سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن-العدد: 6557 - 2020 / 5 / 7 - 21:16
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
العلمانية Secularism : مصطلح غربي يعني حرفيا (الدنيوية) او المذهب الدنيوي , ويعني اصطلاحا فصل الدين وابعاده عن الدولة، او قيام الدولة على اسس مدنية لا دينية . ومصطلح العلمانية ظهر في اوربا في بداية القرن التاسع عشر الذي عرف بقرن الالحاد او عصر العقل . وانتقل في نهاية القرن التاسع عشر الى المشرق العربي وتركيا وايران، وتسرب الى هذه المجتمعات بصوره المتعددة في القرن العشرين . وأول من ابتدع مصطلح العلمانية (سـكيولرزم Secularism) بمعنى الدينوية وفصل الدين عن الدولة هو الكاتب البريطاني جورج هوليوك George Holyoake في كتابه (مبادىء العلمانية) الذي صدر عام 1870، غير أنه لم يقم بصياغة عقائد معينة على الافكار التي كانت قد انتشرت منذ عصر التنوير في أوروبا ؛ بل اكتفى فقط بتوصيف ما كان الفلاسفة قد صاغوه سابقًا وتخيلوه من نظام اجتماعي منفصل عن الدين : (لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية هي فقط مستقلة عنها؛ ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها . المعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعى للتطور والرفاه في هذه الحياة) . واول من استخدم مفردة (علمانية) او (علماني) في اللغة العربية المصري القبطي (الياس بقطر) عام 1828 في قاموسه الفرنسي – العربي , الا انه لم يقصد به المعنى الغربي السائد الان وهو فصل الدين عن الدولة , وانما ترجمة للكلمة الفرنسية Laigue التي تعطي معنى العالم او الدنيا - بمعنى عالماني وعالمانية - اي ان هناك من يترجم العلمانية من العرب بكسر العين , وتاتي بمعنى العلم . وهناك من يرفض ذلك ويترجمها بمعنى العلمانية - بفتح العين - أي العالمانية , وتاتي بمعنى العالم . ولايمكن ادراج جميع التعريفات الخاصة بالعلمانية , ولكن يمكن ذكر اهمها التعريفات الاتية : وهى عبارة عن مجموعةٍ من المُعتقدات التي تُشير إلى أنّه لا يجوز أن يُشارك الدين في المجالات السياسيّة والاجتماعيّة للدول، او أنّها النظام الفلسفيّ الاجتماعيّ أو السياسيّ الذي يَرفض كافة الأشكال الدينيّة؛ من خلال فصل المسائل السياسيّة عن عناصر الدين . او تعريف دائرة المعارف البريطانية للعلمانيّة بانها: حركة اجتماعيّة تتّجه نحو الاهتمام بالشّؤون الدُّنيويّة بدلًا من الاهتمام بالشّؤون الآخروية. وهي تُعتبر جزءًا من النّزعة الإنسانيّة الّتي سادت منذ عصر النهضة؛ الدّاعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به، بدلاً من إفراط الاهتمام بالعُزوف عن شؤون الحياة والتّأمّل في الله واليوم الأخير. وقد كانت الإنجازات الثّقافيّة البشريّة المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقات العلمانية ، فبدلاً من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاهٍ في الحياة الآخرة، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية .
أن مفهوم العلمانية والدعوة لفصل الدين عن الدولة والمناداة بالتسامح والتعددية لم ينشأ كمذهب فكري إلا في القرن السابع عشر، ولعلّ الفيلسوف سبينوزا كان أول من أشار إليها , إذ قال : أن الدولة هي كيان متطور وتحتاج دومًا للتطوير والتحديث على عكس شريعة ثابتة موحاة . مؤكدا رفضه اعتماد الشرائع الدينية مطلقًا بالقول : إن قوانين العدل الطبيعية والإخاء والحرية هي وحدها مصدر التشريع. و بناءً عليه، يمكن القول أن العلمانية ليست أيديولوجيا أو عقيدة بقدر ما هي طريقة للحكم ، ترفض وضع الدين أو سواه كمرجع رئيسي للحياة السياسية والقانونية ، وتتجه إلى الاهتمام بالأمور الحياتية للبشر بدلاً من الأمور الأخروية، أي الأمور المادية الملموسة بدلاً من الأمور الغيبية .
للعلمانية خصائص عديدة ، اهمها : الفصل بين الدين والدولة وحماية كل من المتدينين وغير المتدينين والمساواة فيما بينهم , والحرية الدينية للأشخاص سواء اختار الالتزام بالدين أو التحرر منه , والاعتماد على الديمقراطية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الاثني والمذهبي والديني , واحترام حرية التعبير عن الرأي . أي ان مفهوم العلمانية تمدد من فصل الدين عن الدولة الى المناداة بالمساواة والعدالة والحرية والقيم الليبرالية والماركسية والقومية , والتركيز على النزعة الوطنية والدولة المدنية والعصرية بدل الحكم الديني والتقليدي , والترويج للتفسيرات العلمية والنظريات الحديثة بدل التفسيرات الغيبية والسحرية والدينية , والارتقاء بالمجتمع نحو افق التحديث والعصرنة والحرية الشخصية والانفتاح الاجتماعي .
ظهرت البواكير الاولى للفكر العلماني في المشرق العربي في بلاد الشام ومصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر , تاثرا مباشرا بما ظهر من بروز تلك النزعة في اوربا . وقد سارت الفكرة العلمانية في المشرق العربي من خلال اتجاهين :
الاتجاه الاول : وهو الاتجاه التنويري العلماني الخالص الذي لم يهتم مطلقا بالدين. وظهر بقوة في بلاد الشام (سوريا ولبنان) . وكان قادة هذا الاتجاه هم من المسيحيين الذين وقفوا ضد الاستبداد الديني الذي كان تمثله الدولة العثمانية , وتاثروا بالصراع الديني والطائفي بين المسلمين والمسيحيين في لبنان . فالحوادث الطائفية التي وقعت في سوريا ولبنان سنة 1860، سلّطت الضوء على ضرورة العلمنة والفصل ما بين السياسة والدين . فقد كتب ابو التنوير العربي بطرس البستاني (1819 - 1883) في صحيفته (نفير سورية)، تعليقاً على تلك الحوادث الطائفية : (وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حدّاً فاصلاً بين هذين المبدأين ، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعا كما لا يخفى. ومن هنا وجوب وضع حاجز بين الرياسة، أي السلطة الروحية والسياسة، أي السلطة المدنية). فيما دعا احد ابرز رواد النهضة العربية شبلي شميّل (1850 - 1917) إلى فصل الدين عن الحياة السياسية، باعتباره يمثل السبيل للخلاص من الاستبداد وتشكيل إرادة عامة حرّة تتفق على الخير العام . بالقول: (لا يمكن الاتفاق على ما هو الخير العام إذا لم تتوافر الحرية، وبالأخص حرية الفكر. ففي الحكم الفردي الاستبدادي يسيطر عضو من أعضاء المجتمع على الآخرين بالقوة ويضع مصالحه فوق مصالحهم. كذلك لا تكون إرادة عامة بدون وحدة اجتماعية تقوم عليها، مما يقتضي فصل الدين عن الحياة السياسية. إذ أنّ الدين هو عنصر تفرقة، لا بحد ذاته، بل لأن رؤساء الدين يبذرون الشقاق بين الناس، مما يبقي المجتمعات ضعيفة. والأمم تقوى بمقدار ما يضعف الدين. فهذه أوروبا، فهي لم تصبح قوية ومتمدنة، فعلا، إلا عندما حطم الإصلاح (إصلاح لوثر) والثورة الفرنسية سلطة الإكليروس على المجتمع. وهذا يصح أيضاً على المجتمعات الإسلامية. إذ إنّ ما أضعف الأمة ليس الإسلام أو القرآن بل سلطة رجال الدين) . فيما كان فرح انطوان (1874-1922) اكثر صراحة بالدعوة لفصل الدين عن الدولة بقوله (لا معرفة حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا امن ولا الفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية , ولا سلامة للدول ولا عز ولا تقدم في الخارج إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية) . ولم تقتصر الدعوة إلى العلمانية على عدد من المسيحيين المثقفين في المشرق العربي فحسب , وإنّما تعدّتهم إلى نظرائهم من المثقفين والتنويريين المسلمين، وأبرزهم عبد الرحمن الكواكبي (1854 - 1902)، الذي رأى أنّ سبب ما أصاب العرب والمسلمين من تخلّف هو الاستبداد الناجم عن وصاية الدين على السياسة. لذا دعا الكواكبي إلى (التفريق ما بين السلطات السياسية والدينية والتعليم ولا يجوز الجمع منعاً لاستفحال السلطة) .
الاتجاه الثاني : وهو الاتجاه المعتدل الذي يعتمد الاصلاح الديني والتوافق بين التراث والحداثة . وظهر هذا الاتجاه بقوة في مصر من خلال اراء وكتابات العديد من النهضويين ابرزهم الشيخ محمد عبده (1849-1905) وجهوده المتميزة في التنوير والتحديث العلمي والفكري , ودعوته للتعليم والمدنية , ورفض السلطة الدينية ودفاعه عن الحرية الانسانية والتسامح الديني ,ونقده للحكام المستبدين. كما برزت دعوة قاسم امين (1863-1908) في كتابيه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) للمساواة ورفع الحجاب والقيود امام النساء في المشرق العربي . وسلامة موسى (1887-1958) الداعية الى الاتجاه الليبرالي العقلاني والقطيعة بين التراث والحداثة والتعلق بالقيم الغربية الحديثة , متهما الماضي العربي بالعقم والركود التاريخي والجمود . وبرز ايضا كتاب اكدوا فصل الدين عن الدولة ابرزهم علي عبد الرازق (1888-1966)، أحد علماء الشريعة الإسلامية الذي أثار جدلاً كبيراً في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) في عام 1925، الذي صرح فيه لأول مرة في التاريخ الإسلامي بأنه لا يوجد في النصوص الإسلامية المقدسة ما يلزم المسلمين باتباع نموذج الخلافة بالحكومة الدينية، وأن بإمكانهم اختيار النظام السياسي الذي يناسبهم . وقد سبب هذا الكتاب جدلاً حاداً وخصوصاً وأنه أوصى بأن الدين يمكن أن ينفصل عن الحكومة والسياسة . واما تصور طه حسين (1889-1973) للنهضة في مصر فقد استند الى فكر الثورة الفرنسية وفلسفة الانوار مطالبا المصريين ان يحذوا حذو الغرب في مجالات الثقافة والحضارة، مؤكدا وجود القرابة بين مصر وثقافة البحر المتوسط , محملا حقبة الحكم التركي والخلافة العثمانية مسؤولية الانحطاط الذي تعاني منه مصر , واصفا حملة نابليون على مصر عام 1789 بالحملة المباركة , لانها ادخلت البلاد الى العالم الجديد. ونشر طه حسين العديد من المؤلفات في السياسة والتاريخ والادب ، الا ان كتابيه (في الشعر الجاهلي) سنة1926 و(مستقبل الثقافة في مصر) سنة 1938 من اهم المؤلفات العلمانية التي اثارت نقاشا محتدما في العالم العربي .
ان بواكير نشوء الفكر العلماني في العراق قد تبلور مع تكوين الانتلجنسيا العراقية العلمانية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين . وهذه الانتلجنسيا شكلت (الحامل) او (الناقل) للافكار الغربية والمفاهيم العصرية الوافدة من اوربا , ومن ثم ادرجتها في المجتمعات العربية والاسلامية . فهى اتخذت دور البرجوازية في المجتمعات العربية التي من المفترض ان تحمل الافكار العصرية والمفاهيم العلمانية وتنشرها في الاوساط الثقافية والشعبية . اي ان غياب البرجوازية ادى الى تصدي الانتلجنسيا العربية العصرية لدور البرجوازية و(القيام بثورة برجوازية دون برجوازية) - حسب تعبير ياسين الحافظ (1930 – 1978) - لان البرجوازية في اوربا هى من حملت راية التنوير والعلمانية والحداثة . وكما ان النهضويين في المشرق العربي قد تبنوا القيم الليبرالية بحكم الاطلاع والتأثر بالحضارة الغربية ، فان جيل النهضة العراقية قد تشابه مع هؤلاء النهضويين بتلك الخاصية ، الا انه التمايز عنهم قد تبلور من خلال صورتين :
الاولى : ان الانتلجنسيا العراقية متاخرة زمانيا في التعرف على الافكار العلمانية والتاثر بها , فالشاميون والمصريون قد تعرفوا عليها في مطلع القرن التاسع عشر - او النصف الثاني منه - فيما تاخر العراقيون حتى الربع الاخير من هذا القرن لاسباب عدة اهمها :
1 . عدم وجود ادارة ذاتية ومحلية في العراق تعمل على تحديث المجتمع مثل تركيا وايران ولبنان ومصر , وانما كان تابعا – وبصورة مباشرة – الى الحكم العثماني .
2 . عدم وجود صلات تجارية وثقافية مباشرة بين العراق واوربا مثل لبنان ومصر , وانما صلات غير مباشرة ومن خلال دول اخرى .
3 . عدم وجود جالية مسيحية كبيرة في العراق تاخذ على عاتقها الاتصال باوربا ونقل مفاهيم التنوير والحداثة - كما هو سائدا في بلاد الشام - فقد كانت اعدادهم القليلة نسبيا , لاتشكل حافزا للمطالبة بالتغيير والتحديث . ولكن هذا لايمنع من وجود محاولات قام بها بعض المسيحيون العراقيون , فقد ذكر الكاتب الروسي (زلمان ليفين) في كتابه (الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في مصر والشام) بان المسيحيون العراقيون اسسوا في عام 1874 حركة تنويرية باسم (جمعية مساعي التقدم) تحت شعار (حب الوطن من الايمان) - وهو نفس شعار مجلة (الجنان) اللبنانية - وقد وضعت نصب اعينها تاسيس مدارس لادخل لها بالانتماءات الطائفية والدينية , الا ان الجمعية لم تتطور الى حركة اجتماعية شاملة وفاعلة .
4 . الاستبداد العثماني – الحميدي الذي كان يضع حاجزا كبيرا امام التحديث والتنوير والثقافة في العراق , فيما لم تعاني من ذلك لبنان ومصر التي تتمتع بحرية نسبية .
5 . احجام النخب السنية التي تصدت للادارة في العراق عن التنوير والانسياق للافكار الوطنية والليبرالية والمساواتية , حتى لاتفقد الحكم العثماني الذي يشكل في نظامهم المعرفي والديني والسياسي نوعا من التقديس الطائفي والتبجيل الديني . واكد هذا المعنى الكاتب حسن العلوي في كتابه (بقية الصوت الاجابات المؤجلة) بقوله (في ذروة الانتشار الهائل لمدرسة التنوير في بلاد الشام ومصر والمغرب وظهور دعاة التحديث , انشغلت مشيخة الاسلام السني في العراق بتاسيس جمعية لنصرة الاستبداد الحميدي ومهاجمة حركة التنوير) (يقصد جمعية المشورة التي اسسها عبد الرحمن النقيب(1841-1927)) .
الثانية : انهم قد تعرفوا على الافكار العلمانية وتاثروا بها , ليس من خلال منابعها الاصلية في اوربا , وانما من خلال الموارد والمؤثرات التركية والشامية والمصرية . الامر الذي نتج عنه نوعا من الضبابية في استلهام تلك الافكار ومعرفتها , وربما وصل الحال الى الخلط فيما بينها . فضلا عن الانسياق نحو الترجمة الخاطئة والمرتبكة لتلك المصطلحات والمفاهيم العلمانية مثل الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والقومية والوطنية وغيرها .
لقد ظهرت عوامل عدة ادت الى بلورة الفكر العلماني وموارده الثقافية والسياسية عند العراقيين يمكن ادراج اهمها بعاملين :
الاول : تحديث الدولة العثمانية واصلاحاتها في العراق .
الثاني : النهضة الفكرية في بلاد الشام ومصر .
الاول : تحديث الدولة العثمانية واصلاحاتها في العراق : التحديث الذي مارسه ولاة الدولة العثمانية في العراق - والذي يقف على راسهم مدحت باشا الذي تولى ولاية العراق بين (1869-1872) - كان له دور كبير في انسياب الافكار العصرية والعلمانية الى البلاد , ومن ثم تلقي الانتلجنسيا العراقية تلك المفاهيم والتاثر بها . حيث شهد عصره صدور اول صحيفة عراقية عام 1869 وهي جريدة (زوراء) التي استمرت بالصدور مدة (49) عاما حتى الاحتلال البريطاني لبغداد عام 1917 . واسهمت بصورة كبيرة وفاعلة في تنوير المتعلمين على بعض المفاهيم العصرية والحقائق العلمية والتحولات الاجتماعية التي انتابت اوربا في القرن التاسع عشر , من حيث ذكرها للمفاهيم الحديثة واشارتها للاحداث التاريخية والثورات التي حصلت فيها ضد الانظمة الاستبدادية والاقطاعية وغيرها . فكتبت عن تاريخ الثورة الفرنسية واعلان حقوق الانسان وكومونة باريس عام 1871 ، وتطرقت لاول مرة الى مفردات سياسية حديثة لم يسمع بها العراقيون من قبيل الجمهورية والاشتراكية , وامتدحت مفاهيم العدالة والحرية والمساواة والديمقراطية والتطور الراسمالي واقتصاد السوق وحرية الصحافة والانتخابات والعلوم والمعرفة وغيرها . فضلا عن وصول العشرات من الصحف التي تصدر في اسطنبول الى العراق واهمها (الجوائب والاعتدال والحقائق وبصيرة وثروة فنون وغيرها) التي اعتبرت اهم رافد من روافد الفكر الاوربي والحضارة الغربية والتمدن الاوربي الحديث في العالم . فضلا عن بعض المؤلفات الاجنبية التي ترجمت للتركية والمطبوعات الادبية والعلمية والفكرية التي وان كانت قد ساهمت في تنوير المفاهيم العقلية والاصلاحية من جانب ، الا انها – من جانب اخر - قد ساهمت ايضا في ترسيخ وتاصيل الميول والمفاهيم العثمانية في عقلية اولئك المتعلمين , والانبهار بالترك وثقافتهم والاعجاب بتاريخهم والتكلم بلغتهم , لم يستطيعوا التخلص منها حتى بعد انهيار الدولة العثمانية وقيام الدولة العراقية . ونجد هذا ظاهرا عند الزهاوي(1863- 1936) والرصافي (1875-1945) ومحمود شكري الالوسي (1856- 1924) وعباس العزاوي (1890-1971) واحمد عزة الاعظمي (1881-1936) وعلي جودت الايوبي (1886-1969) وناجي السويدي (1882-1942) وغيرهم .
الثاني : النهضة الفكرية في بلاد الشام ومصر : كانت بلاد الشام تشكل النغمة الاساسية في التنوير والنهضة الفكرية والثقافية في المشرق العربي . وهذا يرجع لاسباب عدة اهمها التركيبة السكانية التي يغلب عليها الطابع المسيحي والقرب من اوربا والعلاقات التجارية والدينية معها , والادارة الذاتية في لبنان وبعض المتصرفيات وغيرها . وقد تزايدت تلك النهضة بقوة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى وصف احمد عزة الاعظمي بيروت في كتابه (القضية العربية) بانها (دماغ الوطن العربي المفكر) .وكان لتاثير النهضة الفكرية في بلاد الشام ومصر الدور الابرز في تنوير الفئه المتعلمة في العراق وظهور الانتلجنسيا العراقية ,على اعتبار ان الرافد العثماني في التحديث والثقافة كان يخضع الى عملية رقابة واصطفاء للموضوعات السياسية والفكرية التي تنشر في اسطنبول او في العراق , فيما كانت الرقابة في بلاد الشام ومصر اقل من ذلك بحكم الاستقلالية النسبية التي كانت تتمتع بها عن سلطة الباب العالي , واتخذ هذا التاثير مسارات عدة اهمها المراسلات الادبية والفكرية بين الاوساط الثقافية العراقية والمثقفين الشاميين التي تناولت شتى المجالات المعرفية والعلمية . كما كان لوصول المطبوعات والمؤلفات التاريخية والادبية والدينية والعصرية من بلاد الشام دورا كبيرا في بلورة الوعي الثقافي والعلمي في المجتمع العراقي , فضلا عن الصحف والمجلات التي كانت تصدر هنالك وتصل للبلاد بطرق متعدده كالمقتطف والجنان والبشير والمشرق والاقبال والاعتدال والجنة وغيرها , التي كان لها الدور الابرز في تعريف الانتلجنسيا العراقية بالمذاهب الفكرية والعلمية الحديثة كالدارونية والاشتراكية والديمقراطية . فقد حملت مجلة (الجنان) التي اصدرها بطرس البستاني شعار (حب الوطن من الايمان) الامر الذي شكل سابقة وتقدما في الوعي العلماني والسياسي , على اعتبار ان الرابطة السائدة انذاك في المجتمعات العربية والاسلامية هى الرابطة الدينية ,وليس الوطنية . كما حملت مجلة (الجنان) افكار الثورة الفرنسية العلمانية الى الانتلجنسيا العراقية ,وتناولت موضوعات المساواة والحرية والجمهورية والملكية وغيرها . فيما كان الدور الابرز لنشر الافكار العلمانية يعود لمجلة (المقتطف) التي اصدرها يعقوب صروف (1852- 1927) في بادىء الامر في بيروت عام 1876 ثم انتقلت لمصر عام 1884 . فمن خلالها عرف العراقيون نظرية التطور لدارون من خلال مقال نشره شبلي شميل في هذه المجلة وانتشر في ارجاء البلاد , حتى ان احد علماء النجف كتب ردا عليها ارسله للكاتب شميل طالبه بالتخلي عن الاراء , فيما ايد هذه النظرية ودعمها بقوة الشاعر الزهاوي التي اعجب بها قائلا (المذهب القوي في رايي هو مذهب دارون في النشوء والارتقاء وقد تبعته ولم يتبعه في العراق احد قبلي , وقد شاع فيه بسببي). واما النهضة الفكرية في مصر فقد كان لها تاثير كبير على النخبة المثقفة في العراق سواء اكان في المجال السياسي او الادبي والعمراني , وكان التاثير البارز من مصر هو الصحف والمجلات التي كانت تصدر هناك وتاتي للعراق من خلال طرق متعددة بعضها علني والاخر سري . فقد استمر وصول مجلة (المقتطف) بعد انتقالها الى القاهرة , وكتب فيها الزهاوي مقالا بعنوان (التولد الذاتي) مؤيدا فيه نظرية دارون في تطور الكائنات الحية حتى وصفها الزهاوي بانها (احب المجلات اليه في الشرق العربي) . كما كان للمجلات المصرية الاخرى دور في تنوير الافكار ونشر المفاهيم العلمانية عند الانتلجنسيا العراقية واهمها الهلال والبيان والضياء والاداب والمقتبس والمشير والمؤيد وغيرها , حتى ان المصلح محمد علي الحسيني المعروف بهبة الدين الشهرستاني (1884-1967) اكد دورها بالقول (كنا نقف على كثير من الحقائق التي اخفيت علينا) . وكذا الامر مع الشيخ علي الشرقي (1892-1964) الذي اثبت دور المجلات والصحف المصرية التي تصل الى مدينة النجف في بلورة الوعي السياسي والحقوق الوطنية والاستقلال عند الاوساط الثقافية العراقية . وقد اشار الى انبهار العراقيون بالشاميون انذاك توفيق السويدي (1892-1968) ابان التحاقه بجمعية المتندى الادبي في اسطنبول عام 1908 بقوله (كانت حالنا نحن العراقيون مع السوريين اشبه بابن السودان عندما يجتمع بمصري . فثقافة السوري العامة كانت تبرز للعيان فتستولي على لب العراقي , وتجعله في وضع اخفض فيما يتعلق بالتاريخ العربي والادب والشعر والامثال والتصوير الفكري والاهداف العربية) .
لم تتبلور العلمانية في العراق التي اكتملت ملامحها العامة بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 دفعة واحدة , وانما اتخذت ثلاث مسارات متفاوتة في الاسبقية ومتباينة في الفاعلية وهى :
اولا : العلمانية الفكرية والثقافية :
ثانيا : العلمانية السياسية :
ثالثا : العلمانية الاجتماعية :
اولا : العلمانية الفكرية والثقافية : تاثر العراقيون بالعلمانية الفكرية والثقافية قبل العلمانية السياسية , بسبب الحجر الذي كانت تفرضه الدولة العثمانية التي كانت تحتل العراق اولا وفاعلية الروافد الثقافية التي كانت تاتي من بلاد الشام ومصر واهمها الصحف والمجلات والمؤلفات ثانيا . وقد تفاعلت الانتلجنسيا العراقية التي تبلورة ملامحها الاولى في الربع الاخير من القرن التاسع عشر مع المفاهيم العلمانية الوافدة والنزعة العقلانية بصورة كبيرة جدا , وتاثرت بالنظريات العلمية الحديثة حتى وصلت ربما الى درجة التطابق والتقليد الاعمى , واخذت تروج لها في الصحف والمجلات بين العامة من الناس الذين استقبلوها برفض شديد واستهزاء ظاهر , لانها تخالف الثوابت الفكرية والدينية التي يحملونها منذ قرون طويلة . كما انها واجهت الرفض والاحتجاج من قبل رجال الدين والنخبة المثقفة التقليدية التي كانت ترفض تلك التوجهات العلمانية والعصرية وافكارها التحديثية من خلال المقاومة الرمزية والكتابة والتحريض . وقد اكدت مجلة (المقتطف) العلمانية عام 1881 رغبة النخبة في بغداد بالاكثار من الافكار العقلية بقولها (من بغداد والقاهرة وغيرها , ان كثيرين من مشتركي المقتطف يحبون ان تدرجوا مقالات في الفلسفة العقلية والادبية فنرجوكم لاتبخلوا بذلك) , وهو ما اعترف به الرصافي نفسه عندما اكد انه والزهاوي تخرجا من مدرسة واحدة , وان الاخير تاثر بالعلوم العصرية من المجلات واهمها المقتطف . واما الشاعر الزهاوي فقد اصدر سنة 1905 كتاب (الفجر الصادق) ردا على الوهابية والسلفية وافكارها التكفيرية والمتطرفة , مؤكدا على ضرورة استخدام العقل للبرهنة على وجود الله بالقول (ان التعاليم المنقولة عن الله لايمكن قبولها كشىء مقدس الا باستخدام العقل) . واما الرصافي من جانبه فقد اكد توجهه العلماني في الاديان مؤكد بشريتها , وانها وضعية ابتدعها الناس العقلاء وليس الوحي . وكلا الشاعرين اعلنا صراحة شكوكهما بخصوص بعض المعتقدات الدينية الاساسية كالقيامة وخلود الروح , وطالبا باسلاما خاليا من كل مايتعارض مع العلم الحديث والعقل . واما السيد هبة الدين الشهرستاني فقد تصدى للخرافات الرائجة عند العامة ورجال الدين التقليديين من خلال المحاضرات التي كان يلقيها بالنجف , مؤكدا ان جوهر الدين لايتعارض مع النظرة العلمية الحديثة في تفسير ظواهر الحياة والوجود . وقد سخر من الاحاديث والمقولات غير العقلانية في الدين الاسلامي منها الحديث الرائج حول ان الارض ترتكز على قرن ثور . وقد ادرج الكثير من اراءه التنويرية في مجلة (العلم) الشهرية التي اصدرها في النجف عام 1910 وهى اول مجلة علمانية في العراق لم تسبقها احد بالصدور , بل هى اول مجلة ثقافية عامة في العراق لم يسبقها الا مجلة (الاكليل الورود) المسيحية الدينية التي صدرت في الموصل عام 1902 من قبل الاباء الدومنيكان باللغات العربية والفرنسية والارامية . وقد اعلنت مجلة العلم عن نفسها بانها (مجلة شهرية دينية فلسفية سياسية علمية صناعية) . وذكر الاستاذ فائق بطي (1935-2016) في كتابه (صحافة العراق): (ان مجلة العلم قد عدها النقاد والشعراء انذاك من ارقي المجلات العلمية والفلسفية). وطرز اعداد المجلة السيد الشهرستاني ببيتين من الشعر هما :
العلم انفس شيء أنت ذاخره
ومن يدرس العلم لم تدرس مفاخره
اقبل على العلم واستقبل مباحثه
فأول العلم اقبال وآخره
كما نشر الشهرستاني كتاب (الهيئة والاسلام)عام 1912 الذي اراد به اكمال مشروعه التوفيقي بين الاسلام والعلم وعدم التعارض بينهما , الامر الذي جلب له نقمة المحافظين من رجال الدين والمتعصبين منهم . وقد امتدح جراته وريادته الاب الكرملي (1866-1947) بقوله ( لايطرق الا المواضيع التي لايعالجها غيره , فهو صاحب المبتكرات في كل مايدون ويكتب) . الا ان القضية التي اثارت الراي العام والمتزمتين من رجال الدين وغيرهم هو تحريم الشهرستاني عام 1911 لنقل الجنائز ودفنها في النجف او كربلاء , بالاستناد الى حجج وادلة دينية وصحية , والتي بداها الايرانيون في القرن الثامن عشر وقلدهم بها العراقيون في القرن التاسع عشر . فقد تعرض خلالها الى التهديد والهجوم والتكفير اضطره بعدها الى الهجرة الى الهند والاستقرار هناك فترة عامين . كما سجل الشهرستاني موقفا اصلاحيا مهما اخر بتحريم العادات المتطرفة التي يقوم بها العوام من الشيعة في شهر محرم وعاشوراء من قبيل ضرب الرؤوس بالسيوف والبدن بالسلاسل وغيرها . الامر الذي يجعله من الرواد الاوائل في طرح هذه القضية ونقدها , تابعه بعدها تقريبا بعقدين السيد محسن الامين العاملي (1865-1952) في بلاد الشام .
وكان الانبهار بالعلوم والمكتشفات الحديثة والترويج لها عند العامة سمة ظاهرة عند الانتلجنسيا العراقية , فقد نشر كاظم الدجيلي (1884- 1970) قصيدة عام 1911 احتفاء باكتشاف المحرك البخاري الذي اعتبر ثورة في العالم الحديث مطلعها :
يازمان البخار شكرا لك اليوم شكرا لعصرك المسعود
يازمان البخار عصرك اليوم عصر التهليل والتمجيد
واما قضية حرية المراة والدعوة لنزع الحجاب والمساواة وتعليم البنات وغيرها , فقد خذت جانبا مهما عند العلمانيين العراقيين , وكانت اشهرها المقال الذي كتبه الشاعر الزهاوي بمجلة (المؤيد) المصرية عام 1910 الذي تعرض بسببه الى الفصل من وظيفته كمدرس في كلية الحقوق والتهديد بالقتل من قبل المتزمتين والعامة من الناس , الامر الذي جعله يعتكف في بيته فترة طويلة من الزمن والتبرء من المقال , حتى ان المجلة نفسها تعاطفت معه واعلنت ان المقال ليس بخط الزهاوي .
كما كان للاب انستانس ماري الكرملي دورا كبيرا في نشر المقاهيم العلمانية والاصلاحية والمعرفة الادبية والتاريخية في مجلة (لغة العرب) التي اصدرها عام 1911 واستمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الاولى . وبعد الاحتلال البريطاني للعراق اصدر الاب الكرملي جريدة (العرب) بالتعاون مع المستر فيلبي احد كبار موظفي الانكليز . وهدف الجريدة هو التواصل مع العراقيين العرب والترويج للسياسة البريطانية و(نشر اراء العرب وتعميم علومهم وادابهم وترقية شؤونهم وعمرانهم) - حسب راي الجريدة - وقد سعى الكرملي الى التبشير بالعصر العراقي - البريطاني الحديث , وازلة الرواسب العثمانية في اذهان المسلمين العراقيين , حتى انه اول من اطلق تسمية (العصور المظلمة) على الازمنة التي اعقبت سقوط بغداد على ايدي المغول عام 1256 , وهى طبعا اشارة غير مباشرة للعهد العثماني المتخلف . الامر الذي جعل الحكومة البريطانية ان تمنحه وسام الخدمة البريطانية عام 1920 تقديرا لمواقفه من الثقافة العراقية والتقارب مع الانكليز .
ثانيا : العلمانية السياسية : ونعني بها فصل الدين عن الدولة والترويج للقيم الليبرالية السائدة انذاك في اوربا , من قبيل الدولة المدنية والدستورية والانتخابات والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية . وتبلورة العلمانية السياسية في العراق من خلال حدثين بارزين هما :
1 . المشروطية الايرانية عام 1906 : وهى حركة المطالبة بالدستور في ايران التي تاثر بها العراقيون بسبب التقارب الجغرافي والمذهبي والديني . والمشروطية تعني اصطلاحا (الدستورية) أي المطالبة بالملكية الدستورية في مقابل الملكية المطلقة السائدة انذاك , وهى فكرة علمانية انتقلت للعرب والمسلمين من الغرب . وحركة المطالبة بالدستور التي ظهرت في تركيا وايران سميت بهذا الاسم لان القائمين بها اعتبروا مواد الدستور بمثابة (الشروط) التي يتقيد بها الملك في حكم رعيته ، وهذه الفكرة مستمدة من نظرية (العقد الاجتماعي) التي شاعت في اوربا بعد قيام الثورة الفرنسية , ومنها وفدت الى تركيا وايران . وان المشروطية والحركة الدستورية ظهرت في تركيا في بداية حكم السلطان عبد الحميد الثاني(1842-1918) بفضل مدحت باشا عام 1876 وقبل ظهورها في ايران بثلاثين عاما , بسبب الموقع الجغرافي لتركيا القريب او الملاصق لاوربا وشدة تأثرها بالحضارة الغربية وقيامها بالاصلاحات في وقت مبكر , بالقياس الى ايران التي بدأت الاصلاحات بها وعمليات التحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
في البدء يجب الاقرار بحقيقة محددة وهي ان فكرة الدستور والحكم الدستوري هي من نتاج الحضارة الغربية الحديثة والقيم الليبرالية التي نادت بها . وقد اعترف المنظرون الاسلاميون بان فكرة المشروطية (الدستورية) قد وفدت الينا من الخارج. لان النظام السياسي في الاسلام كان يتبنى فكرة الحق الالهي في الحكم الرائجة في العصور الوسطى وليس ولاية الامه على نفسها. وقد تبنى المصلحون والمجددون الاسلاميون فكرة (الدستورية) بعد ان وجدوا فيها ركيزة اساسية في تقييد سلطات الملك او الحاكم ومنع الاستبداد والحكم الفردي والتأكيد على الحريات العامة والديمقراطية والتعددية السياسية, وبالتالي فان حركة التحديث التي حصلت في ايران من خلال الاطلاع على ثقافة وحضارة الغرب الدور الاساس في تراكم الوعي السياسي والمطالبة بالدستور والنظام الديمقراطي والتي وصلت قمتها في نهاية القرن التاسع عشر ، ولاسيما بعد اتساع النفوذ البريطاني الذي كان يشجع المشروطية والمشاركة السياسية ورفض الحكم الفردي.
وبالتزامن مع الصراع السياسي والفكري بين دعاة المشروطية في ايران وبين دعاة الاستبداد، حصل ايضا صراع وجدل عقائدي وديني في العراق حول هذه القضية بحكم التقارب المذهبي والجغرافي. فكما ان لدعاة المشروطية مؤيدين ينظرون الى شرعية وجوب الدستور والشورى، كان لدعاة الاستبداد ايضا علماء دين اشاروا ايضا الى وجوب الاستبداد والحكم المطلق والفردي، وكان ابرزهم في ذلك الشيخ اية الله فضل الله النوري (1843-1909) , الذي فسر الحياة الدستورية على انها ضد الشريعة الاسلامية، وهو بالتالي يكون ضد الانتخابات وما تأتي به اغلبية الاصوات من نواب يمثلون الشعب , مؤكدا ان الاعتماد على فكرة الاكثرية خطأ كبير (فما معنى تدوين القانون؟ قانونا نحن المسلمين هو الاسلام، وليس سواه... ان اسباب حرمة النظام الدستوري ، وتناقضه مع الاحكام الاسلامية والنهج النبوي كثيرة ... كل بدعة ضلالة...) . ونشط اصحاب المشروطية بالنجف في بداية الامر بشكل سري خشية سطوة اصحاب المستبدة وتحريك العوام ضدهم ، وكانوا يستغلون سراديب النجف في عقد اجتماعاتهم وكقواعد لتحركاتهم، وكان من اهم الشخصيات المؤيدة للمشروطية (هبة الدين الشهرستاني ومحمد رضا الشبيبي (1889-1965) واحمد الصافي (1897-1977) وعبد الكريم الجزائري (1972-1962) وهادي كاشف الغطاء (1872- 1929) وعلي الشرقي ومحسن الامين )، واخذ الصراع يتطور بسرعة بين الفريقين ، وصبحت الكفة تميل لصالح جماعة المستبدة , لسهولة فهم اراءهم من قبل العامة ، فضلا عن ذلك ان ثقل المرجعية كان ضمن حوزة كاظم اليزدي (1831-1919) الذي اخذ يوزع الاموال ويكسب الاتباع واصحاب السطوة من زعماء المحلات بفضل مساعدة القنصل الروسي الذي كان يدعم المستبدة .
ان نظرة سريعة على اسماء اصحاب المشروطية ودعاة الدستور نجد انهم ينقسمون الى صنفين :
الاول : وهم من كبار المراجع ورجال الدين . وتتميز دعوة هؤلاء للمشروطية بانها ارتكزت على الموروث الشيعي الذي ينادي بالعدالة والحرية والاصلاح , وليس تاثرا بالتوجهات العلمانية الوافدة . واهم من يمثل هذا الصنف المرجع محمد كاظم الخرساني (1839-1911) والمرجع عبد الله المازنراني (1836-1910) . وقد اكد هذه الريادة بالاصلاح والتجديد الدكتور وميض جمال عمر نظمي بالقول (ان بعض الشيعة العراقيين هم اول من تقبل ودافع عن الافكار الداعية الى التجديد .. لذلك فان استجابتهم للافكار الاصلاحية.. تلقائية) .
الثاني : وهم الشيوخ ورجال الدين الشباب الذين ايدوا المشروطية تاثرا بالتوجهات العلمانية والدستورية والافكار العصرية الحديثة الوافدة من اوربا , وابرزهم هبة الدين الشهرستاني وعلي الشرقي ومحمد رضا الشبيبي وغيرهم . .
كان من نتائج الصراع الفكري والعقائدي في العراق بن اتباع الدستور والمشروطية من جهة وبين اتباع الحكم المطلق والمستبدة من جهة اخرى هو تأليف ونشر كتاب (تنبيه الامة وتنزيه الملة) للشيخ محمد حسين النائيني (1860-1936) عام 1909، الذي عدَّ المنظر للمشروطية والمفكر الرئيسي للحركة الدستورية، ليس بمعنى الايجاد والابداع فحسب وانما التاسيس على ركائز فكرية وعصرية ، وهو بمثابة كتاب (في العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو او بمنزلة (البيان الشيوعي) بالنسبة للحركة الاشتراكية، فكل ما كتب في تاييد الحركة المشروطية لا يتجاوز ما ورد في هذا الكتاب . لقد كان للشيخ النائيني الدور البارز في الحركة الدستورية التي بدأت في مطلع القرن العشرين, سواء اكان من خلال الدعم والتاييد السياسي او من خلال التنظير الفكري والعقائدي, حتى وصفه احد الباحثين المعاصرين بـ (لوثر الاسلام الشيعي العظيم) . ويقال ان جذور تاثير الشيخ النائيني بالحركة الدستورية ترجع الى لقائه السابق مع المصلح جمال الدين الافغاني (1838-1897) ابان دراسته في اصفهان عندما كان في العشرينيات من عمره .
لقد اسست الحركة الدستورية المشروطية في ايران بين عامي 1906-1911 الى مفاهيم علمانية وغريبة عن المجتمع العراقي وقيمه التقليديه انذاك , واهمها: جواز الثورة على السلطان الجائر ,او امكانية عزله او في احسن الاحوال مراقبته والحد من تصرفاته واستبداده , من خلال مجلس شورى منتخب من الاهالي , ياخذ على عاتقه النظر في امور ومصالح الناس اولا, وكبح جماح السلطه التي تنزع دائما نحو التمدد والهيمنه والاستئثار ثانيا . وعرفت الانتلجنسيا العراقية من خلال هذه المشروطية على مصطلحات ومفاهيم لم تكن انذاك رائجه في نظامها المعرفي, كالشورى ومجلس النواب والحكم الدستوري وغيرها، وهي مفاهيم واراء لم تكن شائعة في ذلك الزمان, اسست بالتالي او مهدت لتفاعل اكثر ايجابية مع الثورة الاتحادية في الدولة العثمانية عام 1908 .
2 . المشروطية العثمانية عام 1908 : تعد ثورة الاتحاديين ضد الحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد الثاني عام 1908 التي قامت بها جمعية الاتحاد والترقي واعلان المشروطية (الدستورية) التركية من اهم المنابع والروافد التي اسست وعززت القيم العلمانية والمظاهر الليبرالية في المجتمع العراقي. فقد استيقظ اهالي بغداد يوم 24 نيسان 1908 ووجدوا اعلاما كتب عليها باللغة التركية (حريت ، عدالت ، مساوات ، اخوت) وهي الاهداف التي رفعتها الثورة الفرنسية عام 1798 واعلن للناس بان السلطان عبد الحميد الثاني قد اعاد العمل بالدستور الاول عام 1876 ، فيما ابتهج بهذا الحدث التاريخي فئتين من العراقيين : الاولى ، طبقة المتعلمين والمثقفين الذين كانوا متعاطفين بالسر والمؤيدين لجمعية الاتحاد والترقي , ومعظمهم من الموظفين ذوي الاصول التركية الذين اطلق عليهم الدكتور علي الوردي اصطلاح (الافندية). والثانية ، اتباع المشروطية ودعاتها في النجف وكربلاء وبغداد بزعامة محمد كاظم الخرساني والذين كانوا يمثلون الاقلية في المجتمع العراقي ، لان العامة واغلبية الناس اخذت تميل الى دعاة الاستبداد , على اعتبار ان القيم الليبرالية والمعاني التحررية التي يطالب بها دعاة المشروطية كالدستورية والتعددية والديمقراطية والبرلمان غير متوافقة مع نظامهم المعرفي البسيط القائم على القبيلة والدين والطائفة. وكان من نتائج الانقلاب العثماني عام 1908 حصول ثلاث ممارسات رئيسية تتميز بالعلمانية والليبرالية وهى : تاسيس الاحزاب والجمعيات السياسية والنوادي الادبية والثقافية وحرية الصحافة وانتشارها وانتخابات مجلس النواب العثماني المعروف باسم المبعوثان .
وقد نظر الكثيرون للدستور والحرية والعدالة من العراقيين بعد ثورة الاتحاديين عام 1908 اعلان الدستور العثماني وعزل السلطان عبد الحميد الثاني , مستغلين حالة الانفتاح والانفراج بعد سقوط الاستبداد ابرزهم الدكتور سليمان غزالة (1854- 1929) الذي لقب برائد المفكرين العراقيين معتبرا اعلان الحركة الدستورية او المشروطية بداية الخلاص ( وبزوغ شمس العدالة وازهاق ظلمات المظالم بهولها والاستبداد وخفقان راية الامن والسلام باقاصي البلاد وبنهضة العقول من سبات الغفلة) لانها ( وضعت اركان الشورى والمشروطية على دعائم الاخوة والمساواة والحرية) .
ثالثا : العلمانية الاجتماعية : ونعني بها السلوكيات والتصرفات الاجتماعية الانفتاحية التي يقوم بها البعض من الافراد دون خوف او حرج من الدولة والمجتمع , من قبيل شرب الخمر وفتح الملاهي وانتشار دور البغاء واقامة حفلات الغناء والرقص واقامة المسارح ودور السنما والتحرر من بعض القيم الدينية والاعراف الاجتماعية . وقد تبلورة العلمانية الاجتماعية في العراق بعد ثورة الاتحاديين التي قامت بها جمعية الاتحاد والترقي عام 1908 . وقد صور لنا ذلك الدكتور علي الوردي في كتابه اللمحات (الجزء الثالث) بقوله (عندما اعلن الدستور في عام 1908 واطلقت الحرية للناس استورد مقهى يسمى ب(مقهى سبع) من حلب راقصة حسناء اسمها (رحلو) وصارت هذه الحسناء ترقص عصر كل يوم في المقهى فتخلب بغنجها الابصار وتسبى القلوب ....... كما اتى حسن صفو صاحب المقهى المعروف ب(قهوة الشط) بمغنية اسمها (طيرة المصرية) والتي سبق لها ان وفدت الى الشيخ خزعل امير المحمرة وغنت له اغنية سيد درويش المشهورة (زوروني بالسنة مرة) , وقد اكدت صحيفة (الرقيب) ان عدد مرتادي المقهى بفضل طيرة المصرية وصل الى (700) شخص ..... وقد شاع في بلاد الشام وتركيا ان الراقصة التي تذهب الى العراق تجني ذهبا , فاخذت الراقصات يفدن الى بغداد بتهافت عجيب) . الامر الذي جعل عبد الرحمن البنا (1884-1958) الى التهكم بالقول (ان المدارس تبدلت بالملاهي) . كما عملت بلدية بغداد عام 1913 على افتتاح مسرح حديث للرقص والغناء ترفيها لاهل بغداد قرب مجمع كليات باب المعظم حاليا , عملت فيه المغنية (بديعة لاطي) واختها (خانم لاطي) . كما افتتحت اول دار للسينما في بغداد عام 1909 في الميدان . وقد صور ظاهرة انتشار الملاهي خلال تلك الفترة في بغداد الشاعر الرصافي بقوله :
أرى بغداد تسبح في الملاهي وتعبث بالاوامر والنواهي
ايا بغداد ان الامر جد فخلي بعض هزلك في الملاهي
دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى (1914-1918) ضد دول الحلفاء , (دول الوفاق الثلاثي بريطانيا وفرنسا وروسيا) واستغلت الرابطة الاسلامية لصالحها واعلنت الجهاد ضد الانكليز والفرنسيين من اجل استمالة المسلمين والتحضن معهم . وفي الوقت الذي انضم الكثير من رجال الدين - وخاصة من الشيعة في العراق - لحركة الجهاد , اتخذ رجال الدين السنة الحياد في هذه الحرب لعلمهم بحتمية انهيار الدولة العثمانية واستحالة صمودها امام الانكليز والفرنسيين , حتى ان الحكومة العثمانية عندما ارسلت وفدا برئاسة محمود شكري الالوسي لاقناع عبد العزيز ال سعود (1876-1953) بالانضمام اليها للجهاد ضد بريطانيا , عمل الالوسي على اقناع ابن سعود بالوقوف على الحياد . لكن هناك موقفا ثالثا برز في هذه الحرب وهو موقف العلمانيين العراقيين الذين وقفوا ضد المغامرة التي قامت بها الدولة العثمانية واستغلال العاطفة الدينية والرابطة الاسلامية , فقد هاجم الشاعر الكردي الضرير ملا حمدون (1853-1918) الدولة العثمانية بسبب موقفها من الحرب بالقول (الجندرمة تتجول كالكلاب الجائعة بحثا عن جثث الشعب , مستترة , محتالة تحت جلباب الجهاد) . ويبدو ن الحكومة العثمانية قد شعرت بموقف المثقفين العلمانيين من تلك الحرب فقامت بالقاء القبض على الكثير منهم ونفيهم امثال الاب الكرملي وعبد الحسين الازري ورزوق غنام وداوود صليوه وعبد اللطيف ثنيان وابراهيم صالح شكر وعبد اللطيف الفلاحي . وبعد ان اعلن الشريف حسين بن علي في الحجاز ثورته ضد العثمانيين بالتعاون والتنسيق مع الانكليز عام 1916 ايدها الكثير من المثقفين العلمانيين العراقيين , واصبح الشريف حسين (1853-1931) (ملك العرب في الحجاز الذي رفع راية الاستقلال والحرية) . وقد تصاعد التاييد بقوة بعد احتلال الانكليز بغداد عام 1917 والسيطرة عليها وتلاشي الحكم العثماني , حتى ان الكثير من المثقفين التحقوا بها , فيما عزم اخرون مثل الكرملي ومحمد مهدي البصير (1895-1974) على الاتصال بها من خلال رسائل وجهت للادارة البريطانية .
وبعد الاحتلال البريطاني للعراق والسيطرة على بغداد عام 1917 انضم الكثير من المثقفين العلمانيين والكتاب للادارة الانكليزية ودعم سلطة الاحتلال بعد الاصلاحات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية التي قامت بها . كما ان الدول الغربية – وخاصة بريطانيا وفرنسا - قد شكلت نوعا من الاقتداء والانبهار والاعجاب عند الانتلجنسيا العراقية العصرية , فهم منارة التنوير والحداثة والتقدم , بل والعلم والتطور والحرية . وقد اصدر الانكليز في العراق العديد من الصحف التي تروج لسياستهم واعمالهم منها جريدة (الاوقات البصرية) وجريدة (العرب) ومجلة (دار السلام) في بغداد والتي اشرف عليها الاب الكرملي , الذي كان وسيطا بين الانكليز والمثقفين العراقيين حتى انه اعد قائمة باسماء الاشخاص الذين يمكن للانكليز الاستفادة منهم بعد الحرب ضمت (300) صفحة. وقد اراد البعض القول ان الخوف هو من جعل هؤلاء الكتاب ان يتعاونوا مع الانكليز , فيما اكد محمد مهدي البصير (انهم طلاب شهرة اولا ومال ثانيا) . وقد اكدت المصادر حصول مراسلات بين المندوب السامي على العراق برسي كوكس (1864-1937) ومحمود شكري الالوسي بتوسط الاب الكرملي اعجب فيها الاخير بشخصية الاول ,حصل خلالها على منصب قضاء بغداد . كما اعجب الالوسي بالمس بيل (1868-1926) وبادلها الاحترام والتقدير حتى انه وصفها (بالام البرة الشفيقة على ابناء جنسها ) ولانستبعد ان يكون بعض المثقفين والادباء قد حاول الاتصال بالحكام الانكليز رغبة بنيل الحقوق وحيازة سبل التقدم والحرية وتاسيس النظام السياسي المرتجى الذي يقوم على الديمقراطية والدستور , سيما وان بعضهم عرف بالاصلاح والثقافة امثال وهبة الدين الشهرستاني وعلي الشرقي ومحمد رضا الشبيبي وعبد الحسين الازري , فيما ادرج اخرون انفسهم ضمن الادارة الانكليزية والمؤسسات الحكومية التي شكلوها امثال كاظم الدجيلي وسليمان فيضي (1885-1951) ومزاحم الباجه جي (1891-1982) ومحمود احمد السيد وخيري الهنداوي والزهاوي وسليم حسون واحمد عزمي وشكري الفضلي وسلمان الشيخ داوود ورشيد الهاشمي وغيرهم . وقد ذكر الدكتور عبد الرزاق النصيري في كتابه (دور المجددين في الحركة الفكرية والسياسية في العراق) ان سلطات الاحتلال البريطاني عملت على اصدار جريدة (الموصل) اسهم فيها مثقفون وكتاب امثال سليمان الصائغ وسليم حسون وفاضل الصيدلي وعلي الجميل الجبوري , وقد توسع عمل الانكليز واصدروا مجلة (النادي العلمي) في كانون الثاني عام 1919 للترويج لسياستهم واعمالهم اشرف على ادارتها علي الجميل ايضا . وبما ان علي الجميل هو جد الدكتور سيار الجميل فان الاخير لم يتطرق الى قضية التعاون بين الانكليز وجده الجميل عند الكتابة عن تاريخ اسرته في موقعه على الانترنت , بل ان الكاتب جاسم المطير ذهب بعيدا في مجاملة الدكتور سيار الجميل وتزييف التاريخ عندما اعتبر الصحيفة وجده علي الجميل كانوا ضد الاحتلال البريطاني !!!
خلال تلك المرحلة الزمنية التي سبقت ثورة العشرين حصلت العديد من الاحداث التي تفاعلت معها النخبة المثقفة العلمانية بايجابية واستلهمت افكارها من اجل التغيير السياسي والاجتماعي في العراق اهمها :
1 . الثورة البلشفية الاشتراكية في روسيا عام 1917 .: تعرف المثقفون العراقيون العلمانيون على الثورة البلشفية من الصحف التي كانت تنقل اخبارها انذاك , والمفارقة ان الصحف التي ذكرتها هى الصحف التي اصدرها الانكليز مثل (الاوقات البصرية والعرب) من اجل تشويه الثورة والنيل منها , الا انها روجت لها من حيث لاتعلم . فقد اكدت صحيفة (العرب) (ان المبدا الاشتراكي شرع بسحر النفوس بمواعيده الذهبية وهذا مقدار يكفي للمذهب سواء كان فجر تلك المواعيد صادقا ام كاذبا) . كما نشر احد المثقفين مقالا في صحيفة (العرب) ايضا قارن فيه بين صدى الثورة الفرنسية وتاثير الثورة البلشفية من حيث سعة الانتشار في اوربا . فيما اكد ولسن (ان اسم البلشفية وتعاليمها اصبح معروفا للناس لسوء الحظ) . والثورة البلشفية هى من كان لها الدور الابرز في نشر المفاهيم والاشتراكية والتصورات الماركسية في العراق بصورة عامة , ومن ثم بلورة الحلقات الشيوعية لاحقا . وكان من ضمن اهم اسباب اعجاب المثقفين بالثورة البلشفية والترويج لها هو نكاية بالانكليز والتحريض عليهم للمطالبة بالحقوق والاستقلال وغيرها . وهو شبيه بالامر الذي حصل اثناء الحرب العالمية الثانية عندما اعجب اغلبية المثقفين العراقيين بالنازية والفاشية وبشخصية هتلر وموسوليني . وقد انعكست الثورة البلشفية على اراء وافكار الكثير من الكتاب والمثقفين العراقيين ابرزهم الكاتب العلماني المعروف خلال تلك الفترة محمد عبد الحسين (1899-1952) الذي تحدث عن الاشتراكية وروادها في القرن الثامن عشر من امثال اوين وسان سيمون وفورييه , واعلن صراحة اعجابه بها لان مفكروها (يبثون فكرة المساواة) . فيما اظهر عبد الرزاق عدوة النجفي (1896-1979) اعجابه بمفكري الاشتراكية حتى قيل بانه ربما يعد اول عراقي استخدم مصطلح الاشتراكية العلمية في كتاباته .
2 . التصريح الانكليزي – الفرنسي عام 1918 : تضمن التصريح البريطاني – الفرنسي تاثيرا واضحا على الانتلجنسيا العراقية العلمانية , لانه اعطى وعدا بتحرير الشعوب التي رزحت تحت السيطرة العثمانية تحريرا تاما . وقد اكدت المس بيل (ان التصريح احدث غليانا في بغداد) واصبح الاساس الذي استند عليه الوطنيين والمثقفون العراقيين في مطالباتهم بدولة مستقلة , الا ان مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 سرعان مالغى مقررات التصريح .
3 . بنود الرئيس الامريكي ولسن (1856-1924) الاربعة عشر عام 1919 : فقد تماهى المثقفون العلمانيون العراقيون باعلان الرئيس الامريكي لبنوده الاربعة عشر , وخاصة البند الخامس المتعلق بتلبية نداء الشعوب المستعمرة والاذعان لرغبتها , حتى وصفه محمد مهدي البصير (برسول الحرية الاكبر) . فيما اعتبر البعض تلك البنود بانها (انجيل القرن العشرين) . واما فرع جمعية العهد بالموصل , فقد طالب بتقديم هدية الى زعيم الانسانية الحرة ويلسن باسم الشبان العراقيين .
واما الموقف من ثورة العشرين , فقد كان للمثقفين العلمانيين الدور الابرز في التحريض عليها. فقد كان لثورة العشرين ثلاث فئات ساهمت فيها , وهى : قيادة الثورة وهم رجال الدين ومراجع الشيعة . السلاح الضارب وهم عشائر الفرات الاوسط والجنوب . والمحرضون عليها وهم الوطنيون العلمانيون الذين اتخذوا من بغداد مقرا لهم . وقد اكد هذا الموقف احد قادة الثورة هو الشيخ شعلان ابو الجون (1888-1941) اثر الرسائل التي بعثها مثقفو بغداد اليه قبيل اندلاع الثورة . فيما بين المؤرخ عبد الرزاق الحسني ان المثقفين كانوا يستحوذون على الراي العام , ولاسيما في المدن الكبيرة - وعلى راسها بغداد - وكان الدور المحوري لذلك التاثير او التحريض على الثورة هو جمعية حرس الاستقلال التي تاسست عام 1919 التي كان المثقفون يشكلون العمود الفقري لها امثال محمد باقر الشبيبي (1889-1960) ومحمد مهدي البصير وعلي البازركان (1887-1958) وبهجت زينل وغيرهم . وقد عملت الجمعية على فتح فروع لها في بعض الالوية , فقد ساهم محمد باقر الشبيبي بفتح فروع لها في كربلاء والنجف والمنتفك , حتى انه استطاع من كسب العديد من رجال الدين المتنورين ورؤساء العشائر ومن ثم الانضمام لجمعية حرس الاستقلال . وقد ادرك البريطانيون دور المثقفين في التحريض على الثورة رغم اعدادهم القليلة . فقد اكد الحاكم العسكري في الشطرة برترام توماس (1892-1950) بانهم (شلة قليلة لاتزيد على 5% من السكان , الا انها مصدر التحرك السياسي) . فيما ذكر الحاكم المدني على العراق ارنولد ويلسن (1884-1940) بين عامي (1918-1920) بانها (قليلة ولكنها فاعلة) . وكان الدور الابرز لعمل المثقفين العراقيين هو اذكاء الوعي السياسي والوطني وتاجيج الحماس الثوري عند الناس وتشويه صورة الانكليز وتضخيم سلبياتهم وافعالهم . كما ساهموا بالعمل ضمن محاور اخرى منها الاتصال بالشريف حسين بن علي في الحجاز من اجل تعيين احد اولاده ملكا على العراق , حيث سافر محمد رضا الشبيبي من النجف الى الحجاز من اجل هذا الغرض . كما حضر بعض المثقفين المؤتمر العراقي الذي عقد دمشق في اذار 1920 لاعلان استقلال العراق منهم رشيد الهاشمي وعبد اللطيف الفلاحي وثابت عبد النور وناجي السويدي وتوفيق السويدي والتحق بهم محمد رضا الشبيبي من الحجاز .
وبعد اعلان مؤتمر سان ريمو في ايطاليا في نيسان 1920 وضع العراق تحت الانتداب البريطاني , دخل المثقفون بدور جديد من التحريض على الثورة والعمل المسلح ضد الانكليز. فقد القى محمد مهدي البصير الذي اعتبر (ميرابو الثورة) قصيدة ثورية ضد الانتداب البريطاني بمناسبة افتتاح المدرسة الحسينية الابتدائية الاهلية في ايار 1920 . وكذا الموقف مع خطابات وتحريضات محمد باقر الحلي وخيري الهنداوي وغيرهم , الامر الذي جعل محمد رضا الشبيبي يؤكد ان المثقفين هم الذين بعثوا (عناصر الثورة) .
بعد اندلاع ثورة العشرين في حزيران 1920 كان الدور الابرز للمثقفين هو الدعاية للثورة وذكر انتصاراتها وتحركاتها العسكرية والتحريض الشامل للمثقفين والعشائر على الانضمام للثورة والمساهمة فيها . وكان اهم تحرك للمثقفين اصدار جريدتي (الفرات والاستقلال) في النجف وبغداد . وقد برز محمد باقر الشبيبي في الكتابة الثورية والسياسية في جريدة الفرات حتى استحق لقب (رئيس الدعاية في الثورة) . واما جريدة الاستقلال التي صدرت في بغداد في تشرين الاول 1920 فلم تكن بمستوى جريدة الفرات الناطقة باسم الثورة , ويبدو ان سبب اعتدالها هو انها صدرت في الايام الاخيرة من الثورة . وكانت مطالب المثقفين العراقيين وخاصة تلك التي ينشرها باقر الشبيبي في جريدة الفرات تؤكد على اقامة الدولة المستقلة او استقلال العراق , وحق تقرير المصير وحاكمية الشعب والدستور , وهى بمجملها مطالب علمانية , لانها لم تحوي أي مطلب بدولة اسلامية او دينية - كما حاول البعض اشاعته - كما وقف المثقفون الثوريون بقوة ضد حكومة عبد الرحمن النقيب التي شكلها المندوب السامي برسي كوكس في تشرين الاول 1920 ووصفوا الوزراء والمستشارين بالخونة والماجورين .
وعلى النقيض من هذا الموقف الثوري والوطني من ثورة العشرين والمشاركة فيها , برز هناك موقف متردد ومهادن من الثورة قام به بعض المثقفين العراقيين , تجلى ذلك بموقف محمود شكري الالوسي الذي لم يكتفي بعدم تاييد الثورة والمشاركة فيها , بل والانغماس بالصراع الطائفي والكتابة عن الاشكالات المذهبية والتحريض ضد الشيعة . وكذا الامر مع العديد من الكتاب والمثقفين الذين لم ينصروا الثورة ويكتبوا عنها امثال ابراهيم صالح شكر وحمدي الباجه جي وعبد اللطيف ثنيان وابراهيم حلمي العمر وعبد اللطيف الفلاحي وفهمي المدرس والرصافي (الذي كان في القدس) والزهاوي وثابت عبد النور . واما مزاحم الباجه جي فقد وصل به الحال ان القى كلمة بمناسبة رحيل ولسن بالقول (اشعر بالاسى حيال كون حماقة قلة من العرب الثائرين ستربك مهمة الامة البريطانية . ان الحركة الحالية ليست عربية , بل هى ممزوجة بعناصر اجنبية . لاتعتبروا الثورة الحالية التي تقوم بها بعض القبائل البدوية ثورة وطنية حقه تنشد الاستقلال) . كما حضر حفلة التوديع سليمان فيضي (الموصلي الاصل)الذي سبق ان قال للمس بيل ( اكثر ما اكرهه هو هذه الوحدة بين الشيعة والسنة . وارى ان غلبة الشيعة كارثية لدرجة انني لااستطيع تصورها) . واما عبد الرحمن النقيب الكيلاني الذي عينه الانكليز رئيسا للوزراء فقد كان اكثر صراحة عندما قال للمس بيل (هؤلاء الشيعة الذين قاوموا الرجل الانكليزي لاشرف لهم او سمعة) , فيما كرس اخرون اقلامهم للنيل من الثورة في مجلة (دار السلام) التي يشرف عليها الاب الكرملي والتهجم عليها .
المصادر التي اعتمدها الكاتب ويمكن الاستفادة منها في هذا الموضوع وغيره (علي الوردي وكتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث وعبد الرزاق النصيري وكتابه دور المجددين في الحركة الفكرية والسياسية في العراق وعامر حسن فياض وكتابه جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث وفاطمة المحسن وكتاب تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث وغيرهم)
الدكتور سلمان الهلالي / الناصرية
#سلمان_رشيد_محمد_الهلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟