أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - سمية العثماني - تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة (الجزء السادس والأخير)















المزيد.....


تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة (الجزء السادس والأخير)


سمية العثماني

الحوار المتمدن-العدد: 6594 - 2020 / 6 / 16 - 09:40
المحور: الارشيف الماركسي
    


الفصل السادس: ابتذال الانتهازيين للماركسيّة

إن مسألة موقف الدولة من الثورة الاجتماعية و موقف الثورة الاجتماعية من الدولة لم تشغل بال كبار النظريين والصحفيين في الأممية الثانية (1889-1914) إلاّ قليلا جدا، شأنهما شأن مسألة الثورة بوجه عام. ولكن السمة المميزة الأساسية لسير التعاظم التدريجي للانتهازية الذي أفضى إلى إفلاس الأممية الثانية في سنة 1914 هي واقع أنهم حتى عندما كانوا يجدون أنفسهم وجها لوجه حيال هذه المسألة كانوا يسعون لتجنبها أو لا يلاحظونها. ويمكن القول بوجه عام أن تشويه الماركسية وابتذالها التام قد نشأ عن التهرب من مسألة موقف الثورة البروليتاريا من الدولة، التهرب المفيد للانتهازية والمغذي لها. ولوصف هذه العملية المؤسفة ولو بصورة مقتضبة نأخذ أشهر نظريي الماركسية، بلخانوف وكاوتسكي.

1- جدال بليخانوف مع الفوضويين
في كراسه «الفوضوية والاشتراكية»، الذي صدر بالألمانية في سنة 1894 تحايل بليخانوف في معالجة مسألة الدولة بوجه عام!
لقد حاول الفوضويون أن يعلنوا كومونة باريس ذاتها بأنها «كومونتهم»، إن أمكن القول، أي أنها تثبت تعاليمهم، ولكنهم لم يفهموا البتة دروس الكومونة ولا تحاليل ماركس لهذه الدروس. لم تعط الفوضوية أي شيء يشبه الحقيقة ولو شبها تقريبا حول السؤالين السياسيين الملموسة: أينبغي تحطيم آلة الدولة القديمة؟ وبأي شيء تنبغي الاستعاضة عنها؟

2- جدال كاوتسكي مع الانتهازيين
عندما نستقصي تاريخ خيانة كاوتسكي الحديثة للماركسية، في جداله بالذات مع الانتهازيين وفي طرحه وتناوله للمسألة، نلاحظ انحرافا دائما نحو الانتهازية في مسألة الدولة على وجه الدقة.
فلنأخذ أول مؤلف كبير لكاوتسكي ضد الانتهازية، كتابه: «برنشتين والبرنامج الاشتراكي-الديموقراطي». لقد فند كاوتسكي برنشتين. ولكن البليغ الدلالة هو الآتي.
في «ممهدات الاشتراكية» يتهم برنشتين الماركسية بـ «البلانكية». هذا ويتناول برنشتين بصورة خاصة مؤلف ماركس «الحرب الأهلية في فرنسا» ويحاول، دونما نجاح، أن يثبت أن وجهة نظر ماركس بصدد دروس الكومونة مطابقة لوجهة نظر برودون. ويستوقف انتباه برنشتين بصورة خاصة الاستنتاج الذي أشار إليه ماركس في مقدمة سنة 1872 «للبيان الشيوعي» والذي ينص: «لا تستطيع الطبقة العاملة الاكتفاء بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة واستعمالها لأهدافها الخاصة» مفسرا إيّاه تفسيرا محرَّفا أبعد التحريف، تفسيرا انتهازيا... إذ أن ماركس يريد أن يقول أنه ينبغي على الطبقة العاملة أن تحطم، تكسر، تفجر آلة الدولة بأكملها. أمّا رأي برنشتين فيستفاد منه أن ماركس قد حذر الطبقة العاملة بهذه الكلمات من الافراط في الاندفاع الثوري عند الاستيلاء على السلطة.
فكيف كان سلوك كاوتسكي في تفنيده المفصل للملاحم البرنشتينية؟.
لقد تجنب تبيان كل عمق التشويه الانتهازي للماركسية في هذه النقطة؛ أي التشويه الذي طال ما قاله ماركس في مقدمة البيان الشيوعي و لم ينبس ببنت شفة... فكانت النتيجة أن السمة الأساسية التي تُميز الماركسية عن الانتهازية في مسألة مهام الثورة البروليتارية قد أمست مطموسة عند كاوتسكي!
لقد كتب كاوتسكي «ضد» برنشتين قائلا: «يمكننا أن نترك للمستقبل بكل راحة ضمير أمر تقرير مسألة ديكتاتورية البروليتاريا».
إن هذا ليس بجدال ضد برنشتين! ولكنه في الجوهر تنازل أمامه، تخلِّ عن مواقع للانتهازية، لأن الانتهازيين لا يريدون في هذا الظرف أكثر من أن «يترك الناس للمستقبل بكل راحة ضمير» جميع المسائل الجذرية بشأن مهام الثورة البروليتارية. إن هوة تفصل ماركس عن كاوتسكي من حيث موقفهما من واجب الحزب البروليتاري في أمر إعداد الطبقة العاملة للثورة.
في مؤلف كاوتسكي الأنضج، والمكرس لحد كبير كذلك لتفنيد الانتهازية «الثورة الاجتماعية» جعل المؤلف من مسألة «الثورة البروليتارية» و«النظام البروليتاري» موضوعه الخاص؛ وقد أعطى المؤلف أفكارا كثيرة قيمة جدا، ولكنه تجنب مسألة الدولة بالذات:
- في جميع مقاطع الكراس يدور الحديث عن الاستيلاء على سلطة الدولة وحسب، بدون تحطيم آلة الدولة. إن كاوتسكي في سنة 1902 يبعث على وجه الدقة ما أعلن ماركس في سنة 1872 أنه قد «شاخ» في برنامج «البيان الشيوعي»...
- في كراسه بباب خاص «أشكال وسلاح الثورة الاجتماعية»؛ تحدث عن الاضراب السياسي الجماهيري والحرب الأهلية وكذلك عن «أداتي قوة الدولة الكبرى الحديثة: الدواوينية والجيش»، ولكنه لم ينبس بحرف عمّا علّمت الكومونة العمال...
لقد تجنب كاوتسكي مسألة حيوية للبروليتاريا الثورية وهي مسألة معرفة فيما يتجلى «عمق» ثورتها هي حيال الدولة، حيال الديموقراطية، خلافا للثورات السابقة، غير البروليتارية؛ وبتجنبه هذا تنازل كاوتسكي في الواقع أمام الانتهازية في هذه النقطة الجوهرية جدا...
لقد كتب كاوتسكي: «في المجتمع الاشتراكي يمكن أن تتواجد جنبا إلى جنب… مختلف أشكال المشاريع: البيروقراطية (؟؟) والتريديونيونية والتعاونية والفردية»… «توجد مثلا مشاريع لا يمكنها الاستغناء عن التنظيم البيروقراطي (؟؟) كالسكك الحديدية؛ في السكك الحديدية يمكن للتنظيم الديموقراطي أن يتخذ الشكل التالي: ينتخب العمال مندوبين يشكلون نوعا من البرلمان، وهذا البرلمان يقرر نظام العمل ويراقب عمل الجهاز البيروقراطي؛ وثمة مشاريع أخرى يمكن وضعها تحت إشراف نقابات العمال، وهناك نوع ثالث من المشاريع يمكن تنظيمه على أساس المبدأ التعاوني»
وهذا الرأي خاطئ، وهو عبارة عن خطوة إلى وراء بالمقارنة مع ما أوضحه ماركس وانجلس في السبعينيات استنادا إلى دروس الكومونة.
من وجهة نظر ما يزعم بضرورة التنظيم «البيروقراطي» لا تختلف السكك الحديدية بشيء على الاطلاق عن جميع مشاريع الصناعة الآلية الكبيرة بوجه عام، عن أي معمل، عن أي مخزن كبير، عن أي مشروع زراعي رأسمالي كبير. في جميع هذه المشاريع يفرض التكنيك دون شك على كل عامل النظام الصارم ومراعاة الدقة التامة في القيام بالعمل الموكل إليه، وألاّ يتوقف العمل كله أو تتعطل الآلة ويفسد المنتوج؛ وفي جميع أمثال هذه المشاريع سيقوم العمال طبعا بـ«انتخاب مندوبين يشكلون نوعا من برلمان».
ولكن بيت القصيد كله في واقع أن هذا «النوع من البرلمان» لن يكون برلمانا بمعنى المؤسسات البرلمانية البرجوازية؛ كل بيت القصيد في واقع أن هذا «النوع من البرلمان» لن يقتصر على أن «يقرر نظام العمل ويراقب عمل الجهاز البيروقراطي» كما يتصور كاوتسكي الذي لا يتعدى تفكيره إطار البرلمانية البرجوازية؛ يقينا أن هذا «النوع من البرلمان» الذي يتألف في المجتمع الاشتراكي من مندوبي العمال «سيقرر نظام العمل ويراقب عمل الجهاز»، ولكن هذا الجهاز لن يكون «بيروقراطيا». فالعمال، إذ يستولون على السلطة السياسية، يكسرون الجهاز البيروقراطي القديم، يحطمونه حتى الأساس، ولا يتركون منه حجرا على حجر ويستعيضون عنه بجهاز جديد يتألف من العمال والمستخدمين أنفسهم، الذين ستتخذ على الفور ضد تحولهم إلى بيروقراطيين التدابير التي حددها ماركس وانجلس بتفصيل:
1) ليس فقط انتخابهم بل أيضا إمكانية سحبهم في كل وقت؛
2) رواتب لا تزيد على أجرة العامل،
3) الانتقال فورا إلى قيام الجميع بوظائف المراقبة والإشراف، إلى تحول الجميع إلى «بيروقراطيين» لزمن ما لكيلا يستطيع أحد بسبب ذلك أن يصبح «بيروقراطيا».
إن كاوتسكي لم يعمل بتاتا بكلمات ماركس: «لم تكن الكومونة هيئة برلمانية، بل هيئة عاملة، تتمتع بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في الوقت عينه» ولم يفهم بتاتا الفرق بين البرلمانية البرجوازية التي تجمع الديموقراطية (لا للشعب) والبيروقراطية (ضد الشعب) وبين الديموقراطية البروليتارية التي ستتخذ على الفور تدابير بغية اجتثاث البيروقراطية من الأصول والتي سيكون في طاقتها السير بهذه التدابير حتى النهاية، حتى القضاء التام على البيروقراطية، حتى إقامة الديموقراطية الكاملة من أجل الشعب. لقد أظهر كاوتسكي هنا نفس «الخشوع الخرافي» أمام الدولة، نفس «الإيمان الخرافي» بالبيروقراطية.
لننتقل من مؤلف كاوتسكي ضد الانتهازيين، إلى كراسه «طريق السلطة»؛ وهذا الكراس خطوة كبيرة إلى الأمام ما دام الحديث فيه لا يدور عن البرنامج الثوري بوجه عام كما هو حال كراس سنة 1899 ضد برنشتين ولا عن مهام الثورة الاجتماعية بصرف النظر عن زمن حدوثها كما هو حال كراس «الثورة الإجتماعية» (سنة 1902)، بل عن ظروف ملموسة تحملنا على الاعتراف بأن «عصر الثورات» يحل.
لقد أشار المؤلف بوضوح إلى اشتداد التناقضات الطبقية بوجه عام وإلى الامبريالية التي تلعب دورا كبيرا بخاصة في هذا الأمر. بعد «المرحلة الثورية في سنوات 1879-1871» في غرب أوروبا، بدأت من سنة 1905 مرحلة مماثلة في الشرق؛ إن الحرب العالمية تقترب بسرعة مقلقة، «لقد دخلنا المرحلة الثورية»، «إنّه ليبدأ العصر الثوري».
إن هذه العبارات واضحة كل الوضوح؛ و كراس كاوتسكي هذا يجب أن يكون مقياسا للمقارنة بين ما كان من المتوقع أن تكون عليه الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية -قبل الحرب الإمبريالية- وبين مدى انحطاطها المشين (ومعها كاوتسكي نفسه) -عند اندلاع الحرب-
لقد كتب كاوتسكي في الكراس الذي نتناوله: «إن الحالة الراهنة تنطوي على خطر إمكان اعتبارنا (أي الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية) بسهولة معتدلين أكثر مما نحن في الواقع». ولكن تبين أن الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني هو في الواقع أكثر اعتدالا وانتهازية مما كان يبدو عليه! والبليغ أبلغ الدلالة أن كاوتسكي، بعد أن أعلن بكل الوضوح أن عصر الثورات قد بدأ، تجنب من جديد مسألة الدولة حتى في الكراس المخصص، كما قال هو نفسه، لبحث مسألة «الثورة السياسية» بالذات.

3- جدال كاوتسكي مع بانيكوك:
لقد انبرى بانيكوك ضد كاوتسكي بوصفه أحد ممثلي التيار «الراديكالي اليساري» الذي كان يضم في صفوفه روزا لوكسمبورغ وكارل رادك وغيرهما، التيار الذي كان يذود عن التكتيك الثوري ويوحده الاعتقاد بأن كاوتسكي ينتقل إلى موقف «الوسط» المتأرجح دونما مبدئية بين الماركسية والانتهازية. وقد تأكدت صحة هذه النظرة بصورة تامة أثناء الحرب، عندما كشف تيار «الوسط» (المدعو غلطا بالماركسي) أو «الكاوتسكية» عن كل حقارته الشنيعة.
في مقال «الأعمال الجماهيرية والثورة» تطرق بانيكوك إلى مسألة الدولة ونعت موقف كاوتسكي بأنه «راديكالية سلبية»، بأنه «نظرية الانتظار السلبي»، «إن كاوتسكي لا يريد أن يرى سير الثورة»... وإذ طرح بانيكوك المسألة بهذا الشكل وصل إلى الموضوع الذي يهمنا نحن، إلى مهام الثورة البروليتارية حيال الدولة. وقد كتب: «إن نضال البروليتاريا ليس مجرد نضال ضد البرجوازية في سبيل سلطة الدولة، بل إنما هو نضال ضد سلطة الدولة… فمضمون الثورة البروليتارية هو تحطيم أدوات قوة الدولة وإزاحتها (حرفيا: حلها) بأدوات قوة البروليتاريا… ولا يتوقف النضال إلاّ عندما يتحقق، كنتيجته النهائية، تحطيم منظمة الدولة بصورة نهائية. إن منظمة الأكثرية تبرهن تفوقها بقضائها على منظمة الأقلية السائدة».
إن الصيغة التي أعرب بها بانيكوك عن أفكاره تشوبها نواقص كبيرة جدا، ولكن الفكرة واضحة على كل حال، وخليق بنا أن نرى كيف حاول كاوتسكي دحضها؛ فقد كتب: «حتى الآن كان التضاد بين الاشتراكيين-الديموقراطيين والفوضويين في كون الأولين يريدون الاستيلاء على سلطة الدولة بينما يريد الآخرون تحطيمها؛ أمّا بانيكوك فيريد هذا وذاك».
وإذا كان عرض بانيكوك يشكو الغموض ونقص الدقة (فضلاً عمّا في مقاله من نواقص أخرى لا علاقة لها بالموضوع الذي نبحثه) فإن كاوتسكي قد أخذ بالضبط فحوى الأمر المبدئي الذي رسمه بانيكوك؛ وفي المسألة المبدئية الجذرية حاد كاوتسكي بصورة تامة عن موقف الماركسية وانتقل إلى الانتهازية بصورة تامة؛ فقد حدد الفرق بين الاشتراكيين-الديموقراطيين والفوضويين بصورة غير صحيحة بتاتا، وشوه الماركسية وابتذلها بصورة نهائية.
إن الفرق بين الماركسيين والفوضويين يتلخص:
1)في كون الماركسيين، إذ يستهدفون القضاء التام على الدولة، يعترفون بأن هذا الهدف غير ممكن التحقيق إلاّ بعد قضاء الثورة الاشتراكية على الطبقات وكنتيجة لإقامة الاشتراكية التي تؤدي إلى اضمحلال الدولة؛ وفي كون الفوضويين يريدون القضاء التام على الدولة بين عشية وضحاها، دون أن يفهموا الشروط التي تجعل هذا الأمر قابل التحقيق.
2)في كون الماركسيين يعترفون بأن من الضروري للبروليتاريا أن تحطم بصورة تامة، بعد استيلائها على السلطة السياسية، آلة الدولة القديمة وأن تستعيض عنها بآلة جديدة تتألف من منظمة العمال المسلحين على طراز الكومونة؛ وفي كون الفوضويين يقولون بتحطيم آلة الدولة متصورين بغموض تام ما تستعيض به البروليتاريا عنها وكيف تستفيد من السلطة الثورية؛ حتى أن الفوضويين ينكرون ديكتاتوريتها الثورية.
3)في كون الماركسيين يطالبون إعداد البروليتاريا للثورة عن طريق الاستفادة من الدولة الراهنة، أمّا الفوضويون فينكرون ذلك.
إن بانيكوك هو الذي يمثل الماركسية ضد كاوتسكي في هذا الجدال، لأن ماركس ذاته قد علم أن البروليتاريا لا تستطيع الاكتفاء بمجرد الاستيلاء على سلطة الدولة بمعنى انتقال جهاز الدولة القديم إلى أيد جديدة، بل ينبغي عليها تحطيم هذا الجهاز وكسره والاستعاضة عنه بجهاز جديد.
يخرج كاوتسكي عن الماركسية إلى الانتهازيين، لأنه يتلاشى عنده كليا تحطيم آلة الدولة هذا غير المقبول إطلاقا من قبل الانتهازيين فيبقى لديهم منفذ بمعنى تفسير «الاستيلاء» على أنه مجرد كسب الأكثرية. بل ويسلك سلوك حفظة الحديث بغية ستر تشويهه للماركسية؛ فهو ينتر «فقرة» يقتبسها من ماركس نفسه؛ فقد كتب ماركس في سنة 1850 مؤكدا ضرورة «تركيز القوة بحزم في يدي سلطة الدولة». ويسأل كاوتسكي متهللاً: ألا يريد بانيكوك هدم «المركزية»؟ إن هذا مجرد بهلوانية تشبه محاولة برنشتين لإثبات تطابق نظرات الماركسية والبرودونية بصدد الاستعاضة عن المركزية بالاتحادية.
إن «الفقرة» التي أوردها كاوتسكي هي غير مناسبة؛ فالمركزية أمر ممكن مع آلة الدولة القديمة والجديدة على حد سواء. فإذا ما وحّد العمال طوعا قِواهم المسلحة، يكون ذلك من المركزية، لكنها مركزية تقوم على «التحطيم التام» لجهاز الدولة المتمركز والجيش النظامي والشرطة والبيروقراطية. إن كاوتسكي يسلك تماما سلوك المحتالين إذ يغفل آراء ماركس وانجلس المعروفة جدا بصدد الكومونة ليبتر فقرة لا علاقة لها بالموضوع.
ويستطرد كاوتسكي: «… لعل بانيكوك يريد إلغاء وظائف الموظفين في الدولة؟ ولكننا لا نستغني عن الموظفين لا في منظمات الحزب ولا في المنظمات النقابية، فضلا عن إدارة الدولة. إن برنامجنا لا يطلب القضاء على موظفي الدولة، بل انتخاب الموظفين من قبل الشعب… لا يدور الحديث عندنا الآن حول الشكل الذي يتخذه جهاز الإدارة في «الدولة المقبلة»، بل حول ما إذا كان نضالنا السياسي يقضي على (حرفيا: يحل،) سلطة الدولة قبل استيلائنا عليها؛ أية وزارة يمكن القضاء عليها مع موظفيها؟» ثم يعدد كاوتسكي وزارات المعارف والعدلية والمالية والحربية... «لا؛ إن نضالنا السياسي ضد الحكومة لن يلغي أية وزارة من الوزارات الراهنة…أكرر لتلافي سوء التفاهم: ليست القضية قضية الشكل الذي تضفيه الاشتراكية-الديموقراطية الظافرة على «دولة الغد»، بل قضية الكيفية التي تغير بها معارضتنا الدولة الراهنة.
وهذه هي الشعوذة عينها؛ لقد طرح بانكوك مسألة الثورة بالذات، وقد أعرب عن ذلك بوضوح في عنوان مقاله وفي الفقرات المقتبسة، أمّا كاوتسكي فهو بقفزه إلى مسألة «المعارضة» يستعيض بالضبط عن وجهة النظر الثورية بوجهة النظر الانتهازية. فالحاصل عنده كما يلي: اليوم معارضة، أمّا ما بعد الاستيلاء على السلطة فسنرى. الثورة تتوارى! وهو بالذات ما يحتاجه الانتهازيون.
إن فحوى الأمر ليس البتة في ما إذا كانت «الوزارات» ستبقى أو تقوم «لجان اختصاصيين» أو أية مؤسسات أخرى؛ فليس لهذا الأمر أهمية. إن فحوى الأمر في ما إذا كانت ستبقى آلة الدولة القديمة (المرتبطة بالبرجوازية بآلاف الروابط والمشبعة حتى أعماقها بروح المحافظة والجمود)، أم أنها ستحطم ويستعاض عنها بآلة جديدة. فالثورة ليست في أن تسود وتحكم بواسطة آلة جديدة بعد أن تحطم القديمة- إن كاوتسكي يطمس هذه الفكرة الماركسية الأساسية، أو أنه لم يفهمها بتاتا.
إن ماركس ذا العقل العبقري النقاد المحلل قد رأى في التدابير العملية التي اتخذتها الكومونة ذلك الانعطاف الذي يخشاه الانتهازيون ولا يريدون الاعتراف به لجبنهم ولعدم رغبتهم في قطع كل صلة بالبرجوازية والذي لا يريد الفوضويون أن يروه إمّا لتسرعهم وإمّا لأنهم لا يفهمون ظروف التغيرات الاجتماعية الكبرى بوجه عام. «لا ينبغي حتى التفكير بتحطيم آلة الدولة القديمة، إذ كيف لنا أن نستغني عن الوزارات والموظفين»، -هكذا يفكر الانتهازي المبتذل حتى الصميم والذي فضلا عن أنه لا يؤمن في الجوهر بالثورة ولا بقوتها الخلاقة، يخافها خوفا مميتا.

يعلمنا ماركس أن نتجنب الوقوع في غلطتين، يعلمنا أن نتحلى بأكبر الجرأة في تحطيم آلة الدولة القديمة عن آخرها ويعلمنا في الوقت نفسه طرح المسألة بصورة ملموسة: لقد استطاعت الكومونة في غضون عدة أسابيع أن تشرع ببناء آلة دولة جديدة، بروليتارية بهذا الشكل، متخذة التدابير المذكورة أعلاه بقصد ضمان ديموقراطية أوفى واستئصال البيروقراطية؛ فلنأخذ إذن عن الكومونيين جرأتهم الثورية، ولنرى فيما اتخذوه من تدابير عملية صورة أولى لتدابير عملية ملحة ممكنة التطبيق على الفور، وعندئذ، بسيرنا في هذه الطريق، نستأصل شأفة البيروقراطية. ويضمن إمكان هذا الاستئصال واقع أن الاشتراكية تنقص يوم العمل وتستنهض الجماهير إلى الحياة الجديدة، وتضع أكثرية السكان في ظروف تمكن الجميع بدون استثناء من القيام بـ«وظائف الدولة»، وهذا ما يؤدي إلى الاضمحلال التام للدولة، كل دولة.
يقول كاوتسكي: «… لا يمكن بحال أن تكون مهمة الاضراب الجماهيري تحطيم سلطة الدولة، لا يمكنها أن تكون إلاّ في حمل الحكومة على التنازل في مسألة ما معينة أو في الاستعاضة عن حكومة معادية للبروليتاريا بحكومة تلبي مطالبها… ولكن هذا (أي انتصار البروليتاريا على الحكومة المعادية) لا يمكنه في حال من الأحوال ولا في أي ظرف من الظروف أن يفضي إلى تحطيم سلطة الدولة، لا يمكنه أن يسفر إلاّ عن بعض تغير في نسبة القوى في داخل سلطة الدولة… إن هدف نضالنا السياسي يبقى إذن كما هو الآن، الاستيلاء على سلطة الدولة عن طريق اكتساب الأكثرية في البرلمان وجعل البرلمان سيد الحكومة»
هذه هي الانتهازية المحضة، أحقر الانتهازية، الارتداد عن الثورة فعلا مع الاعتراف بها قولا...
أمّا نحن فسنقدم على قطع صلتنا بالانتهازيين وستكون البروليتاريا الواعية بأكملها معنا في النضال، لا من أجل «تغيير نسبة القوى»، بل من أجل إسقاط البرجوازية، من أجل تحطيم البرلمانية البرجوازية، من أجل جمهورية ديموقراطية من طراز الكومونة أو جمهورية سوفييتات نواب العمال والجنود، من أجل الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا.

إنّ الأممية الثانية في الأغلبية الساحقة من ممثليها الرسميين قد انزلقت تماما إلى الانتهازية؛ ولم يقتصر الأمر على نسيان خبرة الكومونة، بل إنما تعداه إلى تشويهها. إنهم لم يبينوا لجماهير العمال أنه تقترب الساعة التي يتوجب عليهم فيها أن ينهضوا ويحطموا آلة الدولة القديمة وأن يستعيضوا عنها بجديدة محولين بهذا الشكل سيادتهم السياسية إلى قاعدة لتحويل المجتمع على الأساس الاشتراكي، بل كانوا يلقنون الجماهير النقيض، وقد فسروا «الاستيلاء على السلطة» بشكل يترك ألف منفذ للانتهازية.
_________________________________
لقد كتب لينين كتابه هذا في غشت وشتنبر سنة 1917؛ ويقول أنّه قد وضع منهاج الفصل التالي، --السابع: «خبرة ثورتي سنة 1905 وسنة 1917 الروسيتين»-- ولكن لم يتسن له أن يكتب من هذا الفصل أي سطر عدا العنوان، ويقول فقد «أعاقتني» الأزمة السياسية، عشية ثورة أكتوبر سنة 1917؛ ومن شأن مثل هذه «العقبة» أن تدخل السرور فعلا على قلب المرء؛ ولكني أعتقد أني سأرجئ لزمن طويل الجزء الثاني من هذا الكراس (الذي يتناول «خبرة ثورتي سنة 1905 وسنة 1917 الروسيتين»)، إذ أن تطبيق «خبرة الثورة» أطيب وأجدى من الكتابة عنها.



#سمية_العثماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة (الجزء الخامس)
- تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة (الجزء الرابع)
- تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة (الجزء الثالث)
- تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة (الجزء الثاني)
- تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة
- يا عمّال العالم اتّحدوا
- النضال على المستوى الايديولوجي


المزيد.....




- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية


المزيد.....

- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى
- تحديث.تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ
- تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - سمية العثماني - تلخيص مبسّط لكتاب لينين الدولة والثّورة (الجزء السادس والأخير)