رغم معاداة الأدباء الكبار له ولكتابه مثل "تورغينيف"، ألّف روايته الطّوباويّة "ما العمل" في قلعة "بيتر وبول" في "سان بطرسبورغ"، وقد سُجن بسبب معتقداته السّياسيّة. أصبحت روايته هذه كتابًا مقدّسًا للجيل الجديد. وقد تمّ تهريبه من السّجن فأعطاه ذلك هالة إضافيّة. هذا الكتاب هو الّذي جعل "لينين" يعتنق أفكارًا "متطرّفة"، قبل أن يتعرّف على أفكار "كارل ماركس". وكنوع من الاحترام لهذا الفيلسوف والكاتب الجريء والشّجاع، كان أوّل كتاب سياسيّ ألّفه "لينين" ونشره سنة (1902) بعنوان "ما العمل". كان "لينين" لا يتّفق مع آراء البلاشفة الشّباب الّذين كانوا يزورونه في المنفى خلال السّنوات الثّوريّة بين (1905 – 1917) حول الرّواية، وقد غضب عندما أخبروه أنّ كتاب "تشيرنيشيفسكي" لا يستحقّ القراءة. وقد ردّ على ذلك بالقول إنّهم أصغر من أن يقدّروا عمق رؤيته، ويجب أن ينتظروا حتّى يبلغوا سنّ الأربعين. حتّى يفهموا أنّ فلسفة "تشيرنيشيفسكي" كانت مبنيّة على حقيقة بسيطة هي: "إنّ الحياة قصيرة، ومن هنا يتحتّم تحقيق السّعادة لكلّ فرد. ولم يكن هذا ممكنًا في عالم يهيمن عليه الجشع والكراهية والحرب والأنانيّة والصّراع الطّبقيّ، ولذلك ثمّة ضرورة لوجود ثورة اجتماعيّة.

لقد تأثّر "لينين" بهذه الأعمال الأدبيّة، وكما ذكر من قبل فإنّها شكّلت جزءًا هامًّا من شخصيّته السّياسيّة ومن إدراكه للواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ في المجتمع الرّوسيّ قبل الثّورة، ولا شكّ أنّ لتلك المؤثّرات الأدبيّة دورًا كبيرًا في تأجيج الصّراع الاجتماعيّ الّذي أدّى إلى اندلاع الثّورات على أساس طبقيّ وكانت اندلاع ثورة "أكتوبر" الاشتراكيّة الّتي قادها "لينين" وانتصارها تتويجًا لكلّ ذلك المسار الكفاحيّ منذ (1905 – 1917) وسقوط العهد القيصريّ الفاسد والبائد. في كتابه "مآزق لينين" يذكر المؤلّف الباكستانيّ "طارق علي" (1943) أنّ الأدب الرّوسيّ كان ذا تأثير كبير فشكّل كثيرًا من الاتّجاهات السّياسيّة في الفترة الّتي ولد فيها "لينين"، وكان من الصّعب على الكتّاب نشر نصوصهم السّياسيّة في عهد القيصريّة خوفًا من السّجن أو العقوبات المختلفة ومنها تحريم النّشر والتّوزيع ودفع الغرامات الماليّة الباهظة، فمثلًا كان القياصرة بأنفسهم يقومون بمصادرة الكتب، فالقيصر "نيقولا الأوّل" (1796 – 1855) حظر نشر بعض أشعار "بوشكين". ورواية "ما العمل" الّتي سُجن صاحبها.

من هذا الواقع الأدبيّ الّذي عاش "لينين" في أجوائه استطاع تنمية علاقات تقدير واحترام مع الأدباء الرّوس فيما بعد، وقد يكون أشهرهم الكاتب "مكسيم غوركي" (1868 – 1936) صاحب أشهر رواية سوفييتيّة آنذاك "الأمّ" وإليه يعزى أنّه أوّل من استخدم مصطلح "الواقعيّة الاشتراكيّة" كتيّار أدبيّ مختلف عن تيّار "الواقعيّة" البرجوازيّة أو تيّار "الواقعيّة التّشاؤميّة". "الواقعيّة الاشتراكيّة" هي تطبيق للفكر الشّيوعيّ المادّي على الاتّجاه الأدبيّ الّذي سلك فيه الكتّاب والشّعراء الّذين تبنّوا الشّيوعيّة منهجًا حياتيًّا وفكريًّا وأدبيًّا في سائر الأقطار في العالم.

(يتبع)



#علي_هيبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو فكر دينيّ جديد، عماده العلم والعقل والنقد والحريّة والحو ...


المزيد.....




- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...
- للمرة الخامسة.. تجديد حبس عاملي غزل المحلة لمدة 15 يوما


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - علي هيبي - لينين المنظّر الماركسيّ والقائد الثّوريّ (1)