أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عدلي شبيطه - في انتظار الفجر















المزيد.....



في انتظار الفجر


عدلي شبيطه

الحوار المتمدن-العدد: 6680 - 2020 / 9 / 18 - 09:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




بات من شبه المؤكد بأن ما هي الا مسألة وقت حتى يتحول كل هذا الحزن، الذي تراكم وأختزن في صدره، إلى حالة من العصبية او ضرب من الجنون، لفرط ما مر به من مآسٍ ومصائب ما زالت تتعاقب عليه وعلى شعب باكمله منذ أعوام. ما قد يدفع به الحال، احيانا، الى فقدان السيطرة على نفسه لفعل شيء ما قد يكون جنونيا. فعل، يراوده منذ زمن بعيد، وكل يوم جديد يستدرجه ويعجل من حدوثه حتما اذا ما استمر يعمل في ذات المكان.

لم تعد أذناه تحتمل سماع هذا الهراء في الحديث، من الفاظ بذيئة ومصطلحات معيبة لم يسمعها من قبل ولم يفهم في البداية ما يقصد به، ولا عيناه تحتملان رؤية مثل هذه المشاهد والافعال الشاذة، المنفلتة والمشينة.
توهجت الجمرات في الهواء وهو يلوح بيده بشكل دائري حاملا إناءً حديديا مخرما، في جوفه جمر وفحم. علق ألاناء بثلاث سلاسل. في عتمة الليل، خلف الجمر في الهواء شبه دوائر ضوئية تتوالى. يزداد وهجها ثم يخفت بوتيرة حركة يده. تخطف البصر..
حركاته اللا إرادية وعيناه اللتان تلاحقان الجمر في الهواء، لا تخلوان من العصبية والانفعال، فبدا التعب والأعياء يظهران شيئا فشيئا على تعابير وجهه الشاحب وفي عينيه المحمرتين المنتفختين.
التقط الملقط في يمينه والجمرات في يساره ودخل القاعة. الضوء في الداخل خافت، الدخان كثيف خانق ويحجب الرؤية. احس بأغبشاش في نظره، وحرقه في عينيه وضيق نفس. صدحت الموسيقى في القاعة عاليا، وتعالت صيحات الزبائن وصراخهم ونقر الأراجيل...،
الضجيج في المكان لا يحتمل. يصم الآذان. الراقصات شبه العاريات يدرن حول القاعه، يهززن للرقص اردافا تدلت ونهودا تعرت، يدرن بين الحضور بثقل ودلال وسط صفير وتصفيق الزبائن وصيحات الاعجاب والتشجيع. رجال ونساء سكارى مخمورون يرفلونهن ويغمرونهن، بغير وعي، بالمال. رزم ينثرونها فوق روؤس الراقصات او يدسونها بجرأه تحت ما بقي على جسادهن من كساء. مبالغ من المال تكاد لا تحصى من عملات ورقية بأختلاف أنواعها وألوانها.
بدا المشهد غريبا عجيبا يطغى عليه كثير من الانفلات والمجون والعربدة. اختلطت فيه الروائح بالأصوات والقهقهات، بالموسيقى والحركات، بالأضواء والألوان، برائحه خمور ومعسل، رائحة نار ومشاو بألاضافه إلى رائحة المخدر الذي دس في رؤوس الاراجيل. مشهد يصعب على المرء وصفه او حتى استيعابه. مشهد أقرب منه الى الخيال واساطير الاولين.
ارتبك، انه لا يعرف من اين يبدأ. الزبائن يصرخون في وجهه من كل تجاه ملوحين بنرابيش الأراجيل طربا، يطلبون الجمر لأراجيلهم بإلحاح. احس بثقل في رأسه على ما يبدو نتيجة تعرضه للتدخين السلبي للحشيش المنتشر في القاعة. انقبض صدره وعيناه تلاحقان النرابيش وهي تلوح دون إنقطاع.
تنوعت المفردات بأنواع الزبائن ولهجاتهم، الذين جاءوا من كل الأقطار ومن جميع الجنسيات العربية.
ينادونه بالحموي، نسبة إلى مدينة حماة السورية مسقط رأسه، طلبا لمزيد من الجمر: هيا يا صبي، يا واد، يا خوي، يا فتى، يا غلام..... كل ولهجته.
هي اللهجات نفسها، وليس المفردات، التي تعود على سماعها في الحديقة حيث كان ينام مع اطفال، اولاد وبنات، مشردين من اوطانهم يفترشون الارض ويلتحفون السماء، صيف شتاء. قدموا مجبرين من بلادهم، هربا من واقعهم، حروب، قمع بطش وارهاب، بحثا عن مكان آمن يحميهم ويحفظ لهم كرامتهم. فوجدوا انفسهم ضحايا لقسوه العيش في المدينة الكبيرة التي لا ترحم ولا تنصف الضعفاء، فباتوا فريسة سهلة لها ولمن أراد استغلالهم والنيل منهم. من تجار مخدرات ومدمنين وشواذ. لم يسلموا حتى من القوادين والمجرمين ومن ملاحقة الشرطة ومطارتهم.
اخذ الحموي يتنقل ويدور بين الزبائن وهو يلتقط الجمر ويضعه على روؤس الاراجيل، ببطئ متعمد وصمت، غير آبه لصراخهم وشتائمهم أحيانا. أفكار كثيرة تدور في رأسه وهو يرمقهم بنظرات فاحصة متأملا وجوههم، وهم يشهقون الدخان بشراهة، ويزفرونه بلهفة وتلذذ. كما كل شيء في حياتهم. يأكلون ويشربون بشراهة. يلهثون وراء النساء بشراهة. همهم الوحيد إشباع رغباتهم وغرائزهم كالبهائم. وتساءل: كيف يمكن أن يكون الانسان محايدا امام أكوام اللحم الضخمة المتخمة؟ تبدو أقرب إلى جيفة ثور منتفخة، يستلقون على الفراش تسندهم المساند، كأنهم تنابل عبد الحميد. عربان استهوتهم مضاجعة القاصرات العذارى. وغيرهم ممن نهبوا مقدرات اوطانهم، أغنياء حرب، يعيشون حياة رفاهية في فنادق فاخرة. منظرهم مثير للاشمئزاز وهم يحتضنون الفتيات، بعضهن قاصرات ممن قست عليهن الدنيا، أعمارهن لا يتجاوز سن السادسة عشر او السابعة عشر على اكثر تقدير. اتوا بهن من مخيمات اللجوء. تصطادهن تلك العاهرة التي تزاحموا حولها وأصطفوا ليمعنوا النظر عن قريب في ما تعرضه من" بضاعة" جديدة. صبايا من عمر شقيقتيه، عائشة وبيان، اللتين بات مصيرهن مجهولا، منذ ان افترقوا قبل حوالي ثلاث سنوات. يتذكرهن الحموي والغصة في قلبه، يتذكرهن بكثير من اللوعة والحزن والأسى، والحرقة والقلق خوفا عليهن من مصير محتوم !!!. أعياه الحنين...
انهكه التعب وارهقه التفكير
، انه يفكر، رغم صغر سنه، بأمور كبيرة، اكبر منه بكثير. أفكار تراوده، تستولي على حيز كبير من تفكيره. ويتبادر إلى ذهنه نوادر وجمل سمعها في صغره لم يدرك حينها مغزاها،
" الطريق جزء من البيت "
جملة ركز عليها، قلبها في رأسه وامعن التفكير بها عميقا. مستغربا لماذا خطرت على باله الآن؟ لكنه هز رأسه امستهزئا
" لم يبق بيت ولا طريق..."
واستطرد قائلا :
"الجنون جزء من الحل " وفي بعض الجنون منطق وصواب. ! إ وما نحن فيه، ما هو الا ضرب من الجنون، بل اقصى انواع الجنون !!
ماذا يدور في خاطره يا ترى؟ وما يقصده الحموي، وهو يتمتم، الطريق جزء من البيت، والجنون جزء من الحل؟
بعد أن أفرغ حمولته من جمر، توجه ليجلب المزيد. تقدم وسط الزحام ببطء شديد ايضا، ليس قصدا هذه المرة، انما بسبب الاكتظاظ والزحمة وتدافع بعض الزبائن حول مشهد تلك العاهرة " المدام " كما يطلقون عليها وهي تعرض بضاعتها " الطازة " حسب قاموسهم. ما اعاق تقدمه، وأثار فضوله. وقع نظره على ما لم يرق له وأثار حفيظته، وعلى مسمعه حديث يدور، استفزه، وزاد من اضطرابه. لكنه حاول جاهدا كتمان حنقه وغضبه. مجبرا على ضبط أعصابه، فأي حماقة يرتكبها واي تصرف خاطئ، في نظرهم، قد يفقده مصدر رزقه ويعيده مشردا في الشوارع والى الحدائق العامة. كما ويحرم رفاقه المشردين في الحديقه من بقايا الطعام الذي دأب على جمعه وتزويدهم به كل مساء. على الاقل، رغم زهد راتبه، يجد هنا مؤقتا ما يسد رمقه وسقفا يأويه، وإن كان في قبو بين الجرذان !!!
تسلل كريم الحموي مسرعا، رغم الزحام إلى خارج القاعة وبيده ألاناء والملقط. ملأ ألاناء بالجمر واخذ يلوح به في الهواء، جسمه يرتجف ويشتاط غضبا، مستاءا غاضبا مما رأته عيناه وما سمعته أذناه، هي المفردات والمشاهد ذاتها التي تتكرر كل يوم. مشهد عرض لصبايا قاصرات، قد لا تتعدى أعمارهن الرابعة عشر عاما أحيانا، تعرضهن المدام امام الزبون كأنهن جوار في سوق النخاسين، في مزاد علني لمن يدفع المزيد. مفردات وجمل لم يستوعب معناها بعد. يحاول جاهدا ان يفهم ما القصد من أقولها.
" في عيش في البلد، هذا الكيك جاي من وين " أو، بوظة ڤانيل، شوكلاته ايس كريم، تفاح شامي، تمر عراقي، وكيف لبناني. " ومفردات غريبة، ( طازة، دفع امامي، دفع خلفي، مفاخذة.. ). جمل ومفردات يطلقونها في وصف ما يعرض من صبايا !
وقف الحموي يلوح بالوعاء ويدور به، ونظره يتتبع وهج الجمر في الهواء، بحركة لا ارادية. الوعاء يدور ورأسه يدور. الدنيا تدور، الزمن يدور، وكل شئ من حوله يدور. انه الدوار - قال لنفسه!
الدوار اللعين، الذي يخافه ويخشاه. أصابه أول مرة وهو في قارب اللجوء عند هيجان البحر. ودوار " الشعلة " (الشعلة نوع مخدر رخيص الثمن وله عواقب خطيرة) اخذها مرة واحدة تحت ضغط من زملائه في الحديقة كادت تودي بحياته. تبادر إلى مخيلته كل شئ يدور، لكن ما علق في ذهنه هو منظر ناعورة حماة تدور على نهر العاصي وسواقيها وراقص رقصة التنورة الصوفية وهو يدور حول نفسه.. وما هي إلا دقائق حتى غلب عليه التعب من الدوران واخذته الدوخة في شبه غيبوبة لوهلة من الزمن.
سرعان ما استدرك الحموي تأخره عن أداء واجبه، فز مسرعا إلى القاعة. ما ان دخلها حتي قوبل بالصراخ، وانهالت عليه الشتائم من زبائن غاضبين. متجاهلا صراخهم راح يدور بين رؤوس الاراجيل يضع الجمر، وفي مخيلته نواعير حماة معه تدور، لا يرى شيئا سواها، ولا يسمع في نقرات الاراجيل الا خريرها. وطربوش راقص التنوره بلونه الاحمر كأنه جمر يلوح في الهواء لا يتوقف عن الدوران. اخذ به خياله بعيدا، فسخر من نفسه وهزئ بها وتسائل كيف ان هذه النواعير تدور، تنشل الماء عذبا من النهر لتجلب الخير للناس وتروي ظمأهم. والثور يدور حول الساقيه ليروي الزرع يانعا في البساتين، وحجر البد يدور، يدر الخير زيتا في موسم الزيتون ووووو. أما انا فمن اجل من أدور...!؟؟
الطريق جزء من البيت، والجنون جزء من الحل. ليست مجرد جمل يطلقها الحموي في فراغ، انه يدرك القول ويقصده. كلام كبير، أكبر من حجمه وعمرة وثقافته، وهو لم يتعد السابعه عشره. كان في الرابعه عشره من عمرة يوم اقتحم مسلحون بيتهم في ساعه متأخرة من الليل. يذكر الحموي كيف انهالوا بالضرب على والده " ابو كريم " محمد جميل، تحت وابل من الشتائم والتهديد والوعيد واصطحبوه مكبل اليدين مقنع الرأس. وقف الحموي واختيه وقتها يذرفون الدموع صامتين يرتجفون خائفين ومرتعبين. اما والدته سليمه التي فقدت من هول الصدمه صوتها. تسمرت مكانها غير قادره على فعل شئ، اي شئ. القي بها المسلحون على الأرض وداسوا عليها باحذيتهم وهم خارجون.
منذ تلك اللحظه بدأ درب ألآلام والتشريد والنزوح والمعاناة. ضاقت بهم السبل في مخيمات اللجوء وانقطع الرجاء. من لا يجرب التشرد، يجهله. معاناه. موت بطيئ، والموت ارحم بكثير..
محمد جميل ابو كريم عمل موظفا بسيطا في أحدى الدوائر الحكوميه في مدينه حماة. زوجته سليمه ام كريم مدرسه. عرف ابو كريم باستقامته، بحسن سيرته وثقافته. احب القراءه، الأدب والفن. امتلك مكتبه كبيره غنيه بجميع المجالات وبالأخص في الأدب والشعر. في مكتبته ادار مع كوكبه من الأدباء والمثقفين ندوه اسبوعيه في الشعر والأدب والسياسه. انفق معظم راتبه في شراء الكتب وتحف التراث، غالبا، على حساب احتياجات بيته، مما سبب له كثير من الخلاف والمتاعب مع زوجته سليمه.
في هذه البيئه الثقافيه ولد كريم الحموي وبها ترعرع. ما يفسر قوة شخصيته، وعيه، وتميزه. أحب كريم مرافقه والده في جولاته على المكتبات والأسواق والمقاهي المنتشره على ضفتي نهر العاصي. والجلوس بجانبه في الندوات، مصغيا لما يدور من حديث على الرغم من عدم قدرته على فهمه. يذكر الحموي ان والده احب الورق، القراءه والكتابة على الورق فقط. رافضا التعامل مع الالكترونيات ومشتقاتها كألحاسوب مثلا. كان يقول ان للورق رائحته ولونه ونكهته وطعمه. ذلك الطعم الذي يتراكم على ابهامه جراء بله بالريق وهو يقلب صفحات الكتاب او الجريدة، وبتلك الحركه التلقائية وهو يلحس ابهامه وفركه بسبابته. مركزا على تلك العلاقه المتبادله والجدليه بين القارئ والورق كما مع الكتاب والنص. كعلاقه الانسان بالطبيعه. لا يشرب الا الماء والعصائر الطبيعيه فقط، ويزهد في ما يأكل. يدخن ما يلفه من السجائر. يجد متعه في لف السيجاره، لا تقل متعه عن تدخينها، وهو يمسك الورقه يقلبها بين أصابعه يملؤها بالتبغ،يلفها بمهاره ويمررها على لسانه.
بعد أن تأكد موت والده اعداما رميا بالرصاص وإلقاء جثته في النهر مع عشرات الجثث علنا على شاشات التلفاز. قرر الحموي وامه سليمه ترك حياه المعاناه والذل في مخيم اللجوء والهجرة مع والدته واختيه إلى الغرب تهريبا. دفعوا ما بقى لديهم من نقود إلى المهربين، ركبوا البحر تحت جناح الظلام على متن قارب صغير ومعهم أعداد كبيره من المهاجرين. بعد مغادرتهم الشاطئ بقليل اخذ القارب يفقد من توازنه جراء سرعه الرياح، وحمولته التي تفوق طاقته بكثير. مما اضطره الى العودة إلى الشاطئ. في طريق عودته أغمي على الكثيرين من تلاطم الأمواج ودوار البحر، ومنهم من سقط وغرق.
أما هو ورغم ما أصابه من دوار ورغم ضعفه وصغر سنه حاول جاهدا المقاومه للحافظ على توازنه ووعيه. لشعوره بمسؤولية تجاه والدته وشقيقتيه. وبينما هو منهمك مع شقيقتيه اللتين أغمي عليهما سقطت والدته سليمه وأبتلعها البحر. وسط تلك الفوضى العارمه وفقدان السيطره وصيحات الاغاثه، بكاء وعويل، وتقيؤ، اطفال واولاد وبنات مسنين ورجال من كل الاعمار يتهاوون واحدا تلو الآخر يغرقون. قبض الحموي بكل ما اوتي من قوه على ذراعي شقيقتيه عائشه وبيان تعبا منهكا خائر القوى متشبثا بهن بإصرار وعناد. من يصدق ان هذا الطفل ابن الاربعه عشره عاما يمكن أن تكون لديه كل هذه الشجاعة والحيله والقوه الخارقه؟. في القارب بدا المشهد دراميا مرعبا وهو يتأرجح تلاطمه الامواج،وسط عويل وبكاء وصراخ وتقيؤ...
رمت اشعه الشمس الأولى بسهامها التي أنغرزت في رمال الشاطئ، واخترقت ثيابه الباليه المهترئة فأحس بوخزها وهو ملقي على الشاطئ. أفاق الحموي من نومه وهو ملقى على الرمال وحيدا في حاله جسديه ونفسيه صعبه، يعتريه الخوف والتعب والجوع. خائر القوى مرتعش الاوصال.بدا لاول وهله غير مستوعب لوضعه، مستغربا كونه ملقي وحيدا على الرمال. متسائلا اين فقد الجمع واختفى. وما هو مصير شقيقتيه. وهل هو الوحيد الذي نجا من الغرق ولماذا.؟
جلس على الرمال يندب حظه يبكي بصمت،يفكر بوالده محمد وامه سليمه وشقيقتيه عائشه وبيان. اعتقادا منه ان شقيقتيه لقيتا نفس المصير الذي لاقته والدته. متمنيا لو انه غرق ولحق بهن وبوالده. قال يعزي نفسه بقناعته ان بموتهم قد نجوا من الحياه. حياه التشرد والشقاء والذل. وتسائل لماذا تركوني في هذا العذاب وحيدا...؟
مشي الحموي على الرمال وحيدا بغير هدى، لا يعرف الى اين تسوقه قدماه. ابتعد عن الشاطئ واتجه نحو بيوت القريبه القريبه من الشاطئ.ثلاث سنوات انقضت وهو هائم على وجهه،يجوع ويعرى، يجوب الشوارع. يقطع المسافات مشيا على الأقدام، يأكل ما يتصدق عليه الناس، ينام في المساجد أو تحت اعمده الاناره وفي الحدائق.
متخطيا لكثير من المخاطر والمصائب والمتاعب وصل المدينه الكبيره في ساعه مبكره فجرا حاملا على كتفه متاعه. الجو رطب بلونه الرمادي يبدو كئيبا. الضباب كثيف، الشوارع شبه خاليه الا من بعض الماره والمركبات التي تسير ببطئ شديد. اسند ظهره متعبا منهك القوى على احد اعمده الاناره هو يحدق بدوائر الضوء الضبابية الملونه الصادره من المصابيح الاماميه للسيارات، ومن مصابيح الاناره المعلقه على الاعمده، خطفت نظره ومن التعب والإرهاق احس بالدوار. انه الدوار اللعين يلاحقه اينما حل...
شيئا فشيئا اخذت الشوارع وازقتها تزدحم في المركبات والماره، والمصلين المتجهين لصلاه الفجر في الجامع بعد الآذان. تعالت صيحات الباعه المتجولين، عبقت الروائح من المخابز والمطاعم.فاثارت شهيته ورغبته الشديده للأكل من شده الجوع. وضجت المدينه بجلبتها.
راح الحموي يتسكع وهو يدور في شوارع وازقه المدينه واسواقها. اكثر ما أثار فضوله واستغرابه ذلك الزخم للوجود العربي الكثيف في المدينه، اينما جال بنظره يقع على لافتات مكتوبه بالعربيه. الماره في السوق وفي الشوارع يتكلمون العربيه، بلهجات مختلفه. اصحاب المحلات يدللون على بضاعتهم بالعربيه. فتيات عربيات بعمر شقيقتيه، ونساء يصطحبن أطفالهن يستوقفن الماره طلبا للمساعده. اولاد واطفال عرب بإعداد كبيره يتسولون. واخرون يتسكعون دون هدف، احترفوا السرقه والاختلاس، منهم من يبيعون المخدرات ويروجون لها. احدهم عرض عليه مخدرا "الشعلة " التي لم يسمع بها من قبل. واخر سأله اذا ما يرغب بفتاه جميله بسعر رخيص، وأشياء أخرى...
انزل الحموي متاعه عن ظهره وجلس فوقها في مكان مرتفع يراقب ويتفقد الحركه في السوق، جلس يفكر مستاء مما آلت اليه أحوال الامه. أمه لم توفر ظروف العيش الكريم لأبنائها، ها هم امام عينيه يتجرعون الذل في الغربه. امه بأكملها قد هلكت، ولا عجب إذ هلكت ! جهل، حروب، اقتتال، تشرد، ارهاب، نزوح، تسول وضياع !؟
تذكر ما كان يسمعه من نقاش كان يدور في الندوات الاخيره في مكتبه المرحوم والده، عن الربيع العربي والثورات والانقسامات وما نتج عنها من مآس. إذ كانت قضيه فلسطين هي القضيه الام، والمركزية في نقاشاتهم وادبياتهم واشعارهم. واليوم إصبح وطن بأكمله في نزوح،ضياع، وهلاك. أصبح الكل قضيه. واصبحت شوارع الغربه هي البيت وهي الطريق. وبقي الجنون !
اخذ الظلام يلقي بظلاله على المدينه. أغلقت المحلات التجارية أبوابها، اظلم الليل وعمت العتمه الشوارع والأسواق التي خلت الا من الكلاب والقطط والجراذين. اكل ما ألتطقته يداه من بقايا خضروات في حاويات النفايات. شال متاعه على كاهله واخذ يطوف الشوارع يدور بحثا عن مكان يأويه. قادته قدماه بعد عناء وتعب إلى الحديقه، واستقر بها مطافه. في الحديقه لم يكن الحال يختلف عنما شاهده في الشوارع والأسواق. غصت الحديقه بالمشردين من جميع الاعمار، عائلات بكاملها، رجال ونساء، مسنين واطفال، بنات واولاد. كلهم عرب. ما لفت انتباهه لاول وهله هي أكياس النايلون التي تلمع بين يدي مراهقين، واطفال لا تتعدي اعمارهم الثانيه عشره او الثالثه عشره. تبين له فيما بعد انهم يتعاطون مخدر الشعلة الذي انتشر بكثره بين الأطفال والمشردين، لقد اتو به من مدن المصدر
"(شمّ الشعلة) هو الاسم المتعارَف عليه لتعاطي المخدر الناتج عن حرق مادة “لاصق الشعلة”، وهي ماده كيماوية يستخدم لأغراض اللصق. اذ يتم وضعه في كيس بلاستيكي وإشعاله، ثم يقومون بإستنشاق الأبخرة الناجمة عن عملية احتراقه.
لها أثر شديد الخطورة في صحة الطفل الجسدية والنفسية، تدمر الجهاز العصبي للطفل وتؤدي إلى فقدان السيطره والانتحار او الوفاه في كثير من الأحيان. "
خائر القوى القى الحموي بمتاعه في زاويه من الحديقه، والقى بنفسه فوقها واستسلم للنوم مباشره دون مقاومه. لكنه ما لبث أن استفاق فزعا على وقع صراخ، عويل وشجار. نظر حوله في استياء وذهول كأنه لا يصدق ما تراه عيناه من مشاهد عنف وشجار، شجار بالسكاكين والعصي والنبابيت. بين عصابات تتقاتل فيما بينها على مناطق نفوذ، وبين أفراد يتشاجرون على تقاسم الغنائم التى تم جمعها او سرقتها. غير قادر على استيعاب هذا الكم الهائل من القسوه، العنف والجريمه، جرحي ينزفون دما ملقون على الارض واطفال يتعاطون المخدرات، شعله، حشيش، أبر وغيرها، وسكارى يترنحون، بأيديهم زجاجات الخمر. جيل بأكمله مبكرا يواجه مصائب الحياه. جيل خسر البيت وضل الطريق.
مرت الايام وتوالت الليالي عصيبه عليه في الحديقه. إلى ان اعتقد خاطئا انه قد وجد ضالته في مكان عمله الحالي في " قاعه الانس " يدور بين الزبائن كما يدور راقص التنوره حول نفسه، يضع الجمر على روؤس الاراجيل.
اخذ الحموي يشق طريقه للخارج وسط الزحام ليجلب المزيد من الجمر للمرة الكم ! بيده الملقط والوعاء. وها هو المشهد ذاته يتكرر امام عينه والجمل والمفردات ذاتها كالصاعقه تقع على مسمعه. وتلك " العاهره المدام " نظير الشؤم، تقف وسط الزحام وفي عيونها دهاء ماكر، تمسك بيد فتاه قاصر تعرضها للمزاد، تبرز محاسنها وتعلن براءتها من العيوب. فتاه مسكينه، طأطأت رأسها ترتجف بخوف، وهي تذرف الدمع بصمت وحزن. بملامحها البريئه الجميله استقطبت حولها كثيرا من الزبائن واثارت هتمامهم، يرمقونها بنظرات وقحه، شرهه شهوانيه. حتى اولئك التنابل لمعت عيونهم، يحدقون بها وهم يتململون في مجالسهم مسترخين ببين المساند.
وبدأ المزاد...! أعلنت المدام الثمن،
ومن يزيد !؟
اخذ السعر يرتفع رويدا رويدا، اشتدت المنافسه وساد التوتر في أجواء القاعه.
ومن يزيد...؟
وقف الحموي يلوح بوعاء الجمر عن غير وعي وبعصبيه مفرطه كأن صوره الفتاه التي لم تفارق مخيلته مسته بنوع من الجنون وعشت بصره. إنها تذكره بشقيقتيه وتستحضر إلى ذهنه في لحظه، كل ما مر به من مأس خلال ثلاث سنوات، مشاهد تترأى له. تتوالى في مخيلته منذ لحظه دخول المسلحين إلى بيتهم حتى اللحظه. اخذ يدور حول نفسه كمن فقد شيئا ما.
احس الحموي انه لم يعد في صدره متسعا لتحمل مزيدا من الذل والاهانه. وان ما توقعناه من رده فعل حتميه قد تكون جنونيه على وشك ان تتحقق. وتلك المشاهد والصور التي تمر في مخيلته ومن أمام عينيه بسرعه مذهله تستفزه، تزيد من غضبه ومن توتره. ولم يعد يثنيه عن القيام بواجبه تجاه تلك الفتاه أي اعتبار، بل من العار السكوت، مقتنعا بأن انتصاره لها انما انتصار لنفسه قبل كل شيئ ولشقيقتيه عائشه وبيان اللتين لم تفارقاه للحظه ولكل المظلومين.
دخل القاعه وبيده وعاء الجمر والملقط وقلبه يخفق بعنف. ما ان وقع نظره على الفتاه وهي تبكي وتستغيث رافضه الانصياع لذلك التنبل المتخم القابض على معصمها بقسوه يحاول جاهدا جرها، والمدام تدفع بها من الخلف. يتصرفون معها كما لو يتعاملون مع دابه أحرنت " رفضت " دخول الحظيره. تستنجد وما من مغيث، لا احد في القاعه عنده نخوه او شرف وفي قلبه رحمه يحرك ساكنا. مستنكرا، رغم إيمانه وتدينه، التاريخ والعروبه والإسلام، كأنما كتب التاريخ والتراث خرافه كبرى فلا وآسلاماه ولا ومعتصماه... شل عقله عن التفكير، استولى عليه الدوار بشده هذه المرة حتى تطاير الشرار من عينيه، ولم يعد عنده شيئ يخسره او يخشاه،
فاقد السيطره على نفسه، اندفع بسرعه وجنون نحوهما وانهال بالضرب على رأس الأعرابي المنتفخ بوعاء الجمر، ثم التقط نرجيله، أنزلها على رأسه حتي أوقعه أرضا. والتقط الثانيه واسقطها بقوه وحزم ليكسرها فوق رأس المدام.. والثالثه والرابعه و.... يكسرها جميعها على رؤوس من تواجد حول المدام وعلى رؤوس التنابل المستلقين على الفراش واحد تلو الآخر.
عمت الفوضى المكان، هرب من هرب وسقط من سقط، تطايروا تناثروا كأوراق الخريف فزعين في كل اتجاه. اختلط الحابل بالنابل وتعالت صرخات الاستغاثه وصيحات التوسل والاستجداء، عويل وبكاء، ودم ينزف غزيرا. تصاعد الدخان كثيفا يتفشى داخل القاعه والنار تلتهم الفراش بسرعه مذهله من جراء الجمر المتطاير. جمع غفير يهزم أمامه، يفرون دون أي مقاومه. ولم يبق في القاعه سوى المصابين والجرحى مستلقين على الارض لا أحد يسعفهم.
اخذ كريم الحموي بيد الفتاه، وهم للخروج من القاعه دون استعجال، واثق الخطى فخورا بنفسه مطمئنا غير أبه. لا يخشى أحدا. انها معركته الأولى التي خاضها بمفرده أمام جمع غفير وانتصر. وقبل أن يغادر المكان وقف في مدخل القاعه وهو منتش رغم التعب والخوف وألانهاك، يتأمل، يحدق فيما خلفه من فوضى ودمار بمشاعر مختلطه. اذ رأى أن عيني الفتاه ونظراتها تطفح بالعرفان نظرات شقيقتيه، فأنتابه شعور بالحزن والآسى والمسؤوليه، متيقنا ان أمامه مهمات ومعارك كثيره، أكبر، اصعب واهم قد تكون مصيريه....
ليس فقط، ؟
اكثر ما حز بنفسه واشعره بألاحباط حد الاكتئاب ورغم انتصاره، منظرهم وهم يتدافعون كالقطيع هربا من امامه مهزومين، مأزومين، ضعفاء مهزوزى الإراده، لا حيله لهم ولا قوه. غير قادرين حتى من الدفاع عن انفسهم. رغم نعومه أظفاره متسائلا كيف افضى بهم الحال لي هذا الحد من الشلل الجسدي، الدماغي والنفسي ومن جبن، ذل وخمول. ? ولا عجب، انهم مخبولون، كيف لا، وهم لا يفرقهم عن زعمائهم في الدول التي قدموا منها شيئ، انهم مسلوبو الإراده محبطون خنوعمن. غرقوا في الملذات متخمين همهم الوحيد الحفاظ على عروشهم الورقيه فباتوا عبئا ثقيلا على شعوبهم، يخافون حتى من ظلهم. يستدرجون رعايهم مجرد مخلفتهم الرأي إلى القنصليات لتقطيع أجسادهم بغباء دون رحمه، ويبيعون أوطانهم من أجل الحصول على الحمايه من الخارج مقابل المال....
دوت صفارات الانذار من كل تجاه وهرعت إلى المكان الشرطه وفرق الانقاذ. غادر المكان مسرعا ومعه الفتاه ليختفيا في أزقه المدينه الملتويه يدوران في الثنيات.
واصلا ركضهما في الازقه والمنحنيات المعتمه الخاليه تماما، ففي سكنه الليل، والليل اوشك على ملامسه الفجر لا يسمعا الا صوت وقع خطاهم قاطعين مشوارا طويلا اعياهم التعب وارهقهم الخوف، جلسا، والفتاه ترتجف، يستريحان على عتبه أحد المحلات. حتى اللحظه، لم ينبس أحدهم ببنت شفه ولم يتكلم أحدهم مع الآخر،كل مع نفسه، في هذه الاثناء لاحظ الحموي في مدخل عماره بوابتها الضخمه يمر بها دهليز يؤدي إلى ساحه من حولها محلات تجارية. دخل البوابه يتفقد عله يجد مكانا يقضيان به ليلتهم.
لا انجلاء الليل، ولا جلبه الصباح ولا حتي صوت الآذان الاتي من مكبرات الصوت المنتشره بكثافه في المساجد القريبه ايقظهم من نومهم. الماره واصحاب المحلات احتاروا بأمرهم وهم يرمقونهم بنظرات الشفقه والإستغراب. شاب وشابه في مقتبل العمر ارتسمت على محياهم علامات البراءه والحزن يغطون في نوم عميق على الرصيف وسط الزحام، ما حذا ببعض الماره ترك النقود لهم.
استفاق الحموي مذعورا متألما من شده الوجع في جانبيه من النوم على الرصيف. يجول بنظره خائفا، متوترا،لا بد أن الشرطه تبحث عنه وإن وجوده وسط الزحمه قد يكشف أمره. نهض ووقف على رجليه يتأمل الفتاه وهي مازالت مستلقيه على الرصيف بجانبها بعض النقود. محتار ماذا يفعل بها. صراع بداخله، هل يتركها ويهرب من المكان لينقذ نفسه خوفا من أن تقبض الشرطه عليه ؟ ام يوقظها ويأخذها معه،لكن إلى اين ؟ وهل لديه القدره على حمايه نفسه أولا وحمايتها وتحمل مسؤليتها.؟ وقف محتارا بأمرة مترددا يدور حول نفسه يهم بالذهاب،
يبتعد قليلا ثم يعود، يقف مترددا.. يبتعد ثم يعود....
إنه لا يعرف من هي، ما اسمها من اين اتت وما هو مصيرها. إلى ان حسم موقفه بسرعه مقنعا نفسه قائلا، لقد أنقذتها لن القي بها الى المجهول.!!
ايقظها من نومها. فتحت عينيها بوجهها الشاحب مربكه مذعوره خائفة ترتجف، منهكه، جائعه. أعانها على الوقوف وهما للخروج من المكان. لكنها بدت خائره القوى تمشي ببطء شديد تترنح. في هذا الموقف انتابه احساس بالعجز والإحباط من قلقه عليها، يريد فعل شيئ ما لا يعرف ماذا. بينما هو في حيره من أمرة وقع نظره على لافته معلقه أمام إحدى البوابات فيها صوره كبيره لراقص التنوره الصوفيه بطربوشه الاحمر. كتب تحتها باللغتين التركيه والعربيه،
مركز جلال الدين الرومي الطريقه النقشبنديه المولويه.
راق له الأمر فهو طالما شبه نفسه براقص التنوره وهو يدور في الشوارع وأثناء دورانه بين الاراجيل. قرأ على جانب الصوره.
" دع الحب يأخذك إلى الله. الله هو مركز الحب منه تنبثق انوار العشق لتنير عتمه القلوب."
وفي أسفلها كتب ساعات الدوام.
من الساعه :
17:00 لغايه الساعه ٠٠ 00:00.
لننتظر، قال لنفسه. وهو لا يعرف حتى كم هي الساعه الآن ! اعان الفتاه على الجلوس على عتبه مدخل المركز وهي في شبه غيبوبة، قلق عليها محاولا جاهدا إبقائها على وعيها. وحاله لم يكن بأحسن من حالها، يأرقه الخوف والرعب يعتريه، عطش، جوع وألم. يحلم بجرعه ماء. خائف، كلما رآى رجل أمن أو شرطه يخفق قلبه وينحو بنفسه جانبا. لا يملك الا بعض القروش التي تركها الماره وهما نيام. تأمل النقود في كفه علها تكفي لشراء رغيف من الخبز. هم للذهاب ثم تراجع، ليس من الحكمه تركها لوحدها. ضاقت الدنيا عليه وطال عناؤها، انه في موقف من أصعب المواقف التي مر بها في سنوات تشرده. جلس بجانب الفتاه وضع رأسه بين يديه يفكر جاهدا عله يجد مخرجا لكنه لا يقوي حتى على التفكير كأن شللا اصاب دماغه. فجأة سمع صوت وقع خطى ثقيله تقترب وظل يخيم عليه ويد تهبط ثقيلة على كتفه. تسمر مكانه يرتجف من الرعب لا بد انها الشرطه قال لنفسه مستسلما وهو ما زال مطأطئا رأسه. ثم سمع صوت رجل يقول : "
إئذنا لي الدخول لو سمحتم." ثم استطرد متسائلا:" من أنتما وماذا تفعلان هنا.؟ "
رفع الحموي رأسه المثقل ببطء، واذا برجل بعباءته البيضاء وطربوشه الأحمر وقامته الطويله بيده صره مفاتيح يقف أمامه. نهض من مكانه واستقام أمام الرجل وقد احس ببعض الاطمئنان. آجاب الرجل باللغه التي خاطبه بها قائلا :
" اسمح لنا يا سيدي، ارجو منك المعذره "
وأخذ بيد الفتاه يعينها على الوقوف ليفسح له المجال بالدخول. لكن الفتاه بدت اثقل من عزيمته.
وقف الرجل محتارا بأمرهما، وهو يمعن النظر في أسارير وجهيهما، وقد لاحظ في تعابير وجه الحموي، رغم الشقاء، مسحه جليه من الوسامه والرجوله والشهامه. وعلى معالم وجه الفتاه الشاحب براءه ممزوجة بالحزن والآسى. رق لهما قلبه ورأف بهما وفي قلبه شفقه ورحمه. اخذ بيد الفتاه وادخلهما إلى المركز، أجلسهما في المطبخ حول طاوله كبيره مستديرة الشكل تتسع لعشرات الأشخاص. قدم لهم الماء وبعض الطعام. تركهما وانصرف لأعماله في المركز. في الداخل، البناء يتوسطه قاعه دائريه كبيره عاليه السقف محاطه بأعمده رخاميه ضخمه تصفي الاعمده على القاعه قدرا كبيرا من الفخامه والرهبه. حولها مدرجات ومقاعد للزوار. بها تقام حفلات الرقص الصوفيه ما يعرف برقصه التنوره. على جانبي القاعه دهاليز تؤدي إلى غرف وقاعات صغيره. خصصت لحلقات الذكر والتوحد، للتعليم والحضره. والموالد.
جلست الفتاه لا تحرك ساكنا، جلست في صمت إلهي مدو، عينيها المستنفرتان تحدقان في فراغ، منفصله تماما عن واقعها. انها مازالت تعاني من هول الصدمه غير مستوعبه الاحداث الاليمه المتتاليه التي تمر بها. حاول الحموي التحدث اليها والتواصل معها دون جدوى.
اضطر الحموي مرغما على اخفاء شخصيتهما الحقيقيه عن الرجل، وقدم له الفتاه على إنها شقيقته وإن اسمها سوسن وقد عرف نفسه بمحمد جميل " على اسم والده " من مدينه حلب " بدل من حماة " وأنهما من بين القله الذين بقوا على قيد الحياه في قارب اللجوء الذي أوشك على الغرق. أصبح اسمه من الآن فصاعدا محمد الحلبي ويعرف ب " الحلبي ". وكما عمل على اخفاء شخصيته كان لا بد من التخفي وتغيير ملامح وجهه ومنظره الخارجي. فهو اصبح مطلوبا للعداله. ان ما قام به بألامس لأمر غايه في الخطوره ظهرت نتيجته في الصحف الصادره في اليوم التالي. اذ تبين أن القاعه احترقت بأكملها وان عدد من الأشخاص لقوا حتفهم. حف " الحلبي " شعره وأطلق لحيته، خلع ملابسه القديمه ولبس العباءه ووضع العمامه على رأسه.
بعد أن أذن لهما، رأفه عليه وعلى الفتاه، البقاء في المركز مؤقتا، عمل الحلبي جاهدا على أن لا يغادره ليس مجبرا هربا من الشرطه او للتخفي، إنما اختيار. فبذكائه وقوه إرادته وجمال خلقه فرض وجوده واحترامه. لم تمر فتره طويله حتي بدأت تظهر تغيرات على المركز وبدت لمساته، بمساعده الفتاه، تظهر جليا في صيانه المركز، نظافته، ترتيبه وحتي ديكوره. ما لفت انتباه ودهشه القائمين على المركز ونال إعجابهم. وعجل من إنخراطه في الفعاليات والأنشطة وحلقات الذكر. دأب بشغف على قراءة الكتب والنصوص الصوفيه، ليرتقي في سلم المراتب بسرعه لافته. لكن موهبته الحقيقيه برزت من خلال انضمامه إلى فرقه الرقص الصوفيه " التنوره " التي أحبها وطالما حلم بها. ونظرا لبنيه جسمه، بطوله ولياقته البدنيه، وإرادته جاءت حركاته متناغمة فيها خفه ورشاقه وابداع وبراعه في الأداء، مفعمه بالمشاعر والاحسايس. إذ وجد في الرقص وهو يدور حول نفسه ملاذا آمنا من خلاله ينفصل عن واقعه ليحلق عاليا في شبه غيبوبة تنقل روحه إلى عالم الخيال ليذوب في حب الله.
اما الفتاه،" سوسن " بعد أن تعافت وتحسنت حالتها النفسيه والجسديه انضمت هي الأخرى إلى حركات الذكر النسائيه، واقتصرت حياتها على العمل في مشغل الخياطه التابع للجمعيه ونشاطها في حلقات الذكر. عكفت على الصلاه والعباده والصمت حليفها الدائم والغموض يكتنف حياتها. رغم احترامها وتقديرها وحبها العميق له الا انها لم تكشف بشيئ عن حياتها الشخصيه. منطلق من ايمانها رغم حداثه سنها ان الحياه مجرد ممر إلى الاخره. ويجب على الإنسان أن يستغل حاضره في حب الله وعبادته. في نظرها لا شيئ حقيقه في حياتها الا اللحظه التي تعيشها وإن الماضي انقضى لم يعد له وجود ولا قيمه له والمستقبل ما هو إلا وهم مجهول وافتراضي.
ذاع صيت " الحلبي " في البلاد واخذت شهرته تزداد يوما بعد يوم ولمع اسمه في عالم الدروشه والرقص الصوفي من خلال ظهوره في احتفالات الأعياد والمناسبات الدينيه داخل المركز وخارجه. كما في الموالد وحتى الاعراس الدينيه. لم يكن الرقص بالنسبه له متعة وفرحا او كسبا للمال. إنما وجد فيه وسيله للخروج من واقعه بماضيه وحاضره إلى عالم غير عالمه إلى عالم الخيال والوهم والسكينة والتوحد مع الله. ما ان ينتهي من الرقص حتى يعود إلى واقعه يفكر بشقيقتيه عائشه وبيان.... يقف امام الحضور يتفحص بنظراته الخفيه باحثا عنهما بين الجمهور يقص عليهم قصه اختفائهما على أمل الحصول على اي معلومه او رمز ما قد يساعده في حل لغز اختفائهما. عاده كانت تنهال عليه معلومات وقصص كثيره، يستمع، يدقق، يبحث ويحقق في كل معلومه، يجول البلاد طولا وعرضا ومعه سوسن لا تفارقه. في مخيمات اللجوء وفى الحدائق والأسواق وفي التجمعات دون كلل أو ملل ومرت الأيام وتوالت دون جدوى. في يوم من الأيام وقف امام الجمهور كعادته يحكي قصته. واذا بأمرأه مسنه تصرخ من بين الحضور :
" إنها عأئشه اعرفها ".
نفرت عيناه وفز قلبه يرتعد.
جلس " الحلبي " امام المرأه يتأمل تعابير وجهها مصغيا لحديثها بشغف حاد. حكت له أن أخا لها راهب في كنيسه بمدينه غازي عنتاب على الحدود السورية جاءها في يوم من الأيام، ليس كعادته، يطرق باب بيتها في ساعه متأخرة من الليل. كان الأمر غريبا جدا بالنسبه لها، خفق قلبها عندما سمعت صوته، كانت بصحبته فتاه ترتجف من الخوف في حاله يرثى لها، طلب منها أن تهتم بأمر الفتاه وإبقائها في بيتها لعده ايام ريثما يتدبر امرها. مكثت الفتاه في بيت المرأه ثلاث ليال. خلالها عملت المرأه على خدمه الفتاه وتقديم لمساعده اللازمه لها. حاولت الحديث اليها والتقرب منها لكنها كانت مضطربه مصدومه منغلقه على نفسها. عرفت المرأه ان اسم الفتاه عائشه عمرها اربعه عشره عاما وأنها فقدت عائلتها في البحر. وإن صاحب القارب باعها لامرأه تشتري القاصرات لتزوجهن مقابل المال أو ليعملن في الملاهي. وقد نجحت عائشه الافلات من قبضتها واللجوء إلى الكنيسه. بعد اربعه ايام عاد إلى بيتها لاب حنا واخذها معه إلى دير الزعفران " دير حنانيا " في مدينه مردين جنوب شرق الأناضول على الحدود السورية العراقيه. وهي ما زالت تعيش هناك منذ حوالي ثلاث سنوات ونيف.
يمضي الوقت ببطء شديد هذه الليله على الحلبي وهو يتقلب في الفراش " في انتظار الفجر ". انه عاقد العزم السفر إلى مدينه ماردين صباحا، لن يألو جهدا من اجل إنقاذ شقيقته. وقبل أن تلقي الشمس بأشعتها الناعسه على سطوح بيوت المدينه القديمه النائمه وأسوارها واسواقها الخاليه. كان " الحلبي " قد جهز نفسه استعدادا للسفر وحيدا هذه المرة ليريح سوسن عناء السفر. فالمشوار طويل وشاق تقطع به الحافله ١٥٥٠ كم في ١٧ ساعه متتالية. لكنها أصرت بإلحاح أن لا تتركه يسافر لوحده. لا بل إنها تخشى الابتعاد عنه والبقاء لوحدها. فالعلاقه بينهما أقرب إلى علاقه الطفل بأمه. فهو بالنسبه لها لاب والام لا تثق الا به

ولا احد لها في هذه الدنيا سواه. أما بالنسبه له فأن تعلقها به بهذه الطريقه مسؤوليه كبرى بل حمل على كاهله ثقيل. يود لو ان بأمكانه إعادتها إلى أهلها. لكنه رغم مرور الوقت لا يعرف عنها شيئا، يحيره صمتها وغموضها حيال عائلتها وماضيها.
وصلت الحافله في منتصف الليل إلى مدينه ماردين ليقضيا ليلتهما في فندق متواضع وسط المدينه في غرفتين منفصلتين.بعد الفطور جلسا على الشرفه المطله على سهل بلاد ما بين النهرين بمشهد بانورامي رائع. جلسا يحتسيان الشاي بصمت، كعادتهما، انهما لا يكثران الحديث، كل مع نفسه. يقضيان اوقاتهما في التوحد والصلاه وقرءه القرآن.
يبعد الدير عن مركز المدينه حوالي ٤ كيلومترات وقد نصحهما موظف الفندق أن لا يستعجلا الذهاب إلى الدير قبل الموعد المحدد لاستقبال الزوار كي لا يضطرا على الانتظار تحت حراره شمس الصيف الحارقه. في الطريق اخذ سائق سيارة ألاجره يلقي على مسمعهما، تلقائيا بنبره العارف، عن معالم المدينه القديمه وعن تاريخها وتنوعها الثقافي والعرقي إذ تتعايش بسلام سبعه قوميات بلغاتها المختلفه. وتنتشر بها المساجد والكنائس والمعابد الازيديه وغيرها. والكثير من المعالم التاريخيه. تحظى المدينه بإهتمام السياح من داخل البلاد ومن كل أقطار العالم. على ذمه بعض السواح تشبه مدينه ماردين في معالمها مدينه القدس القديمه، بأبنيتها ولون حجارتها وأزقتها واسوارها واسواقها وفي آذانها ودقات نواقيسها وأيضا أجوائها، وأضاف أنه غير متأكد من صحه القول اذ انه لم يزر مدينه القدس ابدا.
صدحت مآذن المدينه بآذان الظهر إذانا بموعد الصلاه. طلب الحلبي من السائق الخمسيني الوقوف عند أقرب مسجد لأداء الصلاه. بعد الصلاه واصلوا مشوارهم إلى الدير. بينما هم يتجاذبا بعض أطراف الحديث تجهم وجه الرجل فجأة وبدأ منزعجا من شيئ ما قاله الحلبي. إذ قال متسائلا إن كان عبده النار والشمس من عبده الشيطان ؟ قالها عن غير قصد، وعدم معرفه وسذاجة ما أثار حفيظه السائق وغضبه قائلا : " نحن لسنا بعبده الشيطان بل أنتم الشياطين، نحن أول ديانه آمنت بألرب الواحد قبل أن تعرفوه بالالاف السنين. نعم نحن نقدس النار في طقوس الطهاره النفسيه أمام الرب. اما انتم، فكتبكم التي تدعون إنها سماويه ما هي ألا قصص وأساطير وجدت في كتب الاولين. لقد جعلتم من شرائع حمورابي وصاياكم العشره التي لا تعملوا بها. انتهكتم حرمه الله وعظمته، ادعى احدكم أنه ابن الله، واخر مقابله الله ومخاطبته، وثالث أسرى اليه ليلا. بأسمه أطلقتم حملات الاحتلال والسيطره والاستبداد " تبشيرا " وصككتم للغفران صكوكا. منكم من غزا واحتل، فرض الجزيه، اخذ الغنائم والسبايا واسماه. " فتحا " وهناك من ادعي انه، المختار، ومن دونه " أغيار " يطرد شعبا بأكمله من وطنه بحجه إنها ارض الميعاد التي وعده بها الله..... !
صمت الحلبي مرتبكا مصدوما، لا يعرف كيف يتصرف. خرج من السياره مكسور الخاطر، متمنيا لو أن الأرض إنشقت وابتلعته.
مع إقتراب موعد اللقاء، وقف الحلبي وسوسن أمام الدير وفي قلبيهما رهبه وخشوع، وقفا ينتظران اللقاء بفارغ الصبر وفي قلبه نار تتقد شوقا. رغم ما يساوره من الشك إلا أن عنده احساس عميق بحتميه اللقاء. بسط الدير جناحيه بأبنيته القديمه على سفح الجبل. كأنه يغرق بين أشجار الزيتون المعمره، واحه وسط الصحراء. الطقس حار وقطرات العرق اخذه بتدحرج تحت العبائات التي التفا بها.
دخلا بلباسهما المميز قاعه استقبال الجمهور المقتظه بالزوار. بعباءته البيضاء وطربوشه الأحمر الذي طمس به رأسه حتي تعدى عينيه، تخفيا، وبعباءتها السوداء وبرقعها ךالتي حجبت وجهها تماما جذبا اليهما أنظار من تواجد في القاعه. وقف الحلبي يفكر في الطريق التي تقوده إلى لقاء شقيقته عائشه. في تلك الأثناء لفت انتباهه منظر سوسن وهي تقف مع بعض الزوار خاشعه تصلي أمام صوره المسيح المصلوب المعلقه على الحائط وسط القاعه تتمتم وهي ترسم بيدها إشاره صليب على صدرها. لكنه لم يعر لامر أي اهتمام. ما يهمه الآن اللقاء المنتظر.
يبعد الدير عن قاعه الاستقبال حوالي ٢٥٠ مترا. يسمح بدخول مجموعات بمرافقه مرشد فقط. متخطيا بعض الإجراءات الروتينية التي استغرقت بعض الوقت إلى أن قابل الاب يعقوب المسؤول عن الدير الذي اكد له وجود فتاه اسمها عائشه تطابق الوصف.
جلس الحلبي ينتظر في غرفه الاب يعقوب وبجانبه سونس، جلس بصمت متحفزا متوتر الاعصاب، ركز نظره في باب الغرفه ينتظر مجيئها، وقد طال الانتظار وتجمد الزمن في المكان. عاد الاب يعقوب ودخل الغرفه بمفرده ويبدو عليه بعض الارتباك وقال " اخبرتني عائشه ان أفراد عائلتها لاقوا حتفهم في زورق اللجوء جميعا وهي متأكدة ان أخاها كريم قد غرق، أود أن أوضح لك اخي الكريم إن عائشه منذ قدومها إلى الدير وهي منطويه على نفسها عندها شك في كل شيئ لا تثق بأحد، ولم تقابل أحدا. هي الآن موجوده في الغرفه المجاورة تنتظر سماع منك شيئ أي شيئ يثبت لها انك كريم."
وقف كريم، وقال بأعلى صوته يقرأ تلقائيا، بشيئ من العفويه، أبياتا شعريه من قصيده نزار قباني كان ابو كريم ما يرددها وهو جالس أمام التلفاز عند سماعه خبرا سيئا.
" من المحيط إلى الخليج قبائل بطرت فلا فكر ولا آدآب..
.انا يا صديقة متعب بعروبتي وهل العروبه لعنه وعقاب،
ثم استطرد قائلا يردد :
الطريق جزء من البيت "....
جاءت صرختها من الطرف الآخر قويه حزينه " اخي كريم... حبيبي اخي... حبيبي اخي كريم....
وتم اللقاء.. طال العناق... امتزجت الدموع على خديهما غزيره والصمت رهيب. الموقف مثير، بكت سوسن. بينما غادر الأب يعقوب الغرفه يخفي دمعته.
جلسا يتفقد أحدهما الآخر، كل بلباسه، غير مستوعب أحدهما منظر الآخر. طال بينهما الحديث، حديث ذو شجون، تشابكت القصص بالذكريات والحنين بالأشواق، والاشتياق إلى كل شيئ افتقداه، إلى شقيتيها بيان التي انقطعت اخبارها تماما وقد حيرهم آمر اختفائها كثيرا. مر الوقت سريعا إلى ان حان وقت الرحيل. قال كريم لشقيقته " لقد مر وقت طويل على فراقنا وأخيرا اهتديت إليك وقد حان وقت لملمه الشمل. ادعوك مرافقتي للعيش معي في المدينه "
دنت عائشه من اخيها واحتضنته بشده وألقت برأسها فوق كتفه تذرف دموع الحزن بدلال. لكنها لم تقل شيئا.
قال :" لك ألان من يهتم بك ويرعاك، لقد تعبت كثيرا حتى وجدتك. ليس لي في هذه الدنيا سواك احتاج إليك كثيرا. علينا من الآن فصاعدا أن نكرس جهودنا من أجل البحث سويا عن شقيقتنا بيان. ولن يهدأ لي بال حتي أجدها. "
صمتت عائشه.
قال :" اذا كنت غير جاهزه الآن سأعود لاخذك غدأ او في أي وقت اخر ".
مر وقت ولم تجب.
وقد كرر السؤال بالحاح !
حتى نطقت،
قالت بصوت مخنوق وقلبها يعتصر آلما والدمعه لم تفارق مقلتيها " اخي حبيبي سامحني، انا قد حسمت خياري منذ زمن.
لن أترك الدير ".!
صدم كريم. إجابتها صدمته ".
قال :" ولكن " ولم يكمل.
الصمت سيد الموقف!
وقفت سوسن وهمت للخروج من الغرفه كي تتيح لكريم وعائشه البقاء وحدهما. لكنه طلب منها البقاء.
إنه يفكر بصمت. يتسائل عن سبب إصرار عائشه البقاء في الدير. بدا هو ايضا مصرا على موقفه، ليس من منطلق واجبه الأخلاقي، الديني الشرعي والانساني فحسب، إنما لحاجتها لمن يرعاها ويؤمن مستقبلها وظروف عيشها الكريم. فهي مازالت قاصر تستحق الرعايه.
امسك كريم بيد شقيقتيه عائشه وركز نظره في عينيها محاولا اقناعها قائلا : " اختي حبيبتي لن أتركك هنا وحيده. انت ابنه لشعب عريق ودين حنيف ومن عائله كريمه. نحتاج احدنا الاخر. تعالي معي انت ما زلت صغيره والمستقبل امامك، بأمكانك اكمال دراستك الثانويه وحتى الالتحاق في الجامعه."
لكن عائشه تبدو مصره على موقفها.
قالت : " ارجوك اخي، ارجوك أن لا تحرجني ".
قال : " أنا مستعد ان افعل كل شيئ، أي شيئ من اجلك. لماذا تصرين البقاء في الدير وانت مسلمه؟ "
بعد صمت طويل وهي متردده قررت عائشه الاعتراف قائله :" اخي الكريم انت لم تعرف ما هي الظروف التي مررت بها وما حجم الذل والمعاناه، الشقاء وفقدان الامل. لقد قررت أن أهب نفسي للرب والذوبان في محبه الله. انا اخي كريم مؤمنه والإنسان المؤمن هو من يطيع الله ويعبده. الله محبه وما الأديان الا وسيله لتوصلك إلى محبه الله. كل واحد منا يعبده ويتقرب اليه بطريقته ومن موقعه إن كان معبدا أو جامع او كنيسه والهدف واحد.
أجاب كريم بصوت خافت وقد بدا عليه الإرهاق قائلا :" اني أوافقك الرأي يا اختي أن عباده الله ممكنه من كل مكان، وفي المدينه يوجد كنائس وجوامع يمكنك ممارسه شعائرك الدينيه عندنا في المدينه كما تشائين.
جلست سوسن تراقبهما وهي تستمع لحديثهما بكثير من الاهتمام والتركيز وألانجذاب. على ما يبدو ان هناك امر ما يهمها شخصيا في الحديث الدائر بينهما !
أخذت عائشه نفسا عميقا، توحي قول شيئ ذي اهميه، قالت بنبره الواثق من نفسه :" اخي كريم انت لا تعلم ما حجم الصراع الذي بداخلي، بالنسبه لي انت اغلى ما في الوجود، ارجوك قدر موقفي. أنني مدينه لهؤلاء البشر ولهذا الدين. لن أخذل من اعطاني الحياه، اعاد لي كرامتي، انقذني من حياه الذل وأعاد لي الامل عندما كنت أقرب إلى الهلاك والموت. قدموا لي العون دون أي مقابل ومن دون أن يعلموا من انا وما هو ديني انطلاقا من إيمانهم أن محبه الإنسان هي من محبه الله. في الوقت الذي لم أجد مكانا ألجأ إليه أو أحد ممن ذكرتهم يمد لي يد العون. بل حاولوا استغلال ضعفي.
عدا النهار وأخذ الليل يلقي بظلاله، احس كريم بالإرهاق والتعب، احتضن شقيقته عائشه طالبا منها أن تأذن له بالمغادرة، ليس قبل أن يقبل يديها قائلا :" أنني أتفهم موقفك واحترم قرارك. اعلمي ان لك أخا في هذه الدنيا مستعد ان يضحي بأغلى ما يملك من اجلك ومن أجل شقيقتنا بيان. رعاك الله وبارك فيك.
احست عائشه لحظه الفراق ان قطعه قد انسلخت من جسدها، أرادت أن تقول له أشياء في بالها كثيره لكن احست بالاختناق وعلق في حنجرتها الكلام !
إنها تبكي بصمت.
استقل كريم وسوسن الحافله في طريق عودتها إلى المدينه. أمامهما مشوار طويل. جلسا كعادتهما كل مع نفسه. لكن هذه المرة يوجد في نفس كل واحد منهما ما يقوله للاخر. اسئله كثيره تدور بخاطرهما. لكن عند سوسن بدا الامر أكثر إلحاحا. لديها رغبه عارمه أن تكسر الصمت، وحان الوقت للبوح لكريم بالغموض الذي غلف حياتها. لكنها لا تعرف كيف تبدأ.
جلس كريم يراجع المواقف والأحداث خلال زيارته. وقد استوقفه منظر سوسن وهي تصلي أمام صوره المسيح. بالنسبه له اخذ هذا الموقف بعدا آخر بعد لقائه مع شقيقته عائشه ورفضها مغادره الدير ومرافقته للعيش معه.
كسرت سوسن صمتها، قاطعه عليه أفكاره، وقالت مداعبة: " إذن اسمك كريم. اسم جميل حقا، اخفيته عني ". !؟
هز كريم رأسه متفاجئا قائلا : " للضرورة أحكام وانت تعلمين السبب. أنا اخفيت عنك اسمي فقط. اما انت تخفين عني كل شيئ. من انت يا سوسن؟ ".
أجابت محاوله اخفاء ضحكتها، وأنها المرة الاولى التي يسمعها تضحك: " انا سوسن ! أليس انت من اعطاني هذا الاسم؟. ثم استطردت:
" انا ناديه ".
قال :" ناديه! من هي ناديه ؟ ".
قالت :" انا ناديه، قبل أيام اتممت السادسه عشره من عمري. انا عراقيه من اصل اشوري مسيحيه الأرثوذكسيه. ". قاطعها قائلا : " لقد لاحظت ذلك وانت تصلين في الدير " !!
" نعم كان هذا تصرف تلقائي، هكذا تعودنا في المدرسه التابعه للدير في بغداد كنا نصلي عند دخولنا في الصباح وعند المغادره أيضا ". أجابت.
قال :" ما هي قصتك يا ناديا، ماذا تخفين عني ". ؟
قالت : " يبدو عليك التعب ويستولي عليك النعاس، هل حقا تريد الاستماع الآن؟".
قال :" نعم، لقد حان الوقت على ما اعتقد ". !
قالت :" سأحاول أن اختصر قدر المستطاع. هاجرت عائلتي من العراق إلى اسطنبول بعد سقوط بغداد بعده سنوات وقبل قدوم داعش بأشهر، كنت في السابعه من عمري. كان ابي صائغ ذهب ميسور الحال. ساءت أحوالنا بعد أصابه ابي بمرض عضال. لم يعد يعمل، استنفذ علاجه كل مدخراتنا ولم يعد بأمكاننا دفع أجره البيت او حتي شراء الدواء. لم يكن بأمكان والدتي ترك والدي وحده في البيت والخروج للعمل. خرجت شقيقتي مريا للعمل في جيل مبكر، على ما اعتقد، لم يكن عملا مشرفا. منذ فتره لم تعد مريا إلى البيت وقد فقد أثرها ولا نعرف ما هو مصيرها. لم يكن لدينا في البيت ما نأكله وصاحب البيت أراد طردنا من البيت. خرجت إلى العمل عند عائله اشوريه ميسوره الحال، أصدقاء العائله، لكن رب العائله من عمر أبي حاول اغتصابي. كنت امضطره اللاستمرار في العمل. كنت ارتدي سروالين " بنطلونين " جينز فوق بعضهما لاحمي نفسي من إعتدائته المتكررة. في يوم من والايام قاومته وصرخت، زوجته جاءت لنجدتي. غادرت البيت ولم اعد. إلى ان اتت " المدام " ذات يوم إلى البيت أخذتني معها مقابل بعض من المال أعطته لامي. أخذتني وجاءت بي إلى القاعه وحصل ما حصل، وها أنا جالسه بجانبك الآن.
اما ما أردت قوله، وهذا هو الاهم. أنني تأثرت وأنجذبت كثيرا للحديث الذي دار بينك وبين عأئشه. أن ما قالته عائشه هو ما أردت قوله لك. كأن لسان حالها لسان حالي. إنها عبرت تماما عن ما يدور بداخلي، والأسباب ذاتها التي من أجلها أعتنقت عائشه المسيحية هي الاسباب التي جذبتني إلى الإسلام. وما قالته هو الاهم، عندما يكون الانسان قنوعا مخلصا في إيمانه فأن الله يتقبل صلواته من أي مكان.
لقد حان الوقت كي اشكرك على شهامتك وشجاعتك و صبرك على ما فعلته، وما زلت، من أجل شقيقتيك ومن أجلي ومن اجل المشردين. أن دينك هو ديني، أشعر بالاطمئنان والأمان وانا بجانبك، اخشع للصلاه ولقراءه القرأن وفي حلقات الذكر.
الله في السماء والامل والعدل والمحبه في الأرض. اللهم ثبت الايمان في قلوبنا وأرشدنا إلى الخير.
بدا كريم متأثرا منفعلا وهو يستمع لها بكثير من التركيز والاهتمام. متفاجئا من طلاقه لسانها ومنطقها وقدرتها على التعبير. إنها المرة الاولى التي تنطق بها. ما قالته ناديه ادخل إلى نفس كريم الرضى وبعض الاطمئنان.
تجاوزت الساعه الثالثه صباحا، الظلام دامس، والحافله تسير تطوي المسافات، جميع من على متنها نائمون، والطريق ما زال طويلا ومازال في نفس كريم كثير.من الكلام.
وأين اهلك الآن، الا ترغبين العوده إليهم والعيش معهم ؟ تسأل ؟
أجابت ناديا بنوع من الاسى وبصوت خافت خجول :" لا تسلني عنهما من فضلك. انا لا انتمي إلى من باعني وتخلى عني طفله صغيرة في أمس الحاجة للرعايه والحنان. القوا بي إلى الجحيم ليمنحوا الحياه لرجل مسن ملقى على فراش الموت ؟ إن من انقذوا حياتي واعادوا لي كرامتي هم اهل لي، دينهم ديني ولهم ولائي.
احس كريم كأن شوكه وخزته في صدره، كلام ناديا ذكره بما سمعه للتو من شقيقته عائشه. وقال يتمتم بينه وبين نفسه :" كلنا ضحايا لقد خسرنا بيوتنا وضللنا طريقنا. " وبحركه لا إراديه ضرب كفا بكف متسائلا: " من هو المسؤول عن مأسينا وشقائنا ومن الذي أوصلنا إلى هذا الحال ؟ ".
توقفت الحافله في وسط الطريق واعلن السائق عن استراحه لمده عشرين دقيقه. جلس كريم وناديا داخل الاستراحة يقابل أحدهم الآخر يأكلان بعض الشرائح ويحتسيان الشاي " انهما يتضوعان جوعا ". جذب انتباه كريم منظر ناديا وهي تدخل الطعام والشراب إلى فمها من تحت برقعها الاسود. والغريب في الأمر، رغم تواجدهم معا طويلا، إلا إنها المرة الاولى التي يصوب بها نظره مباشرة الى نحوها. وبدا الأمر اكثر غرابه عندما ايقن ان ملامح وجهها غابت عن ذاكرته. انه لم يلحظ وجهها منذ لقائهما الأول.
ما دار بينهما من حديث في الحافله قد كسر الجليد الذي ساد علاقتهما.
توجه إليها يسأل مستغربا :" لماذا فضلت إرتداء البرقع على الحجاب وهو ليس فرضا. ؟"
أعلن السائق عن انتهاء الاستراحة.
جلست ناديا في الحافله مربكه بعض الشيئ وقد فاجأها سؤاله، ربما يأتي جوابها مفأجئا ايضا ! فمن حرصها على صدق علاقتهما لزاما عليها أن لا تخفي عنه شيئا. هل تصارحه بما يجول بخاطرها ؟
قالت : " البرقع بالنسبه لي، رغم إيماني الراسخ، " قناع" اكثر منه نقاب. من خلاله آرى العالم كما أريد أن أراه. الصوره عبر البرقع تظهر مجزأة غير متكامله كما لو انظر عبر زجاج مكسر، لتكتمل الصوره في مخيلتي حسب رؤيتي لها. اخاف من الاتصال المباشر مع هذا العالم الظالم،وأحاول جاهده العيش بمنأى عن العالم الخارجي. "
انتبهت ناديه إلى أن كريم يصغي لها بأهتمام ويركز نظره مباشره في وجهها لاول مره. وكأنها قرأت أفكاره متسائله " هل ما زلت تذكر ملامح وجهي ؟" وهي أيضا قد نسيت ملامح وجهه منذ ان أطلق لحيته وتخفى تحت طربوشه !
طأطأ كريم رأسه خجلا مستغربا كيف كشفت ما يدور بخاطره. لكن ما يشغل باله ويفكر به حقا هو ما قالته ناديا عن "القناع ". مع انه يعي ما القصد. قال كريم وقد غزا النعاس جفونه المرتخيه " انت لست الوحيده، الكل يتخفى وراء قناع من غير قناع."
استسلم كريم للنوم، وكل من على متن الحافله أيضا. أما ناديه لم يغمض لها جفن تفكر بوحدتها وشقائها حزينه تبكي بصمت. حزن مرطب بالدمع دائم البلل. صمت خيم على الكون يدوي في حلكه الليل وفي قاع البحار والأنهر والوديان، في الزنزانات وفي مخيمات اللجوء وفي مقابر الأموات والأحياء، احياء أجسادهم قبور.
وسكت الرب، سكوت مبهم !
. فراغ في فضاء،
فضاء في فراغ،
فراغ في فراغ........ !



#عدلي_شبيطه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مصور بريطاني يوثق كيف -يغرق- سكان هذه الجزيرة بالظلام لأشهر ...
- لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس ...
- عمرها آلاف السنين..فرنسية تستكشف أعجوبة جيولوجية في السعودية ...
- تسبب في تحركات برلمانية.. أول صورة للفستان المثير للجدل في م ...
- -المقاومة فكرة-.. نيويورك تايمز: آلاف المقاتلين من حماس لا ي ...
- بعد 200 يوم.. غزة تحصي عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية
- وثائق: أحد مساعدي ترامب نصحه بإعادة المستندات قبل عام من تفت ...
- الخارجية الروسية تدعو الغرب إلى احترام مصالح الدول النامية
- خبير استراتيجي لـRT: إيران حققت مكاسب هائلة من ضرباتها على إ ...
- -حزب الله- يعلن استهداف مقر قيادة إسرائيلي بـ -الكاتيوشا-


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عدلي شبيطه - في انتظار الفجر