أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - مصطفى محمد غريب - المثقف وحرية الجماهير في طقوس الممارسة العكسية















المزيد.....



المثقف وحرية الجماهير في طقوس الممارسة العكسية


مصطفى محمد غريب
شاعر وكاتب

(Moustafa M. Gharib)


الحوار المتمدن-العدد: 466 - 2003 / 4 / 23 - 09:59
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


 

لو صادف أي إنسان عراقي  سؤال عن الحرية لاستغرب من السؤال نفسه لن هذه اللغة قد شطبت من قواميسه الفكرية والعملية، ولم تبق منها سوى أربعة أحرف تستعمل أحياناً للإستهلاك اللغوي لا أكثر ولا أقل.

في أي وقت تمتعنا نحن العراقيين بالحرية بمعناها الحقيقي؟ لا أعرف وليس لدي جواب حقيقي لهذا السؤال الذي كثيراً ما أطرحة على نفسي، وعلى ما أعتقد ليس بمقدور أحد أن يجيب إجابة مقنعة تستطيع سد الفراغ الذي يتعمق في أحاسيسي ومشاعري، وخلال حياتي المتعبة عشت رغم مرارتها طائر يبحث عن ضفاف او غابة او بستان أو أي مكان لا وجود للصيادين فيه،  وكثيراً ما تأزمت داخلياً بسبب هذا الضغط النفسي الذي لم أستطع التخلص منه على الرغم من هروبي  واختفائي الطويل عن عيون الرقابة المتنوعة، لا بل كثيراً ما أفز في الليل وأنا مثقل بالهموم والرعب والخوف من كوابيس تكاد تكون متشابهة، كابوس تجوالي في مسقط رأسي وخوفي من أن يشاهدني أحداً ويشي بي، وكثيراً ما تحمل لي أحلامي حتى وانا في العراق اشاحاً وعفاريتاً تتربص بي في مكان أدلف فيه أو يلقون القبض بدن سبب وياخذونني إلى مكان مجهول يبحثون عن شيء مجهول في داخل نفسي، وكنت أعرف أنهم يبحثون عن أي دليل يؤكد اعترضي بالدفاع عن ماهو قائم في عقلي ، عن ذلك المجهول الذي يرفض القمع ويعشق الحرية..   لا أعرف كيف شيدت كياناً في داخلي مغلقاً وبدون ابواب يمنع  التسلل إليه من الغول الذي ينتظرني، ينتظر أية لحظة سانحة ليقاصصني لأنني لا أفكر  بطريقته..

 هذه الأجواء المشحونة بمشاهدات قهرية لا تأتي في حلمي من خلال الكوابيس فقط، وكثيراً ما راودتني وأنا لوحدي أقرأ أو أكتب  ، خلال جلساتي مع الآخرين وحتى أثناء قيادتي للسيارة.. ولقد حاولت في الكثير من الأحيان ارجاع ذلك لعالم القسوة والإضطهاد والرقابة التي كانت تلاحق الجميع تقريبا،ذلك العالم الذي وصفوه في أكثر من كتاب وموضوع عن أنه عالم الرعب المخفي في النفس البشرية المضطهدة، وقد أبرر أحياناً هذه الهواجس والكوابيس بأنني ليس الوحيد في هذا العالم الذي يبحث عن الحرية ولا يجدها وكثيراً ما استشهدت بما سمعته وقرأته لكتاب وأدباء ومثقفين وعلماء  تغنوا بالحرية دون معايشتها، وصفوها بأحسن الأوصاف دون ان يعرفوا عالمها الحقيقي الممكن تطبيقه على الأرض والمحيط الإنساني، ربما كانوا يحلمون بها حلماً أبدياً ولهذا لقبوها بالكثير من الألقاب والأسماء الرمزية ، وناضلوا من أجلها في حياتهم العملية والفكرية ، وقد عانى الكثيرون منهم من الإضطهاد والحرمان والغربة وهناك أمثلة وأسماء سجلها التاريخ لشخصيات فكرية قدموا حياتهم ثمناً من أجلها ، ومن أجل تحقيقها ليس لهم وحدهم إنما للجميع..

الحرية بمعناها الواسع المتعدد الجوانب اصبحت ملازمة لكل رأ ي يطرح حول مفهوم  الإختيار العقلي في الأتجاه الذي يبتغيه، والحرية كلمة أخاذة رقيقة لها نغمة شفافة سحرية بالقياس إلى الواقع الذي نعيشه ولا سيما في البلدان العربية، والحرية بمدلولاتها العميقة اداة حاسمة في الإبداع والخلق الثقافي المميز، والحرية على المستوى الشخصي مفردة نطلقها كلما أصابنا ضيمٌ  من ضغط بدني أو نفسي يتحول إلى قهر لتحديد حركاتنا أو فكرنا بهدف ايجاد إمّعية لا تنشد إلا الخلاص من الربط الذي يشدون به الرقاب ، والحرية في كثير من المرات هي دواء الانفس في خلوتها يتعامل الإنسان بها بدون كلفة ما دام يعيش في ظلال كثيفة تخبئه لردح من الزمن عن المشاهدة، تدخل إلى النفوس بسرعة بديهية ولاتختفي كلماتها إلا في موقع القسوة والخراب والتوحش العقلي بما يحملة من عاهات السيطرة المطلقة والتحكم الذي يراه سوراً يحميه، ففي ضلالة التوصيات بمنع العقل من الرؤيا وتفحص الواقع والممارسة حيال ما هو ضروري للتطور يخلق ذلك المحيط الهاجسي المبطن بالتلفيق والأكاذيب والخديعة.

كلما مر على البشرية ولحد هذه اللحظة هو التعسف والسيطرة وإن كانت هناك بعض الرياح التي نسميها نسمات الحرية قد لا مست هذا الموقع أو ذاك، وإذا تمعنا او تتبعنا الوضع في منطقتنا العربية لوجدنا إنها لم تزرنا إلا للحظات زمنية لا يمكن حسابها مع الزمن السافل الطويل الذي عشناه وعاشرناه، زمن وحشي ضلالي يلاحقنا من مكان إلى مكان خالقاً انماطاً وأشكالاً من التجمعات الفوقية التي مارست كل ما هو شنيع ومؤذي ضدنا بحجة الإصلاح.. وذقنا من الذين بأديهم قرار السلطة والقوة والمال الأمرين بحجج تتسم بالعقلانية والتعقل وضد الزندقة والأفكار الملحدة بينما الحقيقة في جوهرها هي استيلاب حرية الآخرين لإستمرار عقلية مركزة القرار السلطوي الوحشي بأيديهم، وكثيراً ما أستغل اسمها لتغييب الهدف الحقيقي المختبأ خلف الأكمة من أعمال بربرية وخطط شيطانية، وافرازات ذئبية.. وكثيراً ما أستغل إسمها لتغييب الوعي وتشويه معاني إنسانية عظيمة وخلق بؤراً من العقلية الملوثة بإمراض التخلف ورعيل القتل المتمرس بأبدية العقل المطلق الخالد الذي يتربص بالجميع ليكون منفذاً للقرار الذي ينفي بالكلمة والسيف المعارضين..

 

ضلالة الإتجاه القمعي 

 

لقد ظلت الحرية مهشمة مضرجة بدمائها منذ مجيء حزب البعث العراقي إلى السلطة، ووقف مفهوم الحرية على المطلق للأنا التي امتلك ناصيتها حاكم البلاد المطلق ومنحها بحسابات دقيقة لمن حوله متوخياً من وراء ذلك ممارسة التعسف النفسي والفكري حتى على اقرب المقربين إليه.، فانتقلت لتخدم الشمولية الملطلقة، وبما أن التفكير الشمولي المتخفي تحث شعارات تؤثر سايكولوجياً على جمهرة واسعة بسبب ضيق الأفق وتدنى الوعي وتشرد الفكر وتحريم العمل الذهني الحر بمفاضلة تسديد منافذ الإطلاع لكي لا يجري التمييز بين التناول القسري والتناول المستقل المبني على الحرية الفكرية والثقافية  والحرية الشخصية والحرية الحقوقية في أحقيه المواطن في دائرة الصراع أن يبلور فكرته ويعلن رأيه في الأحداث التي تحيط به وبالمجتمع، ولقد حشر العقل العراقي في زريبة التبضع الفقهي بخصوص الأمة وجذورها بفراغ الآخرين من الحضارة وهو ادعاء كاذب لا يصدقه حتى مروجيه أنفسهم، ولكن بهدف خلق سواتر غيبية لتصعيب الحديث في جميع الإتجاهات لأجل أرضاء الطموح المطلق في التسلط ، وعدم الوصول إلى الحقائق دفعة واحدة تجعل الإنسان يشعر براحة ضمير وهدوء نسبي بعد هذا الغياب الوحشي المتخفي ببرامج ترفيهية، والنزعة الإرادوية للواحد القائد وتعطيل الجماعية التي هي الأساس لتوسيع الوعي بأهمية الجماعة للفرد والفرد للجماعة في النقلة نحو ضوء المستقبل لخلق حالة من رفاهية الحرية المرتقبة والرضى الذي يخص سلوك المجتمع الطريق نحو تحقيقها المتكامل...

كان الزمن على ما يبدو قد توقف منذ 36 عاماً، لا بل تعثر منذ أربعين ، فأصاب مقتلاً الكثير من التطلعات، واصبح شبه المستقبل عنق قارورة ضيق لا يمكن الكشف عن مداه او الوصول لنهايته المفرطة، وأمام هذه الحالة دخل الياس في عمق العقل بمفازات مورعة تحجرت فيها الأفكار وغيبت المقاييس وارتجفت الأفكار .. حتى البحث اتجه إلى الإلغائية وحددت طريقته ومضاميره من اجل أن تكبل الحرية وتوجيهها حسب العقلية التي تخطط بهدف تشويه المعاني السامية لهذه الكلمة وحالة تناولها أو اللجوء إليها..

منذ زمن بعيد ونحن نعيش حالة الإرتهان، والإرتهان بمعناه التفردي والجماعي، كل واحد يراها من منظاره ورؤيته وتفهمه، يحاول ان يطبقها على نفسه ويطالب ان يتعامل الاخرون معه بها، التفسيرات لها كثيراً ما تقع في مستنقع الإستغلال والأحقية والإلهية،  وخلط المفاهيم لدرجة تتحول الى نوع من الإستبدادية يطلق عليها كلمة الحرية للتداول والسينمائية للوصول إلى النجومية، وبها تذكر الأمثال والحكم المجمّلة وتشتق لها المعاني لا ببصيرة بل بالعمى المحرض والرافض وكأنه يعلل الوضع برفض اي شيء لتناول حريته وبهذا يفوق " سارتر وكامو " في هذه الفرضيات ليعول بالتالي على قهر ملازم لفكرة الرقي على الآخرين وبهذا ينتقم من الآخرين لأنهم يحتاجون لها بدلاً من النصائح المكارثية التي بال الزمن عليها..

وفي هذا الإتجاه فقد خلق فكر الرعب رؤيا عدمية التفكير في تحقيق أي نقلة إيجابية من أجل النضال ضد فكرة المطلق التي أوجدتها آلة البعث وزبانية الفكر الوحشي في شخصية القائد القادر على رسم وخلق معالم العالم القادم.. فقدوم هذه العدمية بسبب التوحش العقلي ادى بدون الدراية إلى المساهمة في تنفيذ ما يهدف إليه وهو تغيب الحرية عن واقعها الحقيقي في حرية الجماهير التي هي منبع حرية المثقف الحر الذي يهدف في كل أعماله إلى تحقيق الحرية لتكون الثقافة في متناول الجميع وعدم حصرها في النخبة.

 

   اللغة الثقافية والحرية

 

للثقافة حصة من هذا المدلول حيث تقع في عدة محاور وصيغ جاهزة وتجهز بصورة استثنائية في العديد من الحالات ، ولكل فرد أو مجموعة تصورات يعتبرها قانونية وتتميز بالعلوية وعليه تقدم على أطباق أعلامية مفروضة بقوة التوحش الملتبس قانونية الدولة او الجهة أو المؤسسة التي تبتغي تمرير ما لديها بواسطة هذا المضمار والذي تعتبره كدستور ابدي يرتكز في أكثر الأحيان القومية والدين ليكون مارداً يخيف من يقترب منه، ومقدس على الأخرين توخي الحيطة والحذر في المساس به، ولطالما يطغي الطابع الإستبدادي في الحوار وفرض الأحكام فالحرية رغم مدلولاتها اللغوية تبدو مسلوبة الإرادة واداة طعية لإدارة أي صراع مضاد من الجانب الآخر..

وبما ان الثقافة هي محور ألوان الفلسفة والعلم والأخلاق والفن والحق وغيرهما من ألوان وعناصر قريبة لها ووثيقة الارتباط بها، فهي ترتبط بالحرية ارتباطاً وثيقاً لعدة اعتبارات منها الخلق الإبداعي في الكلمة والصورة والفكرة، ولطاما الحرية هي حجر الزاوية في تطور الثقافة الفردية والإنسانية فينبغي في واقع الأمر تفهم معنى الإختلاف وعدم أطلاق أحكام جاهزة وتوصيات بأحقية الفكرة أو الرأي دون غيرها وبالتالي املاء ما هو شخصي او محدد وتعميمه على التجارب بصورة مطلقة، وبهذا ينطلق المطلق إلى الرأي المطلق ليقع في آحادية بغيضة حيث تنتقل إلى استبداد فكري يعلن تمسكه بحرية ممنوحة لجانب واحد، ومادمت الحرية مطلوبة في الثقافة فعلى المثقف أن يقف بصورة واضحة من الإلغاءات الفكرية والإنتماءات للمدارس الثقافية فما دام يمنح الحق له في اطلاق احكاماً جاهزة أو يجهز احكاماً على تجربة خاصة ضيقة دون معرفة التجارب الاخرى، فعليه أن يكون بجانب المنطق الذي يمنح الحرية بتقيم حريته وثقافته دون أمرية ولا تشطيب فكري وبهذا يتم نزع فتيل الاتهامات والإلغاءات والتنكر لثقافة الماضي وخلط مفاهيم العربدة مع مفاهيم التمييز الأفضل، فالثقافة والحرية إذا لم تمنح للمجموع بأشكالها وألوانها وتبقى في حنجرة المثقف الذي يرى نفسه فوق الإنتماءات وفوق الحزبيات وفوق المؤسسات لينفصل عن واقعه الذي يعيش هذه الفسيفساء الجميلة الملونة بألوان بشرية وفكرية، الثقافة تمنح الحرية أبسط المعارف الإنسانية والحرية تعطي الثقافة أعلى الإمكانيات للمعرفة والخلق الإبداعي ، فلا حرية حقيقية مع الصنمية والتصفوية والتصويتية ولا ثقافة حقيقية بدون الحرية التي تمنح على اساس مصلحة الجميع وبضمنه الفرد الذي يكمل ويشاطر إبداعية التحويل وانجازية التوجه نحو الأفضل بدلاً من النكوص والتراجع لكي تسيطر الأفكار الظلامية لتمنع الثقافة من حريتها وتحركها لصيانة الحق في امتلاك ناصية المعارف الإنسانية عن طريق الحرية الثقافية، فخصوصية الثقافة تكمن ليس بحجة التعري فوق الحقيقة واعتبار المثقف معزولاً تماماً وكأنه من طينة خاصة، والمثقف الذي يرى من نفسه مطرقة استثنائية لأنه يمتلك مهنته بشكل جيد لا يجد من يقرأ له إذا فقد صلته بالجماهير، وتبقى أفكاره معلقة في لوحة تأكسدت فيها الألوان وما عادت تشغل حيزاً ولو صغيراً بين جمالية الفن الذي الذي تنتمي إليه.. ويجد نفسه بعد فترة من الخلوة على حد تعبيره قيد الإنعزال فلا يعرف غثه من سمينه فينتقل إلى " الثقافة النخبوية" التي يجعلها في تصور الأعظم والأكثر ثقافة ومعرفة من الآخرين، وبهذا التحجر القابع في زاوية العقل النخبوي يفقد السيطرة على معارفه هو فتختلط عنده المضامير والطرق ولا يرى سوى القمة وهو فوقها، وبهذا تصبح الثقافة المنتجة  من قبله، ثقافة القلة التي لا تتيح للجمهور الإطلاع عليها أو تفهمها..

ان مستوى تطور الثقافة ينطوي على استخدام كل الجوانب القيمة في الإنجازات التي حدثت في الماضي، ومبدأ إلغاء تلك الإنجازات أنطلاقاً من فهم ضيق للعملية التاريخية يؤدي إلى تدني موضوعية المطروح  ثم إلغائه بعد فترة، ولهذا تتميز استمرارية الإرتباط والتقدم بقدر ما يمكن للعقلية التنويرية في فهم الحدث على اساس زمن وقوعه وجمالية تواجده المعرفي وليس الإلغاء التام.

الحرية   أعظم إنجاز حققه العقل البشري في مضمار التوجه نحو قيمة الإنسان والموجودات التي تحيط به، وبهذا أغنى المعرفة الإنسانية في تسلكها للبحث عن ما هو أجمل وأحسن في سلوكيات البشر أنفسهم، واللغة هذه الاداة التي خلقها الإنسان لنفسه كانت وما زالت مصنعاً ينتج الجيد والرديء أيضاً.. " لقد كان التطور نحو العمل يتطلب منظومة جديدة من وسائل التعبير والاتصال، تتجاوز تلك الإشارات البدائية القليلة، التي يعرفها في عالم الحيوان، ولكن العمل لم يتطلب مثل هذه المنظومة من وسائل الإتصال فحسب، بل ساعد على نموها أيضاً" .. " ان الكلمة بالنسبة للكائن البشري، تعتبر انعكاساً مشروطاً وحقيقياً، شأنها في ذلك شأن جميع المحرضات المشروطة المشتركة بين الإنسان وبين الحيوان، ولكن الكلمة تعتبر محرضاَ أكثر أهمية وشمولاً من أي محرض آخر "..ارنست فيشر..  ضرورة الفن "

ولابد هنا من القاء نظرة سريعة على الكتابات الوهمية التي تعالج اوهاماً مخلوقة آنياً تحسباً من  عودة الماضي الذي اسبغ عليه بشكل تام طابع التشائمية واللاإجابية، وتستعمل لغة المفردات الحسية الصعبة والقليلة التداول بين الجماهير لتمرير مخطط الفرضية بفرض آراء تتمسك بحرية الثقافة وحرية المثقف الذي يقف في برجِ عالي وضرورة عدم تلويث نفسه بمعطيات الواقع السياسية، فيمارسون الهجوم الشرس والقاسي والمتعصب والتشهيري المتنوع الإتجاهات على اولئك المثقفين الذين يلتزمون بفكر معين أو ايديولوجية معينة أو انتماء معين بحجة الطوطمية والتبعية والاستبدادية بينما يسمحون هم لأنفسهم حرية الاختيار واختيارات مفردات اللغة حسبما تقتضيها أفكارهم ومعتقداتهم وبهذا يقعون في مطبة آلة الاستبداد والهيمنة والتعسف والتوحش العقلي الذين يكتبون ضده، فلذا كانت المناداة بحرية المثقف أداة أخرى لقمعه فبأس هذه المناداة وبأس من يدعي الحرية لنفسه ليحجبها عن الآخرين..

لماذا لا يجري الحديث.. أو الكتابة ، عن حرية الإختيار بدون تشويه الماضي والتعكز على مقولات ثقافية تداولها مثقفي المكارثية وغيرهم من الذين غسلوا ايديهم من الفكر التقدمي والأفكار التحريرية وأصبحوا في مأساة الرفض لكل شيء وساووا بين الإيجابي واللاإيجابي ليخلقوا وهمْ الكلمة لخداع الناس وجعلهم سلبين حتى من الدفاع عن حقوقهم الطبيعية .. ولماذا  لا يمنح الحق للمثقف في تنفيذ حرية انتمائه بدون تشويه سمعته؟ وكأن القيم الأخلاقية والمعرفية والتقيمية عادت إلى نخبة معينة تمنح لنفسها الحق وبدون أن تمنح الحق نفسه للآخرين

 

          استدراك حدود الواقع

 

قيم تظهر وقيم تضمحل من خلال طرحها على طاولة الحياة، فالذي يبقى يستطيع المواصلة في حالتين أما أن يحدد اتجاهاته وأما يفتح حدوده بشكل واسع للدخول بشكل طبيعي، ولذا نجد ان الذي يحدد الحدود أو يحاول فتحها على النصف يبقى على أمل صعود النخبة بحيث يكونون ظاهرة قد تنجح في تسفيه مفاهيم الثقافة الجماهيرية، لينتقل إلى تشجيع مفاهيم السيطرة والحرب والإنعزال وتعتيم الحياة ..

 الأولى تدر قيمتها كفائدة موضوعية تقدمها للأكثرية لأن حدودها الطبيعية نشأت من قوانين طبيعية واجتماعية .

وفي بعض الحالات تبرز الإنحطاطية في صورتها المكشوفة لتضع البرقع على عيوبها وبخاصة في مجال الحرية..

والقيم التي تستعمل في مفهوم الحرية متنوعة وكثيرة إلا أهم القيم  فيها هي الإختيار الشخصي وعدم تعارضه مع الإختيار العام، وثاني قيمة هي جمالية التشجيع على طرح الإفكار بدون رادع قانوني يستخدم من أجل قيم اخرى، وثالثهما امكانية الإقتناع على أسس العقلية الحضارية، ورابعهما الإيمان بالإبداع ليس الفردي وحسب وإنما الجماعي، وخامسهما الإنطلاق من القناعة بأن الحياة مدرسة كبيرة لم يستطع العقل الإنساني من معرفة جميع قيمها المستقبلية ومن هذا يجب الإنطلاق من التواضعية والإحساس بأن المعارف الكونية هي أكبر وأوسع وأشمل بما لايقاس من المعرفة الذاتية وأيضاً من المعرفة البشرية التي ينحصر وجودها وتدرجها مع الوجود البشري العاقل..

ان قدرة المثقف الحر على اتخاذ القرار او تبنيه لفكرة معينة بسبب تجربة فاشلة سياسية او فنية لا تجعله ان يحكم أو يرضخ الآخرين لقراراته او أفكاره الجديدة، وعليه ان يعرف جيداً ان هذه القدرة التي امتلك ناصيتها تكاد تكون عن آخرين غيره وربما يختلفون معه في كل شيء، والقدرة في حرية الإرادة تتكون في مجرى معرفة قانونيات حياتية واقعية، وقد ينجر إلى  النزعة الذاتية إذا وجد أن افكاره لا يمكن أن يتقبلها الجميع ولربما تكون مرفوضة  فيطالب بالهدم والمسح والخروج في عراء بلا حدود لبناء عالم غير موجود وبهذا يصنع صرحاً منغلقاً بحجة حرية المثقف أو الحرية كما يراها من زاويته الخاصة، ولا بأس اذا تطورت الحالة إلى  الرفض المقابل له ليصل إلى حدود الذاتية الإرادية بها وحدها يمارس حرية الإرادة المطلقة، فيقوم الوجود بحدوده  ويعلق على شماعة فكرة تلبس الأقنعة لتكون جاهزة للإستعمال مدى أراد التغيير من خط إلى خط، وهو ما يجعله طافحاً بالهلوسة تجاه انتمائه الأول، وقد يمارس التعسف بشكل طبيعي حتى أنه يبرر هذا التعسف ضد شخص أو عدة أشخاص أو حزب بتحميل الإنسان وحده مسؤولية عما يحدث بدون الرجوع إلى نوع الظاهرة وقوانين تطورها الخارجة عن إرادة الإنسان نفسه في العدد من الحالات..

 أن الحرية وضروريتها  قد يستغل فهمها ويجري بذلك تحريف المفهوم العلمي الذي يربط بينهما، ولذا نقول بكل صراحة لا لوازم يضعها المثقف على الآخرين لأنه عندما يفعل يفقد ثوابته وينقاد للعبودية الذاتية وبهذا يصبح كل ما يكتبه عن الحرية في خانات الهراء التي مسحها التاريخ أو جعلها فقط مرايا فائدتها فقط تكمن في رؤية الشخص لشكله الخارجي من دون التوغل في داخله المملوء بالتناقضات..

ليس من الحق تجهيز مصطلحات ومفاهيم أو فرض تقاطع وأحكام قاسية تصل بمستوى المقصلة على الأخرين ، بحجج لا تختلف عن السلطات الشمولية وأجهزتها الثقافية الأمنية ، وإلا سنرى أن لا فرق بين من يطالب بالحرية للمثقف وهو مضطهد وبين تلك المؤسسات القمعية إلا بالاسم فقط، ولا يمكن تجاوز الفهم المعرفي بتشويه الوعي لدى الآخرين بإجترار مقولات الصنمية والحزبية وهدم القيم الثورية القديمة واستبدالها بقيم ثورية جديدة  والوقوف ضد عبدة الأوثان وطغيان الإنتماءات والإنخراط في الإبداعات الجديدة التي تتزاوج مع التغيرات التي حدثت ونحن بأنتظار استكمالها بعد الراحة في احتلال العراق ونفي استدلالات الماضي بكل معارفه الإجابية وليس السلبية فقط ، هذه الدعوة للخروج الواضح من التبعية هي دعوة جديدة لتبعية من نوع آخر، هذه الصحوة على ما يبدو هي رجعة إلى الوراء..لكن الحياة والقوى الحقيقية الفعالة لها امكانية تجديد الرؤيا  لفسحة الحرية في قبول الراي الآخر والمضاد وعدم التطيّر واعتباره اداة تسقيط وإنما التنبيه لعدم الوقوع في فخ العقائد الجامدة والحلول الجاهزة والفكرة الآحادية بإمتلاك الحقيقة دون الآخرين.. ان استلاب الإنسان يبدأ بالفصل المفجع عن الطبيعة التي وجدها منذ خلقه كشيء ملازم لحريته، بالعمل والإنتاج حيث يبدأ هذا الإنفصال بعدم قدرته على الإستمرار في تضاعف ذاته وهو يتأملها ارتباطاً بعملية الإنتاج والعمل أي اعتماداً على الذهن فقط، ولهذا تبقى معارفه محددة بالوعي الذي يمتلكه..

فكيف يمكن المطالبة بجعل الجميل أداة للقبح عنده لأن الجميل كان  يمتزج في ماضيه الذي استحصله بعد رؤية نوعية وتجربة عفوية استحصلها من خلال تواجده في الطبيعة.

 

النقلة المتوازنة

 

لقد جاءت الحرب في 19 /  3 / 2003  لتغيير قيم ومفاهيم الحرية بإسقاط شعارات السلطة القمعية التي كانت تستند إليها في مشروعها الإستبدادي الموجه لخلق حالة من الوعي المتدني الذي يعتبر حرية الحزب الواحد والشمولية المطلقة للقائد هي الحرية الحقيقية واية عرض أو طرح لمفاهيم أو أفكار أخرى تعتبر مضادة يحكم عليه بالمقصلة الجسدية أو الفكرية، وبهذا تصدرت مفاهيم غريبة في الفكر العراقي والثقافة العراقية والمثقف العراقي، وفي حالة الهذيان المحموم حول الحرب والمثل العليا للتحضير والتهيأ لخلق المجتمع العسكري فقد المثقف وسيلة التعبير إلا من خلال نصوص مهربة أو تحت اسماء سرية ، وقد أدت هذه الحالة إلى تشويه الوجه الحقيقي لحرية الثقافة، بينما توجه قسم غير قليل من المثقفين المميزين في الانخراط في مشروع السلطة لأسباب متنوعة ولكن يغلب عليها البلبة والمصلحية الضيقة..

وعلى ما يبدو ان السقوط  الحتمي للدولة الشمولية أدى إلى تفكك تلك المفاهيم التي فرضت بسلطة القمع والعنف البربري فانشل عقد المثقفين الرسميين وبدأت مرحلة الضياع الفكري مرةً أخرى أما شرطة الثقافة فهم سوف يواجهون أمرين لا ثالث لهم ، أما ان يتنحون بالإنعزال والإنغلاق ، أو سيصبح البعض منهم شرطة ثقافية للسلطة القادمة أي نوعها أو شكلها لكن المهم عندهم عدم الجلوس بدون عمل يدر عليهم ربحاً مضاعفاً، وهؤلاء سينتظرون المقولة الباقية " عفى الله عما سلف " ليتحركوا حركتهم الأخيرة.

في الجانب الآخر أي مثقفوا المعارضة المنتمين أو غير المنتمين وقعوا في التقسيم نفسه أيضاً، القسم يصرخ بأعلى صوته البول على ثقافة الماضي ونزعات الثورية، والخطاب الثوري وبهذا يفسحون المجال لشرطة الثقافة عندهم بحل عقدهم حيث يشتمون كل شيء أما مهم حتى تلك الأسماء المعروفة في الثقافة العراقية بشكل عام ، والقسم الثاني سيواجهون المخطط التآمري لتشوية حرية الثقافة والمثقف الثقافة الجماهيرية التي تعتبر الحقل الطبيعي للمثقف الحر وما امكانية تحركه فيها بحرية بدون قيود تجعله يكتب مرة أخرى بأسماء مستعارة.

المرحلة الحالية، بعد سقوط آلة الإستبداد والقمع أصبحت مرحلة احتلال حقيقي للوطن وهو احتلال لجميع المرافق الحيوية ايضاً، وعليه تقع على عاتق المثقف مهمة رفد الثقافة الجماهيرية بسلاح المقاومة وقدسية الإنتماء للوطن، والمقاومة ليس بإشهار السلاح واقامة المتاريس الحربية التي قد تضر بقضية الشعب في عودة فلول النظام العراقي بحجة الدفاع عن الوطن وهم الذين كانوا السبب الرئيسي بما حل به، المقاومة تبدأ بحرية الرأي في هذا الإحتلال، اي أن يُعلن أنه إحتلال متى أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية هزيمة النظام عسكرياً ، والمقاومة تتلازم معه بحرية المطالبة بتأهيل الحكم المدني عن طريق الحكومة الإنتقالية بإشراف الأمم المتحدة طالما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية هزيمة النظام العراقي وانتصارها في الحرب، وعدم الدخول في صراعات داخلية حول قضايا ثانوية تؤدي بالتالي ليس التعتيم على الإحتلال فحسب وإنما ضرورة أستمراره بحجة عدم استقرار الأمور..  وهنا بالذات سينفذون رغبة الذين يتوسمون ببقاء الاحتلال  من أجل تقوية سلطتهم وتوسيع نفوذهم بالعمل لقيام دولة تعتمد على الإرهاب والغصب والتسلط دون الحرية والديمقراطية، من هنا يعود الزمن الوحشي بمفاهيم تخلق وهماً بوجود الحرية على الطريقة التي يجب أن تكون أو  أن لا تكون فتخلق آلة جديدة يسمونها الإصلاح في اصلاح ما خرب من قبلهم لأنهم يعودون بطريقة جديدة واثواب مزركشة ولكن بمضامين أسلافهم الذين رأوا في كلمة الحرية منفذاً للتسلط والقبح والعدمية.

الحرية هي حرية الجماهير التي تمنح الحرية الثقافية للمثقف ليمنحها المثقف بدوره  رؤياه الحقيقية في الحرية التي يمارسها قولاً وفعلاً وليس في وهم النصوص والرموز التي أوجدها وإعتاد على ممارستها في طقوس غريبة ليقول عنها أنها كسرت قيوده في الإلتزام أو الإنتماء وهنا يحجب عن نفسه والآخرين حرية التعبير عن المحيط الذي يدور حوله.

 



#مصطفى_محمد_غريب (هاشتاغ)       Moustafa_M._Gharib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل نستطيع التخلص من الغوغائية في الفكر والضوضائية في العمل ا ...


المزيد.....




- Lenovo تطلق حاسبا متطورا يعمل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي
- رؤية للمستقبل البعيد للأرض
- درون روسي -يصطاد- الدرونات الأوكرانية بالشباك (فيديو)
- صحيفة أمريكية تشيد بفاعلية درونات -لانسيت- الروسية
- الصين تستعد لحرب مع الولايات المتحدة
- كيف سيؤثر إمداد كييف بصواريخ ATACMS في مسار العملية العسكرية ...
- ماهي مشكلة الناتو الحقيقية؟
- هل تغرب الشمس ببطء عن القوة الأمريكية؟
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /30.04.2024/ ...
- كيف تواجه روسيا أزمة النقص المزمن في عدد السكان؟


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - مصطفى محمد غريب - المثقف وحرية الجماهير في طقوس الممارسة العكسية