أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زيد غازي - على رقعة الشطرنج















المزيد.....

على رقعة الشطرنج


زيد غازي
شاعر

(Ali Ziad)


الحوار المتمدن-العدد: 6556 - 2020 / 5 / 6 - 10:08
المحور: الادب والفن
    


في ربيع من سنة، قرر مالك ضيعة زيارة إحدى حظائره الممتدة على طول هكتارات من الأراضي الرطبة ، قبل أسبوع، ذاع الخبر بين مسيري الضيعة في سرية تامة، كان ذلك عن طريق إرسالية وصلت من مركز توزيع المؤن المخصصة لبعض القصور التي يملكها و كان مركزها العاصمة، هي نفسها المدينة التي راكم فيها المزارع الصغير ثروته و أصبح فيها رجل أعمال .في اليوم الموالي سارع العمال و بعض الفلاحين بمواكبة الأشغال و الرفع من وثيرة الأنشطة اليومية من جني الفواكه و تنقيتها، بستنة بجوار القصر، تثبيت أعمدة إنارة إضافية و إعادة صباغة الطوب باللون "الأبيض" نظرا لما تتطلبه من مواد متاحة و سهلة التحضير وليس له علاقة" بالحياد و السلم ".
قبل أن ينتصف النهار، أقلعت سيارة البيك آب من مُسْتقرّها، كانت أشعة الشمس قاسية ورياح شديدة اللَّفح رغم رطوبة المكان سلّم الجميع على أنه يوم شاد في فصل الربيع .
"نلسون " نائب صاحب الضيعة، كان قد أكمل قبل شهور الأربعين من عمره لكنه لا يعرف في أي عقدٍ هو بالضبط، ذو بشرة صفراء والغليون لا يفارق فمه. قاسي الطبع، يوبخ ويعاتب بلا هوادة، يصرخ بشتائم نابية، لا يعرف الرحمة من أين تولي لأنه ربما تلقى تربية صارمة في صغره جعلته هكذا، فكل من يحاوره أول مرة يرفضه ، شاركت قطط وكلاب الضيعة هذا الموقف أيضا، أخذت تبتعد لمسافات حتى و إن فعلت بالصدفة أو قادتها أقدامها بقربه ، تفزع و تهرول بعيدا .
أخد نلسون يعبث ببوق السيارة كطفل صغير يكتشف أول مرة هذا "العجب"، أما لعبه بالمقود طبع بشدة عجلات السيارة تراب ساحة الضيعة، كانت سيارة قاسية الملامح والصوت. ولو حاول أي عاقل التحري عن أسباب هذا السلوك لا اتفقوا على أنه "أحمق" بطبعه.
تَسمَّرت السيارة وسط أرض الساحة و بدأت الشمس تنزلق من السماء كرصاص مصهور على ظهر البيك آب و الأخرق في جوفها يراقب العمال والفلاحين و يعدهم واحدا واحدا، ويكرر العملية مرة أخرى، لعله يقتحم أصحاب النفوس الضعيفة و يُفسد على من يعتزمون تذوق حلاوة القيلولة في هكذا يوم استثنائي، لكن ما بطن في قرارة نفسه كان أكبر بكثير من أن يغدي تلك الحاجة الملحة البائسة المستوطنة في وسط نفسه التي تطلبه بالإمتثال لجنونه وبروزه بمظهر "العظمة" التي لا توصف ولا تقدر و نتيجة هذه الألفة لم يعد يثير غضب و تساؤل أحدهم، إذ غالبا ما كانت هذه الحركات البهلوانية، الطائشة الغير المبررة ما تلقي حتفها و تذوب حالما تصل إلى "الحكيم" الذي يعرف كيف يفكك شفرات رسائله ببراعة منقطعة.
"الحكيم" رجل يعرفه العامة داخل و خارج الضيعة، عمره بين الستين و السبعين، ضامر لكنه قوي البنية، قليل الكلام و كثير العمل و التعب، يتمتع برزانة في الفعل و التفكير ،أعزب لأسباب يختلف فيها الناس كثيرا. قيل أنه كان معجبا بامرأة شيوعية كوبية شاركت في الثورة مع غيفارا و هناك من له رواية أخرى، بشهادة الجميع فالحكيم آخر من ينام و أول من يستيقظ كأنه آلة آدمية لا يعرف للراحة سبيلا ،لا يترك ذرة من واجبه بدون إتمام و عار من الإتقان وعيا منه بألا يترك مجالا للشطاحين السفلة أن يعيبوا عنه، يأكل طعامه بخفة و حذر كطائر الجبل يسترق حبات الزرع بين مفاصل السنابل و الصخور المكوّرة، دأب على هذا الحال حوالي عقد من الزمن أي قبل أن يُأْتي بنلسون "لإدارة الضيعة" و يضع يده على رقابهم و يعتصرها حتى تشحب و تختنق .
"أيا نلسون المجنون ، الأرذل المنصّب هنا ككركوز ذو بطن متدلية، طوَّح به القدر و أتاح له البروتوكول العائلي حظ التصرف بمصائرنا، تُبقي هنا من يقبل يدك و يذل نفسه و تمنح طردا مجانيا لمن احتج أو حتى تهجى بحقه، أما حكيمنا،" فصوتنا هنا"، يقول أحد الفلاحين المسنين بصوته المبحوح نيابة عن باقي الضعفاء العاملين هناك .
بدأت الشمس تغيب نحو الغروب ، لم يرها أحد تنزلق بعدما كانت كمشنقة منصَّبة فوق الرؤوس تلسع الأكتاف طوال الوقت، وصل أخيرا الموكب المرتقب للسيد "المالك " بمعية رجالاته، هي نفس الوجوه الوافدة على الضيعة في كل فصل ربيع و الطبيعة مزدهرة و موسم الصيد أما حينما يتعلق الأمر ب"الجفاف" فلا أحد يُقِّدر في نفسه كم هي الحياة قاسية هنا، يتابع الحكيم في قرارة نفسه و عيونه تلاحق نلسون الذليل و كيف أصبح صغيرا،قزما، يرمي بخطواته المتثاقلة المحتشمة وسط هذا المعشر.
كان الحكيم يقود سيارة البيك آب العملاقة المتوحشة وهي تدفع الأحجار أمامها و ترفس الرمل بين عجلاتها وتنقز مثل الجرادة، يُتابع وثيرة سير الموكب من الخلف بما يسمح له الحفاظ على هذا التناغم، فجأة، انفلتت قارورة من صندوق وهوت على رجل الحكيم فأخذ يتأملها، فاتضح له أنها تحتوي على "سم" ،فتمتم و قال :" الآن لا ننتظر الكارثة من نلسون بل نراها ".
وصل المالك إلى ضيعته ،حيث هناك مفاجأة تنتظره في أول الدور ،تطلع بنظرة عميقة قصره ،أخذت تعصف ذاكرته بصور البدوي الصغير النزق الذي عرف و خبِر في وقت مبكر ، المواسم ،الخصب ، المطر،العاصفة،الجفاف...إلى رجل أعمال يُواجه قدره في العاصمة البعيدة ، أمر بعض الرجال من إفراغ سيارة الجيب من أمتعته و يجعلها بين أيدي الجواري.
كان المالك يتوسط الحكيم من على يساره و نلسون الذي أذل نفسه من على يمينه ،تقدموا صوب رواق يؤدي إلى حجرة فسيحة ،كانت بعض الكنوز معلقة هناك : مخطوطات مزخرفة من قرون غابرة ، رسومات لليوناردو دافنشي، لفان غوخ ،رسائل فولتير في التسامح كما شرح ذلك الحكيم ، و في نهاية الدور كانت هناك مرآة متوسطة الحجم كتب فوقها :"هذا الإنسان الذي تراه الآن فهو أخطر حيوان في العالم ".أعجب السيد بهذا "التراث "و بفكرة الحكيم ، كيف و هذا الأخير أتى من مكان يضرب المثل بديمقراطيته و حضارته .
رن جرسٌ يُخبرهم أن العشاء جاهز.
طلب السيد المالك من الحكيم بأن يفتتح هذا العشاء بمقطع من سمفونية بيتهوفن وبالتحديد سمفونية " عندما يعزف الشيطان" نقلاً و اقتداء بما تفعله طبقة النخبة بالعاصمة ، فن نبيل و راقي، طبعا ، لم يتوانى الحكيم فبدأ العزف بمداعبة أوتار الكمان . كان نلسون يضع لمساته الأخيرة على إيقاعات هذه المعزوفة الغامضة لينهي تلك الحرب الشعواء التي تدور رحاها في رأسه و يُقلب طاولة الشطرنج ممسكا بالسيادة و الثروات ، ما إن انتهى الحكيم من عزفه حتى رمق نلسون حاملا بين راحتيه ثلاثة كؤوس من النبيذ معدة سلفا في الكواليس نائبا بذلك عن طاقم المطبخ. كانت حبات العرق تتلألأ و تتوهج في عيون الحكيم متأكدا أنهم أقرب إلى كارثة و نهاية مؤلمة ، بعدما تبين له أن نلسون يعيش صراعات داخلية، يفعل الشيء و نقيضه ، لكن ما يقوم به نلسون قبل و الآن، بدافع انفعاله الداخلي الباطني؟ أم سببا يضفي شرعية ذابلة على جنونه و حمقه ؟ أم يريد أن يعود ليكرر تلك السناريوهات الإجرامية التوسُّعية ذات نفحة أوليغارشية فاشية بمعية عصابته الخاصة التي تجد ضالتها و لذتها في ركوب البيك آب و الهجوم على الضعفاء و سلبهم أراضيهم و حرق محاصيلهم و سرق مؤنهم السنوية إن رفضوا التنازل عن حقولهم الصغيرة و يبيتهم بعدها عراة حفاة ؟ توالت ترسانة صاخبة من الأسئلة التي دوّت في ذهن الحكيم .
فجأة طلب المالك المندهش المصدوم بهذا المشهد السريالي من نلسون أن يحضر محفظته اليدوية التي بغرفته لأنه موضع ثقته ،أوليس من أقاربه و الدم يربطهم ؟ تتبعا الحكيم و المالك وقع أقدام نلسون حتى سمعاه يفتح باب الغرفة بالطابق الثاني . كان التنبؤ بالكأس الذي به "السم" صعب للغاية ، و من أخبرهم بأن الموت الموجع سيظفر بثلاثتنا ؟ و ماذا عن فكرة حب البقاء ؟ لكن فكرة إعادة اللعب بترتيب الكؤوس أمرا ملحا و مستعجلا يطرح مسبقا ضرورة معرفة من هم الأعداء القريبين و البعيدين. مرت هذه الأفكار في رأس الحكيم وأخرى غيرها معاينا المشهد عن كثب .
كانت ورقة تظهر من على وجه الباب، خطفها نلسون من فوق طاولة مقابلة مرآة فسيحة بحجم طول إنسان. شرع في قراءتها حيث خُطّ عليها :" أنظر إلى نفسك في المرآة ، لاحظ وجهك الشاحب الأصفر الباهت، يداك ترتعدان، ساقاك باردتان جامدتان لا تقدرا حتى على حمل وزنك، لم أكن أتصورك بهذا الجنون، و هذه الرعونة العمياء في قتلي لكن هيهات يا عزيزي، وإذا كانت المفاجأة عدو الإنسان، فأنت في مرماها يا نلسون أكثر من أي إنسان آخر، سأهديك موتا عنقوديا ونوما طويلا، تصير "حرا" و تتخلص من ألمك و جنونك بعدما أجثمت على صدور الأبرياء، اقتل نفسك بشرف فالمسدس بجيب الحقيبة قُبالتك على اليسار "



#زيد_غازي (هاشتاغ)       Ali_Ziad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زيد غازي - على رقعة الشطرنج