خطة مثيرة للاهتمام تلك التى طرحها المفكر العراقى فالح عبد الجبار قبل أسابيع من اجتياح قوات الاحتلال لبغداد، بعنوان "الحملة ضد الحرب جيدة، ولكن ليست جيدة بالقدر الكافى-- “(The Progressive Jan 2003 ولأننى أكنُّ للكاتب تقديراً خاصاً، فقد وضعت على هامشها، لدى القراءة الأولى، وبغرض المراجعة المتمكّثة لاحقاً، بضع ملاحظات مستعجلة انصَبَّ جُلها على استفهامات عديدة حول استنتاجاتها النهائية، وإن اتفقت إجمالاً مع الكثير من معطياتها. ومع تحوُّل الواقع إلى ما يشبه الأسطورة، صباح الأربعاء الماضية 9/4/2003م، "بتبخر" السلطة من بغداد، فجأة، وتقدم الجيوش الغازية لاستكمال احتلالها فى هدوء ويُسْر مريبين، عُدت للخطة أستقطر بناءها العِلمَوىِّ" الفخيم شيئاً من الأمل فى أن تكون على حق مرموق، وأن تتكشف، من ثمَّ، ملاحظاتى المتواضعة عن باطل صراح، ولكن .. هيهات!
الكاتب اليسارى الذى ألجأته ملاحقات الأجهزة الأمنية إلى المنفى الاختيارى منذ أواخر السبعينات، حيث يعيش، حالياً، فى العاصمة البريطانية، ويعمل عضواً باحثاً بمدرسة العلوم السياسية والاجتماعية بكلية بيركبيك بجامعة لندن، روى فى صدر مقالته طرفاً من معاناة الشيوعيين الذين كان، كما قال، ينتمى إليهم، تحت سلطة البعث، والذين لم يتبيَّنوا، على حدِّ تعبيره، إلا متأخراً جداً، وبالتحديد فى اللحظة التاريخية التى اعتبرت فيها أمريكا النظام الشمولى حليفاً يمكن التعويل عليه لصدِّ الأصولية الخمينية أواخر السبعينات، أنهم قد حُوصِروا بين فكين مفترسين، مما اضطرهم لمغادرة البلاد ضمن سيل عَرم من المعارضين اليساريين والليبراليين والشيعة والقوميين الأكراد، حتى بلغ عدد الذين توزعتهم المنافى خلال الفترة (1979م ـ 1999م) نحواً من 3,5 مليوناً خلفوا وراءهم وطناً يسوسه البعثيون بالتعذيب والاغتصاب والقتل، ويزاوج زعيمهم بين النازية والستالينية فى مثاله الأعلى للحكم، جاعلاً، إلى ذلك، من التركيبة العشائرية مؤسسة مفتاحية لدولته الخانقة، ومن عائدات النفط مورداً لتكريس سلطته القمعية، إلى الحد الذى أصبح يشكل فيه مهدِّداً، ليس لشعبه فحسب، بل ولجيرانه وللعالم بأسره.
هنا يبلغ عبد الجبار إحدى نقاطه الجوهرية بقوله: إن ترك" الوحش طليقاً خطأ فادح "سندفع" ثمنه عاجلاً، وليس آجلاً! وبقوله أيضاً: إن الحرب أداة "للسياسة"، ولهذا السبب فإن معارضتها ينبغى ألا تنسينا المسألة السياسية الجوهرية، وهى أن الخطر ليس فى "أسلحة الدمار الشامل" نفسها، بل فى "النظام السياسى" الذى يتحكم فيها! وبقوله كذلك: إن إغفال هذه الحقيقة من جانب دعاة السلام لهو أكبر خدمة يقدمونها لمعسكر الحرب! ولا يملك المرء سوى الدهشة بإزاء السلاسة التى يزدرد بها مفكر فى قامة عبد الجبار هذا "الطعم" الأمريكى المفضوح! وما يفاقم من هذه الدهشة أن الكاتب نفسه لا يخفى حيرته من كون أمريكا قد تركت صدام يفلت دون عقاب على استخدامه الفعلى للأسلحة الكيماوية والبيولوجية عام 1988م، بينما تعود الآن لتتصلب فى قرارها بشن الحرب عليه درءاً لاحتمال استخدامه المستقبلى لهذه الأسلحة! بل الأغرب أنه ما يلبث أن يفض هذه الحيرة بنفسه أيضاً، قائلاً بنصاعة ووضوح: إن هذا إلا منطق الاحتلال بعينه!
غير أن الكاتب سرعان ما يرتد على عقبيه من مستوى الوعى بهذه الحقيقة المركزية البسيطة، إلى ترديد القول بأن تَركَ هذا المُهدِّد دون اقتلاع يعنى التمهيد لكارثة مستقبلية (!) وعلى حين لا يفصح عمَّن يُحذر مِن "ترك" المُهدِّد، أو من يحث على "اقتلاعه"، بل ولا يكاد يحفل بموقع "دور القوى الوطنية" من إعراب هذا التحليل فى وطن يتهدَّده الغزاة بالاحتلال والاستعمار المباشر، يسارع لينفى عن قوله شبهات الانتساب إلى معسكر التحريض على الحرب (!) مساوياً ، فى ذات الوقت، من حيث قِصَر النظر، على حدِّ تعبيره، بين دقِّ طبول الحرب، كموقف يُسقِط إمكانية الحل السياسى للمشكلة، وبين معارضة الحرب لأسباب إنسانية بحتة، مما يعنى إنكار وجود المشكلة أصلاً (!) فكلا الموقفين، فى رأيه، يتسم بضيق الأفق وبالمحدودية الأيديولوجية!
وإذن ، فثمة "وسع" أكبر يجترحه الكاتب لرؤية المسألة دون أن يوضح على من يجترحه! ولكن التوضيح ما يلبث أن يأتى فى سياق تفنيده "للخيارات" المختلفة: فخيار الغـزو عالى الكلفة (!) والقضاء على النظام الشمولى بهذا الأسلوب" من شأنه أن يطلق قوى تقليدية واجتماعية كامنة من عقالها، بصورة يصعب تخيُّلها أو ضبطها، علاوة على احتمال أن يؤدى ذلك إلى اندلاع حرب أهلية لا يُعرفُ من أين تبدأ أو إلى أين تنتهى. أما وقوع "انقلاب قصر" فى بغداد فقد يكون، من جهة، مريحاً بالنسبة للادارة الأمريكية، إلا أنه، من الجهة الأخرى، سوف يتسبب، قطعاً، فى مأساة أخرى بالنسبة للشعب العراقى! ومن ثمَّ ينفذ الكاتب إلى طرح خطته السياسية غير المفكر فيها من قبل، كما قال، والقائمة فى تفكيك النظام من داخله، دون أن يحدِّد الجهة التى يطرحها عليها، وإن كان ذلك مفهوماً ضمناً، للأسف، وذلك على النحو الآتى: أولاً: تهديد صدام بالملاحقة الجنائية (!) ثانياً: إتاحة مَعْبَر آمِن، فى ذات الوقت، لهروبه (!) ثالثاً: تسليمه قائمة بنحو من ثلاثين شخصية غير مرغوب فيها من معاونيه والمطالبة بمغادرتهم البلاد، بحيث يطمئن الباقون بأنهم غير مطلوبين، فيتجرأون على طرد صدام إلى المنفى، مع تحلية الصفقة بعرض مشروع مارشال مصغر(!)
رابعاً: وضع مشروع مارشال هذا موضع التطبيق بشرط نقل السلطة إلى حكومة مدنية إنتقالية(!) ويضيف عبد الجبار أن الضغط عن طريق هذه الخطة السياسية الهجومية ينبغى أن يكون مصحوباً بالتهديد باستخدام القوة .. قليل من الطلقات التحذيرية تكفى، أو كما قال (!) وبذلك يتحقق شق النظام الحاكم وتمكين الشعب من أن يضع يده على مقاليد الأمور (!) ويزكى الكاتب خطته "بكلفتها" الزهيدة، مقارنة "بكلفة الغزو والاحتلال" (كذا!) التى قد تبلغ ما بين 100 إلى 200 مليار دولار دون أن تحقق أىَّ مردود للولايات المتحدة (!) فيجدر إنفاق هذه البالغ لإعادة بناء بلد محطم، واستعادة حكم القانون، كشرط لتأسيس الديموقراطية (!) وأخيراً يصف الكاتب هذه الخطة بأنها الأكثر ضماناً للسلام والاستقرار فى المنطقة .. الخ!!
لقد بذلت مجهوداً كبيراً، بلا طائل، لكى أطرد من خاطرى فكرة أن فالح عبد الجبار بالذات إنما يخاطب بخطته، فى الواقع، لا اليسار أو قوى المعارضة الوطنية العراقية، بل أشدَّ قوى الهيمنة الاستعمارية تطرُّفاً، وفى ذات اللحظة التاريخية التى كانت جيوشهم تتهيَّأ فيها لاقتحام بوَّابات العراق، متحفزة لدكه على رءوس الجميع، حكومة ومعارضة وشعباً وثقافة وتاريخاً وثروات ومقدرات وبناءً حضارياً! ولقد افتقدت فى هذا الطرح، بالحق، سمت المفكر والمناضل التقدمى، وبدا لى الرجل أكاديمياً كلاسيكياً "مُحايداً" ينكفئ على معالجة نظريات "علموية" بحتة، أو دبلوماسياً محترفاً بارعاً يمثل حكومة رقيقة الحال لدى مجلس الأمن، ذات دورة ملتهبة أوقعها حظها العاثر فى عضويتها، ومطلوب منها أن تفصح عن موقف صريح حول قضية كبرى من قضايا الحرب والسلام المختلف عليها بين ضوارى العالم الكبار .. ولكم وددت أن أكون مخطئاً!