أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - في الهزيمة والخسارة، بين الأمس واليوم















المزيد.....

في الهزيمة والخسارة، بين الأمس واليوم


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 6693 - 2020 / 10 / 2 - 17:22
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


نهزم أمام عدو، لكن نخسر أمام أنفسنا أو نخسر أنفسنا. فهل، إذا اجتمعت علينا الخسارة والهزيمة، يسعنا الصمود؟ وكيف نصون كرامتنا، أفراداً ومجموعات وقضية، في شروط انتصار العدو علينا وتحللنا الذاتي؟ تعمل هذه المقالة على طرح قضية الهزيمة والخسارة، على أن يناقش سؤالا الصمود والكرامة في تناولين مستقلين.

تقابلت كلمة هزيمة بعد حرب 1967 المذلة مع كلمة نكسة التي اعتمدتها السلطة الناصرية، أو مع التشخيص البعثي الذي رأى أن العدوان فشل في تحقيق أهدافه ما دامت الأنظمة التقدمية لم تسقط. كان في إصرار مثقفين، منهم في سورية صادق جلال العظم وياسين الحافظ، على كلمة الهزيمة سجالٌ ضمني مع الإنكار السلطوي، وشحنة درامية قوية ما دامت كلمة الهزيمة تعني الهرب أمام الخطر والتخاذل عن مواجهته، وكذلك حس بالنزاهة يشارف حد المزايدة على النفس. لم تدخل النقاش كلمات أخرى يمكن أن تسهم في تمثيل ما جرى.
كلمة خسارة تبدو أقل درامية، أقل تمركزاً حول العدو، لكنها يمكن أن تكون أكثر عمقاً إن فكرنا فيها كخسارة للنفس أو للروح. في السياقات الدينية هذا المعنى أكثر ظهوراً. في القرآن الخاسرون هم من "خسروا أنفسهم وأهليهم"، وذلك هو "الخسران المبين". وفي إنجيل مرقس ينسب إلى المسيح القول: "ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟" وفي سياقنا هذا المقصود خسارة النفس السياسية، تعريف سياسي للذات، هو التعريف القومي العربي بخصوص هزيمة حزيران مثلاً.
أقترح استخدام كلمة الخسارة لتسمية ما يعرض لأصحاب قضية من تآكل وانحلال تحت وطأة الفشل في تحقيق أهدافهم، فيما الهزيمة تسمي وجهاً آخر للفشل: الفشل في مواجهة عدو. نتكلم على هزيمة حين نُعرِّف صراعنا بدلالة العدو الذي نواجهه، وعلى خسارة حين يكون الصراع مُعرِّفاً لنا (وليس كل صراع مُعرِّف) ونفشل فيه تكراراً، فنخسر تعريفنا أو هويتنا. قد نهزم ولا نخسر، نلملم قوانا بعد الهزيمة، ونعاود الصراع بصور أخرى. في حزيران 1967 هزمنا أمام عدو، قبل أن نخسر تعريف النفس وتصور الهوية المهيمن وقتها: التعريف القومي العربي، دون أن يكون ذلك موضع تفكّر أو نقاش. كان التصور القومي العربي للذات سجل اكتساب وتراكم، اقترن بمثل تحررية مثل الاشتراكية وبضرب ضمني من العلمانية، وبنازع للتقدم والاستقلال، وهو ما تبدد بتسارع في ربع القرن اللاحق لحزيران 67.
ولا يتحتم أن تقود الهزيمة في صراع مُعرِّف إلى انحلال تعريف الذات القائم على هذا الصراع. الخسارة م تتولد عن الهزيمة بحد ذاتها، بل على عدم ملاءمة الردود على الهزيمة في ذلك الصراع المعرف. التحدي الذي طرحته الهزيمة هو أنه إذا أردنا الاستمرار في تعريف أنفسنا بالصارع مع الكيان الإسرائيلي المحتل، أي تعريفاً قومياً عربياً، فيجب أن نغير نظمنا ومناهجنا في العمل، وإلا خسرنا تعريفنا. هذا ما حصل، وإن لم يكد يلحظ لأن الانحلال فاقد للصفة الدرامية عكس الهزيمة. الهزيمة حجبت خسارة أكبر منها، وأكبر من أي إيديولوجية مهزومة على ما قال ياسين الحافظ.
كانت مشكلة النظامين القوميين، الناصري في مصر والبعثي في سورية، ضيق قاعدة التفكير والتقرير فيهما واقتصارها على قلة من الأفراد، وتغريب أكثرية "الشعب العربي" عن شأنه المشترك. التغيير الملائم للرد على الهزيمة هو توسع دوائر التفكير والتقرير، ووضع القضية في يد أصحابها، المواطنين المفترضين. بعد ثلاث سنوات مات عبد الناصر الذي ظل نظامه متلجلجاً في شأن هذا الرد الملائم، وقصره على إصلاح الجيش والمواجهة الحربية. في سورية تضيقت قاعدة التفكير الضيقة أكثر بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة. هذا الرد العكسي هو ما قاد إلى الانحلال أكثر من الهزيمة ذاتها. بعد الهزيمة بسنوات قليلة أخذت تظهر ملامح الانقلاب: إنتاج العلاقة الاستعمارية الماضية بأيد محلية، أو إنتاج إسرائيل الداخلية التي تفلسطن محكوميها. هذا في سورية. في مصر أخذ الانحلال طريقاً أقصر: مصالحة العدو.
والخلاصة أن أسوأ ما حصل لنا في نصف القرن المنقضي ليس الهزيمة أمام إسرائيل، بل خسارة ذاتية سياسية، لم يحل محلها سجل اكتساب وتراكم آخر. الهزيمة حدث وقع في الماضي، الخسارة بنية مستمرة.
التمركز حول إسرائيل عبر تصور الهزيمة حال دون التبصر في أوضاعنا، بما في ذلك كوراث تصمد للمقارنة مع هزيمة حزيران. منها بخصوص سورية العيش في ظل حرب أهلية مستمرة، هي بالفعل التجربة المكونة لأجيال السوريين التي ولدت خلال سنوات الحكم البعثي التي تقترب من الستين.

من موقعنا في العام العاشر بعد الثورة السورية يبدو أننا نجمع اليوم بين الهزيمة والخسارة، انتصار العدو علينا وانحلال الذات التي عرفت نفسها بالثورة، وهي ذات طيفية أصلاً، ضعيفة التماسك، تمتزح فيها الوطنية السورية بتطلع إلى "الحرية" و"العدالة". أطر العمل العام المتاحة لم تفشل في تطوير رد على الهزيمة يصون كرامة المهزومين، بل هي ذاتها مصدر مهانة. ما يحدث هنا هو مزيد من ضيق قاعدة التفكير والتقرير، وصولاً إلى رهن الذات لقوى إقليمية ودولية مؤثرة، أي إلى التبعية والتحلل.
هنا أيضاً تحجب الهزيمة الخسارة. من يتكلمون على هزيمة بخصوص الثورة يتمحور تفكيرهم حول النظام كعدو وحول الثورة كحرب، أكثر مما حول قضية ومصير ضحاياه. لكن بينما يمكن أن يهزمنا عدو فكر في الصراع كحرب منذ البداية، إلا أنه ليس هناك عدو يمكن أن يُخسِّرنا. الخسارة هي تفككنا بفعل فشلنا في تطوير رد ملائم على الهزيمة في صراع عرّفنا أنفسنا به. الرد الملائم ليس ما يحقق النصر حتماً، بل ما يصون كرامة المهزومين، ما يشركهم في التفكير والفعل، ما يصنع قضية يلتئمون حولها.
خسارتنا متعددة الطوابق، شاهقة ومشهودة، وكاملة لا ينقصها شيء. فوق تجارب لا تحصى من تعذيب وسجن، ومن فقد الأحبة والأصدقاء، ومن تحطم بيئة الحياة، ومن لجوء وخسارة الموطن، ثمة تحطم عام واسع النطاق يطال ذواتنا ومعنانا السياسي. كشخص وككاتب وناشط أنا شريك في الخسارة، لعلّي من أكبر الخاسرين. أقول ذلك تقريراً لواقع الحال، دون تفجع ورثاء للذات، لكن ليس دون كثير من الأسى.
ليست الخسارة الكاملة خسارة كبيرة، وطويلة بعد ذلك، تغطي حياة بأكملها ولا تعوض، ولكنها خسارة لا تترك للمرء غير شكل معقد لا يسهل التعرف عليه. يفر الناس من التعقيد كما من وباء، يديرون ظهورهم وينفضون أيديهم: الأمر معقد! يقوض التعقيد التماهي، مثلما تقوضه العنصرية، ومثلما هو يتقوض في التعذيب. يتبين المرء أكثر وأكثر قدراً من كف التعاطف مع السوريين وفيما بينهم، ليس رغم أنهم عانوا الكثير، بل لأنهم عانوا الكثير. هل يصيب كل هذا العذاب إلا مناكيد فاشلين؟ لا يعقل أن يخلو العالم من العدل والعقل إلى هذا الحد حتى يصيبهم كل ما أصابهم إلا إذا كانوا مستحقين بصورة ما. تستنتج جدارتنا بالخسارة الأكمل من المنطق.
قيلت أشياء كثيرة في "أسباب" خسارتنا، لن أدخل فيها. أسجل هنا فقط اعتراضاً على مسلمة ضمنية في التفكير في خساراتنا: يخسر أولئك الذين ما كانوا يستحقون أن يفوزوا، وهو ليس بعيداً عن القول أن من ينتصرون هم من يستحقون. هذا تفكير وحشي، يستبطن المسلمة التي يقوم عليها تفكير المنتصرين: القوة هي الحق. لا أقول إن الخاسرين، نحن، لم يخطئوا (نخطئ) كثيراً، لكن ليس لهذا خسرنا هذه الخسارة الكاملة. ليس الأمر أننا أفضل بقدر ما مما جرى لنا (لا أشك في ذلك)، أو أننا لسنا بدرجة سوء ما حدث لنا (وهذا أكيد في تصوري)، بل في أن ما جرى لنا لا يشبهنا، خلافاً لما يقول دستوفسكي. هذا ممكن في أطر سياسة مدولة، لا تطابق فيها بين تعريف الذات السياسي والديناميكيات السياسية الفاعلة. ولعل نقطة انطلاق التفكير في اللاتطابق تتمثل في أن ثورة السوريين كانت ثورة تابعين (subaltern)، تراوحت بين نطاقات محلية متناثرة وبين نطاق سوري عام، هذا فيما كان النظام الذي ثاروا عليه شرق أوسطي وعالمي، له روابط تحالفية قوية، ونفاذ إلى شبكات هيمنة دولية مؤثرة، وإلى مجموعات وروابط داعمة منتشرة في كل مكان على ما ظهر بعد الثورة. بعبارة أخرى، الثورة محلية والنظام دولي. لذلك فإن ما وقع في سورية لا تحيط به أي أسباب سورية. ولذلك ما يحدث لنا لا يشبهنا بالضرورة.
يمكن أن يقنع بعضنا أنفسهم بأنهم خسروا أقل من خاسرين آخرين بغرض حماية النفس، يخُصّون أنفسهم على هذا النحو بنصف خسارة فقط. ما تقترحه هذه المقالة هي قبول تام بتمام الخسارة، بالهزيمة أمام العدو وبتفكك الذات التي عرفت نفسها بالثورة، وببناء قضيتنا على كمال خسارتنا. القضية هي العمل على لملمة كيان الخاسرين وقيام ذاتية جديدة متحررة. ومن لوازم ذلك اليوم التفكير على نطاق شرقأوسطي وعالمي.
يبقى أن مدركات الهزيمة والخسارة يمكن أن تكون بكائيات أو عناصر في بكائيات، لكن لا يتحتم أن تكون كذلك. هي هنا محاولة لتسمية وضعنا في التاريخ والعالم اليوم، وضع نحتاج إلى بناء إدراكنا حوله إن كان لنا أن نخرج منه يوماً. مهما يكن كارثياً ما وقع لنا، فإنه قائم في تاريخ نحن فيه ومنه، ولا يزال لنا ما نفعله فيه.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قوى متشابكة وخطابات منفصلة، مدخل إلى النظام الشرق أوسطي
- تدَيُّن بافلوفي وأزمة قيادة
- الإمارت وإسرائيل وشركاهما: تحالف أقوياء أشرار
- سؤال سورية الصعب
- أناس وأفكار وأزمنة
- الحتمية الطائفية و«تدمير وطن» السوريين: ملاحظات على كتاب نيق ...
- الخلاص العسير: مقدمة الترجمة اليبانية لكتاب بالخلاص يا شباب
- علاقات التعذيب السياسية: التعذيب ونمط إنتاج السلطة في «سورية ...
- أزمة كورونا والعالم اليوم
- مرثية لأمي ووداع متأخر
- أصوات الغائبين: أفكار لإصلاح التفكير
- كورورنا في عالم سوري
- تعبير: الكلمات والعنف والدموع
- دعوة إلى والتر بنيامين
- -ما منحبك-: عن السياسة والحب والثورة
- اعتقال مجدي نعمة وسؤال العدالة
- -منحبك-: عن السياسة والحب
- أرض المَباد: حيث لا صفح ولا وعد
- مقدمة الترجمة الإيطالية لكتاب سميرة: يوميات الحصار في دوما 2 ...
- في المنفى، وفي الوطن والعالم، والكتابة


المزيد.....




- عداء قتل أسدًا جبليًا حاول افتراسه أثناء ركضه وحيدًا.. شاهد ...
- بلينكن لـCNN: أمريكا لاحظت أدلة على محاولة الصين -التأثير وا ...
- مراسلنا: طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي ...
- بدء الجولة الثانية من الانتخابات الهندية وتوقعات بفوز حزب به ...
- السفن التجارية تبدأ بالعبور عبر قناة مؤقتة بعد انهيار جسر با ...
- تركيا - السجن المؤبد لسيدة سورية أدينت بالضلوع في تفجير بإسط ...
- اشتباك بين قوات أميركية وزورق وطائرة مسيرة في منطقة يسيطر عل ...
- الرئيس الصيني يأمل في إزالة الخصومة مع الولايات المتحدة
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: إصابة إسرائيلية في عملية طعن ب ...
- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - في الهزيمة والخسارة، بين الأمس واليوم