أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - باسل محمد عبد الكريم - طائر الغراف الحزين... إلى عدنان سلمان* حياً















المزيد.....

طائر الغراف الحزين... إلى عدنان سلمان* حياً


باسل محمد عبد الكريم

الحوار المتمدن-العدد: 6594 - 2020 / 6 / 16 - 02:25
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


(طلب الملك لير من الآلهة أن تخفف من قسوة الدنيا.
غير أن الآلهة بقيت صامتة، وتبين أنها لا تقل قسوةً عن الطبيعة والتاريخ)
يان كوت - أحد نقاد شكسبير الكبار.

يتهادى نهر الغراف حزيناً، بعيداً عن بيوت الطين، تلك التي تغفو على ضفافه، هو يرنو إلى مدينة (الرفاعي) ببيوتها المتداعية، وأزقتها المتربة، وبقايا نخيلها المتناثر، وناسها المذعورين.
تبدو مدينة مهجورة، خرجت من آتون الحروب المتتالية، منهكةً تجرجر أذيالها.


وأنت تبحث أو تنقب في ذاكرة مدينة ما، ما الذي سيقع بين يديك؟ ربما بخلاف كل المدن العراقية، تمنحك زهوها وربيعها المتلاشي، مدن تسير إلى الخلف، في دورة زمنية عجيبة، وكأنها تحمل موتها وزوالها في ثنايا بهائها وعنفوانها، مدن يشكل حضورها وصعودها ومضة غريبة في تاريخها الزمني، تمنح عطاءها ورموزها ولغتها وأسماءها التي تطرز عناوين ثقافتها، وحتى صعاليكها، وشذاذ آفاقها، الذين لا يتكررون، وحتى سقط متاعها، يأبى أن يندمج في زمانها المنهمك والآيل إلى الخراب.

وتلك ثيمة ربما تستعصي على الفهم، غير أنها طبيعة تلك المدن وناسها الذين لا يغادرون زمنهم، ولا رائحتهم، ولا أحاديثهم، تلك التي مر عليها ربما أكثر من قرن...

ما الذي تشكله مدينة جنوبية منسيةً في الذاكرة العراقية كمدينة (الرفاعي) ربما لا تشكل أية علامة دالة في جغرافيا المدن التي يتهالك عليها المستعمرون والمنقبون والآثاريون وحتى قطاع الطرق الذين تتقيؤهم أزمنة اليباب، وتلفظهم خارج نواميس العشيرة وقواميسها العسيرة.

غير أنها حاضرةً في ذاكرة ناسها وذاكرتنا التي تذوي بعد أن خرجنا من أردية قرننا العشرين، نحن أبناؤه البررة والقتلة، نحن ضحاياه وجلاديه، نحن شهوده ورموزه المهزومين.

كل المدن تعيد تشكيل روحها ورؤاها وأرديتها، من خلال ناسها وناسها الباقين، دوماً، نحتكم للناس الباقين.

يقول الطاهر والطار: لا يبقى في الوادي غير حجارة...


(عدنان) (بائع جرايد)، ذاك الفتى الكادح في درابين الرفاعي ومقاهيها إبان بداية السبعينات، وهو يحتضن جرائده وكأنه على موعد مع المجهول، بدشداشته الجنوبية، كان يوزع شغفه السبعيني على الوجوه السمر من أبناء مدينته، وهم مشدودين إلى رايات (الجبهة الوطنية) الصاعدة في الأفق، وعودة الأحبة من المغيبين في السجون أو في المنافي البعيدة.

كم هو غريب وثقيل تاريخ الناس والمدن في بلادنا، إنه محكوم دوماً بالمنافي القاسية، والسجون البغيضة، المزروعة على طول خارطته الحزينة، مدن للنفي (بدرة، الفاو) وسجون للعزلة الموحشة (نقرة السلمان، سجن الكوت، سجن بعقوبة، سجن الحلة، قصر النهاية، وسجن ابي غريب) والسجون المحدثة (بوكا، سوسة، المطار) ...

كان (عدنان) يتطلع للمجيء إلى بغداد مع عائلته كأي جنوبي تشده (العاصمة) ببريقها وأضوائها وفرص العمل التي تغري سكنة الأطراف بالمغامرة وشد الرحيل إلى بغداد، كان ذلك منتصف السبعينات في القرن الماضي.

بدأ يتلمس خطواته الأولى في أكثر وأشد احيائها بؤساً، إنها مدينة (الثورة) المدينة العمالية التي استقبلت قوافل المهاجرين الجنوبيين بعد 14 تموز 1958، عندما تحولت هذه الأراضي الزراعية (حينها) إلى بيوت عمالية لتؤسس بذلك حزام الفقر لأول مرة وبشكل رسمي على أطراف بغداد الشرقية.

الغريب أن هذه المدينة وطيلة أكثر من نصف قرن لم تتغير معالمها بل ازدادت بؤساً وقتامتةً، بالرغم من اتساعها العشوائي وتكاثرها السكاني واستمرارها برفد العمالة التي تحتاجها (العاصمة) في شتى المجالات.

ومع بدايات تشغيل أولى المصانع المملوكة للدولة، وازدهار بعض الصناعات المحلية (الأهلية) حتى ازدادت الحاجة للأيدي العاملة فكانت (المدينة) معيناً لا ينضب لهذا الطلب، مما أوجد مناخاً طبقياً يستوعب تنامي هذه الشريحة بشكل ملحوظ منذ نهايات عقد الخمسينات مقتربةً من حركة اليسار العراقي وتنظيماته النقابية العمالية.

(لازال المشهد حاضراً في ذاكرتنا عن أول تظاهرة ضمت العمال والجنود والكسبة من مدينة الثورة، خرجت صبيحة 9 شباط عاك 1963 مستنكرةً الانقلاب الفاشي، وهي تزحف باتجاه مبنى وزارة الدفاع في منطقة (الميدان) لمؤازرة (الزعيم) نصير المظلومين).

هذه المدينة التي تشكلت معالمها حديثاً والتي بات واضحاً أنها أصبحت معلماً من معالم (بغداد) المهمة من خلال رفدها بألمع الفنانين والكتاب والشعراء الذين شكل حضورهم الثقافي علامةً متميزة في النصف الثاني من القرن العشرين.

هذا الحضور البهي (طبقياً وثقافياً) شكل هاجساً ثقيلاً لحقبة الفاشيت الثانية، حيث بدت أولى علامات التذمر والتململ ثم المضايقات والضغوط، ثم الاعتقالات والسجون والتصفيات الجسدية لتتواصل بإشعال حرب الثمانينات، ثم ليبدأ فصلاً مأساوياً جديداً من تاريخ هذه (المدينة) التي ابتلعت طاحونة الحرب المستعرة جموع شبابها الزاهي، حتى أن مشهد اللافتات السود التي تنعى قتلى الحرب وقد غطت فضاء (المدينة) وحجبتها عن السماء، بات هو الأوحد طيلة عقد الثمانينات المأساوي.

غير أن المآسي لم تنتهي...


في ظل هذه التضاريس والمناخات كان (عدنان) يسعى في دروب المدينة، وربما هي صدفة، تلك التي قادته لأن يلتقي بـ(حسن ضايع)، هذا الكادح الجنوبي المتحدر من ريف العمارة إلى ضجيج بغداد عند بداية خمسينيات القرن الماضي، والذي استطاع بعد سنين أن يجد لنفسه (كشكاً) لبيع الكتب على رصيف شارع الرشيد وفي محلة السنك البغدادية المعروفة، وبمثابرة وصبر طويلين أسس مكتبته العتيدة نهاية السبعينات (مكتبة اليقظة العربية).

الغريب أن حسن ضايع كان أمياً، أو بالكاد يفك الخط، لكنه متبصراً وعارفاً بما تحتاجه الذائقة الثقافية والمعرفية من تلك الكتب التي كان يرفدنا بها من لبنان ومن دور النشر المعروفة فيها كدار العودة والفارابي وابن رشد ودار الطليعة وغيرها.

هذا الجنوبي العذب كان يزودنا بتلك العناوين المبهرة من روائع الأدب الروسي وأعمال فرويد المترجمة وجواد علي في تاريخه المفصل وأعمال الدكتور علي الوردي التي سرعان ما تنفد حيال توزيعها وخصوصاً الأجزاء الأخيرة من اللمحات الاجتماعية وكثيراً ماكنت تشاهد الدكتور الوردي وهو يناقش (أبو علي) في مكتبته عن طبيعة المجتمع العراقي وشخصية الفرد فيه.

أو في صدفة ربما لا تتكرر، تشاهد الدكتورة حياة شرارة بتلك البساطة والنحافة والتواضع وقصة الشعر الرجالة وهي تتابع طبع روايات (تورجنيف) في (مكتبته) والتي عكفت على ترجمتها من الروسية أخيراً، كما أن اعمال محمد باقر الصدر كانت متداولة، حينها، ومطلوبة، (اقتصادنا وفلسفتنا وكتبه الأخرى) وكتبه الأخرى والتي كان (أبو علي) يحرص على توفيرها في مكتبته العامرة.

إن زيارة مكتبة في شارع الرشيد أو السعدون كان بمثابة طقس سبعيني ربما يثير الغرابة، بالكاد تستطيع الدخول، وبالكاد تستطيع الخروج، أنها زحمةً لا تشبهها أية زحمة أخرى.

هذا المشهد يكاد لا يتكرر إلا في معارض الكتب السنوية الدولية، تلك التي يتزاحم عليها القراء وأصحاب المكتبات وتجار الكتب الذين يحرصون على شراءها وبيعها بأسعار مرتفعة.

وسط هذه الترانيم (الكتبية) كنت تجد (عدنان) ملازماً لأستاذه حسن ضايع ولسنين عديدة، دؤوباً ومثابراً في عمله حيث حفظ (الصانع) (الصنعة)!


وتمر الأيام القاسية.

قاسية دوماً أيامنا، حيث سنين الحروب والحصار المتتالية، بكل ثقلها ووجعها وحرمانها، حتى أنك تجد الأديب والمثقف يفترش أرصفة المتنبي ليقتات من بيع كتبه، وباقي الناس باعوا مدخراتهم وحاجيات بيوتهم لكي يستطيعوا الاستمرار، ومن منا لم يبع شيئاً من مقتنياته ليعتاش بها على شظف تسعينات الجبروت المهزوم في آخر الغزوات.


من (چمبر) فقير على رصيف المتنبي، بدأ (عدنان) يقارع سنوات الحصار الرجيمة، مرة عبر المستنسخ وأخرى مما تجود به مكتبات القراء وهم يحثون الخطى للخلاص من ضائقة الجوع، جوع الاصطبار والاحتمال على كل الهزائم التي كان يبتلعها نظام يسير بالعراق نحو الخراب.

ذاك هو ديدن المتنبي وأرصفته التي تعج بالآلاف من الحكايا عن مكتبات مباعة وأخرى مصادرة وتلك التي احترقت بسبب مجهول...



وبعد سنين صعبة، وبإصرار وكفاح لا يكل استطاع (ابن الرفاعي) أن يؤسس مكتبة (عدنان)، حتى ذاع صيتها وأصبحت قبلة الكتاب القادم من لبنان ومصر ودمشق وحتى طهران لاحقاً.

حيث أعادت لنا (مكتبة عدنان) بهجة طقوس السبعينات عبر تلك العناوين المبهرة وذاك الازدحام المحبب لمقتني وقراء الكتاب.

إنه طقس يتكرر بإصرار...


وهنا لابد أن نشير إلى لمسات (محمد سلمان) وذائقته الكتبية التي طالما ارتكن لها (عدنان) في اختيار العناوين وربما دبلوماسية الاتصال والتوصيل تلك التي يجيدها، ساعدت أيضاً لأن ينتشر صيت هذه المكتبة لتصبح واحدة من مكتبات العراق الأوسع انتشاراً والأكثر توزيعاً...



ربما لا نستغرب، كعراقيين أن الكتاب وصاحب الكتاب يمكن أن يستهدف وبذرائع متعددة، من عهد (المكتوبچي) وحتى سقوط الفاشية، غير أن الغرابة تكمن في ابتكار همجيات حداثوية متعطشة لتدمير كلما هو حضاري في هذا البلد، الإنسان والمكان والكتاب...

وبلحظة منفلته من تاريخ الانسانية.

يتحول شارع المتنبي إلى رماد!!!
....
.... طائر الغراف يحلق بعيداً
عن المتنبي وبغداد
ليحط جنوباً،
بين أحضان مدينته (الرفاعي)
ونخيلها الباسق،
حيث آذار الربيع، وقد حل باكراً
لتكتمل (دورة السنة)،
ولكن بدونك
أيها الطائر الحزين....

* صاحب مكتبة عدنان الذي اغتيل ومكتبته بتفجيرات شارع المتنبي في بغداد قبل أعوام...
تم نشر هذا النص في جريدة الأخبار البصرية العدد 177 مايس 2007



#باسل_محمد_عبد_الكريم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محطات من ذاكرة عقيل الخزاعي (ابوذر) : الجزء الثاني
- محطات من ذاكرة عقيل الخزاعي (ابوذر) : الجزء الاول
- خالد احمد زكي - شهيد الغموكه


المزيد.....




- أوروبا ومخاطر المواجهة المباشرة مع روسيا
- ماذا نعرف عن المحور الذي يسعى -لتدمير إسرائيل-؟
- من الساحل الشرقي وحتى الغربي موجة الاحتجاجات في الجامعات الأ ...
- إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
- -السنوار في شوارع غزة-.. عائلات الرهائن الإسرائيليين تهاجم ح ...
- شولتس يوضح الخط الأحمر الذي لا يريد -الناتو- تجاوزه في الصرا ...
- إسرائيليون يعثرون على حطام صاروخ إيراني في النقب (صورة)
- جوارب إلكترونية -تنهي- عذاب تقرحات القدم لدى مرضى السكري
- جنرال بولندي يقدر نقص العسكريين في القوات الأوكرانية بـ 200 ...
- رئيسة المفوضية الأوروبية: انتصار روسيا سيكتب تاريخا جديدا لل ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - باسل محمد عبد الكريم - طائر الغراف الحزين... إلى عدنان سلمان* حياً