أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - سوسيولوجيا اميل دوركهايم















المزيد.....



سوسيولوجيا اميل دوركهايم


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 6643 - 2020 / 8 / 11 - 14:36
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


كاتبة المقال: الماركسية السوفييتية ايلينا فلاديميروفونا أوسيبوفا*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

1- الموقف الاجتماعي-السياسي لدوركهايم
تميّز الربع الأخير من القرن التاسع عشر في فرنسا بدخول الرأسمالية المرحلة الامبريالية بظواهر أزماتها الاقتصادية والسياسية والثقافية المتأصلة. لم يتمكن النظام الاجتماعي-الاقتصادي من ضمان وجوده المُستقر وكان يتعرض لتهديد أعمال الجماهير العاملة الثورية باستمرار. كانت الدوائر الاكليركية الملكية تناضل باستمرار ضد الجمهوريين البرجوازيين وتسعى جاهدةً لاستعادة النظام الاجتماعي الرجعي. كانت الركيزة الثقافية للرجعية هي الفلسفة الروحية. وفي الوقت نفسه كان تأثير وضعية كونت يتعزز بشكل ملحوظ في مختلف المجالات الثقافية في نهاية القرن. وجد الجمهوريين الذين كانوا يتقدمون ببرامج اصلاحاتٍ اجتماعية وسياسية نصيراً في فكرة ان على السوسيولوجيا أن تكون علماً مُستقلاً وأساساً لاعادة تنظيم المُجتمع. تطور الفكر السوسيولوجي في عدة اتجاهات في فرنسا بين عامي 1870-1914. قاد هذه التطورات أحد أتباع لو بلاي Le Play الذي أجرى دراسات مونوغرافية عن الموقع الاقتصادي والعائلي لجماعات متنوعة من السكان. كان أتباع لو بلاي محافظين ايديولوجياً، ورأوا في الدين أداةً لدعم النظام الاجتماعي المتهاوي. قام "الاحصائيون الاجتماعيون" وأكثرهم كانوا من الموظفين المدنيين، باجراء دراساتٍ تجريبيةٍ لمختلف المؤسسات العامة.
تجمّع السوسيولوجيين من مختلف الاتجاهات الوضعية حول رينيه وورمز Rene Worms الذي كان مُمثلاً للمجلة الدولية للسوسيولوجيا International Journal of Sociology. احتل تارد وكوفاليفسكي ونوفيكوف ودي روبيرتي وأعضاء نشطين آخرين مكاناً بارزاً في جمعية باريس السوسيولوجية ومعهد السوسيولوجيا الدولي. أما السوسيولوجيين الكاثوليكيين أتباع التوماوية فقد اتخذوا موقفاً ثيولوجياً. لم تخدم اي من هذه الاتجاهات كأساس نظري مناسب لتطلعات الجمهوريين البرجوازيين الاجتماعية والسياسية. وجد المفهوم النظري والمنهجي الذي دُعِيَ بالاتجاه السوسيولوجي Sociologism تعبيره الأكمل في كتابات دوركهايم 1858-1971، والذي صار الأساس النظري لسياسة البرجوازيين الجمهوريين وايديولوجيةً للاصلاح الاجتماعي ومُقدمةً ضروريةً لـ"السلام الطبقي" والتنازلات العالمية.
بعدما درس الفلسفة في مدرسة ايكول نورميل سوبريي Ecole Normale Supérieure في باريس، بدأ دوركهايم بالتدريس في المدارس الثانوية المحلية، وفي نفس الوقت بدأ يقرأ الأدب السوسيولوجي ويُساهم في مراجع المجلات الفلسفية. بعدما زار ألمانيا للتعرف على حالة الفلسفة والعلوم الاجتماعية والاطيقا هناك، تمت دعوته عام 1887 لتدريس العلوم الاجتماعية في جامعة بوردو. أصبح دوركهايم عام 1896 رئيس أول قسم فرنسي للتربية والعلوم الاجتماعية في الجامعة. صار هناك مجموعة من التلاميذ والأتباع حول دوركهايم: مارسيل غرانيت Marcel Granet، سيليستين بوغليه Célestin Bouglé، جورجيس ديفي Georges Davy، فرانسوا سيميا François Simiand، بول فوكونيه Paul Fauconnet، موريس هابواكس Maurice Halbwachs، مارسيل موس Marcel Mauss. بدأ دوركهايم في عام 1896 بنشر مجلة الحولية السوسيولوجية L’Année sociologique بالتعاون معهم، والتي كان لها تأثيرٌ كبير على تطور الدراسات الاجتماعية الفرنسية.
كانت المصادر الايديولوجية والنظرية لأعمال دوركهايم وتدريسه، مفاهيم التنوير وخصوصاً مونتيسكو وكوندورسيه وروسو وكذلك أفكار سان سيمون وكونت. كان لأطيقا كانط تأثيراً كبيراً عليه وسيكولوجيا الشعوب لفوندت وبعض أعمال المدرسة الألمانية التشريعية القانونية.
نشر دوركهايم ثلاثة أعمال رئيسية في تسعينيات القرن التاسع عشر. وضع برنامجه الاجتماعي السياسي في اطروحته للدكتوراه (في تقسيم العمل الاجتماعي) 1893، وقام هو نفسه ومن ثم مدرسته لاحقاً بصقل وتجسيد موقفه الاجتماعي والسياسي. أما العمل الثاني فهو (قواعد المنهج في علم الاجتماع) 1895 والذي كُرّس لتعزيز واثبات المفاهيم النظرية للاتجاه السوسيولوجي Sociologism(1). هذا الكتاب حضّر الأساسات لتشكيل السوسيولوجيا كعلمٍ مُستقل. كان يريد في دراسته السوسيولوجية (الانتحار) 1897 أن يوحّد المُقاربة النظرية لتفسير الانتحار مع تحليل البيانات التجريبية، التي كانت بمثابة الأساس للفرضية النظرية. في عام 1902 تمت دعوة دوركهايم الى السوربون، وكان استاذ قسم العلوم التربوية، وتم تغيير اسم القسم الى قسم علم التربية والسوسيولوجيا عام 1913. انشغل بالتدريس لمدة 15 سنة بعد انتقاله الى باريس، وكان يطور المسائل السوسيولوجية للأطيقا والتعليم. كانت نتائج هذا العمل الكُتُب التالية: (التربية والمُجتمع) 1922، (التربية الأخلاقية) 1925، (تطور التربية في فرنسا) 1938، (درس في السوسيولوجيا) 1950. تُوّجَت دراسته لسنوات عديدة لمسائل الدين بعمل مُكرس للمنظومة الطوطمية في استراليا (الأشكال الأولية للحياة الدينية) 1912. حصلت مدرسة "دوركهايم السوسيولوجية" على مكانة ثابتة لها في الدراسات السوسيولوجية الفرنسية، لكن توقف عمله بسبب الحرب العالمية الأولى. رد على الحرب من خلال مشاركته في النشاط العام من أجل "الالهام الأخلاقي" للأمة. في حين كان ينفي الطابع الامبريالي للحرب فيما يتعلق بالحلفاء، فقد استهجن في نفس الوقت الأهداف الامبريالية لألمانيا ورغبتها في السيطرة على العالم(2).
بشعوره الحاد بأزمة المُجتمع الرأسمالي، ومحاولة المساهمة في حلها باصلاحه على أُسس التنظير السوسيولوجي، أراد دوركهايم انشاء ايديولوجيا برجوازية جديدة ذات طابع علمي. وفقاً للمفهوم الوضعي، يجب على السوسيولوجيا العلمية أن تصبح رمزاً جديداً للايمان وايديولوجيا وحتى "دين" المُجتمع المُعاصر". كانت الاجراءات والوسائل التي اقترحها دوركهايم لمُعالجة المسائل الاجتماعية-السياسية، قائمةً على فكرة التصالح الطبقي، وكانت تهدف الى التسوية السلمية للتناقض بين العمل ورأس المال. حاول أن يُثبت الشعار الرأسمالي حول التضامن الاجتماعي الشائع آنذاك وأرسى تعاليمه على أُسس أفكار المفاهيم الوضعية عن العلم. في الوقت الذي كان يدعو لعلمنة التعليم المدرسي والجامعي، وتحرير الحياة الاجتماعية والفكرية من التأثير الاكليروسي، عارض دوركهايم باستمرار، التأثير السائد للاكليروس، ولم تكن مساهمته قليلة الشأن في دعم سياسة فصل الكنيسة عن الدولة والمدرسة عن الكنيسة، والتي تُوّجَت باصدار التشريع المعني عام 1905.
وفي حين رفض الثورة، دعا دوركهايم الى انشاء النقابات التي من شأنها، في رأيه، أن تقوم بتحسين الأخلاق العامة والاصلاح التعليمي. من وجهة نظره، فان النقابات أو المؤسسات، المعنية بفروع عمل متنوعة، وتوحد الرأسماليين والعمال في هيئة واحدة لتحل المشاكل المهنية بعلاقاتها مع الروابط المهنية الأُخرى، ستُساعد الحكومة، برأيه، على حل المشاكل الاجتماعية وتُنظم جميع أنواع الأنشطة البشرية.
لم يفهم تعقيد تطور الحركة الاشتراكية والفروق الجذرية بين مجموعاتها المُختلفة. لذلك، كان موقفه من الاشتراكية 1- غير مُتمايز 3- ويطبعه التعاطف مع بعض الأفكار الاشتراكية ولا سيما أفكار سان سيمون 3- ويتميز بالافتقار الى فهم الجوهر الطبقي لتعاليم ماركس الاشتراكية، من خلال رفضه لأهمية الصراع الطبقي.
حافظ دوركهايم على علاقة وثيقة مع قائد الاشتراكيين الفرنسيين جان جوريس Jean Jaurès. تقاطعت وجهات نظريهما في عدة نقاط بلا شك، وأثر كلٌ منهما على الآخر. كان العديد من أعضاء مدرسة دوركهايم قريبين من الاشتراكية الاصلاحية ذات النمط الجوريسي. كان مارسيل موس وفرانسوا سيميا وليفي برول اعضاءاً في الحزب الاشتراكي. شارك بعضهم في تأسيس مجلة L’Humanité الناطقة باسم الحزب الاشتراكي وساهموا فيها. درّس العديد من أتباع دوركهايم في المدرسة الاشتراكية والتي كانت تهدف الى الدعاية للاشتراكية بين العمال. ليس من المُستغرب بعد هذا أن تعتبر بعض الدوائر العامة في الجمهورية الثالثة السوسيولوجيا مُرادفاً للاشتراكية. بدأ تأثير الماركسية، في تسعينيات القرن التاسع عشر ينمو بين أقسامٍ مُعنية من حركة الطبقة العاملة الفرنسية. ظهرت ترجمات لأعمال انجلز وكارل كاوتسكي ولابريولا. كان رد دوركهايم على انجذاب الطلاب للاشتراكية محاضراته التي ألقاها في 1895-1896 عن الاشتراكية. كان ينوي، أن يُعاين نظريات سان سيمون وبرودون ولاسال وماركس ولكنه لم يكن قادراً على تنفيذ خطته بالكامل. لقد اعتبر الاشتراكية كحركة ذات اهمية اجتماعية كبيرة. كتب يقول أن "الاشتراكيين وخصوصاً سان سيمون وماركس أدركوا أن المجتمع الحديث يختلف اختلافاً جذرياً عن نوع النظام الاجتماعي التقليدي، وصاغوا برنامجاً لاعادة تنظيم المُجتمع من أجل تجاوز الأزمة الناجمة عن الانتقال من المُجتمع القديم الى الجديد. الاشتراكية هي أفكار نمت بسبب الشعور بالعدالة والتعاطف مع بؤس الطبقة العاملة. انها قبل كل شيء، خطة لاعادة بناء المُجتمع، برنامج لحياة اجتماعية لم تُوجد بعد... وهي تُطرح على البشر على أساس أنهم جديدرين بها"(3). الاشتراكية هي "صرخة مرارة، وأحياناً غضب، يُطلقها البشر الذين يشعرون بضيق جماعي شديد"(4).
بتعريفه للاشتراكية على أنها مذهب عملي يتطلب خضوع واعي لكل وظائف المُجتمع الاقتصادية لمركزٍ واحد(5)، فانه قد فسرها بشكلٍ خاطئ على أنها نظرية اقتصادية صرف ليس لديها اي اهتمام بالمسائل الأخلاقية. على الرغم من أنه اعترف بأن العديد من الاشتراكيين، وخاصةً كارل ماركس، ربطوا مصيرهم بشكلٍ لا ينفصم بالدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، فقد اقترح دوركهايم أن هذه مسألة ثانوية ليست من نابعة من نظرياتهم. رفض الحاجة الى الغاء الطبقات، ولم يعتبر أن اطروحة الصراع الطبقي مُهمةً من حيث المبدأ، لان تحسن وضع العمال سيأتي بشكل تلقائي بحد ذاته كنتيجة بسيطة لاصلاح النظام الاجتماعي. من خلال اضفاء صفة الاطلاق على المُحتوى الاقتصادي للاشتراكية، وانتقاده لها على هذا الأساس واستهانتها بالعامل الأخلاقي، فقد اعتبر دوركهايم الشيوعية (المذاهب الشيوعية المبكرة الأولى) كمذاهب أخلاقيةً تُبشر بالزهد، وكحلمٍ عبّر عن نُبل عقول منشئيها، ومن هذا بالذات نبعت قوة جاذبيتها. ولكن هذه التعاليم، برأيه، لا تتناسب مع احتياجات المُجتمع بما أن الرخاء والثروة هي التي يجب أن تكون المثل الاجتماعي الأعلى، وليس الزُهد والفقر الشاملين. كان سوء فهم دوركهايم للاشتراكية العلمية نابعٌ من موقعه الطبقي. وبتقييمه المُتفائل لامكانيات تطور الرأسمالية ككل، فقد عدّ الظاهرة الاجتماعية التي نمت الاشتراكية العلمية على ترابها كـ"مرضٍ اجتماعي" يمكن للاصلاحات أن "تشفيه"، ومن ثم اختزل المسائل الاجتماعية الى مسائل أخلاقوية. كان لموقفه الاجتماعي-السياسي طابعاً توفيقياً وطوباوياً. كانت جهوده كأيديولوجي ونظري مُنصبة نحو التوجه الى طريقٍ ثالثٍ بين المَلَكية الاكليركية والاشتراكية وتعزيز الاصلاح الاجتماعي. لم تُتوج هذه المُهمة بنتائج حقيقية.

2- موضوع دراسة السوسيولوجيا ومكانها بين العلوم الاجتماعية الأُخرى
رأى دوركهايم، من بين الشروط العامة لتحويل السوسيولوجيا الى علمٍ مُستقل، وجود موضوعٍ مُستقلٍ يدرسه العلم بشكلٍ حصري، ومنهج بحثٍ علميٍ يطابقه. اقترح أن على السوسيولوجيا أن تدرس الواقع الاجتماعي الذي يمتلك سماتٍ خاصةٍ متأصلةٍ فيه فقط. ان عناصر الواقع الاجتماعي Social Reality هي الحقائق الاجتماعية Social Facts، والتي يُشكل المُجتمع مجموعاً لها. هذه الحقائق هي التي تؤلف موضوع السوسيولوجيا.
الحقيقة الاجتماعية، في تعريفه هي "كل ضرب من السلوك، ثابتاً كان ام غير ثابت، يُمكن أن يُباشر نوعاً من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعم في المجتمع بأسره، وكان ذا وجود خاص مُستقل عن الصور التي يتشكل بها في الحالات الفردية"(6)(أ). يجد الفرد، منذ ولادته، قوانين وأعرافاً وقواعد سلوك وطقوس دينية ولغة ونظاماً نقدياً جاهزاً يعمل بشكلٍ مُستقلٍ عنه/ا. توجد طرق التفكير والتصرف والشعور بشكل مستقل وموضوعي. هناك سمة أُخرى تُميز الحقائق الاجتماعية. ان الضغط الذي يُمارس على الأفراد ويضطرهم على سلوك فعلٍ معين، هو نتيجة لموضوعية الحقائق. كتب دوركهايم ليشرح ذلك بأن كل شخص يمر بشيءٍ من الاكراه او الاجبار الاجتماعي. على سبيل المثال، لا يمكن للمرء أن يكسر القواعد الدينية والأخلاقية، بدون أن يشعر بثِقل عدم الموافقة الشاملة على هذا الفعل. وينطبق الأمر نفسه تماماً مع أنواع الحقائق الاجتماعية الأُخرى. بمعنىً ما، عارض دوركهايم الحقائق المفهومة على أنها أشكال من الوجود الاجتماعي أو حقائق ذات نظام تركيبي (مورفولوجي)، عارضها بحقائق الوعي الجماعي، والتي أطلق عليها الأفكار الجمعية التي تُشكل جوهر الأخلاق والدين والقانون. يجب على المورفولوجيا الاجتماعية أن تدرس بُنية وشكل أجزاء المجتمع أو "هيكله التشريحي" الذي يتألف من الحقاق الديموغرافية والايكولوجية، أي "قوام" الأفكار الجمعية. تحتوي الحقائق التركيبية (المورفولوجية) على عدد من ميزات عناصر المُجتمع الأولي. ووسائل جمعها ودرجة تماسكها وتضامنها والتوزيع المناطقي للسكان وطابع التواصل وأشكال الاسكان وما الى ذلك(7). انها، أي الحقائق التركيبية، تُشكل الجانب "المادي" الكمي من المُجتمع، بينما تُشكل حقائق الوعي الجمعي، أي الأفكار الجماعية، جانبها الروحي النوعي. أطلق دوركهايم على الحقائق التركيبية والأفكار الجمعية اسم "البيئة الاجتماعية الداخلية" التي تميزت بعدد الأفراد لكل وحدة مساحة (الكثافة المادية) ودرجة تركيز "الجماهير" (الكثافة الديناميكية) المُعبّر عنها بكثافة تواصل الأفراد الاجتماعي وتواتر اتصالهم والذي يُحدده "جودة الحياة ككل".
ان التناقض في اجابة دوركهايم على هذه المسائل هو مثال واضح على عدم اتساقه الفلسفي. وهكذا، عندما يُشير الى التأثير المُحدد للبيئة الاجتماعية، فانه يُدرج الحقائق المادية والفكرية معاً في المفهوم. ولكنه عندما يؤكد قدرة الوعي الجمعي على انتاج حقائق اجتماعية أُخرى، وحتى انتاج مُجتمع، فانه يُضفي عليه، أي على الوعي الجمعي، طابعاً مُستقلاً مُكتفياً بذاته، ولا يطرح أبداً مسألة حدود أو نسبية هذه الاستقلالية. ان استخدامه لمفهوم "القوام المادي" Material Substratum للعلاقات الاجتماعية لا يعني بأي حالٍ من الأحوال تقريباً فهم الأساس المادي الفعلي للمجتمع. ادى انتقاصه من أهمية العلاقات الاقتصادية وتفسيرها على أنها علاقات منفعة ومصلحة، الى سوء فهم لدور العمل الانتاجي. اعتبر المادة Matter، مثله مثل مُعظم الماديين ما قبل الماركسية، كمُرادف للجسم الفيزيقي، وبالتالي لم يتمكن من رؤية أي مادة Matter في المجتمع ما عدا تلك المُتجسدة في الحقائق البيئية والديموغرافية والتكنيكية.
في الوقت نفسه، يجب على المرء أن يُلاحظ سعي دوركهايم الى وضع السوسيولوجيا على أساس أكثر صلابةً مما هو الحال عليه في السيكولوجيا، وأن يجد نقطة انطلاق لتفسيرٍ سوسيولوجي لتنوع الظواهر الاجتماعية. وبصرف النظر عن عدم اتساقه، فان العيب الرئيسي لمعالجة دوركهايم لمسألة الحقائق الاجتماعية كموضوعٍ تدرسه السوسيولوجيا، هو عدم فهمه لأهمية البحث في طبيعتها الابستمولوجية، مما أدى به الى ارتكاب أخطاء جسيمة عندما كان يقوم بتحليل نظري لمثل تلك الظواهر كالدين.
ان للسوسيولوجيا، في مفهوم دوركهايم، مكاناً مركزياً في العلوم الاجتماعية. لم تكن مهمتها فقط البحث في الحقائق الاجتماعية، بل تزويد جميع العلوم الاجتماعية الأُخرى بمنهجية ونظرية يمكن أن تستند اليها الأبحاث في مختلف مجالات الحياة. كانت العلوم الاجتماعية المتنوعة، كما السوسيولوجيا، عبارة عن أقسام أو فروع تدرس الأفكار الجمعية في شكلها العياني (القانوني والأخلاقي والديني والاقتصادي). يجب على باحثي جميع التخصصات أن يتوحدوا حول وجهة نظر مُشتركة حول طابع الحقائق الاجتماعية والمعيار المُشترك لتقييمها ومنهجية البحث العامة. حينها فقط ستتوقف السوسيولوجيا عن كونها علماً تجريدياً وميتافيزيقياً، وتتوقف أعمال العلماء الاجتماعيين عن كونها دراساتٍ مُنفصلة عن بعضها البعض وتفتقر الى قيمةٍ ادراكية. قام دوركهايم بتوسيع خطته لـ"سسلجة" نظرية المعرفة والمنطق، وحتى العلوم غير الفلسفية (التاريخ والاثنوغرافيا والاقتصاد، الخ). ويجب على الفلسفة أيضاً أن تخضع لاعادة بناءها على أساس السوسيولوجيا وبياناتها(8).
في فهم دوركهايم، تم التعبير عن العلاقة بين السوسيولوجيا والفلسفة بصيغة متناقضة: من ناحية كان هناك مُتطلب لفصل السوسيولوجيا عن الفلسفة، ومن ناحيةٍ أُخرى، يجب البحث عن أشكال جديدة من الروابط بينهما. اعتبر عن السوسيولوجيا التي ابتعدت عن الفلسفة حصلت على فرصتها لتهتم بنفسها ومشاكلها الخاصة, اي الواقع الاجتماعي على هذا النحو. ما كان يُريده هو انفصالها عن الميتافيزيقيا المثالية التقليدية البعيدة كل البعد عن فهم الواقع. كانت احدى النتائج الرئيسية لتطور البحث الاجتماعي، برأيه، انشاء فلسفة مدعومة سوسيولوجياً، حيث أن الاجابة العلمية حقاً على أصعب المسائل الميتافيزيقية (ذات الطبيعة الأخلاقية والدينية الخ)، ممكنة فقط، كما اعتقد، على أساس الدراسات السوسيولوجية. برأيه، صارت المهام التي لم تستطع المواقع الموضوعية المثالية (اللاهوتية) أو المثالية الذاتية (السيكولوجية) أن تحلها بنجاح، قابلةً للحل من قِبَل السوسيولوجيا عندما قامت بتفسير الظواهر الاجتماعية بشكلٍ أساسي على قاعدة تجريبية. وبالتالي، يجب على النظرة السوسيولوجية أن تغير الفلسفة وتتخلص من طابعها التأملي. في ذلك الوقت، لم يكن مثل هذا الطرح للعلاقة بين السوسيولوجيا والفلسفة ومكان السوسيولوجيا بين العلوم الاجتماعية الأُخرى موجوداً في أي مدرسة سوسيولوجية غير ماركسية أُخرى، وقد تضمن هذا الطرح عدداً من الأفكار الصحيحة. ولكن، بطرحه لمسألة وحدة العلوم وتجميع نتائجها، لم يكن دوركهايم قادراً على مفهمة هذا الطرح، ولا أن يتغلب على المهام التي نبعت من مفهومه في الممارسة العملية.

3- "السوسيولوجيّة" Sociologism كنظرية عن المجتمع
يمكن تتبع ميلين رئيسيين في مفاهيم دوركهايم النظرية. أولها، الطبيعانية Naturalism النابعة من فهم المجتمع وقوانينه وأنماطه بمشابهته بالطبيعة وقوانينها، هذا الفهم المُرتبط بتقاليد فلسفة التنوير الفرنسي.. الميل الثاني، "الواقعية الاجتماعية" Social Realism الذي يفهم المجتمع كواقعٍ من نوعٍ خاص، متميز عن جميع أشكال الواقع الأُخرى (الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والنفسية). ارتبط هذا الميل بمفاهيم المجتمع التي طورها التقليديون (جوزيف دو ميست Joseph de Maistre ولوي دو بونالد Louis Bonald) وسان سيمون وكونت.
ان الواقعية الاجتماعية، كنظرية عن المجتمع، هي جزء من سوسيولوجية Sociologism دوركهايم(9).
على الصعيد النظري، أكدت السوسيولوجية، على النقيض من المفاهيم الفردية، مبدأ طبيعة الواقع الاجتماعي المحددة واستقلاليته، وعلاوةً على ذلك، أسبقيته على الأفراد. وبالمقارنة مع الفرد، عومِلَ المُجتمع على أنه واقعٌ ذو محتوىً أغنى. على الصعيد المنهجي، كان ما يلي سماتٍ للسوسيولوجية: مبدأ المُقاربة العلمية الموضوعية للظواهر الاجتماعية، ومتطلب تفسير الظواهر الاجتماعية بظواهر اجتماعية أُخرى، وبالارتباط مع هذه السمة الأخيرة، الحاجة الى نقد النزعة الاختزالية النفسية والبيولوجية.
ارتبطت "السوسيولوجية" مُباشرةً بالاجابة على المسألة الأساسية للفلسفة. أدرك دوركهايم الرابط بين العقل والمادة وأشار الى أن أصل الوعي الاجتماعي نابع من المُحيط الاجتماعي. يكتب دوركهايم "لئن كانت" الحياة الاجتماعية "مُستقلةً عنها-اي عن الطبيعة- استقلالاً جزئياً، فلا يستتبع ذلك أنها لا تخضع لسببٍ طبيعي، وأنه ينبغي وضعها خارج الطبيعة. ان جميع هذه الحوادث-أي الحقائق أو الظواهر- التي لا نستطيع أن نجد لها تفسيراً في بُنية الأنسجة، تنبعث من خصائص المُحيط الاجتماعي"(10). كان لُب مفهومه الأساسي هو السعي لادراج الظواهر الأخلاقية والدينية في مجال الطبيعة كظواهر تمتلك "ظروفاً وأسباباً" ولكنها تحتفظ في الوقت نفسه بطابعها الخاص. أدى هذا الى نسب صفات للعقل العام أو الوعي الاجتماعي من نوعٍ حولها-أي صفاتٍ حولت العقل العام- الى ظاهرةٍ شبه مستقلة تقوم بانتاج الحياة الاجتماعية. رسم دوركهايم خطاً حاداً بين الوعي الفردي والوعي الجمعي. "ان الطريقة التي تتبعها الجماعة في التفكير والشعور والعمل تختلف كل الاختلاف عن الطريقة التي يسلكها أفراد هذه الجماعة اذا وُجِدَ كلٌ منهم على حدة. ولذا فاذا اتخذ الباحث هؤلاء الأفراد نقطة بدءٍ لدراسة الظواهر الاجتماعية فلن يستطيع أن يفهم شيئاً ما عن حقيقتها"(11). لقد أطلق على الوعي الجمعي أو العام بأنه نوع من المُجتمع النفسي بنمط تطور وخصائص وظروف وجود خاصة به لا يمكن اختزاله على أساس مادي. طرح دوركهايم فكرة "العقل الجمعي" في محاولة منه للتعبير عن الجانب الديناميكي للعقل الجمعي وطابعه العفوي الذي لا يمكن اخضاعه للتنظيم، ومن أجل أن يُشير الى الأفكار المعتقدات العاطفية من حيث أصلها، والاجتماعية والجمعية من حيث محتواها. عندما كان دوركهايم يعالج مسألة نشأة الوعي الجمعي العام، استند الى فكرة التطور المستمر للطبيعة و"التركيب الابداعي" من البسيط الى المُعقد.
لقد فسّر علاقات الأفراد في المُجتمع على أنها علاقات ارتباط وكنتيجة لنشوء نوعية جديدة- الحياة الاجتماعية كعملية للنشاط.
ان النظرية القائلة بأن نوعية جديدة، حياة اجتماعية نشأت من خلال ارتباط وتفاعل الأفراد ومن تفاعل الحقائق قد سُميت "الواقعية الارتباطية" في العديد من دراسات دوركهايم(12). وبرفضه المجتمع باعتباره كلاً متعالياً وجوهرياً ومُحذراً من من مثل هذا التفسير لمفهومه، كتب دوركهايم أنه يُمكن "لاعتقادٍ ما أو ممارسة اجتماعية أن توجد ينحوٍ مُستقلٍ عن تعبيراتها الفردية. وحن لا نعني بذلك بالطبع، أن المُجتمع يُمكن أن يوجد من دون الأفراد، فهذا سُخفٌ ظاهر يمكنهم ان يعفونا من شُبهة التفكير فيه"(13). كان دوركهايم يعني بـ"استقلالية المُجتمع" موضوعيته فيما يخص وبعلاقته مع الفرد، وخصوصيته ونوعيته وطبيعته المحددة فقط، وليس بطريقة أُحادية الجانب أو خارقة للطبيعة. لم يكن دوركهايم يعني باستخدامه مفهوم "استقلالية المُجتمع" أن يجعل الوعي الجمعي شبيهاً بالشخصية، فدوركهايم كان يهتم بـ"الأسباب التي بواستطتها يمكن التأثير ليس على الأفراد المُنعزلين، بل على الجماعة"(14). لقد فسّر علاقة المُجتمع والفرد كعلاقة بين الكُل وأجزاءه مُستشهداً باستمرار بالكُل الكيميائي (كمُركّبٍ لعناصره المُكونة) كمثال.
ومع ذلك، الى جانب الجانب الارتباطي، هناك جانب آخر ليس أقل أهميةً في مفهوم دوركهايم عن المجتمع. عندما كان يُشير الى الجذور الأرضية للدين، فانه قد دعاه "مجتمع الله". لقد أراد، بتوظيفه مفهوم الله والمُجتمع كالمرادفات، أن يقترح أفكاراً جديدة تتوافق مع معايير العقلانية والعلمانية كبدائل عن الأفكار الدينية العفنة. وعندما كان يؤكد على قُدسية المجتمع وخصائصه الروحية الهائلة، فقد أراد أن يُعبر عن فكرة تفوقه الأخلاقي على الأفراد.
ولكنه قام بطبع المُجتمع بطابعٍ دينيٍ تقليدي من خلال خلعه لسمات القداسة على المُجتمع. لم تكن طبيعانيته وعقلانيته مُندمجةً بالكامل مع صياغاته الدينية-الروحية فحسب، بل كانت مُندمجةً ايضاً بالتفسير المثالي للحياة الاجتماعية. تطورت أفكار دوركهايم بشأن المُجتمع. أصر في أعماله المُبكرة على أن هناك علاقةً وثيقةً بين الوعي الجمعي والبيئة الاجتماعية. وتبعاً لذلك، فكلما تغير حجم المجموعات وكثافة وحركة أفرادها المكونين لها والعلاقة بين عقول الأفراد والجماعة، فان المُعتقدات العامة لهذه الأخيرة تتغير كذلك. في وقتٍ لاحق، بدأ يعتبر الوعي الجمعي علاقة حاسمة للمجتمع ككل. لقد أعلن أن المُجتمع عبارة عن "مجموعة من الأفكار والمُعتقدات والمشاعر من جميع الأنواع التي كان يُدركها الأفراد"(15). قادت المثالية التاريخية (الذي يُشكل هذا التعريف صياغةً لها) دوركهايم دائماً تقريباً الى تفسير العلاقات الاجتماعية على أنها علاقات أخلاقية، ودعا المُثُل العُليا "روح المُجتمع" وجوهره.
أشار تلميذ دوركهايم سيليستين بوغليه Célestin Bouglé، الى أنه لا توجد أُحادية Monism في الوضعية، لا سيما في وضعية دوركهايم(16). اعتبر دوركهايم المُجتمع، ووعيه، كظواهر ذات جانب واحد. انها لم تكن في مفهومه ليسا مترابطين وحسب، بل ويشترط احدها الآخر، ولكنه كان يُغير تسلسلهما التاريخي أثناء التفسير، فتارةً هذا وتارةً أُخرى ذاك الذي يُحدد الآخر. هذا لم يُربك دوركهايم، بل على العكس، بدا له هذا ذو طابعٍ علمي. وكما لاحظ بوغليه، هنا يُمكن للمرء أن يلتقي بـ"النقطة المركزية لفلسفة دوركهايم"(17).

4- قواعد المنهج السوسيولوجي
ان منهجية البحث السوسيولوجية التي طورها دوركهايم ساعدته لأن يكون رائداً للوضعية. وبنصبه لنفسه مهمة تأسيس السوسيولوجيا نظرياً ومنهجياً، حاول ربط مبادئه المنهجية بشكلٍ وثيق بمفهومه عن موضوع بحثها كحقائق من نوعٍ خاص، أي اجتماعية. وتابع في هذا، التقليد الوضعي، بمعنى أنه درس بشكلٍ منهجي قواعد جمع البيانات التجريبية الأولية ودراسة العلاقات بينها بشكلٍ تجريبي والأدلة على الفرضيات المطروحة. لقد كان مُقتنعاً بالمبادئ الطبيعانية للوضعيين وسعى الى انشاء سوسيولوجيا على نمط العلوم الطبيعية بمبادئها الاستقرائية ومناهج المُراقبة الموضوعية المُميزة لها. كانت النزعة السيكولوجية Psychologism هي خصمه الرئيسي في هذه المسائل، ولا سيما طريقة الاستبطان Introspection التي كانت تُميزها. ان القاعدة الأولى، برأي دوركهايم، من أجل ضمان مُقاربة وضعية للواقع الاجتماعي، هي ملاحظة الحقائق الاجتماعية على أنها أشياء(18). ان معالجة الظواهر الاجتماعية على أنها "أشياء" يعني الاعتراف بوجودها مُستقلةً عن الذات ودراستها بموضوعية بالطريقة التي يدرس بها العلم الطبيعي موضوعه. واجه دوركهايم العديد من المسائل المُعقدة للغاية عند تطبيقه مبادئ الموضوعية المنهجية على دراسة الأفكار الجمعية، المثالية Ideal و"الروحانية الفائقة" بطبيعتها. وبما أن وضعيات الوعي الجمعي لا يمكن ملاحظتها بشكلٍ مُباشر، فانه يمكن فقط الحُكم عليها بشكلٍ غير مُباشر كما ادعى من خلال الحقائق الموضوعية حول أشكال السلوك المتنوعة ووفقاً للتعبير الذي يتخذه الوعي الجمعي في شكل المؤسسات الاجتماعية. وبهذا، تُعالج السوسيولوجيا موضوعية الوعي الاجتماعي وتمظهراته في المؤشرات الموضوعية. على سبيل المثال، اعتبر دوركهايم أن أرقام الاحصائيات ساعدت في كشف "حوادث الحياة اليومية... وأنواع الزي... ومعايير الذوق الأدبي فيما يتعلق بالآثار الفنية"(19). نظراً لانه كان من الممكن تطبيق منهجية المُلاحظة غير المُباشرة في علم الفيزياء، فانه سيكون من الممكن ايضاً القيام بذلك في السوسيولوجيا. ولكن لا يقتصر الهدف من العلم، وفقاً لدوركهايم، على وصف وتصنيف الحقائق الاجتماعية بوسائل المؤشرات الموضوعية الملحوظة، انه، اي العلم، يُساعد على انشاء روابط وقوانين سببية أعمق. ان وجود القانون في العالم الاجتماعي هو دليل على الطابع العلمي للسوسيولوجيا (الذي أبرز هذه القوانين)، واقترابها من العلوم الأُخرى. اعتبر دوركهايم ان القوانين هي التي تُشكل موضوع بحث العلوم الاجتماعية، وربط مفهوم القانون بشكل وثيق بمبدأ الحتمية. اعتبر الحقيقة Fact والقانون مقولتين مترابطتين تعكسان مستويات مختلفة من روابط الحقيقة.
وعند محاولته لتحقيق أكبر قدر ممكن من الموضوعية في جمع المواد التجريبية، شدد دوركهايم على أن على العلم، في المرحلة الأولى من البحث "أن يختار مُباشرةً العناصر الأولية اللازمة لتعاريفه الأساسية من المُدركات الحسية"، فهو قد رأى أن بأن "الاحساس" Sensation هو المادة الأولية التي لا بد منها في نشأة كل معنىً كلي"(20). تؤمن لنا البيانات الحسية ضمانةً لتجنب "الأصنام أي الأشباح التي تشوه المنظر الحقيقي للأشياء، والتي يُخيل الينا، على الرغم من ذلك، أنها هي هذه الأشياء نفسها"(21). طالب دوركهايم، من أجل أن يستكمل هذه الحرب التي بدأها فرانسيس بيكون ضد "الأشباح"، طالب بالقضاء على الأفكار الغامضة والتحيزات والعواطف وتنظيف العلم منها.
قال ان الحقائق يجب أن تُصنف بناءاً على طبيعة الأشياء بشكلٍ مُستقلٍ عن الباحث وتذبذبات عقله. ومن هنا يَشتَرط تقديم تعريفات موضوعية للمفاهيم من خلال تمييز السمات المُشتركة لكل صنف كامل من الظواهر. كان دوركهايم مُدركاً للحاجة الى تعريف نظري للمفاهيم العلمية، وطالب بأن تقوم هذه التعريفات بتلبية معيار الوحدة وأن لا تستند على حقيقة واحدة فقط. ولكن ولعه بالاستقرائية والتجريبية الذي تم التعبير عنه بوضوح، لم يساعده على تحليل أنماط تشكيلات المفاهيم العلمية النظرية واظهار علاقاتها بالنظرية العلمية بشكلٍ كامل.
حددت رغبته في ايجاد الأنماط الموضوعية للظواهر الاجتماعية، القيمة الكبيرة التي وضعها على تطبيق الاحصائيات في السوسيولوجيا. ان الأنماط الاحصائية في الزواج والتنوعات في معدل المواليد وعدد حالات الانتحار وغير ذلك الكثير، والتي اعتمدت كلياً، للوهلة الأولى على أسباب فردية، بدت وكأنها أفضل دليل على أن هذه الأنماط ذات طبيعة جمعية.
اعتبر دوركهايم ان الأدلة النظرية لامكانية التفسير العلمي للحقائق الاجتماعية هي واحدة من أهم المسائل. في معالجته لها، فانه قد ميّز نوغين من التحليل: السببي والوظيفي، وظبق ذلك على البحث السوسيولوجي. كان التفسير السوسيولوجي، حسب قوله، تفسيراً سببياً، وجوهره هو تحليل اعتماد الظاهرة الاجتماعية على المُحيط الاجتماعي. انتقد جميع المحاولات الأُخرى لتفسير الحياة الاجتماعية من هذه الزاوية، مثل اختزالية جون ستيوارت ميل السيكولوجية، وتفسير كونت للتطور Evolution الاجتماعي كنتيجة للدافع المتأصل عند الانسان لتطوير طبيعته، والنظريات النفعية، وخاصةً المفهوم السبنسري. استعار دوركهايم مفهوم (الوظيفة) -function- من البيولوجيا. انها تعني بأن هناك علافة ارتباط بين عملية فسيولوجية معينة وحاجة محددة للعضوية ككل. وعند ترجمة هذه الاطروحة الى اللغة السوسيولوجية، فقد ادعى أن وظيفة الظاهرة أو المؤسسة الاجتماعية هو تكييف التوافق بين المؤسسة وحاجة معينة للمجتمع ككل "فاذا تساءلنا ما هي وظيفة تقسيم العمل، عنينا بذلك أن نبحث عن الحاجة التي يستجيب لها"(22).
ان تفسيره للوظيفة كصلة موضوعية بين ظاهرة وحالة مُعينة للمجتمع ككل، مُبرر تماماً. وبالتالي، تعتمد الوظيفة ليس على السمات الموضوعية للظاهرة التي تؤديها وحسب، بل تُعبّر أيضاً عن فكرة العلاقة، أو الرابطة.
لم ينجح دوركهايم في تطوير منهجية التحليل الوظيفي حتى النهاية، لانه واجه صعوبات نظرية كبيرة في عددٍ من الحالات. على سبيل المثال، لم يستطع طرح وتوضيح معيارٍ نظريٍ لصحة مفهوم الظاهرة الاجتماعية، على الرغم من أنه أشار مراراً الى أخطاء في التفسير المُبتذل لبعض المؤسسات الاجتماعية ووظائفها.
اعتبر دوركهايم أن واحداً فقط من القواعد التي طورها ميل لتحديد الأسباب كانت قابلةً للطبيق في السوسيولوجيا، أي منهجية التغيرات المُصاحبة. اذا تَبُتَ أن هناك نوعان من الظواهر كانا على علاقة واحدة مُستمرة ويتغيران باستمرار بالتوازي، فهناك أساس للقول بوجود صلة سبية بينهما. ولكنه اقترح بأن ثبات الروابط بين الظواهر ليس كافياً للتأكيد على وجود اعتمادية سببية، بما أن هناك روابط مُستقرة ولكنها غير سببية. قد تتشكل روابط كهذه بين نوعي الظواهر المُتصلة ببعضها كنتيجة لسبب مُشترك ليس له علاقة بالرابطة نفسها. سعى دوركهايم لدراسة كيفية الحصول على معرفة موثوقة بالسبب وكيفية اظهاره. اذا كان من المستحيل عند دراسة الظواهر في مُجتمعٍ ما تحديد سبب ما بشكلٍ موثوق وتحليل فعله بشكلٍ مُنفصل، بفرزه عن مجموعة الأسباب الأُخرى، فانه يمكن فعل ذلك من خلال دراسة ظواهر مُماثلة في مُجتمعاتٍ أُخرى غيره، يمكننا فيها أن نلاحظ ذلك السبب بشكلٍ معزولٍ جُزئياً.
أولى دوركهايم أهميةً أكبر بكثير من كونت، للبحث المُقارن. ادعى انه يمكن لهذا النوع من البحث أن يُساعد في تحديد المهام النظرية الرئيسية للسوسيولوجيا، لانه يمكن اكتشاف العام والخاص في الظاهرة فقط من خلال مقارنتها نفسها في مجتمعاتٍ مختلفة، مما يمكننا من تحديد تنوعاتها وتطورها في اتجاهاتٍ مُختلفة. ولهذه الاعتبارات، أدرج التحليل السببي في منهجية البحث المُقارنة. من الضروري، بعد تحديد ماهية العلاقة بين ظاهرتين اجتماعيين، توضيح أهميتها وتموضعها، بوسائل الدراسة المُقارنة، وتحديد ما اذا كانت تحدث في ظروف اجتماعية مُختلفة أم أنها تحدث في مُجتمعٍ معين بذاته، أم في حالاتٍ مُشابهة في مُجتمعاتٍ مُختلفة.
ان السعي لتجنب النزعة الوصفية وتطوير نظرية ومنهجية تفسير سوسيولوجية، هي عناصر ايجابية في سوسيولوجية دوركهايم، تماماً مثل موضوعيته المنهجية وتوجهه نحو العلوم الطبيعية.
كان تحليل دوركهايم البنيوي-الوظيفي مبنياً على تشبيه المُجتمع بالكائن الحي كمنظومة كاملة من الأعضاء والوظائف. ومن المُشابهات مع العضوية الحية، استنتج مفهومه عن نوع (المُجتمع السليم)، ومفاهيم الصحي والمريض، التي استخدمها لاحقاً لتفسير الظواهر مثل الجريمة والأزمة وغيرها من أشكال الفوضى الاجتماعية.
تبعاً له، فان الوظائف الاجتماعية التي نشأت عن ظروف وجود العضوية هي وظائف سليمة. الجريمة والأمراض الاجتماعية الأُخرى، على الرغم من أنها تُلحق الأذى بالمُجتمع وتُسبب الكراهية، فهي ظواهر طبيعية بمعنى انها نابعة من ظروف اجتماعية مُعينة وتدعم العلاقات الاجتماعية المُفيدة والضرورية. ان عالمية الظاهرة، عند دوركهايم، هي دليلٍ على أنها سليمة: "وسنُطلق اسم الظواهر السليمة على تلك الظواهر التي تتشكل بصور يعم وجودها في المجتمع"(23). وحينئذٍ "ليس من الجائز أن توصف احدى الظواهر الاجتماعية بأنها سليمة في بعض الأنواع الاجتماعية الا بالنسبة الى مرحلة مُعينة من مراحل تطور هذا النوع. ويترتب على ذلك أننا اذا اردنا معرفة مدى جدارة احدى الظواهر بهذا الوصف فلا يكفي أن نقوم بملاحظة الصورة التي تتشكل بها هذه الظاهرة في أعلب المُجتمعات المتحدة في الجنس، بل لا بد لنا أيضاً بملاحظة هذه المجتمعات في مرحلة مُشتركة من مراحل تطورها"(24).
أدى تصور الوضع السليم كعمومية أو عالمية بدوركهايم ليس الى استنتاجات مُفارقة وحسب، بل ونسبوية أيضاً. لقد اعتبر الجريمة، على سبيل المثال، التي يمكن ان يجدها المرء في جميع المُجتمعات أو مُعظمها، كظاهرة سليمة وطبيعية. على العكس من ذلك، فقد وصف الظواهر الاجتماعية النموذجية مثل زيادة عدد حالات الانتحار في نهاية القرن التاسع عشر، وأنواع معينة من الأزمات الاقتصادية بأنها مرضية(25). كان لدى دوركهايم شعور بالحاجة لأن يؤسس نفسه على نظرية مُحددة للمجتمع والتطور التاريخي عندما يتحدث عن شكل مُجتمع كامل ومثالي فيما يتعلق بالحالات المُنحرفة التي يجب مُراعاتها. لكنه لم يستطع اثبات هذا الشكل الكامل والمثالي من الناحية النظرية، الأمر الذي أدى به حتماً الى النسبوية في تقديره لأي ظاهرة اجتماعية.
يمكن تجنب النسبوية في تقييم الظواهر الاجتماعية المُختلفة من خلال الانتقال الى تربة معايير التقدم التاريخي الموضوعية ومن خلال مُعالجة المعيار الذاتي وفقاً للنظرية العامة للتطور التقدمي للمُجتمع. ولكن في حين كان يرفض أفكار أنصار التغير التطوري للمجتمع حول التطور الخطي، فان دوركهايم لم يطرح مفهومه النظري المُتسق عن التاريخ. على عكس أنصار البنيوية الوظيفية اللاحقة، الذين تجنبوا في كثيرٍ من الأحيان تشبيه مُتطلبات المُقاربة البنيوية-الوظيفية بالتحليل التاريخي (السببي)، فانه، اي دوركهايم، قد اعترف بأن كلا النهجين صحيحين. ولكن مُعالجته للمجتمع كوحدة متناغمة، أدت الى تصعيب مهمة فهمه لأسباب وقوى التطور. كانت هذه المسألة غير قابلة للحل من حيث المبدأ انطلاقاً من موقفٍ جعل من الكل الاجتماعي مُطلقاً. كان من احدى مُتطلبات المنهجية التاريخية التي اقترح دوركهايم توظيفها في البحث، دراسة البيئة الاجتماعية كمصدر رئيسي للتغيرات، ولم يقم دوركهايم بتوضيح معنى المنهج نفسه فيما يتعلق بالتاريخ. كان تطوير التحليل السببي والوظيفي فيما يتعلق بالمجتمع مُثمراً وواعداً. كان دفاع دوركهايم عن الحتمية الاجتماعية ذو أهمية كبيرة، في زمنٍ نشأ فيه في الدراسات الاجتماعية الميل نحو تفسير مبدأ السببية بروحٍ ذاتية.
كان توجه دوركهايم بشأن التحليل المُقارن كمتطلب ضروري للبحث الاجتماعي مُثمراً أيضاً. في الواقع، يفتقر هذا النوع من البحث في كثيرٍ من الأحيان المعنى العملي عندما يفتقر الى المنظور التاريخي الذي يُمكنه من مُقارنة الظاهرة الاجتماعية في مُجتمعاتٍ مُختلفة ومعايير زمنيةٍ متنوعة. قامت البنيوية الوظيفية اللاحقة، بشكلٍ خاص، بتجاهل هذا المطلب تماماً.
يمكن للمرء أن يستنتج بشكلٍ عام أن منهجية دوركهايم السوسيولوجية تحتفظ بأهميتها في الوقت الحاضر فيما يتعلق منها بالمقدمات الرئيسية للبحث. ولكن قامت السوسيولوجية الدوركهايمة اللاحقة بالحد من، وعرقلة تطبيقها وتحقيقها.

5- التضامن الاجتماعي وتقسيم العمل
كانت المسألة المركزية لعمل دوركهايم هي التضامن الاجتماعي. ان حلها سيوفر اجابةً على ماهية الروابط التي توحد الناس في المُجتمع. كان من الضروري تحديد طبيعة ووظيفة التضامن الاجتماعي في المُجتمعات الحديثة "المتطورة" على عكس المُجتمع البدائي أو التقليدي وتفسير الانتقال التاريخي من شكل اجتماعي الى آخر.
انتقد دوركهايم المفاهيم السوسيولوجية عن العوامل التي توحد الناس في المُجتمع. هذه العوامل ليست مصالح الأفراد المُنعزلة (سبنسر) أو الدولة (كونت وتونيز). ان القوة التي خلقت الكُل الاجتماعي وعززت الحفاظ عليه على الرغم من كل الميول النابذة هي تقسيم العمل. كانت اطروحته الرئيسية هي أن "تقسيم العمل"، الذي فهم به التخصص المهني والحِرَفي، "هو الذي يقوم، أكثر فأكثر، بالدور الذي كان يقوم به الوجدان المُشترك common consciousness سابقاً. انه العامل الأكبر الذي يُمسك على الكُتل الاجتماعية ذات النماذج العُليا، ويجعلها تعيش معاً"(26). حدد دوركهايم لنفسه المهام التالية: 1- "سنبحث أولاً ما هي وظيفة تقسيم العمل، أي الى أية حاجةٍ يستجيب. 2- "ثم نحاول تحديد الأسباب والشروط التي بها يتعلق. 3- سنحاول أن نُصنف الأشكال اللاسوية (الشاذة-مالك أبوعليا) التي يبدو فيها حتى لا تختلط بغيرها. وسيكون لهذه الدراسة فائدة اضافية الا وهي انه، هنا، كما هي الحال في البيولوجيا، ستساعد الحالات المرضية على فهم أفضل للفيسيولوجي"(27).
ان تقسيم العمل هو علامة على على مجتمع متطور للغاية. ونتيجةً للتخصص المتزايد باستمرار للعمل، اضطر الأفراد الى تبادل نشاطهم، من أجل أداء وظائف مُكملة لبعضها البعض مُشكلين عن طريقٍ عفوي، كلاً واحداً. ان التضامن في مجتمعٍ متطور هو نتيجة طبيعية لتقسيم أدوار الانتاج. كيف كانت الأمور في المجتمعات القديمة التي لم يكن فيها تقسيمٌ للعمل؟
انطلاقاً من الأفكار النموذجية لسوسيولوجيا القرن التاسع عشر التي تقول بوجود نوعين من المُجتمعات التي بينها استمرارية تاريخية(28)، قام دوركهايم ببناء حد فاصل بين مُجتمعين من نمطين: التضامن الميكانيكي، والتضامن العضوي، كحلقتين في سلسلة تطورية Evolutionary واحدة.
أطلق دوركهايم على التضامن الذي ساد في المجتمعات القديمة غير المتطورة، تضامناً ميكانيكياً، مستخدماً تشبيه الارتباط الموجود بين جزيئات المواد غير العضوية (الجزيئات كلها متشابهة ومتصلة بطريقة ميكانيكية صرف). يتحدد التضامن في مثل هذه المجتمعات من خلال تشابه الأفراد الذين يشكلونها، وتماثل الوظائف الاجتماعية التي يؤدونها، والطبيعة غير المتطورة لسماتهم الفردية. ان امتصاص الجماعية للفردية هو الذي التضامن الميكانيكي مُمكناً. وجد دوركهايم مؤشراً موضوعياً "رمزاً مرئياً" للتضامن في القانون. ان القانون القمعي الذي تم فيه التعبير عن قوة الوعي الجمعي كان مُميزاً للتضامن الميكانيكي، وتكمن مهمته في معاقبة ىلفرد الذي يُخالف العٌرف والقانون.
لقد أسس تبعيةً وظيفيةً بين الروابط الاجتماعية المُميزة لاحدى أنواع التضامن من جهة، والحجم النوعي (مدى) الوعي الجماعي وكثافته ودرجة تحدديته، من جهةٍ أُخرى.
يكون التضامن أقوى اذا تطابق مدى الوعي الجمعي مع مدى الوعي الفردي واذا كان الوعي الجمعي أكثر كثافةً ووضوحاً. وبالتالي لم يكن هناك مكان للانحرافات الفردية، ويُنظم الوعي الجمعي حياة الفرد كاملةً، وتكون السُلطة الجمعية مُطلقة. في مثل هذه الحالات، يكون الوعي الجمعي شمولياً ودينياً في محتواه. وضع دوركهايم اطروحةً كأساس لنظريته المُستقبلية في الدين، مفادها أن اشتراك مجموعة من الناس في قناعاتٍ مُعينة يؤدي الى اصطباغها بالضرورة بصبغةٍ دينية. ان السمة الرئيسية للمعتقدات والمشاعر الدينية هي أنها "مُشتركة بين عددٍ من الأفراد يعيشون معاً، وأن متوسط شدتها، فضلاً عن ذلك، مرتفعٍ الى حدٍ غير قليل"(29). وهو بهذا طابق الاجتماعي بالديني: "كل ما هو اجتماعي كان دينياً، والكلمتان مترادفتان"(30).
ولكن الدين، دوركهايم يقول، شَمِلَ جزءاً متناقضاً من الحياة الاجتماعية. أدى تطور العمل الذي نتج عنه عرض عدد متزايد من الوظائف الأكثر تنوعاً، الى أن يكون عاملاً رئيسياً ومباشراً يُضعف الوعي الجمعي ككل. يضعف الوعي الاجتماعي ويبدأ بالتمايز وظيفياً مع تقسيم العمل المتزايد باستمرار وبتعقد تنظيم المجتمع بمجرد أن يبدأ الناس في أداء وظائف خاصة Private في المجتمع. ان المجتمع المتطور الذي يؤدي فيه كل فردٍ وظيفة خاصة واحدة وفقاً لتقسيم العمل الاجتماعي يُشبه الكائن الحي بأعضائه المختلفة. لذلك وصف دوركهايم النوع الجديد من التضامن بأنه عضوي. حدد تقسيم العمل الفروق بين الأفراد، والذي، بدوره ايضاً طور قدراتهم ومواهبهم الفردية والشخصية وفقاً لدورهم المهني والحِرَفي. أصبح كل فردٍ الآن شخصيةً. ان تقسيم العمل هو الذي أنشأ الوعي بأن كل طرف يعتمد على الآخر، وأن الكل مرتبط بنظامٍ واحدٍ من العلاقات الاجتماعية، وأثار شعوراً بالاعتماد على الآخرين والتضامن معهم وارتباطه بالمجتمع. "ان تقسيم العمل اذ يُصبح الينبوع الأساسي للتضامن الاجتماعي يُصبح في الوقت نفسه أساس النظام الخُلُقي"(31).
يُقابل التضامن العضوي ما يُسمى الحد التعويضي restitutive law، والذي وظيفته هي "مُجرد وسيلة للرجوع الى الماضي بقصد اعادته الى وضعه الطبيعي"(32). بالنظر الى التضامن العضوي، يكتسب الوعي الجمعي أشكالاً جديدة ويُغير محتواه. يصير أصغر في مداه وضيقاً كجزءٍ من المجتمع المتطور، وتقل شدته وتحدديته. "يتناقص دور الوجدان الجماعي بقدر ما ينقسم العمل"(33). فيما يتعلق بمضمونه، يتحول الوعي الجمعي أكثر فأكثر الى وعي علماني وعقلاني موجه نحو الفرد. وفي الوقت نفسه، أنكر دوركهايم أن "الوعي الجمعي مُهدد بالزوال تماماً"(34). كتب يقول "اننا نجعل كرامة الفرد موضوع عبادة، هي، ككل عبادة قوية، ذات أوهام تُحيط بها، وهذه ان شئت، عقيدة مُشتركة"(35).
شدد دوركهايم وميز جانباً من جوانب التضامن في تقسيم العمل في المجتمع الحديث، مُزيحاً مسألة التناقض بين العمل والرأس مال، والطابع القسري للعمل، والأزمات الأخلاقية والاقتصادية للمجتمع الى الخلفية. عندما قام بمعالجة هذه المسائل في نهاية (تقسيم العمل الاجتماعي)، كان يميل الى معاملتها على أنها نتيجة لعدم كفاية تنظيم العلاقات بين الطبقات الرئيسية، وكعنصر كريه في حياة المجتمع والذي اعتبره، اي اعتبر هذا الأخير كعضوية استمدت اتحادها بالكامل من العصور السابقة. وفقاً له، فان تقسيم العمل - في المُجتمع الحديث (الذي فقد الى حدٍ كبير عمود الأساس الذي سند الوعي الديني العام)-هو بالضبط الآلية التي خلقت الروابط الاجتماعية المرغوبة والتضامن الطبقي الذي يُزعم أنه عوّض جميع أوجه القصور المرتبطة بالتخصص الضيق. وهكذا أصبح مفهوم التضامن، محوراً دار حوله كل تحليل تقسيم العمل وتعريفات وظيفته.
نشأت اطروحة دوركهايم الرئيسية، القائلة بأن تقسيم العمل ولّد التضامن بشكلٍ طبيعي، من تعريفه له ليس بعلاقته بطبقة او نظام اجتماعي-اقتصادي معين، ولكن بعلاقته فقط فيما يتعلق بالوعي الجمعي أو العام.
لقد اعتبر التضامن أسمى مبدأٍ أخلاقي، وقيمة عُليا يُزعم أنه عالمي ويُعتَرَف به من قِبَلِ جميع أفراد المجتمع. نظراً لان الحاجة الى النظام العام والوئام والتضامن كانت تُتعبر أخلاقيةً من قِبَل الجميع، فان تقسيم العمل نفسه هو أمر أخلاقي أيضاً. وهكذا ساهم مفهوم دوركهايم بتحديد شروط الحفاظ على المجتمع، وهذه هي المهمة الرئيسية التي نصبها للسوسيولوجيا. لقد تم فقط افتراض عمومية الاعتراف بالتضامن الاجتماعي كأعلى قيمة بالطبع، ولكنه لم يقم باثباتها. اعتبر دوركهايم ان سبب تقسيم العمل هو نمو السكان، الذي يحكم كثافة الحياة الاجتماعية. ارتبطت الزيادة في "الكثافة الفيزيقية" و"حجم" المُجتمعات ارتباطاُ وثيقاً، في رأيه، بزيادة في "الكثافة الأخلاقية أو الديناميكية"، أي في مستوى التفاعل الاجتماعي، مما أدى في النهاية الى تقسيم العمل. ولكن كيف؟ ازداد الصراع من أجل البقاء مع نمو السكان. في هذه الظروف كان تقسيم العمل هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على مُجتمعٍ مُعين وخلق تضامنٍ اجتماعيٍ من نوعٍ جديد، واعطاء المجتمع فرصة للتطور في اتجاهٍ تقدمي.
وفقاً لدوركهايم، لم تكن العلاقة السببية بسيطة ولا خطية، ولكنها تضمن مجموعةً من المتغيرات. لا ينبغي للتفسير السببي للحقائق الاجتماعية أن يتجاهل تماماً الجانب القيّم للحياة الاجتماعية، على الرغم من أنها، يمكن أن لا تستند اليها، اي الى العلاقة السببية. ان حقيقة أنه أصر على مُقدمة وجوب شرح الاجتماعي بالاجتماعي، لم تسمح له بالذهاب أبعد من ذكر التفاعل بين العوامل، والانتقال الى اثبات الاعتمادية السببية الحقيقية. لا يمكن القيام بذلك الا من خلال تحليل أعمق، حيث ان اتباع نهج يعتبر المجتمع كتفاعل لجوانب مختلفة لتشكيلة اجتماعية اقتصادية واحدة تُمكننا من اظهار الاعتمادية بينها وفرز الأسباب الحاسمة والنتائج المُشتقة.
انطلق دوركهايم، بالطبع، من المبدأ الفلسفي القائل بأن ظواهر من مستوىً ما لا يمكنها أن تنشأ من ظواهر من مستوىً آخر. استبعد هذا التوجه عند تفسير الظاهرة الاجتماعية، من حيث المبدأ، امكانية فرز الظواهر المهمة من الظواهر الأقل الأهمية، وأدى هذا التوجه الى ادراج الظواهر من مستوى أدنى في أهميتها وحسميتها في قائمة ظواهر أكثر أهمية تُساوى أهمية العلاقات الاقتصادية في المجتمع. لذلك فشل في تقديم تفسيرٍ سببي مناسب لتقسيم العمل. لقد تطرق فقط الى تفاعل العوامل المختلفة ضمن حدود المجال الاجتماعي، دون أن يرتفع الى المستوى الذي يمكن عنده فقط العثور على الأسباب الحقيقية لتقسيم العمل. كان لا بد من البحث عن هذه الأسباب، أولاً، وقبل كل شيء، في ظروف العلاقات الطبقية الاقتصادية في المجتمع، وفي الطابع الملموس لعلاقات الانتاج والذي حدد تقسيم العمل. أنكر دوركهايم ثبات واسقترار الروابط الاقتصادية وقدرتها على خلق المجتمع وتحديد طابعه وضمان وجوده. لذلك لم يدرس تقسيم العمل (الذي طابقه مع نمو التخصص) من الزاوية الاقتصادية، ولكن من وجهة النظر الأخلاقوية، مُعتبراً اياه أنه العامل الرئيسي الذي يُنشئ التضامن الاجتماعي، أي المُجتمع.

6- أشكال تقسيم العمل "الشاذة". الشخصية والمجتمع
كان دوركهايم شاهداً على ظاهرة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة في المجتمع. لقد وصف نمو التناقضات بين العمل ورأس المال، وفوضى الانتاج بأنها "أشكال شاذة" لتقسيم العمل سببها معدلات التطور الاجتماعي المرتفعة للغاية. ميّز في القسم الثالث من (تقسيم العمل)، المُخصص لبحث هذه الأشكال "الشاذة"، "الأشكال المرضية" التالية للرأسمالية: العُزلة، اللامساواة الاجتماعية، والتنظيم غير المناسب لتقسيم العمل. سعى الى تفسير العُزلة، اي الحالة الاجتماعية التي يكون فيها غياب التنظيم الأخلاقي لسلوك الأفراد واضحاً، سعى الى تفسير ذلك بأنه افتقار الى تطور القواعد التي تحكم العلاقات بين الوظائف الاجتماعية غير الموصولة ببعضها وصلاً كافياً(36). ويظهر هذا بالنسبة له بوضوح وبشكلٍ خاص خلال أزمة اقتصادية او تجارية في الخصومة بين العمال وأرباب العمل. مع نمو اقتصاد السوق، يخرج الانتاج عن السيطرة ويصير غير قابلاً للتنظيم. مع تطور العلاقات الصناعية على نطاقٍ واسعٍ تتغير العلاقة بين هذين الطرفين. فمن ناحية، تزيد حاجات العمال وتحل الآلة محل عمل الانسان "لقد أُدمِجَ العامل في كتبيةٍ واستؤصل من عائلته طوال اليوم"(37). "ولكن بما أن هذه التبدلات قد حدثت بسرعة كبيرة فائقة، فان المصالح المتصارعة لم تجد الوقت الكافي لاقامة التوازن فيما بينها"(38). أدى نمو الصناعة واسعة النطاق الى تفكيك وحدة المشاريع الصغيرة وخلق طبقتين كبيرتين، رأس المال والعمل، التين كانتا مُرتبطتين بشكل متناحر (لم يُنكر دوركهايم ذلك).
بالنسبة له، يجب أن تتميز الحالة السليمة للمجتمع بتطور التخطيط الاقتصادي والتنظيم المعياري للعلاقات الاقتصادية من خلال مؤسسات الانتاج. في هذه الحالة طابق ما هو طبيعي بما هو أمثل وأفضل.
اعتبر دوركهايم ان علل الرأسمالية التي وصفها هو (مثل المنافسة غير المنظمة وغير المُقيدة بأي شيء، والصراع الطبقي ورتابة العمل وتدهور قوة العمل) هي آلام التطور السريع للغاية للانتاج وتقسيم العمل، وهي ليست الا أعراض جانبية مؤقتة من التطور الطبيعي Natural Evolution.
كما اعتبر عدم المساواة، التي تنطوي على انحرافٍ عن التضامن العضوي، كـ"شكل شاذ" لتقسيم العمل. اذا كان تكوّن الطبقات، عند دوركهايم، يولد نزاعاتٍ مؤلمة "فذلك لان توزع الوظائف الاجتماعية الذي يستند اليه يكون غير مناسب، او قُل يُصبح غير مناسب لتوزع المواهب الطبيعية"(39).
زعم ان النظام الطبقي يمنع تكافؤ الفرص. هذا النظام يُفقر جماهير واسعة من فرصة شغل موقع اجتماعي يتناسب مع قدراتها. وأدى هذا بدوره الى تبادل غير عادل للخدمات. اذا كانت احدى طبقات المجتمع مُلزمة بأخذ أي ثمن، من أجل ان تعيش، بينما يمكن لطبقة أُخرى ان تتفادى مثل هذا الفعل بفضل الموارد المُتاحة لها، والتي، مع ذلك، لا ترجع بالضرورة الى أي تفوق اجتماعي،" فان الثانية تفرض القانون على الأولى ظُلماً"(40). (وكان في ذهن دوركهايم التفوق في القدرات).
اعتقد دوركهايم أنه يمكن التغلب على الأشكال "الشاذة" لتقسيم العمل من خلال التسوية السلمية للنزاعات وتقليل الصراع والمنافسة الى مستوىً مقبول، وانشاء مراسيم وقواعد صارمة تُنظم بصرامة العلاقة بين الطبقات، واستدخال العدالة والفُرَص الاجتماعية والأجر للجميع حسب خدماتهم.
لم يستطع دوركهايم أن يتخيل أنه يمكن ان يوجد مُجتمع يتم فيه الغاء المُلكية الخاصة وعدم المساواة من جميع الأنواع تماماً. اعتبر أنهما موجودان حُكماً رغم أن العلاقة بينهما ستتغير. سوف يتم تنظيم الوصول الى الخيرات المادية عن طريق قدرات ومواهب الفرد الطبيعية. تنشأ آخر الأشكال "الشاذة" لتقسيم العمل التي أشار اليها دوركهايم عندما يكون نشاط العامل المهني غير كافياً أو يفتقر الى تنسيق الاجراءات.
في رأيه، ينمو تضامن التنظيم الاجتماعي، عندما يكون العمل أكثر كثافةً وتنظيماً. ولكن تم دحض هذه الفرضية اليوتوبية في سياق تطور الانتاج الرأسمالي في القرن العشرين. لم يؤد "التنظيم العملي للعمل" ولا أيٍ من الطرق الأخرى لتنظيمه الى التضامن الطبقي في المُجتمع التناحري. كان مفهوم دوركهايم لتقسيم العمل مُختلفاً عن مفهوم ماركس. وكما عبّر عن ذلك ماركس، يجب البحث عن مصدر الصراع الطبقي في انقسام المُجتمع لطبقات وفقاً لعلاقاتها بوسائل الانتاج، وليس من خلال تحليله كتخصصٍ في الوظائف المهنية. ان مسألة ما اذا كانت مُلكية وسائل الانتاج موروثةً أو مُكتسبةً حديثاً هي مسألة ثانوية. الشيء الرئيسي هو أن علاقات المُلكية تُحدد كل العلاقات الأُخرى في المجتمع الرأسمالي وتقف خلف تناحر العمل ورأس المال.
ان الطرق التي أشار اليها دوركهايم للتغلب على عيوب الرأسمالية هي طرق غير واقعية وطوباوية، على الرغم من أنه اعتمد قليلاً او كثيراً على التطور الطبيعي للتضامن من خلال تقسيم العمل نفسه، وأثار بشكلٍ أكثر حدةً مسألة علاج تقرحات الرأسمالية، أولاً من خلال طرح مهمة اعادة تنظيم المُجتمع في اطار حدود النظام الرأسمالي، ومن ثم الاعتماد على التعليم الأخلاقي بروح القِيَم والمُثُل المطابقة له.
استندت اجابات دوركهايم على المسألة الاجتماعية الأوسع حول العلاقة بين المُجتمع والفرد أيضاً على تحليل تناقضات الرأسمالية. كانت وجهة نظره أن المُجتمع لا يمكنه أن يتطور ويزدهر اذا كانت الشخصية الانسانية مُضطهدة، اذا تم اختزال الشخص الذي يؤدي وظيفةً مهنيةً ضيقة الى مستوى الآلة. علاوةً على ذلك، فان الفرد سينحل حتماً اذا تعرضت وظائف -function-s المُجتمع الاقتصادية والاجتماعية للخطر. في هذه الحالة، تفادى دوركهايم التقسيم النموذجي للقرن التاسع عشر الذي تم التعبير عنه في طرح مسألة العلاقة بين الفرد والمُجتمع بطريقة تعترف بضرورة الطرفين. اعتبر أن الفرد والمُجتمع في علاقة تبعية مُتبادلة، كل منهما يهتم بتطور الآخر وازدهاره. اقترح، أن سعادة الفرد ورفاهه يعتمدان على حالة المُجتمع، وتتحسن الأمور عندما تكون الشؤون الاجتماعية أكثر تنظيماً بالتالي عندما تكون حقوق الفرد وحرياته مضمونة.
لعب دوركهايم دور المُستنكر والشاجب للقول بحتمية الشر الأخلاقي الناشئ عن تخصص الصناعة وتمايزها. ان العامل "كل يوم يُكرر ذات الحركات يانتظام رتيب دون أن يهتم بها ودون أن يفهمها"- "مما يجعله في مصاف الآلة"(41). من وجهة نظر دوركهايم، لا يمكن تعديل أو تخفيف تحويل المرء الى مُلحقٍ للآلة من خلال منح العمال تعليماً عالمياً، أو تطوير اهتمامهم بالفن والأدب، لان التعرف على الثقافة سيجعل من حدود تخصصهم الضيقة حتى أكثر لا احتمالاً. كيف اذاً يمكننا أن نُزيل التناقض بين تقسيم العمل الذي تزايد بتزايد تخصص وظيفة العامل، وحاجات تطور شخصيته وفرديته؟ حسب دوركهايم، فان تقسيم العمل بحد ذاته ليس له أي عواقب سلبية. الأمر أنه نشأ فقط في ظروف استثنائية وشاذة، وبالتالي "ليس ضرورياً أن نُعدله بنقيضه، بل يجب، ويكفي، أن يظل كما هو وألا يتدخل شيء من الخارج ليشوه طبيعته"(42). يكون هذا مُمكناً عندما يُعطي وعي العمال بهدف التضامن مع الآخرين والحاجة الاجتماعية لعملهم مُحتوىً خاصاً، مما يجعله ليس فقط مقبولاً بل مرغوباً أيضاً. كان الشرط المهم لنشاط العمال المُشترك والمُتفق عليه هو أن الوظائف التي يؤدونها يجب أن تتوافق مع قدراتهم وميولهم. عندما ينكسر التوافق بين قدرات الأفراد ونوعية النشاط المنوط بهم، فان المُجتمع يمرض.
وبينما كان يُفسر الأزمات الاجتماعية بسذاجة شديدة، أصر دوركهايم في الوقت نفسه على أن "الفروق التي كانت تفصل بين الطبقتين في الأصل... تزول أو تقل"(43).
يجب أن يعتمد التمايز الاجتماعي في المجتمع على المزايا التي تعود الى القدرات الفردية لكل شخص، وليس على الامتيازات الاجتماعية. وهكذا، تكون المساواة والعدالة والحرية، في رأيه، أساس نظام اجتماعي من نوع تنظيمٍ أرقى، والذي يقاربه المُجتمع الصناعي الحديث. لذلك، في فترة الأزمة الرأسمالية وانتشار الايديولوجيا الاشتراكية على نطاقٍ واسع، كان يردد مراراً وتكراراً شعارات الرأسمالية القديمة.
يتكون المجتمع من الروابط الأخلاقية وسعياً واعياً من أجل المُثُل العُليا وعلاقاتٍ اجتماعية يمكن ويجب تنظيمها بوعي- هذه هي أحجار الزاوية للاصلاح الدوركهايمي. في تأكيده على أن "التفاوت بين الأفراد يميل الى أن يُمحى امحاءاً كاملاً- كُلما ارتقينا على السلم الاجتماعي"(44)، في المجتمع الرأسمالي المتطور، فانه نسب اليه، أي الى المُجتمع الرأسمالي المُتطور، السمات الاشتراكية. لقد اعتبر أنه من الممكن حقاً التحكم بوعي في العمليات الاجتماعي. ومن هنا جاءت توصياته العملية التي تقضي بتوزيع العمل بطريقة تجعل كل فرد يشغل مكاناً مُناسباً له، وبالتالي زيادة النشاط الوظيفي لكل عامل "فاذا بالنظام يعود من تلقاء نفسه، واذا بالعمل يُدار ادارةً فيها توفير أكبر"(45). تميزت اجابة دوركهايم على مسألة العلاقة بين الفرد والمُجتمع بعدم تمجيده الماضي ورؤيته لمصادر وامكانيات تطور الفردانية في التطور التدريجي لتقسيم العمل. في حين أنه بالنسبة للفرد فان "حريته في هذه الحالة حرية ظاهرة، وشخصيته شخصية مُستعارة"(46)، في المراحل الأولى من التنظيم، فانه يحصل على فرصة في مرحلةٍ أعلى ليُصبح مُنسجماً وكاملاً من خلال تطوير قدراته/ا بِحُرية. لم يكن تطور الشخصية "من حيث العُمق" المُرتبط بالتخصص الضيق أقل أهميةً من التطور "الأفقي" الذي يتوسع على اساس الاهتمام والهواية. يكتسب الانسان، من خلال الارتباط مع الناس الآخرين، ما يفقده من خلال التخصص الضيق. في حين لم يُلاحظ دوركهايم الطابع الاستغلالي للعمل الذي يتسبب في اغتراب الفرد، وفي حين ربط الصعوبات التي يعاني منها العامل المُتخصص بظروفٍ مؤقتةٍ وغير مواتية، فانه يعتقد أن المُثُل العليا وأخوّة العمال وتضامنهم ووعيهم للهدف المُشترك سيعوضهم عن خسائرهم الحتمية. كان هدفه اصلاح المُجتمع الرأسمالي وليس اعادة بناءه جذرياً. على الرغم من عناصر المُقاربة الجديدة في فصل الظواهر الاجتماعية، لم يتجاوز دوركهايم كونت، وركز الانتباه على المسائل الأخلاقية وتحسين التنظيم القانوني والأخلاقي للعلاقات الاجتماعية.

7- تطبيق مبادئ السوسيولوجية Sociologism على دراسة أسباب الانتحار
جذبت مسألة الانتحار، التي كرّس لها دوركهايم دراسةً خاصةً، انتباهه لأسبابٍ عديدة. هناك مجموعة محددة من الحقائق التي يمكن تحديدها بسهولة(47)(ب)، وبدلاً من الذهاب بنفسه الى الى التأملات الميتافيزيقية حول الظواهر الاجتماعية، يُمكن للسوسيولوجي أن يجد قوانين حقيقيةٍ من شأنها أن تكشف عن امكانيات السوسيولوجيا أفضل من أي حجةٍ دياليكتيكية(48). كانت هذه هي النقطة الأولى. ثانياً، اعتبر دوركهايم أن من مهماته أن يُطبق المبدأ الرئيسي للمنهج السوسيولوجي على المادة التجريبية: أي دراسة الحقيقة الاجتماعية كـ"شيء"، والاعتراف بوجود عالم خاص خارج الفرد، أي واقع اجتماعي، صحيح أنه يُحدد سلوكه، ولكنه غير منوط بارادته. وحينما كان يعتمد على هذه المُقدمات النظرية والمنهجية، فقد رفض تفسير الانتحار بالدوافع الفردية والنفسية، وادعى أن الأسباب الاجتماعية وحدها هي العوامل التفسيرية. اعتمد الانتحار بشكلٍ رئيسي على الأسباب الخارجية التي تحكم الناس وليس على الخصائص الداخلية للفرد.
أشار دوركهايم، من خلال ابرازه لسمات الأزمة الاجتماعية، الى أن الانتحار هو أحد الأشكال التي يتخدها المرض الجمعي وهذه الدراسة ستساعدنا على فهم المرض. بدا له أن تحديد أسباب المرض الاجتماعي والتوصيات من أجل التغلب عليه، هو أفضل وسيلة لترسيخ مكانة السوسيولوجيا كعلم. يمكن للتفسير السوسيولوجي لأكثر الأفعال فرديةً أن يُلقي الضوء على القوى التي توحد الناس، لان الانتحار هو مثال واضح على اضطراب الروابط الاجتماعية.
كانت السوسيولوجية Sociologism هي جوهر تفسيره. تم النظر الى جميع العوامل الأُخرى من منظورها، بما في ذلك القابلية الفردية للانتحار. في اظهار أن الدوافع النفسية للانتحار، والتي غالباً ما بدت أسبابها فرديةً فقط، علاوةً على انها انعكاس مشوه للظروف العامة، ذهب دوركهايم الى دراسة المُحيط الاجتماعي باعتباره السبب الرئيسي الذي يؤثر على التغير في نسبة الانتحار. لقد رفض تماماً دور العوامل الفردية والحالة النفسية وظروف الحياة المُحددة للانتحار الفردي، لكنه شدد على أهميتها الثانوية واعتمادها على الأسباب الاجتماعية العامة وحالة المُجتمع.
كانت النسبة المئوية لحالات الانتحار (نسبة عدد حالات الانتحار الى اجمالي عدد السكان)، في المفهوم الذي قدمه دوركهايم دالةً على متغيرات اجتماعية: العلاقة بين الجماعات الدينية والعائلية والسياسية والقومية وغيرها. بدءاً من ذلك، استخدم تقنية الدليل بالاقصاء (الاستثناء): قام بشكلٍ منهجي بفحص ورفض الحقائق اللااجتماعية مثل "الاستعداد النفسي-العضوي" للأفراد (الوضع النفسي، العوامل العرقية والموروثة)، وخصائص البيئة النفسية (المناخ، المواسم، الوقت من اليوم) وعمليات التقليد والمُحاكاة Imitation. بعد ذلك درس تأثير الاسباب الاجتماعية والطريقة التي تعمل بها، وكذلك العلاقات بين العوامل الاجتماعية وغير الاجتماعية.
اكتشف عدداً من الأنماط الجزئية مُعتمداً على الاحصاءات الرسمية: نسبة الانتحار في الصيف أعلى منها في الشتاء، ينتحر الرجال أكثر من النساء، وينتحر كبار السن في كثيرٍ من الأحيان أكثرمن الشباب، والجنود في كثيرٍ من الأحيان أكثر من السكان المدنيين، والبروتستانت في كثيرٍ من الأحيان أكثر من الكاثوليك، والعزّب والأرامل أكثر من المتزوجين، وتعلو نسبة الانتحار في المناطق الحضرية أكثر من الريف، وهكذا. "ودون أن نهتم بمعرفة الأشكال التي يمكن أن تنعكس في ظلها الأسباب المنتجة للانتحار لدى الأشخاص العاديين... لهذا سنتسائل مباشرةً، تاركين جانباً، تقريباً، الفرد بما هو فرد، ودوافعه وأفكاره، ما هي حالات مُختلف الأوساط الاجتماعية (عقائد دينية وعائلية، مُجتمع سياسي، جماعات مهنية، الخ). والتي يتغير الانتحار تبعاً لها"(49). عند دراسته للعوامل الاجتماعية، حاول دوركهايم تحديد الُعامل الأكثر تحديداً بينها، أي، أي عاملٍ بينها هو الأكثر ارتباطاً بالنسبة الأعلى للانتحار وفقاً للقواعد المنطقية المختلفة، وحاصةً قاعدة التغيرات المُصاحبة. على سبيل المثال، ما هي السمة الدينية التي لها أكبر ارتباط بالانتحار؟ ما هو ذلك الشيء الموجود في الكاثوليكية الذي يجعلها أقل عُرضةً للانتحار من البروتستانتية؟
بعد أن بدأ البحث في كيفية تأثير العقيدة على الانتحار، أظهر دوركهايم الفرق بين الكاثوليكية والبروتستانتية من زاوية عقائد وطقوس كلٍ منهما. كانت الكاثوليكية، باعتبارها النظام التقليدي الأقدم للمعتقدات والطقوس، تتمتع بوحدةٍ وقوةٍ في المعتقدات أكبر بكثير، وهي أكثر لاتوافقاً مع الابتداعات التي تُزعج روحها العامة من البروتستانتية، وأدى هذا الى زيادة التماسك والتضامن بين أفراد المجموعة الدينية الكاثوليكية وبالتالي انخفاض نسبة حالات الانتحار بينهم. ارتبطت البروتستانتية بانحدار المعتقدات التقليدية وتغلغلت فيها بروح التفكير الحر والنقد. كانت امكانية توحيد المؤمنين أقل وبالتالي كانت نسبة الانتحار أعلى.
ساعدت هذه الفرضية على تفسير العديد من المتغيرات الاجتماعية الأُخرى المُرتبطة بنمو عدد حالات الانتحار. كانت الأسرة والأطفال والحياة الريفية عوامل اندماج اجتماعي تمنع الفرد من الشعور بالعزلة الاجتماعية. اقترح أن الانتحار يتغير تغيراً عكسياً مع درجة اندماج الفرد في المجموعة التي ينتمي اليها(50). يمكن للعوامل من الصف غير الاجتماعي أن تؤثر فقط على نسبة الانتحار بشكل غير مباشر. استخدم دوركهايم اجراءاً يُدرج فيه العامل غير الاجتماعي في العلاقة، ولكنه وجد أن أهم جانب فيه كان وثيق الصلة بالعامل الاجتماعي. يُصبح تأثير العامل البيولوجي على سبيل المثال، الجنس، مفهوماً عندما يتم تحليل المواقف الاجتماعية النسبية للرجال والنساء وطرق مشاركتهم في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية ودورة نشاطهم الاجتماعي المُتغيرة، وما الى ذلك. عند تأكيده على أنه لا يمكن "أن يكون هناك نماذج مختلفة من الانتحارات الا بقدر ما تكون الأسباب التي ترتبط بها، مختلفة هي نفسها أيضاً"(51)، وبالاشارة الى صعوبة تجميع حالات الانتحار تبعاً لمورفولوجيتها (شكلها)، قرر دوركهايم أن ييعتمد على التصنيف الايتولوجي aetiological الذي يعني التصنيف حسب الأسباب. ميز دوركهايم أربعة أنواع من الانتحار: الأناني egoistic، الغيري altruistic أي الانتحار الذي يدفع اليه الغير، الفوضوي anomic اي الانتحار الذي يدفع اليه فوضى ناجمة عن فقدان النظام الشرعي، والانتحار اليائس fatalistic. الأول يُسببه ابتعاد الفرد عن المُجتمع الذي يتوقف عن ممارسة تأثيره التنظيمي عليه، أي على الفرد. يُسبب تمزق الروابط الاجتماعية وغياب الدعم الجماعي حالةً من القطيعة والعُزلة وشعوراً بالوحدة والفراغ واحساساً بمأساة الوجود. يمكن أن تكون النزعة الفردية المتطرفة سبباً لحالات الانتحار من هذا النوع، ولكن التربة التي تولده هي مجتمع مريض ونوعاً من "العلة الاجتماعية"(52). تؤدي الفوضى الاجتماعية الى فقدان الأهداف واضعاف الروابط التي تربط الفرد بالمجتمع وبالتالي بالحياة. تنعكس هذه الحالة العامة بدورها في تفكك الجماعات الاجتماعية الدينية والعائلية والسياسية والتي تؤثر بشكلٍ مباشرٍ على الفرد.
يتم مواجهة النوع الثاني من الانتحار، الغيري، عندما تكون المصالح الشخصية غارقةً تماماً في المصالح الاجتماعية، وعندما يكون اندماج المجموعة كبيراً لدرجة أن الفرد لا يعود موجوداً ككيانٍ مُستقل. أدرج دوركهايم العادات القديمة في هذا النوع، مثل انتحار المُسنين والمرضى وحرق الزوجات لأنفسهن بعد وفاة أزواجهن، وانتحار العبيد بعد وفاة مالكهم، وما الى ذلك. انتحار من هذا النوع موجود بشكل رئيسي في المُجتمعات القديمة. النوع الثالث من الانتحار، الفوضوي، يمكن أن نجده بشكلٍ رئيسي خلال الاضطرابات الاجتماعية الكُبرى والأزمات الاقتصادية عندما يفقد الفرد القدرة على التكيف مع التغيرات والمتطلبات الاجتماعية الجديدة ويفقد/تفقد صلاتها بالمجتمع. ان حالة الفوضى الاجتماعية، التي عنى بها دوركهايم غياب أي قواعد ومعايير للسلوك وعندما ينهار التسلسل الهرمي للقيم القديمة ولما يتشكل بعد هرماً جديداً والذي ينجم عنه عدم استقرار أخلاقي لأفراد معينين. عندما تتهاوي البُنية الاجتماعية وتصبح غير منظمة، ينهض بعض الأفراد بسرعة بينما يفقد آخرون مكانتهم في المجتمع، وتزيد عدد حالات الانتحار عندما يختل التوازن الاجتماعي. ميّز دوركهايم الانتحار الفوضوي، والذي يمكن ايجاده في دوائر الأعمال، من زاوية الصفات الفردية لأعضاء العالم التجاري والصناعي ودافعهم الجامح لتحقيق المكاسب التي نمت بشكلٍ مُفرط دون الالتزام بقواعد صارمة، مما يؤدي الى اضطراب الأخلاق والتوازن النفسي. ان ضعف أو غياب التنظيم الاجتماعي والنشاط البشري غير المُنظم هو أساس الانتحار الفوضوي. عندما يكون المجتمع غير قادر على مُمارسة التأثير الضروري على الفرد، تكون النتيجة المؤسفة حتمية.
ان عكس الانتحار الفوضوي هو الانتحار اليائس، والذي ينشأ نتيجة ازدياد سيطرة المجموعة على الفرد وعندما يكون التنظيم الصارم فائضاً وغير مُحتملاً بالنسبة له "والذي يرتكبه الأشخاص الذين سُدّت منافذ مستقبلهم دون رحمة، والذين كُبِتت شهواتهم بعنف بواسطة نظام تعسفي صارم"(53). وهكذا، يكون الانتحار في رأيه فعلاً مُتعمداً وواعياً يرتكبه فرد، اعتماداً على النظام الاجتماعي. كان مقياس السلوك الاجتماعي السليم هو الفرد العادي الذي يحترم القواعد ويخضع للسلطة الجماعية(54). تُشير مفاهيم الأناني، الغيري، الفوضوي، اليائس، في فهم دوركهايم الى النزعة الجماعية التي دفعت الشخص الى الانتحار. لقد أطلق على هذه القوى، ميولاً، يمكن قياس شدتها بمعدل الانتحار. يمكن للقوى أو الميول الجماعية، وفقاً له، أن تُفسر النزوعات الفردية الى الانتحار، وليس العكس. ان الدوافع النفسية للانتحار فردية، علاوةً على ذلك، فهي انعكاسات مشوهة لظروف البيئة الاجتماعية العامة، في كثيرٍ من الأحيان.
كانت السمة الأكثر قيمةً في تحليله هي كشفه أن الجوهر الاجتماعي للانتحار سببه وضع الأزمات في المجتمع الرأسمالي. أعطت أفكاره دفعةً للدراسات السوسيولوجية لـ"السلوك المُنحرف"، كما استخدمها وطورها، على وجه الخصوص روبرت ميرتون. ولكن، بعد أن حدد بوضوح حالة الفوضى والتفكك الأخلاقي والنفسي في المجتمع الرأسمالي، لم يُبرز دوركهايم الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة، حيث رأى فيها، أي رأى في الأزمة، كأنها تغير اجتماعي بمعدلاتٍ مرتفعة لم يستطع الوعي الأخلاقي أن يواكبها(55).
كانت فكرة أن الحل لأجل الخروج من الأزمة يتمثل في انشاء مؤسسات انتاجية من أجل تعزيز النظام الأخلاقي للمجتمع، طوباوية.
يجب على المرء أيضاً أن يُشير الى السمة المُجردة والشكلية لتصنيف دوركهايم للانتحار. تم تشويه تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية بادراجه أفعالاً متنوعة انعكست في معايير اجتماعيةٍ لتشكيلاتٍ اجتماعيةٍ-اقتصادية، في مجموعةٍ واحدة.
في حين كان يُعير اهتماماً للعامل الاجتماعي، اقتصر دوركهايم على الاشارة فقط الى ارتباطه بالعامل النفسي. قام دوركهايم فقط بالتعبير عن الفكرة حول أن قرار الفرد يتم التعبير عنه من خلال المتطلبات والمعايير الثقافية، ومن خلال التوجه فيما يتعلق بالحياة الانسانية وقيمتها، أي قام بالتعبير عنها فقط، ولم يقم بتطويرها.
على الرغم من حقيقة أن مفاهيمه حول العلاقة بين العوامل الذاتية والموضوعية كانت بحاجة الى تحليلٍ أكثر تفصيلاً، فان الاتجاه الرئيسي لدراسته أعطى دافعاً لتطوير المسألة العامة حول الاشتراطية الاجتماعية للنفسية الفردية(56). مهد دوركهايم الطريق للتحليل الكمي في السوسيولوجيا وشق طريقاً لتطوير الأساليب والتقنيات الخاصة (مثل، منهجية الادراج المُتسلسل للعوامل المُشاركة في التفاعل method of successive inclusion of factors involved in interaction، والتي يكمن جوهرها في دراسة وتفسير تعقيد العلاقات بين السمات المُدرجة بشكلٍ منهجي في العلاقة التي تمت دراستها سابقاً، ودراسة هذه العلاقة في سياقات متنوعة على نطاقٍ واسع، وما الى ذلك). لم يكن دوركهايم قادراً على استخدام أدوات التحليل العلمي مثل مُعامل الارتباط، ومفهوم التفاعل الاحصائي وتشكيل الاجراءات التحليلية، الخ، التي تُعتبر أوليةً من وجهة نظر اليوم. وعلى الرغم من ذلك، فقد لعب عمله دوراً مهماً في ترسيخ المُقاربة السوسيولوجية للانتحار على عكس المُقاربة النفسية المرضية التي كانت شائعةً في عصره، ويُنافس النهج السوسيولوجي للدراسات في أيامنها هذه. وعلى الرغم من دحض العديد من استنتاجاته الخاصة وتنقيحها، فقد احتفظت فكرته الرئيسية بقيمتها حتى الوقت الحاضر.

8- المفهوم الفلسفي والسوسيولوجي للأخلاق
نظراً لان دوركهايم اعتبر المُجتمع وحدةً أخلاقيةً للأفراد، فقد تشبث بالمخطط المفاهيمي لـ"السوسيولوجية" في معالجته لطبيعة الأخلاق وأصلها ووظائفها، واستنبط الأخلاق من الظروف الاجتماعية، والوسط الاجتماعي والبُنية الاجتماعية في فهمه الخاص. لقد اعتبر في الأصل، الأخلاق، على أنها نظام للقواعد الموضوعية للسلوك، وسمتها المُميزة هي طابعها الاجباري الذي لم يكن على الفرد الا أن يخضع له. واعتبر أن الواجب هو السمة الرئيسية للأخلاق. ان أداء المرء لواجبه يجعل من سلوكه أخلاقياً. بعد ذلك، استحوذ اهتمامه على الجانب الطوعي للأخلاق وسماته، مثل الرغبة والقبولية واهتمام الفرد الشخصي بالقِيَم الأخلاقية. في ماحولة لتقديم تفسيرٍ اجتماعيٍ لأصل الظواهر الأخلاقية ووظائفها، أعاد دوركهايم تفسير أنماط التحديد الاجتماعي للأخلاقي. أكد في عمله (تقسيم العمل الاجتماعي)، على مبدأ التطور التاريخي للمعتقدات الأخلاقية وفقاً للعوامل المورفولوجية أو البنيوية. وشدد لاحقاً على أهمية فترات الارتقاء الذهني "الحركات الحماسية، والفترات الابداعية، التي تركت آثارها في الذاكرة على شكل آأفكار ومُثُل وقيم(57). هذه الأفكار، وما الى ذلك، تعززت واُعيد انتاجها مراراً وتكراراً من خلال تنظيم المناسبات والاحتفالات الدينية والعلمانية، من خلال الوعظ بكافة أشكاله، والأحداث الانتاجية التي يمكن للناس أن يجتمعوا فيها ويتشاركوا من خلالها نفس الحياة الفكرية والأخلاقية(58). على أي حال، أكد دوركهايم الجور الاجتماعي للأخلاق. عند التشديد على الطابع المُقدس للأخلاق(59)، فسرها بالدين والأخلاقية باعتبار أن المجتمع هو مصدرها وموضوعها، أي المجتمع الذي تجاوز الفرد بقوته وسلطته. طالب المجتمع بعدم الأنانية والتضحية بالنفس-وهما عنصران الزاميان في الأخلاق. قال أن كانط افترض وجود الله لان الأخلاق كانت غير مفهومة بدون هذه الفرضية. افترض دوركهايم أن مجتمعاً متميز على وجه التحديد عن الأفراد، لان الأخلاق تكون بخلاف ذلك بلا موضوع، ويكون الواجب بلا أساس(60). عند ربطه الأخلاق بالظروف الاجتماعية التي أدت الى ظهورها، لم يعتبر دوركهايم أنه من الممكن ابراز واثبات مثال اجتماعي ذي طابعٍ ثوري يطلب تحطيماً جذرياً للبنية الاجتماعية. كلما تخلفت الأخلاق عن الظروف الحقيقية للمجتمع، يكون من الضروري فقط، كما يقول، جعلها متوافقة مع البُنية الاجتماعية المتغيرة، ليس أكثر(61). أدت فكرة تحددية الأخلاق من خلال بنية اجتماعية مستقرة بدوركهايم الى النسبوية الأخلاقية. اذا كانت جميع أشكال الأخلاق مشروطةً بشكلٍ متطابقٍ بالبُنية القائمة، فانها بذلك تكون كلها مُحقة بشكلٍ متماثلٍ ولا يوجد هناك بالتالي، معايير موضوعية لتمييز أيها أفضل من الأُخرى. كان السبب الكامن وراء الأزمة الاجتماعية، التي اعتبرها ذات طبيعة أخلاقية بشكلٍ أساسي، هو تغير طبيعة ومحتوى الوعي الجمعي. استلزم التغير السريع في المعايير والقِيَم، فقدان الانضباط والنظام في المجتمع. لم تتأسس أخلاق الفردية بعد على أنها القيمة الرئيسية ومحتوى الضمير الجمعي. لم يستبعد التضامن العضوي في المجتمعات الحديثة الافتقار الى قواعد السلوك، مما أدى الى حالة من الفوضى والفراغ الأخلاقي ونقص في المعايير. لذلك مر المُجتمع الحديث باضطرابٍ أخلاقيٍ وصراعٍ اجتماعي مرير. يكون المخرج من الأزمة هو تعزيز التنظيم الأخلاقي.
تكون الدولة التي "تُفكر وتعمل" من أجل بقية المُجتمع، في مفهوم دوركهايم، هي الفاعل الرئيسي الذي يؤدي وظيفة "العقل الجمعي" والمُدافع عن المصالح الجماعية. لقد تعامل مع دور الدولة بروحٍ ليبرالية، لكنه توقع امكانية التضخم المُفرط لوظائفها على حساب الفرد. يجب على الجماعات "الثانوية" او الوسيطة (الدينية، الانتاجية، وما الى ذلك) أن تُدافع عن الفرد ضد سيطرة الدولة المُتطرفة. تمشياً مع ذلك، عارض دوركهايم وضع المراسيم والتعليمات الأخلاقية التي تُنظم سلوك الأفراد كأعضاءٍ في مجموعات اجتماعية مُشيراً الى الحاجة الى دراسة تاريخية لهذه المراسيم، وطوّر فكرة نسبية المُتطلبات الأخلاقية المقبولة في الدوائر المهنية المختلفة. دعا في الوقت نفسه، الى انشاء تسلسل هرمي صارم للقواعد الأخلاقية حسب أهميتها الاجتماعية. شكلّت الأخلاق العائلية والمهنية والدينية البُنية الهرمية، وعلى رأسها القيم والأفكار العالمية المُتجسدة في الدولة. أعاد دوركهايم انتاج الفكرة الكونتية حول الدولة باعتبارها ذاتاً للمصالحة الشاملة والتنظيم الأخلاقي لمصالح جميع أعضاء المُجتمع، بغض النظر عن المحتوى الاجتماعي والطبقي لتلك المصالح.
كان لمفهوم التسلسل الهرمي غير المشروط للمعايير الأخلاقية طابعاً شكلياً وكان يهدف الى الحفاظ على اسقرار النظام الاجتماعي.
من وجهة نظر دوركهايم، كان للسلوك الأخلاقي للشخص ثلاث سمات أساسية متأصلة: الشعور بالانضباط، والعضوية في المجموعة، والاستقلالية. لقد أحال أهميةً أكبر الى الانضباط والسيطرة الأخلاقية، أي في جوهر الأمر مطابقة الانضباط بالأخلاق. فقط الانسان هو الكائن الوحيد القادر على اتباع النظام بوعي وفقط بذلك أصبحت الحرية ممكنة. تجسد الجوهر الاجتماعي للأخلاق في سمة "عضوية Membership المجموعة" وفكرة المراعاة الواعية والطوعية للأوامر الاجتماعية بـ"استقلالية".
ربط دوركهايم تفسيره للوظائف الاجتماعية للأخلاق مُباشرةً بنظرية التعليم. ان الهدف من التعليم والتربية هو صياغة كائن اجتماعي، لتطوير تلك الصفات والخصائص الشخصية للطفل التي يحتاجها المُجتمع. ان عمل التعليم هو تحويل الكائن الأناني غير الاجتماعي الذي كانه الطفل في البداية، بأكثر الوسائل فعاليةً، الى كائنٍ آخر، قادرٍ على السير في الحياةٍ الاجتماعيةٍ والأخلاقية. استندت معالجته للمسائل الأخلاقية في العصر الحديث على نظريته الانثروبولوجية ومفهوم ازدواجية الطبيعة البشرية ومفهوم الهومو دوبليكس Homo duplex (الانسان المزدوج-المُترجم). تقف الطبيعة الاجتماعية للانسان التي نشأت من خلال التعليم (ىالمعايير والقِيَم والمُثُل العليا) على الضد من طبيعته البيولوجية (القدرات، الوظائف البيولوجية والدوافع والعواطف). يؤدي ذلك الى قلق داخلي أبدي وشعوربالتوتر. فقط نشاط المُجتمع المسيطر يكبح الطبيعة البيولوجية للانسان وعواطفه وشهوته ويضعها في سياقٍ معين. تنشأ الفوضى وهي حالة انحلال المجتمع والفرد، عندما يُقلل المجتمع سيطرته على الفرد. لا يوجد في هذه الحالة الاجتماعية سيطرة أخلاقية صارمة على السلوك الفردي وينشأ نوع من الفراغ الأخلاقي حيث لم تعد المعايير والقيم القديمة تلعب دورها ولم تحل محلها معايير وقيم جديدة بعد. هذا الوضع يُعارض النظام الأخلاقي وتنظيمه والسيطرة التي تميز الوضع "السليم" للمجتمع. عالج دوركهايم في كتابه (تقسيم العمل الاجتماعي) الفوضى، من جانب البُنية الاجتماعية، مُفسراً اياها بالافتقار الى تنسيق الوظائف الاجتماعية اثناء نمو وتطور والمجتمع. في كتابه (الانتحار) تعامل مع موضوعة الفوضى باعتبارها أزمة أخلاقية يتعطل من خلال الاضرابات الاجتماعية، نظام التحكم المعياري للاحتياجات والعواطف الفردية، مما يؤدي الى فقدان توازن الشخصية والشعور بالانتماء الى مجموعة وفقدان الانضباط والتكافل الاجتماعي وتزايد السلوك المُنحرف. اعتقد دوركهايم، بطريقةٍ طوباوية، ان الاحتياجات الفردية والاجتماعية يمكن تنظيمها بوعي في النظام القائم، وأنه يجب ابقاءها في سياق القيود التي تُمليها الامكانيات الاجتماعية الحقيقية، مع الحفاظ على العلاقات الاجتماعية الرأسمالية. من شأن ذلك أن يمنع تصاعد التوتر والأزمة الروحية ومشاعر الاحباط والضيق وبالتالي السلوك المُنحرف.
في سياق تطويره لمسألة الجوهر الاجتماعي للأخلاق، عبّر دوركهايم عن العديد من الأفكار الصحيحة. كان اعترافه بحسمية الظروف الاجتماعية في نشأة الأخلاق أمراً ايجابياً، وكذلك كان الأمر لتحليله للنتائج الوظيفية لقواعد المُجتمع الأخلاقية، وادراكه لتقلباتها الاجتماعية-الثقافية.
كان التفسير السوسيولوجي للأخلاق مُثمراً جداً من حيث المبدأ. لكن كان تصور دوركهايم مُجرداً للغاية ووحيد الجانب. كانت حُججه عن كون أن المُجتمع هو الهدف الأخلاقي الجدير الوحيد غير مُثبتة وضعيفة. لا يمكن للمرء أن يُنكر، على سبيل المثال، القيمة الأخلاقية للشخصية وتطورها المتناغم. وعلى الرغم من أن دوركهايم اعترف ودافع بنشاط عن حقوق وكرامة الفرد، الا أن نظريته لم تسمح له بمعالجة تفاعل الفرد والمُجتمع بشكلٍ دياليكتيكي في طروفٍ تاريخيةٍ ملموسة. كان مبدأ التفوق غير المشروط للمجتمع على الفرد غير سليم. كانت الجماعية غير التاريخية المُجردة غير مُبررة تماماً مثلها مثل الفردية المُجردة التي انتقدها باستمرار. ان العلاقة بين الفرد والمُجتمع، من الناحية الأخلاقية لا يمكن اختزالها في علاقة تبعية. ان العلاقة بينهما حقاً، علاقة تفاعل دياليكتيكي.

9- المفهوم الفلسفي والسوسيولوجي للدين
توّج مفهوم الدين عند دوركهايم بتطور فكرته عن الوعي الجمعي باعتباره "أعلى شكل للحياة النفسية أو وعي الوعي"(62)(جـ). ان الموقف التقليدي الوضعي من الدين كأعلى مؤسسة اجتماعية تضمن اندماج المُجتمع، قد اكتسب عند دوركهايم شكل البحث عن الطرق والوسائل السوسيولوجية لتفسير الدين تحت تأثير الانثروبولوجيا الانجليزية والأمريكية، ولا سيما السير جيمس فريزر James Frazer وروبرتسون سميث Robertson Smith. اعتمد دوركهايم على المادة الانثروبولوجية لانه اعتبر، مُنطلقاً من الروح التطورية المبكرة، أن "كل العناصر الأساسية للفكر الديني والحياة، على الأقل في أشكالها الأولية، موجودةً في أكثر الديانات بدائيةً"(63). كان يأمل، بدراسته للطوطمية باعتبارها أكثر أشكال الدين بدائيةً، أن يفهم جوهر ووظائف الدين في المجتمعات "المُعقدة" التي اعتبرها "مُجرد أشكالٍ متنوعة لنفس النوع"(64). عند تناوله مسألة تعريف الدين من دراسة أشكاله البدائية، ادعى دوركهايم أن فكرة ما وراء الطبيعة وفكرة الله ليستا من السمات الضرورية للدين. ان تقسيم الدين كل الأشياء الى مقولتين متعارضتين (الدنيوي الأرضي والمُبتذل والنجس- والمُقدس) كسمة متأصلة في جميع المعتقدات الدينية دون استثناء.
كان للمقدس 1- طابعاً كالتابو ومنفصلاً عن الظواهر الدنيوية، 2- وهو موضوع للتطلع والحب والاحترام. وهكذا يكون المقدس مصدراً للقيود (المحرمات) والاحترام (السلطة). من وجهة نظر دوركهايم، يشير هذا الى الطبيعة الاجتماعية للمقدس، حيث أن المُجتمع وحده لديه مثل هذه الصفات: انه مصدر السلطة والحب ومصدر للقيود. يُجسد المُقدس القوة الجمعية ويغرس فكرة المُشترك في الوعي الفردي، ويربطه بشيء يتعالى عليه.
يرتبط الدنيوي بحياة الانسان اليومية ومهنته ومصالحه الخاصة وعواطفه الأنانية. وبهذا يُصبح الانقسام بين الدنيوي والمُقدس، عند دوركهايم، نفسه الانقسام بين الاجتماعي والفردي. لقد عرّف الدين على النحو التالي: الدين هو نظام موحد للمعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدسة، اي بالأشياء المحرمة والممارسات التي توحد كل من يلتزم بها في مجتمع أخلاقي واحد يُسمى الكنيسة(65). كان يقصد بكلمه "الكنيسة" أي تنظيم يُنظم الحياة الدينية للجماعة. حتى بين الشعوب البدائية كان هناك "كنائس"، أي أُناس ينظمون الطقوس والاحتفالات الدينية. ان مثاله الرئيسي على النشاط الدنيوي "المُبتذل" هو العمل، مصدر الحزن والأسى. أما الطقوس والمناسبات الدينية الجماعية، فهي مثال على النشاط المقدس كمصدرٍ للفرح وتسامي حالة الروح. صرح دوركهايم كثيراً بأن تعريفه لن يكون مقبولاً للجميع. كانت علامة تعريفه الرئيسية هي أداء الطقوس الموجهة نحو الأشياء المقدسة التي تعزز تضامن المجموعة والوعي الجمعي المشترك مما يحافظ على روح الأفراد وتمنحهم الثقة اللازمة للحياة.
اعتبر دوركهايم، كمُنظر لـ"السوسيولوجية Sociologism" أنه لا الأسباب الفيزيقية ولا البيولوجية يمكنها أن تفسر الدين وأصله وجوهره. لذلك رفض الاحيائية Animism التي استنتجت الدين من المفاهيم المتعلقة بالروح الخالدة (ادوارد تايلور Edward Taylor) والطبيعانية Naturism والتي تستنتج الدين بدورها من التقديس الطوعي لقوى الطبيعة المادية (ماكس مولر Max Müller وآخرين). استندت هذه النظريات الى فكرة أن "الانسان قد فرض على الواقع المُشاهد عالماً غير واقعي تم بناؤه بالكامل من الصور الفانتازية التي تُقلق روحه في الأحلام"(66). ان مهمة الباحث هي العثور على الحقيقة الموضوعية القائمة والتي هي سبب وموضوع وهدف المعتقدات والطقوس الدينية، هذا الواقع هو المجتمع.
في تطويره لمفهومه السوسيولوجي عن الدين، عبّر دوركهايم عن عددٍ من الأفكار المتعلقة بأنواعٍ مختلفة من العلاقات بين الواقع الاجتماعي والدين. لقد اعتبر الدين ظاهرةً اجتماعيةً في ثلاث معانٍ على الأقل: 1- كظاهرة تتحدد اجتماعياً Socially Determined. 2- كتجسيد لأفكار الواقع الاجتماعي في الوعي الجمعي (كان هذا النوع من التحليل قائماً على مُطابقة الأفكار الدينية مع المجتمع، وانطلجة Ontologisation الأفكار الجمعية). 3- كظاهرة لها نتائج اجتماعية وظيفية (مما يعني، في سياق مفهوم دوركهايم، تحليل الدين كظاهرة تُلبي احتياجات اجتماعية معينة).
عند البحث في الدين من زاوية أصله، فقد رأى مصدره في ملامح المُحيط الاجتماعي. في كتاب (تقسيم العمل الاجتماعي) حيث كان التفسير السببي لا يزال مختلفاً بوضوح عن الأنواع الأُخرى من التحليل السوسيولوجي، قدّم اطروحة أن الدين لا يمكن أن يكون أساس المجتمعات البدائية على الرغم من تغلغله في لبها، الا أنه لا يمكنه أن يكون سبباً للبُنى الاجتماعية "على حين أن هذه الأخيرة هي التي تفسر قول الفكرة الدينية وطبيعتها"(67). كانت اشارة دوركهايم لبنية المُجتمع البدائي وتنظيمه الاجتماعي (والتي كانت الطوطمية انعكاساً وتعبيراً عن نظامه الديني) تجسيداً لمطلب استنباط الاجتماعي من الاجتماعي. ان التصريح بأن "الدين هو نتاج أسباب اجتماعية"(68)، يفترض وجود تبعية سببية بين المُجتمع والدين، واعترافاً بأولوية المجتمع السببية. في هذه الحالة فهم دوركهايم بما هو اجتماعي Social السمات المورفولوجية للحقائق الاجتماعية: بُنية المجتمع وشدة التواصل بين أعضاءه. كان المصدر الحقيقي للتدين هو تماسك المجموعة، أي وجود اعضاءها معاً. لطالما اعتبر دوركهايم الاتصال الاجتماعي حقيقةً ايجابية، كخير يجلب للناس الفرح والالهام. برأيه، يمكن لهذا الاتصال أن يكون مُجرد اتصالٍ خارج نطاق الاقتصاد، يحدث خارج عمليه العمل. لذلك تم انشاء فكرة وجود عالمين متعارضين، اي العالم الدنيوي والعالم المُقدس، مما يُثير الايمان بالقوة التحويلية الكبيرة للجماعية. يرى بعض الباحثين ارتباطاً بين نظرية الالهام الجمعي لدوركهايم وسيكولوجيا الجماهير الذي تطور في ذلك الوقت (غوستاف ليبون وآخرون). ان لمعالجة الدين باعتباره شكلاً خاصاً من أشكال التعبير عن القوى الاجتماعية التي تُخضع الأفراد لها، مكانةً بارزةً في كتاب (الأشكال الأولية للحياة الدينية). كانت نقطة الانطلاق هي فكرة تطابق المُجتمع والمفاهيم الجمعية مع التصريح بأن المُجتمع هو "وعي الوعي"(69). تم استبدال اطروحة أن المجتمع يُمثل أولويةً بالنسبة للوعي الجمعي، بفكرة أن المفاهيم الدينية خلقت المُجتمع. من خلال مُطابقة الوعي الاجتماعي بالضمير الديني ادعى دوركهايم ان اله المؤمنين هو مجرد تعبير رمزي عن المُجتمع(70)، في حين أن "المبدأ المُقدس ليس أكثر أو أقل من المُجتمع مُرمّزاً ومشخصاً"(71). وهكذا يكون الدين، هو المجتمع نفسه، أو بالأحرى، تركزاً لجميع جوانب المُجتمع التي تشترك بصفات القداسة، بحيث أن تأثير الدين على الثقافة والشخصية، وكذلك على الأنماط الرئيسية للفكر الانساني، هو بلا حدود تقريباً. ان المُجتمع هو أُس وموضوع العبادات والمُعتقدات الدينية، لقد أنشأ الدين واستحضر العبادة الدينية، انه اله وهو مؤمن في نفس الوقت.
كان احد عناصر تحليل الدين الأصيلة للغاية في تحليل دوركهايم، هو اعتباره كمنظومة رمزية، ونظام من العلامات، حيث يمكن للتحليل الاجتماعي أن يكتشف الواقع الذي يُشكل أساس الدين، أي المُجتمع.
توصل دوركهايم، عند استنتاجه بأن المكون الرئيسي للدين ليس الجزء العقائدي ولكن النشاط الديني المُعرب عنه في التقيد الجماعي بالطقوس، توصل الى استنتاج حول الوظيفة الاجتماعية الايجابية للدين. كان يعتقد أن العبادة تهدف الى ادراك ازدواجية المُقدس والدنيوي في سلوك الناس. وبناءاً عليه، يمكن تقسيم جميع الطقوس الدينية الى نوعين: سلبي وايجابي. كان هدف النوع السلبي هو رسم خط حاد بين المُقدس والدنيوي، ومنع تدنيس المُقدس، وتقريب الانسان من المُقدس من خلال نبذ الذات أو التحقير الذاتي أو الزهد الشديد. كانت مهمة النوع الايجابي تعريف المؤمنين بالعالم المُقدس. ميز دوركهايم الوظائف الاجتماعية الرئيسية التالية لممارسة العبادة: وظيفة تأديبية أو السيطرة والاكراه، ووظيفة التدعيم لتعزيز الوحدة الاجتماعية وتقويتها، ووظيفة لاعادة الانتاج من أجل نقل التراث الاجتماعي الى جيلٍ جديد، وأخيراً وظيفة المُتعة والتي تتمثل في خلق مشاعر بهيجة. تدعم كل هذه الوظائف الاجتماعية للطقوس الدينية، وتُعزز التضامن الاجتماعي للمجتمع، وهي على المستوى الفردي، تُعزز الايمان بقوة ذاته/ا.
كانت احدى النتائج الثانوية لتحليل دوركهايم السوسيولوجي للدين هي تحليل محتوى الوعي البشري وأصل القدرات المنطقية الرئيسية: تصنيف، وابداع المفاهيم العامة. قام بتفسير كلا القدرتين كنتيجة للحياة الاجتماعية والدينية باعتبارها "نتاجاً للفكر الديني غنيةً بالمحتوى الاجتماعي"(72). برفضه التجريبية Empiricism والقبلية Apriorism والتي لم تستطع تفسير الطابع العالمي للمقولات، استخدم دوركهايم مُقاربةً بُنيوية وأكد أن محتوى المفاهيم الانسانية يشمل جوانب مُختلفةً من الوجود الاجتماعي. ادعى أن فكرة (الزمان) نشأت من مراقبة الطقوس والشعائر المُنتظمة، جنباً الى جنب مع مراقبة انتظام الدورات القمرية والشمسية مما أدى الى انتاج مفاهيم الدورية والمدة والزمانية. وبنفس الطريقة، يعتبر أن مقولة (المكان) ظهرت من خلال تقييم وتمييز مُتطابقين للمكان من قِبَل أناسٍ من نفس الحضارة. كانت موضوعية المقولات ترجع الى طابعها الجمعي وأهميتها العامة واستخدامها العالمي. عند فحص العلاقة بين الدين والعلم، اعتبر دوركهايم الأخير استمراراً وتحسيناً للأول، على أساس أن الدين يُعبّر عن العلاقات الحقيقية القائمة بالفعل. أدى رفضه للتحليل الابستمولوجي لأشكال الوعي الاجتماعي الى سوء فهم طبيعتها الخاصة، وتأكيد تشابهها واستمراريتها. أعلن أن الدين أبدي، لانه سيكون هناك حاجة دائمة الى اكساء العلاقات بين الانسان والمُجتمع بطابعٍ ايديولوجي. لقد أرجع السمات العامة للايديولوجيا، التي فهمها على نطاقٍ واسعٍ للغاية وبطريقةٍ شكلية، الى الدين.
بعد أن أعلن ديناً بلا اله من خلال وضع المُجتمع على قاعدة مُقدسة، كان دوركهايم على ما يبدو مُدركاً أن مسألة الفرد-(التي كان دائماً ما يعتبرها تعتمد على مسألة المُجتمع)- لا زالت تطرح نفسها بشكلٍ مُلح. لا يُمكن ربط مفهوم الفرد بشكل عضوي بمفهوم المُجتمع الا من خلال الاعتراف بالدور الأساسي لنشاط الانتاج الاجتماعي، الذي يربط الانسان ببيئته وبوسطه الاجتماعي ويجعله خالقاً للتاريخ. في رفضه للدور الحاسم للاقتصاد، قارب دوركهايم من المسألة من جانبٍ آخر. انطلاقاً من الاطروحة القائلة بأن مجال الدين التقليدي يتقلص أكثر فأكثر، توصل الى الادعاء بأن الوعي الجمعي كان يكتسب محتوىً وشكلاً جديدين في المُجتمع المًعاصر الذي يتجسد في "دين الانسانية"، والذي كان التعبير العقلاني عنه هو أخلاق الفرادية. مع تطور المُجتمع، أصبح احترام الفرد نوعاً من العقيدة الاجتماعية، وجدت القوى الاجتماعية الجمعية تعبيراً عنها في عبادة الفردية. يمكن للموقف تجاه الانسان باعتباره التجسيد الفردي للألوهية، في رأي دوركهايم، أن يُفسر مثل هذا التغيير غير المتوقع في موضوع العبادة، لكنه لم ينجح في تقديم حُججٍ منظرية مُقنعة.
من خلال تجريد مفهوم الدين من مكونه الرئيسي، أي الايمان بما هو خارق للطبيعة والله، وبدفاعه عن تفسيرٍ فضفاضٍ للدين باعتباره نظاماً من المُعتقدات والطقوس التي تتعلق بنوعٍ من الأشياء المُهمة اجتماعياً، فان دوركهايم، من حيث الجوهر، طابق الدين بأيديولوجية مُجردة ذات طابع خالد ولازمني تتجلى بشكلٍ متماثلٍ في أي مجتمع.
مكّن مبدأ التطورية Evolutionism الذي سحب نفسه على الدين مُعتبراً أن الأشكال البدائية احتوت على جميع سمات ظاهرة الدين، مكّن دوركهايم من التوصل الى استنتاج حول دوره الاندماجي والتكميلي في جميع التشكيلات البشرية. بالنظر الى أن المُجتمع هو الهدف الوحيد للعبادة الدينية (المُجتمع باعتباره تجسيداً لوجودٍ متناغم)، فانه لم يُبرز الأسباب الحقيقية لهذا التأليه، والذي كان مُمكناً فقط في ظل العلاقات الاجتماعية التناحرية التي تعمل في شكلٍ مُقنع، زائف، ومُغترب عن الفرد. ان الأسباب الموضوعية لاغتراب المُجتمع عن الفرد هي التي جعلت التفسير غير العقلاني لحقيقة الدين مُمكنة. وأنا أرى في ذلك الخطأ الرئيسي للتحليل الاجتماعي الذي يتجاهل وجود الطبقات والعلاقات الطبقية، باعتبارها الأساس المادي الموضوعي للحياة الاجتماعية.

10- مكان دوركهايم في تاريخ السوسيولوجيا. "السوسيولوجية" والماركسية.
أصبح تأثير دوركهايم على السوسيولوجيا البرجوازية معروفاً على نطاقٍ واسعٍ الآن. لقد لفت الانتباه الى العديد من المسائل الأساسية للسوسيولوجيا، وهذا، على وجه الخصوص، يُمكن أن يُفسر شعبيته في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، وانتشار تأثير أفكاره الى دول أُخرى في أوروبا وأمريكا، والاهتمام بأفكاره في الوقت الحاضر(73). ان مسائل طبيعة المُجتمع، ومبدأه التكاملي، وحالاته المُعتلة والسليمة وجوهر ووظائف الوعي الاجتماعي وأساليب البحث السوسيولوجي ومكانة السوسيولوجيا كعلم، هي كلها مسائل عالجها دوركهايم من مواقف سوسيولوجية وفلسفية تكاملية. ان التأثير المتزايد للمنهجية الماركسية على الفكر الاجتماعي البرجوازي في يومنا هذا يُشجع على تقديم تفسيراتٍ جديدةٍ لها من نواحٍ عديدة. توضع نظريات ماركس ودوركهايم وفيير وباريتو الى جانب بعضها البعض أكثر فأكثر في المهام المُعاصرة للاجابة على مسائل تطور العالم الحديث(74). تكمن الأطروحات النظرية العامة لـ"السوسيولوجية" في أساس مبادئ المدرسة البنيوية الوظيفية. لم يكن بدون سبب أن وصفته الموسوعة الدولية للعلوم السوسيولوجية، عند تحديدها لمكان دوركهايم وأهميته في تاريخ السوسيولوجيا بأنه "أحد المؤسسين الرئيسيين للمرحلة الحديثة من النظرية الاجتماعية"(75).
استند مفهوم البنيوية الوظيفية النظري والمنهجي على الاطروحات التي طورها دوركهايم، والتي تتناول المُجتمع كنظام ذاتي التنظيم بصفات لا يمكن اختزالها الى صفات تلك العناصر المُكونة لها، والنظام العام باعتباره الحالة الطبيعية للمُجتمع وأهمية مؤسسات التعليم والرقابة ومبادئ النهج الوظيفي لتحليل الظواهر الاجتماعية من وجهة نظر الدور الذي تؤديه في النظام. لن يكون من المُبالغة القول ان اتجاهات تحليل المُجتمع التي أشار لها دوركهايم، ككل، هي المعدات النظرية الأساسية للبنيوية الوظيفية المُعاصرة.
ان اهتمام دوركهايم بمظاهر الأزمة الاجتماعية، وتأكيده على الاهتمام بتكييفها الاجتماعي، جعل من المُمكن لخصومه ونقاده من بين الاقتصاديين وعلماء الاجتماع الغربيين تشبيه (السوسيولوجية) الدوركهايمية مع بعض الاطروحات النظرية الماركسية. بدأوا يؤنبونه على الجماعية والمادية بعد نشر أعماله الأولى. على سبيل المثال، وضع بول بارت Paul Barth "السوسيولوجية" والماركسية في نفس مجموعة المذاهب الاجتماعية، والتي أطلق عليها "الفهم الاقتصادي للتاريخ" في كتابه (فلسفة التاريخ كسوسيولوجيا) The Philosophy of History as Sociology. في الأدب الغربي اليوم، غالباً ما يتم وضعه الى جانب ماركس ويتم رسم أوجه التشابه بينهما، وتظهر سمات التشابه التي يُزعم أنها موجودة في اجاباتهم على بعض المسائل الأساسية للنظرية السوسيولوجية.
كان دوركهايم على دراسة ببعض أعمال ماركس الرئيسية، فقد قرأ رأس المال، وأدرك أهميته، وعبّر عن موقفه تجاه بعض الاطروحات النظرية الماركسية الرئيسية. عند انتقاده للماركسية، قام بمطابقتها بالحتمية الاقتصادية المُبتذلة، وادعى بأنها تعتمد على السببية الخطية للظواهر الاجتماعية واستنادها على العوامل الاقتصادية، وبأنها ترفض تأثير الأفكار على الشؤون الاقتصادية. لقد حدد هو نفسه النقطة التي كان مفهومه السوسيولوجي قريباً فيها من الماركسية، أي الفكرة القائلة بأن الحياة الاجتماعية يجب أن تُفسّر ليس بالمفهوم الذي يحمله الذين يعيشون فيها، ولكن من خلال
الأسباب العميقة من خارج الوعي"(76). في حين اعترف بالقيمة العلمية لفكرة موضوعية الحياة الاجتماعية، لم يفهم دوركهايم بالموضوعية نفس الشيء كما فهمه ماركس. في تفسير دوركهايم، فان الموضوعية هي استقلال الظاهرة الاجتماعية عن الوعي الفردي وأفكاره، والوجود الموضوعي للوعي الجمعي بعلاقته مع الوعي الفردي. في فهم ماركس لها، كانت موضوعية الواقع الاجتماعي-التاريخي هي طابع التاريخ الطبيعي لتطور المُجتمع، مُتبعةً قوانيناً، لم تعتمد، في التحليل الأخير، على أي وعي، سواءاً كان فردياً أو جماعياً.
في حين أصر على أسبقية المُجتمع، فهم دوركهايم بهذه الأسبقية في المقام الأول الأسبقية الايديولوجية، أو بالأحرى، الأخلاقية. لقد طابق الاجتماعي بالوسط الأخلاقي. ومع ذلك، لم يختزل ماركس العلاقات الاجتماعية حصرياً بالعلاقات الاقتصادية، وقال بوجود بروابط اجتماعية (عائلية، قومية، الطبقة، الجماعة) مُعتبراً أن العلاقات المادية للانتاج هي العلاقات الأساسية التي تُبنى عليها العلاقات الأُخرى والتي تحصل من خلالها على محتوىً تاريخيٍ ملموس.
كان موقف دوركهايم من الاقتصاد نموذجياً له. وبينما كان يُعالجه بطريقة مُبسطة كحالة للتكنولوجيا الصناعية، اعتبر أن الروابط الاقتصادية لا تُشكل تواصلاً اجتماعياً راسخاً. ان النشاط الاقتصادي، في رأيه، لااجتماعي asocial. تُشير أنماطه الاجتماعية Social Types التي كان يقصد بها مجتمعات الفترات التاريخية المختلفة، الى مجموعة من العوامل البيئية والديموغرافية والايديولوجية، واعتبر أن العوامل الأخيرة هي الحاسمة. لم يكن لدى "الأنماط الاجتماعية" خاصته، أي شيء مُشترك مع المفهوم الماركسي حول التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية والتي يُميزها ادراك الدور الحاسم لعلاقات الانتاج فيها وانقسام المُجتمع الى طبقات وتفسير المجالات الثقافية والايديولوجية وغيرها كانعكاس لوضع الطبقات ومصالحها.
بدأ دوركهايم وأتباعه شرحهم لأنماط الحياة الاجتماعية مما أطلق عليه الضمير الجماعي. وبالتالي، فان أصل وجوهر هذا، في رأيه، يعتمدان بشكلٍ مُباشرٍ على الاتصال بين الافراد الذين تم اعتبارهم خارج أي ظروفٍ ملموسة وخارج النشاط التاريخي الملموس للناس. لقد اعتبر العمل المُعقد المُتمثل في الاتصال والتواصل فقط بمثابة تفاعل نفسي للأفراد خلال التجمعات الجماعية والمهرجانات والطقوس الدينية.
قام دوركهايم بأمثلة Idealised العلاقات الاجتماعية وتعامل معها على أنها علاقات انسجام وتضامن وتعاون وتناغم. أما الصراعات والتناقضات الاجتماعية التي تتجاوز حدود النظام الطبيعي و"السليم" فهي مرض يمكن القضاء عليه دون تغيير الأسس الاجتماعية الرئيسية. كان الالهام الرئيسي لـ"السوسيولوجية" مُركزاً في التوجه المُحافظ المُعادي بشدة للروح الماركسية الثورية وجوهر نظريتها، ومعادية لتفسير التطور على أنه صراع لقوى اجتماعية متعارضة.
كانت الجذور الابستمولوجية لـ"سوسيولوجية دوركهايم" المُعالجة الشاملة للوعي الاجتماعي كمجموعة من المفاهيم الجمعية دون تمييز الطبيعة المُحددة الأساسية لمعاييرها، واستبدال مسألة جوهر الأشكال المختلفة للوعي الاجتماعي بوظائفها وتضخيم عددٍ منها، والاستعاضة عنها جميعاً بوظيفة واحدة هي (التكامل والاندماج). استندت تناقضات هذا المفهوم الى التناقض بين منهجيته الموضوعية الطبيعانية والنظرية الروحية حول الوعي الجمعي، الذي يطابقه بالمُجتمع.
طرح دوركهايم، بشعوره العميق والحاد للأزمة الاجتماعية، فكرة أن هذه الأزمة قد تؤدي الى نتائج مُميتة اذا لم تنته. لذلك كانت كل جهوده موجهة للحفاظ على أسس التنظيم الاجتماعي القائم واصلاحه. خدمت "السوسيولوجية" كمفهوم، لتبرير هذا الهدف.
من المهم أن جهود علماء السوسيولوجيا الغربيين في يومنا هذا لتبرير وجود الرأسمالية نظرياً ولايجاد مخرج من الأزمة تستند الى أفكار ومفاهيم دوركهايم، الذي جعل من مشكلة أزمة العالم الرأسمالي حجر الزاوية للسوسيولوجيا. في هذا الصدد، تُعتَبَر مفاهيم "المُحافظين الجُددُ" (دانيال بيل Daniel Bell، روبرت نيسبث Robert Nisbeth، سيمور ليبسيت Seymour Lipset، ناثان غليزر Nathan Glazer، صاموئيل هانتيغتون Samuel Huntington، دانييل مونيهان Daniel Moynihan وآخرين) مُميزة. يقومون في منشوراتهم باعادة انتاج واعادة صياغة مفاهيم دوركهايم حول النظام الاجتماعي Social Order والفوضى، وحول الميريتوقراطية (مكافئات جزيلة للخدمات مقابل العمل والمواهب)، الأنانية الاجتماعية، التي يُقال أنها تؤدي الى مطالبات متزايدة للجماهير، وشرح وجهات النظر المُتشائمة عن الطبيعة البشرية والحاجات، وفي هذا الصدد، المُطالبة بتعزيز الرقابة الاجتماعية و"الُسلطة الاجتماعية" للقادة.
يقول الماركسي الفرنسي ميشيل ديون Michel Dion في كتابه (السوسيولوجيا والايديولوجيا) Sociologie et idéologie، أن السوسيولوجيا مُنخرطة في "معارك" عصرنا الكُبرى، وهي ببساطة "اما تُريد أن تُبقي على المُجتمع الرأسمالي القديم، أو على العكس من ذلك، تسعى الى استبداله بمجتمع اشتراكي"(77). في دفاعه عن دوركهايم ضد اتهامات اليساريين بـ"الانحراف الرجعي" يقول ديون أن التباس "السوسيولوجية" يرجع الى انتماء دوركهايم الطبقي البرجوازي، هذه الطبقة التي ما زالت تعتقد أو تريد أن تعتقد أن نظامها الاجتماعي وقيمها أبدية(78). في هذا بالذات، يجب على المرء أن يبحث عن مصادر التناقض في مفهوم دوركهايم، والذي يختلف بشكلٍ أفضل عن المفاهيم اللاهوتية غير العلمة والمثالية الذاتية. لم يفقد نقده للاختزالية البيولوجية والسيكولوجية في السوسيولوجيا واشارته الى الحاجة الى توحيد السوسيولوجيا والفلسفة ونقده للتأملات المُجردة ورفضه للحقائق التجريبية غير الموجهة بالنظرية، لم تفقد أهميتها حتى يومنا هذا.
ولكن بالمقارنة مع السوسيولوجيا الماركسية اللينينية العلمية، فان سوسيولوجيا دوركهايم غير سليمة فيما يتعلق بالمنهجية والنظرية.

* الماركسية السوفييتية ايلينا فلاديميروفونا أوسيبوفا عالمة سوسيولوجيا ماركسية سوفييتية تخرجت من جامعة لومونوسوف في موسكو وعملت في أكاديمية العلوم السوفييتية. تخصصت في مجال السوسيولوجيا البرجوازية وتاريخها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وقامت بكتابة بحوث حول فلسفة التنوير البولندية.

1- تُشير الكاتبة في هذا الهامش الى أنها أنه ستُسمي هذه الكُتُب بأسماء مُختصرة في سياق المقالة.
2- في كُتيباته (ألمانيا فوق الجميع) L’Allemagne au dessus de tout 1915 و (من أراد الحرب) Qui a voulu la guerre اتهم دوركهايم ألمانيا بالكوارث التي سببتها الحرب.
3- Emile Durkheim. Socialism and Saint-Simon. Translated by Charlotte Sattler (The Antioch Press, Yellow Springs, 1958) p. 5
4- Ibid., p 7
5- Ibid., pp. 25-26
6- قواعد المنهج في علم الاجتماع، اميل دوركهايم، ترجمة د. محمود قاسم ود. السيد محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية 1988، ص68-69
أ- يُترجم الدكتور محمود قاسم والدكتور بدوي Social Fact بأنها "الظاهرة الاجتماعية". لقد تابعنا المحتوى العربي حول اميل دوركهايم، ويميل أغلبه الى أن يُسمي هذا المفهوم بـ(الحقيقة الاجتماعية)، وليس الظاهرة الاجتماعية. ان كل مؤلفات دوركهايم باللغة الانجليزية تستخدم مفهوم Social Facts، والتي أُفضل أن أُترجمها كما هي.
7- Georges Davy. Emile Durkheim. Revue française de sociologie, 1960, 1, 1:3-24.
8 Emile Durkheim. Sociology and Its Scientific Field. In: Kurt H. Wolff (Ed.). Emile Durkheim, 1858-1917. A Collection of Essays (Ohio State U.P., Columbus, Ohio, 1960), pp. 354-375
9- يمكننا ان نجد فكرة السوسيولوجية Sociologism في أعمال عدد من مُعاصري دوركهايم (الفريد اسبيانس Alfred Espinas، جان ايزوليت Jean Izoulet، يوجين دو روبرتي Eugène de Roberty)
10- في تقسيم العمل الاجتماعي، اميل دوركهايم، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 1982، ص394.
11- قواعد المنهج في علم الاجتماع، اميل دوركهايم، ترجمة د. محمود قاسم ود. السيد محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية 1988، ص215
12- Harry Alpert. Emile Durkheim and His Sociology (Columbia U.P., New York, 1939) Anthony Giddens. Capitalism and Modern Social Theory. An Analysis of the Writings of Marx, Durkheim and Max Weber (Cambridge U.P., London, 1971) Steven Lukes. Emile Durkheim. His Life and Work. A Historical and Critical Study (Allen Lane, London, 1973) Hans-Peter Müller. Wertkrise und Gesellschaftsreform: Emile Durkheims Schriften zur Politik (Enke, Stuttgart, 1983)
13- الانتحار، اميل دوركهايم، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب 2011، ص411
14- نفس المصدر، ص22
15- Emile Durkheim. Sociologie et philosophie (Presses Universitaires de France, Paris, 1967), p 67
16- Célestin Bouglé‘s preface to Durkheim‘s Sociologie et philosophie, Op. cit., p IX
17- Ibid
18- قواعد المنهج في علم الاجتماع، اميل دوركهايم، ترجمة د. محمود قاسم ود. السيد محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية 1988، ص70.
19- نفس المصدر، ص95
20- نفس المصدر، ص116-117.
21- نفس المصدر، ص75
22- في تقسيم العمل الاجتماعي، اميل دوركهايم، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 1982، ص63
23- المنهج في علم الاجتماع، اميل دوركهايم، ترجمة د. محمود قاسم ود. السيد محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية 1988، ص136
24- نفس المصدر، ص139
25- اقترب دوركهايم من حينٍ لآخر من فهمٍ آخر أكثر علميةً للسليم، باعتباره المُتغير الأمثل لعمل المُجتمع. وطابق احياناً السليم بما هو كامل ومثالي.
26- في تقسيم العمل الاجتماعي، اميل دوركهايم، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 1982، ص200
27- نفس المصدر، ص58
28- مُخططات كونت وسبنسر وتنويز هي من هذا القبيل.
29- في تقسيم العمل الاجتماعي، اميل دوركهايم، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 1982، ص196
30- نفس المصدر، ص196
31- نفس المصدر، ص450
32- نفس المصدر، ص131
33- نفس المصدر، ص411
34- نفس المصدر، ص199
35- نفس المصدر، ص199
36- نفس المصدر، ص415
37- نفس المصدر، ص417
38- نفس المصدر، ص417-418
39- نفس المصدر، ص422
40- نفس المصدر، ص431
41- نفس المصدر، ص418
42- نفس المصدر، ص420
43- نفس المصدر، ص422
44- نفس المصدر، ص425
45- نفس المصدر، ص438
46- نفس المصدر، ص454
47- Emile Durkheim. Le suicide, p VII
ب- هذا الاقتباس من Perface غير مُترجم في النسخة العربية (الانتحار، اميل دوركهايم، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب 2011). تمت ترجمة المُقدمة Introduction فقط.
48- Emile Durkheim. Le suicide, p VII
49- الانتحار، اميل دوركهايم، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب 2011، ص169
50- نفس المصدر، ص253
51- نفس المصدر، ص161
52- Emile Durkheim. Le suicide, P229
53- الانتحار، اميل دوركهايم، ترجمة حسن عودة، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب 2011، ص354
54- Emile Durkheim. Le suicide, P277
55- Hans-Peter Müller. Op. cit
56- Whitney Pope. Durkheim’s ‘Suicide’. A Classic Analyzed (University of Chicago Press, Chicago, 1976).
57- Emile Durkheim. Sociologie et philosophie, p 134
58- Ibid., p 135
59- Ibid., p 101
60- Ibid., p 74
61- Ibid., p 51
62- Emile Durkheim. The Elementary Forms of the Religious Life. Translated by J. W. Swain (Allen & Unwin, London, 1915 re-print-ed by The Free Press, New York, 1965), p 492
جـ- هذا الكتاب مُترجم الى اللغة العربية (الأشكال الأولية للحياة الدينية-المنظومة الطوطمية في استراليا، ترجمة رندة بعث، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019)، ولكنه غير متوفر لدي، لذلك سأُترجم الاقتباسات منه بنفسي.
63- Ibid., p 354
64- Ibid., p 114
65- Ibid., p 62
66- Ibid., p 322
67- في تقسيم العمل الاجتماعي، اميل دوركهايم، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع 1982، ص206
68- Emile Durkheim. The Elementary Forms of the Religious Life, p. 472
69- Ibid., p 492
70- Ibid., p 258
71- Ibid., p 347
72- Ibid., p 22
73- See Robert Reiner, Steve Fenton, and Jan Hummett. Durkheim and Modern Sociology (CUP, Cambridge, 1984).
74- انظر كتاب (الرأسمالية والنظرية الاجتماعية الحديثة، أنطوني جيدنز، ترجمة أديب يوسف شيش، الهيئة العامة السورية للكتاب).
75- International Encyclopedia of the Social Sciences, Vol. 4 (The Macmillan Co. and The Free Press, New York, 1968), p 311
76- Emile Durkheim. Antonio Labriola. Essais sur la conception materialiste de l‘histoire (Paris, Giard et Briere). In: Revue philosophique de la France et de l’étranger 1897, 44, July to December: 648
77- Michel Dion. Sociologie et idéologie (Editions sociales, Paris, 1973), p 60
78- Ibid., pp 68-69

ترجمة الفصل العاشر من كتاب: A History of Classical Sociology, a Group of Soviet Sociologists, Edited by Prof I. S. Kon, Translated By H. Campbell Creigton, Published 1979K Translated 1989, Progress Publisher



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فريدريك انجلز والمسائل المُعاصرة المتعلقة بتاريخ المجتمع الب ...
- تاريخ الدين: الأديان عند شعوب جنوب وجنوب شرق آسيا التي ليس ل ...
- سوسيولوجيا جورج زيميل
- ضد تفسير نشوء المعرفة من المعتقدات الايمانية
- تاريخ الدين: الأدلة الأركيولوجية للمعتقدات الدينية
- المفهوم السوسيولوجي عند فريديناند تونيز
- بعض المسائل العلمية-الفلسفية لنظرية الحقيقة. القسم الثاني: ا ...
- في نقد نظرية نعوم تشومسكي اللغوية
- أزمة الاتجاه التطوري في السوسيولوجيا، والاتجاهات المعادية لل ...
- بعض المسائل العلمية-الفلسفية لنظرية الحقيقة. القسم الأول: ال ...
- الدراسات الاجتماعية التجريبية في القرن التاسع عشر
- نقد الأسس النظرية ل-سوسيولوجيا المعرفة- البرجوازية
- السوسيولوجيا السيكولوجية على أبواب القرن العشرين
- الفلسفة والجماليات عند موريس ميرلوبونتي
- الاتجاه الطبيعاني في السوسيولوجيا على أبواب القرن العشرين
- مفهوم الفرد في أعمال البير كامو
- مفاهيم هربرت سبنسر السوسيولوجية
- سيكولوجيا شخصية التحقيق الذاتي في أعمال أبراهام ماسلو
- أوغست كونت ومنشأ السوسيولوجيا الوضعية
- من الفلسفة الاجتماعية الى السوسيولوجيا


المزيد.....




- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- من اشتوكة آيت باها: التنظيم النقابي يقابله الطرد والشغل يقاب ...
- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - سوسيولوجيا اميل دوركهايم