أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سعيد مضيه - النشاط الثوري للحزب الماركسي إحدى ضرورات المرحلة















المزيد.....


النشاط الثوري للحزب الماركسي إحدى ضرورات المرحلة


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 6580 - 2020 / 6 / 1 - 12:38
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


الحزب الماركسي ضرورة راهنية

أورد هشام شرابي في مقدمة الطبعة الرابعة (1991) من كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" كيف تحول الى الماركسية والأثر الكبير الذي تركته الماركسية على تفكيره وسجاياه، منوها بصعوبة عملية التطهر الذاتي من هيمنة الفكر النقيض وثقافته : " في جامعة جورجتاون كنت أحاضر في تطور النظريات السياسية والاجتماعية الأوروبية ابتداء من هيغل وانتهاء بسارتر، وكان عنوان المادة ‘تاريخ الفكر الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين. ’ بالطبع كانت الماركسية تحتل جزءا كبيرا من هذه المحاضرات بصفتها خليفة الفكر الهيغلي وملتقى تيارات الفكر الاقتصادي الانكليزي ، من جهة ، والفكر الاشتراكي الفرنسي من جهة أخرى. ولاقت هذه المحاضرات قبولا حسنا بين الطلبة ، مما دفع رئيس دائرة التاريخ الى أن يطلب الي الاستمرار فيها عام1962-1963 والعالم الذي يليه، ومن ثم كل عام دون انقطاع.
"ومع انني كنت في مطلع كل عام أعيد النظر في محاضراتي وأنقحها وأعيد كتابة مقاطع منها ، فإنني لم أغير قط تلك المقاطع المتعلقة بماركس، وكنت حتى سنة 1967 أعالج الماركسية من زاوية الفكر الليبرالي الكلاسيكي ، فأتناول ماركس من حيث انه مفكر أوروبي ‘آخر’ وأنقد نظريته الجدلية في ضوء "الفشل"الذي أصاب تنبؤاته حول حتمية انهيار النظام الرأسمالي والشكل الذي اتخذته الماركسية في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى. وهكذا بقيت أرفض الماركسية طوال سنوات عديدة بشكل لا يقبل إعادة النظر.
"وفي صيف 1967 أخذت في إعداد محاضراتي لفصل الخريف. ولسبب لا ادري مصدره ابتدأت بماركس. وما أزال اذكر قراءتي لماركس للمرة الأولى . لم أعرف تجربة هزتني بهذا الشكل منذ قراءتي الأولى- وانا في السابعة عشرة- لنيتشه. لكن وقع نيتشه ، في تلك السن، كان عاطفيا أكثر منه فكريا، بينما ماركس نفذ الى أسس تفكيري.
"كان من نتائج هذه التجربة انها كشفت لي عن مقدرة الثقافة المسيطرة في إخضاع عقلية الفرد لقيمها وتضليله على أعمق المستويات. وشعرت انني ابتدأت بكسر القيود الفكرية التي كبلتني ، وأصبحت أسير في اتجاه فكري مستقل استمده من قوة داخلية وليس من قوة تسيطر علي من خارج . أدركت أن الخطوة الأولى في التحرر تكمن في التحرر الذاتي ، وان بداية التحرر تكمن في التخلص من عبودية الفكر المسيطر.
"ولكن سرعان ما اكتشفت ان تحقيق هذه الخطوة ليس امرأ سهلا وإنما هو في غاية الصعوبة . إذ ان التحرر الذهني يتطلب عملية غسل دماغ جذرية وطويلة المدى ، وإعادة نظر في جميع ركائز الفكر الموروثة ، والمستمدة من الثقافة المهيمنة ، وإخضاع هذا الفكر لنقد مستمر وشامل".
لم يقتصر التغير على الفكر ، بل شمل السجايا كذلك؛ "ايام الثورة كانت أيام المحبة- محبتنا للأرض والإنسان وللعالم ولبعضنا بعضا. ولم يكن العنف الثوري إلا تعبيرا عن هذه المحبة (والعنف الثوري ممارستنا له كانت كلامية) كان عنفا نبيلا مطهرا يقهر قوى الظلم والاستعباد، ليبني على أنقاضها عالما جديدا تسوده العدالة والحرية وأخوة الإنسان للإنسان...في تلك الأيام تحولت الى شخص أفضل من الذي كنته فكرا وشعورا، ونية وعملا ، وأصبحت اشعر بتأنيب الضمير إذا ما فكرت بنفسي قبل ان أفكر بزملائي، وإذا اهتممت بمظهري او قمت بعمل او تفوهت بكلمة بدافع حب الظهور..."
انطلق شرابي في مؤلفاته اللاحقة من الفكرة الماركسية المؤسسة لكل تطور اجتماعي. فقد أثبت ماركس وانجلز أن كل التطور الذي تعرفه البشرية يعتمد في الأساس على تطور القوى المنتجة، وهذا ما غيبه المجتمع الأبوي المستحدث. وبذلك تمكن ماركس وانجلز من أن يقيما دراسة التاريخ على أساس علمي لأول مرة. المجتمع يتطور بتطور القوى المنتجة المادية والبشرية، والبشر يغيرون الطبيعة باستمرار بواسطة العمل، وبذلك فإنهم يغير ون أنفسهم.
يلعب إدخال العلم في الإنتاج دورا اجتماعيا هاما آخر، حيث يغدو العلم والتفكير العلمي مرشّدا للكثير من أنشطة أفراد المجتمع الصناعي في حياتهم اليومية، ويطرد التفكير العفوية والارتجال؛ كما يترسخ في الوعي الاجتماعي لأخذ بعلاقة السبب والنتيجة مرشدا في المعرفة. الوعي ينقل الفرد والجماعة من عناصر وجود ، الى وعي الوجود، و السيطرة على بقية عناصر الوجود، نظرا لما زود به من دماغ يفكر. هذا،بينما استهلاك منتجات العلم من أجهزة ومعدات فلا يترك أثرا على الوعي الاجتماعي.
وحيث يشكل المجتمع الأبوي حاجزا يمنع تطور القوى المنتجة، فإن القضاء على الأنظمة الأبوية ضرورة ملحة لانطلاق عملية النهوض الوطني وإدخال الوعي العلمي في الحياة. سلطوية الأبوية منعت تجذر العقلية العلمية في الشخصية العربية، فملأت فراغ المعرفة العلمية بالخرافات وبالسحر والشعوذات بها تفسر الظواهر؛ لا عقلانية تنظم النشاطات الفردية الاجتماعية والسياسية، وترتد العواقب عجزا وقصورا. الدولة ذات النظام الأبوي المحدث ليست سوى سلطنات قديمة محدثة، حدّثت وفق أرقى مستويات العلوم والتكنولوجيا أجهزة القمع ومراقبة الجمهور. الأبوية تهدر المؤسسات والثروات لإشباع نزواتها؛ تتصرف بها وكأنها ملك شخصي. يعي المهمشون والمحرومون أن المرافق العامة ملك للسلطة وليست مسألة تسهيلات حياتية؛ و"تغدو القاعدة ان تخرق القانون ما استطعت ، وفي ذلك انهيار لاحترام العلاقات الإنسانية"4/183]؛ تستفحل الظاهرة حين لا تجد الحل؛ تهدر المؤسسات والثروات ويتم الاستفراد بالإنسان وكيانه من خلال تجريده من كل مرجعيات القوة والمنعة والحقوق. "وينشأ توتر وجودي عام يشهد تدهور الخطاب اللفظي بسرعة الى المهاترة والتحدي والوعيد"[4/184]. وليس غير ظروف الواقع القائم مجالا ينطلق منه النضال، وإمكاناته هي وسائل النضال، كما يقول ماركس: "الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء". وبذلك يصدق القول ان "مفهوم الثورة لا يكتسب معناه المحدد وتميزه إلا ضمن فضاء الماركسية"[3/59].... حيث التنظيم والثقافة والوعي، بمعناها الغرامشي ، تلعب دورا مركزيا في السياسة، وما لم يتكفل اليسار بهذه القضايا لن يداخلنا الأمل في تحقيق مقاومة جماعية في إطار حركة ذات قاعدة جماهيرية واسعة.
استحضار غرامشي في هذا المقام تذكير بفضله في الحفاظ على وتطوير التصور اللينيني لعلاقة الوعي بالصراع الطبقي، ودور الثقافة والتربية في تحقيق هيمنة الحزب الثوري، بمعنى توسيع نفوذه الثقافي في صفوف الطبقة العاملة. ميز غرامشي الهيمنة عن السيطرة المشروطة بتسلم السلطة السياسية. ويعود لغرامشي أيضا فضل رصد نبض المقاومة في أضعف حالاته لدى الجماهير الهاجعة المحبطة نتيجة الهدر او تكرار الهزائم، أوضاع شبيهة بالتي يمر بها الشعب الفلسطيني. من هنا تكون البداية، يخلي تشاؤم العقل المجال لتفاؤل الإرادة: "تجاوز الرغبات البهيمية والبدائية عن طريق مفهوم للضرورة يملي على النشاط البشري سلوك وجهة واعية . تلك هي النواة السليمة التي تنطوي عليها ‘الحكمة الشعبية’، وعلى الأخص ذلك القسم منها الذي يمكن تسميته ‘الحس السليم’، الذي يستحق السعي لتوحيده وإضفاء شيء من التماسك عليه. وهكذا تتبدى لنا مرة أخرى استحالة عزل ما يسمى الفلسفة ‘العلمية’ عن الفلسفة الشعبية التي لا تعدو كونها تجميعا لأفكار وآراء مبعثرة[2/19]. اهتمام غرامشي واضح بالنفسية الاجتماعية، ويعتبرها قاعدة يستدل الحزب من خلالها على المزاج الشعبي كي يتعامل معه بنجاح، وكذلك منطلقا لصك سبيكو الفكر التقدمي. في هذا السياق يتحسس غرامشي نبضا ثوريا خافتا ، لكنه دليل لا يكذب على العناد بوجه الظرف القاهر: "عندما تفقد فئات شعبية المبادرة في النضال وينتهي نضالها الى سلسلة من الهزائم، تصبح النزعة الحتمية الآلية قوة جبارة للمقاومة المعنوية ولضبط النفس وتحقيق الصمود الصابر العنيد. ‘لقد هزمْتُ موقتا ، ولكن اتجاه التاريخ ، في النهاية، يعمل لصالحي’. هكذا تتحول الإرادة الحقيقية الى فعل إيمان ، الى نوع من العقلانية التاريخية ، والى شكل بدائي تجريبي من أشكال الغائية العاطفية التي تلعب الدور الذي تلعبه الجبرية او القدرية في الديانات الروحية. ...ولكن ما ان تتحول الفئة المقهورة الخاضعة الى فئة مهيمنة مسئولة عن قيادة نشاط الجماهير الاقتصادي حتى تصبح النزعة الآلية خطرا عظيما[2/30] . أجل ، فالقيادة محكومة بالوعي الثوري مهما اختلفت الظروف وتضاربت المواقع. تسترشد بالديالكتيك المادي وتتملك مرونته وتكيفه، تمضي بوعي واقتدار على سكة التغيير. القاعدتان الرئيستان في فكر غرامشي هما ترجمة الحكمة الشعبية الى فلسفة واستيعاب الفلسفة(الماركسية) داخل الحكمة الشعبية عن طريق الممارسة النضالية. يقيّم غرامشي عاليا دور الثقافة في النضال الثوري، مقدرا أهمية الوحدة الجدلية للنظرية والممارسة في نشر ثقافة الوعي الثوري؛ فمن خلال الوحدة الجدلية يجري تعميم الأفكار على أوسع جمهور. الأهم في نظر غرامشي اقتران الفكر بالعمل، أهم بكثير من اكتشافات تظل حبيسة الأراشيف أو متداولة بين نخبة محدودة، علاوى على أن الممارسة العملية تتيح استيعاب الفكرة العلمية واستخدام مفاهيمها في الخطاب. استيعاب الفكرة العلمية يجعل التفكير متناسقا والتعبير عنه طليقا: "ان بناء ثقافة جديدة لا يفترض تحقيق اكتشافات ‘فريدة’ وحسب، وإنما يستوجب أيضا وبالأخص التعميم النقدي للحقائق المكتشفة – ‘تشريكها’ إذا جاز التعبير- الى حد جعلها مرتكزا للنشاط العملي ، وعنصر تنسيق وضبط فكري وأخلاقي . ذلك أن تحويل جماعة من البشر التفكير بتناسق وانتظام حول شئون العالم الحقيقي الراهن لهو حدث ‘فلسفي’ أهم بكثير وأكثر ‘تفردا’ من اكتشاف احد ‘العباقرة’ الأفذاذ لحقيقة جديدة لا يتم تداولها خارج نطاق عدد ضئيل من المثقفين2/16].
الوحدة الجدلية للنظرية والممارسة بمثابة الكلمة السحرية "افتح يا سمسم" تزيح الصخرة الثقيلة عن الكنز الاجتماعي للثورة. في النصف الأول من القرن الماضي استجابت الجماهير لكلمة الحرية الوطنية وأطاحت بالسيطرة الامبريالية المباشرة. كان الظن حينئذ أن تتحقق تلقائيا الحرية والوحدة العربية، وتمضي الأمة العربية الموحدة باتجاه التنمية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي. لكن الوقائع المترتبة بعد زوال السيطرة المباشرة للامبريالية أسفرت عن نظام أبوي جعل الناس تحن الى الماضي؛ فقد ابتليت بأنظمة أبوية لم تعرف حدودا للقهر واستباحة الحريات العامة وهدرت الكرامة الإنسانية. "ومن استبيحت إنسانيته سوف يستبيح كل شيء حين تحين الفرص. وأحداث الاضطرابات خير شاهد، حيث التلذذ بالقدرة على الهدم والهدر. نزوة الموت الوجودي التي فتكت بكيان الميليشيات تعود فترتد على أيديهم تدميرا للعمران"[4/247]
التوجه العقلاني للتغيير الديمقراطي يبدأ بمحاولة التعريف بالمسألة ثم يحدد الهدف المطلوب الوصول اليه، وتأتي بعد ذلك بحث المشكلات المتضمنة ، ثم يجري جمع المعلومات والمعطيات المتوفرة عن المسألة في مختلف جوانبها ومستوياتها وفرزها من حيث الأهمية ومدى واقعيتها . عند هذا الحد يغدو ممكنا طرح تصورات متعددة بالحلول الأنسب، أخيرا يتم رسم خطوات الحل ومراحل التنفيذ وأدواته وأساليبه، ليس في الغرف المغلقة ، وإنما في ميادين الحراك الجماهيري. وتكون الجماهير هي المرجِّح لأي خيار يمضي عبره ركبها المظفر، وهي في صيرورة انطلاقة من الجمود والحيرة متطلعة للتحرر والانعتاق من العبودية، وقد اكتسبت الوعي بواقعها وسيطرت على محيطها.
الأنظمة الأبوية تحيل مشاكلها على أفراد المجتمع فتجير عجزها على السلوكيات "المرَضية" لأفراد تضحي بهم بين فينة وأخرى؛ فالقانون جهاز طبقي والعقوبات غايتها تحصين النظام السياسي. وتهب الحركات العصبية الطائفية لتجرم المجتمع بالابتعاد عن الدين، وترهن الخلاص بإقامة الخلافة! مستغلين هشيم خراب الأنظمة الأبوية، يسدرون في أبوية جديدة مقنعة بالدين، و يعوضون معاناة البحث العلمي المفقودة بمزاعم "الإعجاز العلمي في القرآن". الخلافة كانت قائمة حين احتلت جحافل المغول عاصمتها بغداد ودمرت معالمها الحضارية الفكرية والمادية. ونشأت خلافة إسلامية في مصر وراحت تذبُُل حتى غدت فائضا عن الحاجة وجبت إزالتها . وكانت خلافة آل عثمان قائمة بقوام "الرجل المريض" حين انهزمت جيوشها وتركت مقاطعاتها العربية نهبا لسايكس بيكو؛ وبزغت خلافة داعش وخليفتها المكنى أبي بكر،ارتد مدحورا مذموما، وعوقب بالإعدام على خيبته. قضي على الرجل عل زواله يطوى بموته ملابسات النشوء ودهاليز التعاون والتوجيه لاقتراف الجرائم السوداء، وأساليب الدعاية الراقية! مؤسسو حماس بيتوا خطف القضية الفلسطينية من أيدي المنظمة؛ لكن ملابسات الحركة التاريخية في ظل السيطرة الامبريالية - الصهيونية وجهت الأمور نحو شق المقاومة الفلسطينية ، ليغدو الانشقاق عاهة ملازمة تشوه وجه المقاومة الفلسطينية.
تصور آخر لخروج من المأزق الراهن يتجسد في "الوعي النقدي للذات، يعني سياسيا وتاريخيا تكوين نخبة من المثقفين . إن جماعة بشرية ما لا تميز نفسها عن سواها ، ولا تحقق استقلالها الناجز إلا اذا هي نظمت نفسها(بالمعنى العام للكلمة)، ولا تنظيم بدون مثقفين ، أي بدون منظمين وقادة. بعبارة أخرى لا تنظيم بدون تحديد دقيق لملامح العنصر النظري من وحدة النظرية- الممارسة، تتولاه فئة من البشر ‘متخصصة’ في صياغة الأفكار على نحو مفهومي وفلسفي. [2/ 28]. المثقفون الثوريون هم كوادر الحزب الثوري يتغلغلون في أوساط الجماهير يجيبون على تساؤلاتهم ويكتسبون ثقتهم. "لا بد هنا من تأكيد الدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية في مجال بلورة رؤى شاملة للعالم والحياة وتامين انتشارها الواسع في العالم المعاصر، لآن ما تقوم به هذه الأحزاب هو بناء النظامين الأخلاقي والسياسي المستجرين من هذه الرؤى، واللذين يشكلان ‘مختبرها’ التاريخي. وتكون وحدة النظرية والممارسة أشد تماسكا بالقدر الذي تكون فيه الرؤية الشاملة للعالم والحياة مجددة وحيوية وجذرية ومناقضة لأنماط التفكير السابقة. وهذا ما يخولنا القول بأن الأحزاب تبلور مذاهب فكرية كاملة وشمولية ، وبأنها البوتقات التي تنصهر فيها النظرية والممارسة ، بوصف هذا الانصهار عملية تاريخية حقيقية[2/29].
.ومن منطلق علم النفس الاجتماعي فإن "قضية التحرر الإنساني، تنطلق من تصفية ترسبات الهدر وتعافي النفسية الاجتماعية لاكتساب الصحة النفسية. تجارب الماضي الأليمة تبين أن الإطاحة بنظام استبدادي يحل النصف الهين للمشكلة؛ وأصعب منه خوض صراع ضد تراكمات الهدر الدهري، والمتمثلة في" التواطؤ الذاتي مع الهدر الخارجي الذي لا يستتب إلا من خلال اجتياف احكامه (بمعنى ابتلاع احكام الهدر وتمثلها برسم التوازن النفسي) الامتثال لها، وبالتالي إعادة إنتاجها ذاتيا ، وهو الأخطر"[4/319]. حالة من تقبل الهدر والتعايش معه تستدعي صدمة تعيد الوعي بالإنسانية المضيعة، وتكسب الصحة النفسية ، بمعنى عودة الوعي. "فقط المناعة التي توفرها المستويات العليا من الصحة النفسية هي القادرة على المرونة العالية واللياقة التكيفية، والفاعلية في مواجهة التحديات والشدائد. الكفاءة النفسية تتمثل في صحة الوظائف الحيوية وعملها بكامل طاقتها على مختلف الصعد؛ كما تتمثل الصحة النفسية النمائية في مشروع وجود متنام ومتجاوز لذاته على الدوام على مستوى الوظائف والأداء والانتماء"[4/315].
لا يختلف أنصار العقلانية في السياسة بصدد دور الحراك الجماهيري في إحداث التغيير، يحطم قيودها ويبدد حيرتها ويطهرها من عقد القهر. جُرِب نظام الوصاية على الجماهير ولا حاجة لإعادة المجرب، وبات مطروحا على جدول الأعمال توليد حراك شعبي يتنامى باضطراد، ينتشل المجتمع من تخلف العصر الوسيط ويحرره من قيمه وعلاقاته الاجتماعية ومعاييره السلوكية، تشحنه بالطاقة الثورية حركةٌ ثوريةٌ تسترشد بنظرية ثورية . الضرورة تستدعي حزب التغيير مولدا لطاقة شحن شعبية – دينامو- يستبدل الثقافة القولية بعناصر ثقافة عملية تنزل من القيادة السياسية الى الجماهير المتحركة بآمالها وطموحاتها، تتوالد بالتدريج مع تصاعد الحراك الشعبي واتساع مداه. الحزب السياسي المدرك لضرورة التغيير الاجتماعي يشحن بدفقات الوعي العلمي الجماهير الخارجة من محجر العزل الاجتماعي. ان مبرر حتمية وجود الحزب الثوري المسترشد بالماركسية هو نقل الوعي العلمي بالتقدم الاجتماعي ذي التوجه الاشتراكي الى الجماهير المتحفزة لكنها مرتبكة لا تعرف مخرجا من أزماتها." الوعي الاشتراكي أو الفكر الاشتراكي ينشأ على قاعدة المعرفة العلمية العميقة ، ثم يدخل هذا الوعي الى صفوف الطبقة العاملة من خارجها. يستكمل لينين استنتاجه بتاكيد خطأ من يتصورون أن الحركة العمالية يمكن ان تصل تلقائيا الى الوعي الاشتراكي، وبناء عليه تأكيد اهمية وضرورة دور الحزب السياسي للطبقة العاملة، ومهمة ودور ذلك الحزب في إدخال الوعي الاشتراكي لصوف الطبقة. في غمرة الصراع صاغ لينين فكرته الشهيرة :إما إيديويوجيا برجوازية أو إيديولوجيا اشتراكية. "[5/94، 95].
بإنجاز هذه المهمة الحيوية يفقد نسغ حياته ذلك التنظير المتخبط والاعتباطي المنتشرين بين فئات المتعلمين، ، حتى أولئك الحاصلون على الدرجات الجامعية. يضبط القول او يقيّمه في الممارسة العملية ، وتنشأ علاقة تفاعلية بين الفكر والممارسة العملية، بين القول والعمل . الحياة الاجتماعية لا يمكن مقاربتها بغير الفكر الجدلي ، والحركة الثورية تسترشد بالنظرية الثورية. الفكر الجدلي يتطابق مع واقع الترابط والتطور المستدام لعناصر الحياة الاجتماعية. تبرز ضرورة اتباع المنهج الجدلي لدى النظر في وقائع الحياة الاجتماعية ؛ فهي ليست كتلة جامدة بل نتاج تفاعل قوى وعناصر متعددة. "يعلمنا المنهج الجدلي ان هناك طرفا أساسيا وأطرافا ثانوية في التفاعل ، والعلاقة لا تبقى ثابتة بل تتحول؛ الطرف الذي كان أساسيا قد يصبح ثانويا في مرحلة تالية . الزمن يتكون من وحدات متعارضة كل منها يشكل شرط وجود الأخرى، ويحدد مظهرها واتجاهها. بالإضافة الى علاقة التناقض والتحديد المتبادل بين الجزء والكل ، بين الذاتي والموضوعي ، بين العقلاني والانفعالي، بين النفسي والمادي، بين العام والخاص، هناك تناقض وتحديد متبادل بين العناصر المكونة لكل من هذه الأمور . [ 1/68].
يطرح هشام شرابي في الفصل الأخير "ما العمل" بعض قضايا إرشادية، ؛"من الممكن أن يتحول الفكر الثوري الى تيار رجعي ، وان تدخل الثورة في نظام ابوي مستحدث من نوع جديد.ليس النقد الذي نمارسه ترفا فكريا بل إنه يعكس حاجة قومية ماسة. وهو لا يرمي الى تاسيس ‘خطاب نقدي’ يتمكن من إضفاء الوعي الذاتي الصحيح ، بل لتقديم نظرية فكرية فعالة قادرة على تفكيك أواصر الوعي السائد والسير نحو وعي جديد وممارسة جديدة. وعليه فالنقد يشكل اليوم مهمة مركزية في عملية الإطاحة بالخطاب الأبوي المستحدث ونظامه الاجتماعي والسياسي. ان الثورة الحقيقية في العصر الجديد الذي نحن على أعتابه هي ثورة النفَس الطويل . دون ثورية النفس الطويل لن يحدث تغيير حقيقي، بل مجرد طفرات مؤقتة وتغييرات لا تلبث أن تزول" [1/171]. ينقل عن الفيلسوف فوكو قوله ان الإطاحة بنظام مستبد لا يعني ضمان التحرر. رأى أن "أكثر المسائل إلحاحا هي مسألة الحريات الديمقراطية، وحقوق الإنسان وتحرير المرأة"[1/73].
يؤكد شرابي عدم إقدامه على طرح برنامج؛ ملتزما بالنهج الماركسي ، حيث البرامج والخطط وليدة تمعن في الواقع المتعين لحظة التنفيذ العملي. الماركسية لا تعرف القوالب الجاهزة تصلح في كل وقت ومكان. يقول شرابي أن "من العبث توقع تجاوز الأبوية المستحدثة عبر مجرد ‘التربية’ او ‘التحديث’ او ‘التنمية’ حسب النمط الغربي الرأسمالي؛ يستثني كذلك إمكانية وجود حلول سريعة. كما أن نموذج ثورات الصين وفييتنام والجزائر لم يعد ينطبق على الوضع الراهن. الحركات الشعبية هي الأنجع.
..............................................
1-هشام شرابي: البنية الأبوية إشكالية التخلف في المجتمع العربي
2-أنطوان غرامشي: قضايا المادية التاريخية –ترجمة فواز طرابلسي ، دار الطليعة للطباعة والنشر –بيروت ، شباط 1971
3-هشام غصيب: الأعمال الفكرية، المجلد 4،دفلعا عن الماركسية
4-مصطفى حجازي: الإنسان المهدور
5-محمد إبراهيم نقد:في حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية-دار الفارابي بيروت ، 1992



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فضيحة الإطاحة بكوربين من رئاسة حزب العمال البريطاني
- سراب الديمقراطية البرجوزاية-2
- سراب الديمقراطية البرجوازية
- ألتمكن بالوعي العلمي او السقوط من قاطرة التاريخ
- التحررالوطني والإنساني مشروط بالخلاص من النظام الأبوي
- تحت المجهر مرة أخرى- هدر الثقافة ..هدر الإنسان
- تحت مجهر العلم هدر الإنسان ..هدر الثقافة
- مفارقة المنهجية العلمية مكمن عجز المقاومة الفلسطينية
- كوارث وانتكاسات حصاد تغييب الوعي العلمي
- تنمية التخلف بإهدار سلطة العقل
- الشعوذة في غياب العلم
- المجتمع العربي متخلف لم يألف العلم ولم ينشد الحداثة
- قوى الحرب تصعدالتوتر مع الصين
- كورونا ذكّر البشرية بقيمة الوعي العلمي
- الاشتراكية تفوقت على الرأسمالية فهل تقر الأخيرة بهزيمتها؟
- تجربة الصين في تنمية قدرات العلم وتعميمها
- ألانحطاط الفاشي: عنصرية إرهاب إفقار جماعي وتزييف الوعي
- للانحطاط الفاشي للرأسمالية في مواجهة وباء كورونا
- كورونا جمح بين خرائب الليبرالية الجديدة
- ثغرة في جدار الأبارتهايد


المزيد.....




- كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما ...
- على الخريطة.. حجم قواعد أمريكا بالمنطقة وقربها من الميليشيات ...
- بيسكوف: السلطات الفرنسية تقوض أسس نظامها القانوني
- وزير الداخلية اللبناني يكشف عن تفصيل تشير إلى -بصمات- الموسا ...
- مطرب مصري يرد على منتقدي استعراضه سيارته الفارهة
- خصائص الصاروخ -إر – 500 – إسكندر- الروسي الذي دمّر مركز القي ...
- قادة الاتحاد الأوروبي يتفقون على عقوبات جديدة ضد إيران
- سلطنة عمان.. ارتفاع عدد وفيات المنخفض الجوي إلى 21 بينهم 12 ...
- جنرال أوكراني متقاعد يكشف سبب عجز قوات كييف بمنطقة تشاسوف يا ...
- انطلاق المنتدى العالمي لمدرسي الروسية


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سعيد مضيه - النشاط الثوري للحزب الماركسي إحدى ضرورات المرحلة