أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - شخصيات الخوارج الكبرى(3)















المزيد.....

شخصيات الخوارج الكبرى(3)


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 6475 - 2020 / 1 / 28 - 21:57
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


جابر بن زيد: شخصية الروح الثقافي الإسلامي

إن السر والمفارقة التي أحاطت بشخصية جابر بن زيد جعلته في آن واحد إمام الخوارج ومفتي العقل الإسلامي الثقافي. وهو توليف يصعب حده بمعايير السياسة، لكنه كان في الوقت نفسه الصيغة الأكثر نموذجية للتعبير عنها. بمعنى إننا نعثر فيه على تمثل خاص لوحدة الفكر والسياسة في مرحلة الصعود الإمبراطوري للدولة والسلطة والفكر على السواء. لكنه صعود يتسم بالاحتراب والعنف الدموي. من هنا تبلور التيارات الحادة والمتطرفة والغالية في موقفها من السلطة والقيم. ومن خلالها كانت تتبلور بقوة قيم الفكرة المنظومية تجاه السلطة. فقد كانت هذه الفكرة تؤسس لزمن الإهدار التاريخي لفكرة العدالة والحق، وتستعيض عن فقدانهما بقوة الحق والعدل، أي العمل على تأسيس الصيغ الأولية المعقولة للتجانس الضروري بين الفكر والواقع، والفرد والجماعة، والدولة والأمة، والدين والدنيا، والخالد والعابر. بمعنى تأسيس الصيغة المتجانسة لوحدة العقل الوجدان المهدورة في مجرى المعارك الضارية بين الفرق المتحاربة، والمنتهكة من قبل السلطة (الأموية) على كافة المستويات وفي كافة الميادين. وعادة ما يرافق هذا التأسيس صيرورة الثقافات الكبرى وبحثها عن قيم الاعتدال. وقد جسدها جابر بن زيد ضمن تقاليد الخوارج. وليس مصادفة أن يحتل موقع ما يمكن دعوته بالطبقة الثانية بعد عبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير،بوصفها الطبقة التي تعاملت مع عملية الانتقال المؤلمة من الخلافة إلى الملوكية بمعايير البحث عن تجانس امثل في ميدان الفكرة وتأسيسها. مما جعل من جابر بن زيد صاحب أول "ديوان" في تاريخ الفكر والثقافة الإسلامية. لكن ديوان لا علاقة له بالشعر والأدب، بل بشعور الفكرة الأولية ومنظومة الأدب الضرورية للعقل والوجدان.
إذ لم يكن "ديوان جابر" في الواقع سوى مدوناته للحديث وأقوال الصحابة. وهو موقف يعكس ثقافته بوصفه منظم الأفكار الأولية وجامع تراث السابقين. وهو ثراث عملي، بمعنى أن قيمته في تسليط الأضواء على الحاجات العملية للفرد والجماعة والأمة. من هنا قيمته بالنسبة للروح والعقل والثقافة ككل. الأمر الذي أغرى الخوارج لاحقا للدرجة التي جعلوا من الحصول على ديوانه وضياعه من جديد أسطورة تعوض بدورها ما نجهله عنه . لكنه "جهل" يمكن تتبع آثاره في تأسيس منظومة الفكر الأولية ونزوعها العملي.
فقد كان (ديوان) جابر بن زيد الأول من نوعه بالنسبة للعقل الثقافي الإسلامي. والأول أسطورة على الدوام! ليس فقط في انه أول من يسطر حروف العقل الثقافي وأسس الثقافة التاريخية ومنظوماتها النظرية والعملية، بل وبسبب ذوبانه اللاحق في ذاكرة الأجيال. والذاكرة هي نسيان أيضا. ومن ثم مصدر للتمرد والرغبة العارمة زمن الصعود والهبوط، لاسترجاع الماضي بوصفه عروة الروح المتسامي. وبالتالي لم يكن ضياع (الديوان) في رمال المغرب وبقاء جابر في وعي الثقافة الإسلامية سوى الصيغة الرمزية لأطراف المعادلة التي أسس لها جابر بن زيد فيما أسميته بتنسيق وتجانس وحدة العقل والوجدان ضمن تقاليد الخوارج. وتمخض هذا التنسيق والتجانس لاحقا عن ظهور وتبلور الاباضية بوصفها الفرقة الأوسع تعبيرا عن تراكم الفكرة الخوارجية وتقاليدها الحقيقية.
فقد ولد جابر بن زيد سنة 21 للهجرة في عُمان، غير أن شخصيته الفردية والفكرية والروحية قد تكاملت في البصرة. لكنه تكامل جرى من خلال معترك الحياة السياسية وانقلاباتها الاجتماعية القيميية الحادة. فقد كانت البصرة موطن الفكر وميدان الصراع الثقافي وممر الامتحان المادي والمعنوي للشخصية الثقافية. وهو المكان الذي وضعه أمام امتحان دام حتى وفاته عام 93 هجرية. ذلك يعني انه عايش كل تقلباته وانقلاباته ومآسيه وأفراحه، إي كل مكونات كينونته الثقافية وأثره بالنسبة لإرساء أسس الثقافة الإسلامية الكونية، بدأ من اللغة وقواعدها، وانتهاء بمنظومات علم الكلام والفقه وتقاليد التفلسف العقلي والتصوف الروحي. وبالقدر الذي صنعت البصرة شخصية جابر بن زيد، فانه صنعها من خلال بث روح الخروج فيها. فالبصرة هي موطن الخوارج الأوائل، ومعدن أصول التحدي الحر، والشكوك العقلية، والوجدان المرهف. ووجدت هذه المكونات انعكاسها المتناسق في شخصية جابر بن زيد. من هنا جوهريته بالنسبة لتقاليد الاعتدال أو ما أسميته بتجانس العقل والوجدان.
فقد كانت حياته تجسيدا لهذه النسبة الحية التي جعلت منه، شأن كل المصادر الصانعة لتجانس الوجود، ذائبة في حركة التاريخ الثقافي. إذ انه وّحد في ذاته فكرة النقل والعقل، الاجتهاد والانتماء للجماعة، التحزب الفكري الروحي والدفاع عن مصالح الأمة، هدوء الظاهر وغليان الباطن، التسامح واللين في التعامل مع البشر والشدة مع النفس. فقد استقى هذه المكونات من تأمل تجارب الأمة وأعلامها. فقد وضع هذه التجارب مرة في عبارة تقول "أدركت سبعين بدريا فحويت ما عندهم من العلم إلا البحر". ويقصد بالبحر عبد الله بن عباس. بينما نرى الأخير يصفه قائلا "اسألوا جابر بن زيد فلو سأله أهل المشرق والمغرب لوسعهم علمه". بينما أجاب مرة بعدما سألوه عن قضية قائلا:"تسألوني وفيكم جابر بن زيد؟!". واحتل هذا الموقع في وعي الثقافة الإسلامية الناشئة بوصفه احد مؤسسيها ومنظميها وواضعي أسسها النظرية.
فمن الممكن تصنيف جابر بن زيد ضمن أوائل الشخصيات الإسلامية التي ساهمت في وضع أسس التنظيم الفكري للحديث والتفسير والفقه. وبهذا المعنى، فإنه سبق شخصيات الفقه الكبار مثل جعفر الصادق وسفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك بن انس والشافعي وابن حنبل. وهو سبق مبني ليس فقط على أساس التسلسل التاريخي، رغم أهميته الهائلة، بل ولما في إبداعه من رؤية تتسم بقدر واضح من تنظيم الأفكار والقضايا والمسائل والاجتهاد في تحليلها وتقديم الأحكام فيها . فقد كان من بين أوائل المثقفين المسلمين الكبار الذين دأبوا على تدوين الأفكار ونشرها عبر الكتابة والمراسلة. فمن المعلوم عنه انه كان يستعمل الكتابة والمراسلة مع تلاميذه وأصحابه. ولعل أثره الأقوى بهذا الصدد يبرز في تنظيم الحركات الاجتماعية والسياسية للخوارج، كما نراها في نمو وتكامل التيار الأباضي من خلال تلامذته وأتباعه . وهو تنظيم فكري وأخلاقي أولا وقبل كل شيء .
لم يكن اهتمام جابر بن زيد محصورا بالفكرة السياسية العملية، بقدر ما كان مهموما بالفكرة النظرية العملية. وهو السبب الذي جعله مؤسس الأباضية الذائب في أصولها وجذورها. ومن ثم قيمته المستقلة نسبيا بالنسبة لمرجعيات الروح الإسلامي العام وثقافته التاريخية. من هنا وصف ابن عباس له قائلا:"لو نزل أهل البصرة بجابر بن زيد لأوسعهم علما من كتاب الله". بينما قال عنه إياس بن معاوية: "لقد رأيت البصرة وما فيها مفتي غير جابر بن زيد". بينما قال عنه عمرو بن دينار: "ما رأيت أحدا اعلم بالفتيا من جابر بن زيد". وعندما دفنوه قال قتادة: "اليوم دفن علم الأرض". في حين وصفه أبو نعيم الأصفهاني بالعبارات التالية: "المتخلي بعلمه عن الشبه والظلماء، والمتسلي بذكره في الوعورة الوعثاء، جابر بن زيد أبو الشعثاء. كان للعلم معينا، وفي العبادة ركنا مكينا، وكان إلى الحق آيبا، ومن الخلق هاربا" . ويعكس هذا التصوير الدقيق ملامح الفكر والزهد والشخصية المستقيمة، التي ستستجيب لاحقا لماهية وحقيقة فكرة الأولياء العائمة في سماء السمو الحقيقي على تناقضات العقل والوجدان.
وقبل أن يبلغ جابر بن زيد موقعه هذا في وعي الثقافة اللاحقة، فانه كان قد حققه من خلال إبداع النسبة النموذجية للعقل والوجدان بوصفها الصيغة المعتدلة لتحدي انحلالها وخللها في مرحلة الانتقال من الخلافة إلى الملك الأموي. فقد عايش جابر بن زيد، شأن كل شخصيات الخوارج الكبار، حالة الانحطاط المعنوي والأخلاقي المميزة لمرتزقة الدولة من شعراء وأدباء وفقهاء. كما عايش بالقدر ذاته حالة النفور العنيف من الإمامة الجائرة والغلو السافر من مواقف الأمة الخائرة! من هنا نموذجية جابر ن زيد في اختيار الصيغ الأخلاقية الصعبة بوصفها امتحانا للنفس أولا وقبل كل شيء. بمعنى تحويل الاحتجاج ضد الانحراف المادي والمعنوي للفرد والجماعة والأمة والسلطة إلى أسلوب لترويض النفس. ومن خلال ذلك تقديمها بوصفها طاقة الاحتجاج الكامنة للبدائل. فالشخصية النبيلة هي على الدوام طاقة من الاحتجاج والبدائل.
لهذا نراه يفضل الحج على الصلاة والصوم انطلاقا من مقارنة منطقية وتجريبية بحتة يقول فيها "نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك كله" . لهذا نراه يحول الحج إلى عادة اختبار النفس وإرادتها. بحيث أصبح الحج بالنسبة له ضرورة سنوية إضافة إلى العمرة. وعندما أمره والي البصرة في إحدى السنوات بان يكف عن السفر لاحتياجهم إليه، فانه أجاب بأنه لن يترك عملا لله مهما كلف الأمر. ومن الممكن فهم هذا الموقف انطلاقا من موقفه الحر ومعارضته للخضوع للسلطة. لاسيما وانه القائل "لان أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الإسلام". وبالتالي لم يكن رده على والي الأمويين سوى صيغة الاحتجاج التي تجعل من الحج أسلوبا لتربية الإرادة وتقديم السم الفردي بوصفه طاقة الجذب المحتملة للتحدي والاحتجاج والتمرد. وعندما يجري سجنه لهذا السبب، ثم يجري إطلاق سراحه بعد ظهور هلال ذي الحجة، أي فوات الحج عليه، عندما قال البعض للوالي: "أصلح الهه الأمير! قد أهل هلال ذي الحجة ولم يبقى من الوقت ما يكفي للسفر بين البصرة ومكة". وعندما أطلق سراحه، نراه يشد الرحال على ناقته من البصرة إلى مكة وهو يقول (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) . وعندما انتهى بمفرده إلى عرفات والناس بالموقف، ضربت الناقة الأرض بجرانها وسقطت من الإعياء، فقال الناس:
- ذكها! ذكها!
- حقيق لناقة رأت هلال ذي الحجة في البصرة، وأدركت الناس في عرفات، ألا أن يفعل بها هذا!
وهو موقف إنساني رفيع تجاوز فيه فكرة المصلحة والمنفعة والقربان الديني. لقد رفع الحيوان إلى مصاف القيمة الأخلاقية الرفيعة. وهو سلوك ملازم بالضرورة لرجال الفكر الإنساني الرفيع. فالمفكر الكبير عطوف بالحيوان أسير له بمعايير الإخلاص. ومن الممكن رؤيته أيضا في انه لازم ناقته المشار إليها أعلاه أربعا وعشرين مرة بين حجة وعمرة. وفيه نعثر على تلازم الإخلاص والزهد في شخصية جابر بن زيد. لذا نراه مرة يقول "مضى من عمري ستون سنة نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى، إلا يك خيرا قدمته". وأن يقول في مرة أخرى: "ما املك من الدنيا إلا حمارا"! ويتجلى هذا الإخلاص في كل مظاهر وبواطن سلوكه. فنراه مرة ينتزع من احد الحيطان قصبة لكي يطرد بها الكلاب. واحتفظ بها لكي يرجعها إلى أهلها. وعندما استغربوا سلوكه باعتبارها لا شيء أجاب: "لو كان كل من مر بهذا الحائط اخذ منه قصبة لم يبق منه شيء"! أو أن يشتهر بكسر الدرهم المغشوش (الستوق) عندما يقع عنده. وعندما يسألونه عن السبب يقول "لئلا يغرّ به مسلم". كما كان المشهور عنه انه لا يماكس في ثلاث – في الكراء إلى مكة، وفي الرقبة يشتريها للعتق، وفي الأضحية. وكان يرد على من يكلمه بهذا الصدد قائلا "لا نماكس في كل شيء يتقرّب به إلى الله".
إن عدم المتاجرة والمقايضة في كل شيء يمكن التقرّب به إلى الله يعني الإخلاص التام في المواقف. فالأشياء كلها وسيلة للتقرّب إلى الله. والله بالنسبة لجابر بن زيد هو وحدة الروح المتسامي. وبالتالي فان المواقف على قدر الأشياء. أما انتخابها فهو بسبب تحولها إلى "وسيلة" أو "عائق" أمام ما يسعى إليه. وما يسعى إليه هو التكامل بمعايير الحق والحقيقة، باعتبارها الدورة التي تصنع شخصية المثقف وتضعها أمام امتحان الحياة وإشكالاتها الكبرى. وليس هناك من إشكالية وقفت أمام جابر بن زيد ومثقفي المرحلة اكبر من قضية الإمامة (السلطة) والخلافة (النظام السياسي) والإيمان (المسئولية الأخلاقية) والقضاء والقدر (الحرية والإرادة). فهي القضايا التي بلورت معالم الإمبراطورية وكمية ونوعية معاركها وصراعها. وليس مصادفة أن نرى جابر بن زيد، كما ينقل عنه، يستمع إلى أحاديث عائشة ويسألها عن كل شيء بما في ذلك الجماع، لكنه ينتقدها على ما فعلته في موقعة الجمل. وهي علاقة تعكس موقفه من إدراك قيمة الأحداث السياسية بالنسبة للمصير الأخلاقي للأمة. وقد عاش جابر بن زيد هذه النتيجة في مجرى حياته المدركة حتى موته. فقد كانت من حيث الجوهر معاناة عنيفة في مواجهة الانحراف الشامل للقيم والمبادئ والوجهة التاريخية للدولة. وبما أن الأموية قد جعلت من الدولة مجرد سلطة، أي تحويل الخلافة إلى إمامة، والإمامة إلى ملوكية مطلقة لا يحكمها شرع وقانون غير إرادة ورغبة الملوك. من هنا مواقف جابر في المعارضة والتحدي والانزواء، وكذلك إتباع مخالف الصيغ والأشكال المعارضة للسلطة. بحيث جعل أولويتها فيما يمكن دعوته بقهر الإرادة الفردية، والعمل على تهذيبها وتشذيبها بمعايير السمو الأخلاقي.
لهذا نراه يتجنب اللقاء بالسلطة ويتهرب من عروضها أي كان شكلها، بما في ذلك التهرب من تولي القضاء. وتروي لنا كتب التاريخ كيف أن الحجاج عرض عليه القضاء قائلا له:
- لا ينبغي أن نؤثر بك أحداً، نجعلك قاضيا للمسلمين.
- أنا أضعف عن ذلك!
- وما بلغ من ضعفك؟
- يقع بين المرأة وبين خادمها شر، فما أحسن أن أصلح بينهما.
- إن هذا لهو الضعف!
كما نراه يتهرب من إشغال أية وظيفة في مؤسسات السلطة الأموية. وهو سلوك محكوم بموقفه من معارضة الإمامة الجائرة. بل نراه مرة ينزل إلى نهر دجلة ويغسل رأسه ولحيته بقوة وهو يقول "اللهم لا تجعل حظي منك منزلتي من هؤلاء القوم". ويقصد بذلك آل أمية، بعد أن أمر يزيد بن معاوية غلمانه وخدمه بدهنهما بالعطور والزيوت تكريما له. وهو موقف وجد تعبيره المتكامل في رؤيته من النظام السياسي الأمثل. وتكاملت هذه الرؤية في مجرى صراع القوى المناهضة للأموية بشكل عام والخوارج بشكل خاص.
وقد أسس جابر بن زيد منظومة موحدة المبادئ في مواقفها النظرية والعملية من النظام السياسي والسلطة. وجعل منها إحدى أهم القضايا التي تعكس إدراكه لقيمة وجوهرية الدولة بالنسبة لفكرة الحق والعدل والحرية، بوصفها القضايا التي شكلت عصب الرؤية الفعلية للخوارج. ووضع أفكاره في هيئة مبادئ عامة لعل أهمها هو إجازة أن تكون الإمامة في غير قريش. والإمام بالاختيار على أن يتمتع بصفات العدل والعقل ومعاملة الناس بالعدل وبالمساواة واجتناب الجور. ومن ثم فمن الممكن اختياره بغض النظر عن الجنس واللون والأصل الاجتماعي. ومعيار الانتخاب والإبقاء عليه هو عقد بين الأمة والإمام. من هنا إذا بدّل الإمام السيرة وخذل الحق وجب عزله أو قتله.
إننا نقف أمام منظومة عقلانية وأخلاقية رفيعة المستوى هي الأمثل في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي. وفيها يمكن رؤية الملامح الاجتماعية المتسامية التي وجدت انعكاسها في فكرة الفكرة المنتشرة بين الخوارج والقائلة، بان دار المخالفين من أهل الإسلام دار توحيد، إلا معسكر السلطان فهو دار بغي. وهي فكرة تؤسس للحس المرهف تجاه السلطة والنظام السياسي الذي يتوقف عليه مسار الحق والحقوق والمجتمع والثقافة والمصير التاريخي للأمة.
ومن هذه المنظومة النظرية للمبادئ العامة والخاصة المتعلقة ببنية الدولة والنظام السياسي والسلطة جرى اشتقاق وتحديد هوية الإيمان بوصفه التزاما أخلاقيا عمليا تجاه الوجود الخاص والعام للدولة والأمة. فالإيمان بالنسبة لجابر بن زيد هو أولا وقبل كل شيء مسئولية أخلاقية فردية واجتماعية. وحقيقة الإيمان والدين بالنسبة له هو مناهضة الظلم ومعارضة السلطة الجائرة، ومن ثم الدفاع عن الحق والعدل والحرية. من هنا جوهرية الإرادة بوصفها تجانسا بين قضاء الله وقدر الإنسان. وتتمثل هذه الوحدة في الواقع حقيقة الجهاد النبوي الأول. وهو الأمر الذي جعل من شخصية جابر بن زيد تحقيقا لما يمكن دعوته بالإسلام المحمدي في ميدان التأسيس النظري الأول للعقل الثقافي. مع ما تحتويه من إمكانية كامنة وكبيرة لتأسيس فكرة الانتفاض والتمرد على الإمامة الجائرة من اجل النظام الصالح. من هنا دعوته لما يسعى إليه بالجهر والسر. من خلال كشف وإبراز مسئولية الفرد والأمة أمام قضايا الدولة والحقوق، كما نراها في الفكرة الجوهرية بالنسبة للخوارج، ألا وهي فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد حولها جابر بن زيد، شأن الخوارج، إلى فكرة أخلاقية سياسية حقوقية. وما عدا ذلك أمور عابرة يمكن تجاهلها أو إهمالها شأن كل ما لا قيمة له بالنسبة للروح المتسامي. حيث ميز هذا الموقف شخصية جابر بن زيد في حياته ومماته. إذ لم يرغب بشيء قبل الموت سوى رؤية الحسن البصري. فعندما سألوه عن رغبته الأخيرة قبيل مفارقة الحياة، فانه أجاب "نظرة إلى الحسن".. وعندما اخبروا الحسن البصري بذلك، فانه استعجل القدوم عليه. وعندما اخبروا جابر بدخول الحسن وانه يجلس أمامه، عندها قال بما فيه من قوة "يا أخوتاه! الساعة والله أفارقكم إلى النار أو إلى الجنة"! إذ تضمحل في هذا الموقف كل إشكاليات العقل والوجدان والدين والإيمان، لتتوحد في مغزى الحقيقة التي تمثلها ومثلها جابر بن زيد، ألا وهي أن المثقف الحقيقي روح قادر على التلون بألوان الوجود بوصفه وجدا فرديا عميقا لمنطق العقل والوجدان.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصيات الخوارج الكبرى(2)
- شخصيات الخوارج الكبرى(1)
- حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(3)
- حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(2)
- حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(1)
- النبوة في تقاليد الإسلام والكلام(3)
- النبوة في تقاليد الإسلام والكلام(2)
- النبوة في تقاليد الإسلام والكلام(1)
- وحدة العقل والنقل في فلسفة الغزالي(2-2)
- وحدة العقل والنقل في فلسفة الغزالي
- صيرورة الاعتدال الفكري في الثقافة الفلسفية الإسلامية(3)
- صيرورة الاعتدال الفكري في الثقافة الفلسفية الإسلامية(2)
- صيرورة الاعتدال الفكري في الثقافة الفلسفية الإسلامية(1)
- البحث عن الروح الإنساني في الثقافة الإسلامية(2-2)
- البحث عن الروح الإنساني في الثقافة الإسلامية(1-2)
- العراق : من الاحتجاج إلى ثورة المستقبل
- تقييم النفس في الثقافة الإسلامية (2-2)
- تقييم النفس في الثقافة الإسلامية (1-2)
- أسرار العبادات الإسلامية عند الغزالي
- المعنى الروحي للعبادات الإسلامية عند الغزالي(1-2)


المزيد.....




- جعلها تركض داخل الطائرة.. شاهد كيف فاجأ طيار مضيفة أمام الرك ...
- احتجاجات مع بدء مدينة البندقية في فرض رسوم دخول على زوار الي ...
- هذا ما قاله أطفال غزة دعمًا لطلاب الجامعات الأمريكية المتضام ...
- الخارجية الأمريكية: تصريحات نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست ...
- استخدمتها في الهجوم على إسرائيل.. إيران تعرض عددًا من صواريخ ...
- -رص- - مبادرة مجتمع يمني يقاسي لرصف طريق جبلية من ركام الحرب ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة
- روسيا تطور رادارات لاكتشاف المسيرات على ارتفاعات منخفضة
- رافائيل كوريا يُدعِم نشاطَ لجنة تدقيق الدِّيون الأكوادورية
- هل يتجه العراق لانتخابات تشريعية مبكرة؟


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ميثم الجنابي - شخصيات الخوارج الكبرى(3)