أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد المختار أحمد فال - من الاستعمار والاستخلاف إلى استحالة الدولة أو من الصدام إلى أفق التقاطع (حلاق والمرزوقي)















المزيد.....



من الاستعمار والاستخلاف إلى استحالة الدولة أو من الصدام إلى أفق التقاطع (حلاق والمرزوقي)


محمد المختار أحمد فال

الحوار المتمدن-العدد: 6455 - 2020 / 1 / 4 - 04:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من كونية الاستعمار والاستخلاف
إلى اسحالة الدولة
أو من الصدام إلى أفق التقاطع
(حلاق والمرزوقي)

مقدمة عامة أو على سبيل التمهيد:

إذا كانت موضة عصر كانط كما عبر عن ذلك في مقدمة كتابه "نقد العقل الخالص" هي نقد الميتافزيقا وازدرائها فإن موضة عصرنا اليوم هي المسألة الدينية السياسية بكل ما تحمله من تجاذبات وتحديدات واستشكالات عويصة شكلت مادة دسمة ومعينا لا ينضب للباحثين والمفكرين الإسلاميين وغيرهم وليس حلاق والمرزوقي بنشاز عن هذه الموضة بل إن حلاق ليكون قد أجج الصراعات الفكرية المتعلقة بالمسألة في كتابه المثير للجدل "الدولة المستحيلة" ومنذ أن صدر عام 2013 وترجم عاما بعدها
وهو يخلف وراءه الكثير من التناول المتأرجح بين الانبهار والنبذ والنقد وهي كلها عوامل إيجابية لتحريك الساحة الفكرية العربية، ولقد استطاع حلاق أن يفتتح في هذا الكتاب هذه الإشكالية بكثير من التخصصية محكما سردية كبرى في عصر ولت فيه السرديات الكبرى بعد ما تساءل ليوتار سؤاله
ما ما بعد الحداثة؟ (1)وكأنه يضع نفسه موضع كانط عند ما تساءل ما التنوير؟(2)
بيد أن المرزوقي قد شق طريق مشروعه الفكري منذ مطلع السبعينات من خلال بحثه الجامعي حول السببية عند الغزالي الذي ذهب فيه مذهبا طريفا باعتبار الغزالي فيلسوفا منتجا على خلاف حكيم قرطبة ابن رشد وهي خوصلة مثيرة للجدل ولا تقل إثارة أوانها عن خوصلة حلاق المستحيلة اليوم .
ولقد كان اختيارنا لهذه المقارنة عائدا إلى مكانة هذان القطبان الكبيران اللذان شكلا طرفي أطروحة معالجتنا هذه ثم إلى ضرورة أن يكون لنا نصيب من هذه الموضة سالفة الذكر وكلها أمور محفزة لطرق باب هكذا مقارنات وبين قطبان كبيران يمثلان الأساس الصلب لاتجاهين فكريين متصارعين منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم لكنهما يمثلان الحدود المنطقية النهائية لهذا المسار لما طبع مشروعيهما من صلابة منهجية ونظرية عميقة تعطي للمسألة بعدا فلسفيا حَقيِقََا بأن يطرق وأن يناقش على مستوى واسع .


-الفصل الأول : محددات الدولة بين حلاق والمرزوقي:

أ-ينطلق حلاق من مصادرة بسيطة وهي أنه ليس هنالك دولة بهذا المفهوم عدى الدولة الغربية الحديثة حيث إنه يختزل هذه الدولة في بعدها الحداثي الذي أفرزها وهذا ما حدا بحلاق إلى وضع مرتكزات سرديته الكبرى حول استحالة الدولة الإسلامية في الأفق المنظور لسبب بسيط وهو عدم مطابقتها للمعايير البراجماتية والبيروقراطية للدولة الحديثة
ففكرة هيمنة الدولة على حق التشريع المطلق هي فكرة لوحدها كفيلة لأن تجعل أي شكل من أشكال الحكم الإسلامي يرفضُ هذه الدولة القومية
ويرتكز حلاق في تحديده للدولة على مفكرين غربيين بارزين من على غرار كارل شميت الذي ينطلق من فكرة الهيمنة على التشريع في هذه الدولة كفكرة لاهوتية معلمنة يقول كارل شميت:"إن كل المفاهيم المهمة في النظرية الحديثة عن الدولة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة ليس بسبب تطورها التاريخي فحسب - حيث تحولت من اللاهوت إلى نظرية الدولة التي أصبح بها الإله القادر علي كل شيء هو المشرع القادر علي كل شيء- بل أيضا بسبب بنيتها النظامية"(3)
ولعله من الضروري التنبيه إلى أن شميت يرى أن صاحب السيادة هو من يقرر الإستثناء أي لحظة اتخاذ القرار بالخروج على حكم القانون ويرى شميت أيضا أن تلك القدرة المطلقة على اتخاذ القرار قد ترجمت الآن إلى مفردات سياسية بعد ما كانت حصرية على الإله والعقيدة ذلك أن الحداثة استبدلت الدولة بالإله التقليدي وهذا مدار أطروحة كارل شميت في كتابه اللاهوت السياسي وهذه السيادة المطلقة للدولة تنضاف إليها خاصية أخرى وهي الوجود الغائي للدولة نفسه حيث لاتعد وسيلة بل هي الهدف الذي يستمد شرعيته ومرجعيته العليا من كينونته يقول وائل حلاق:"فإذا ما اعتبرنا الدولة تعبيرا عن الإرادة السياديه فإن العلة النهائية الأرسطية لوجودها ليست سوى وجودها الدائم(......)وليست هدفا من الأهداف بل ذلك الهدف الذي يمكن التضحية بالأهداف كافة من أجله(4)

وهذه الخاصية يقدمها حلاق ضمن خمس خصائص أخرى هي مدار الدولة مؤسسيا وكيانيا, ولايمكن تصور دولة من دون هذه الشروط القبلية والخصائص الجوهرية فالخاصية الأولى هي:
1-تكوين الدولة على أنها تجربة تاريخية محددة ومحلية إلى حد بعيد
ومدار القول فيها يرجع بالأساس إلى ما قد أشرنا إليه في بداية هذا الفصل من أن حلاق اعتبر الدولة تجربة غربية خالصة (أوروبية -آمريكية)وكنتاج للتنوير الذي نقل معظم المفاهيم السياسية من اللاهوت إلى الفضاء السياسي المعروف بالتحديد بهذا الكيان المسمى (الدولة القومية )أي من المجال المغلق المعتمد على النحلة الدينية إلى المجال العمومي بالمفهوم الكانطي وكانط هو في النهاية ليس سوى ذلك اللاهوتي المستتر حسب عبارة نيتشه الشهير في كتابه أفول الأصنام(5)
فتاريخ الدولة هو الدولة إذ أنه لا يوجد في الدولة ما يمكن أن يهرب من الزمنية فهي منتج تاريخي في موقع محدد ذي ثقافة محددة ألا وهو أوروبا الوسطى والأطلسية وليس أميركا الجونبية أو أفريقيا أو آسيا(6)
أو كما يؤكد كارل شميت فإن الدولة لم تكن ممكنة الا في الغرب
أما الخاصية الثانية فهي :سيادة الدولة والميتافيزيقا التي أنتجتها إذ الدولة هي نمط وكيان يمتلك سيادته من وجوده الذاتي وكأنه كيان واجب الوجود لا يحتاج في وجوده إلى غيره وهذا يوصلنا إلى ظهور عنصر آخر هو على الأرجح نابع من هذه السيادة المطلقة والميتافيزيقا ضاربة الجذور وهو مفهوم التضحية بالمواطن من أجل هذه الهوية المطلقة وهي خاصية لا تفصل عن الدولة القومية وأيديولوجيتها كتمثيل للسيادة ألا وهو مفهوم التضحية بالمواطن(7).


فهكذا يعني أن يكون المرء مواطنا عيشه تحت إرادة سيادية لها ميتافيزيقيتها الخاصة يعني عيشه مع إله آخر وتحت إمرته(8)
وهذه الخاصية سبق أن أشرنا إليها في معرض افتتاحنا لهذا الفصل ولنا معها عودة بمزيد من التفصيل في الفصول القادمة خاصة عند تطرقنا لأسباب استحالة -أو على الأقل في المدى المنظور-دولة الإسلام
في حين ترتكز الخاصية الثالثة على احتكار التشريع والقانون والعنف وبحسب حلاق لا يمكننا تصور دولة من دون خاصية أساسية وهي أنه إذا كانت الإرادة السيادية تولد القانون وإذا كان في المقابل القانون يمثل التغير عن الإرادة وإذا كانت حتى السيادة نفسها ماهية من ماهيات الدولة وخاصة من خصائصها الجوهرية فإن صنع التشريع جوهرا شديد الصلة(9)
بهذه الدولة ككيان له خاصية التشريع والقانون واحتكار العنف الذي يصبح في النهاية حاجة ضرورية من أجل من أجل إنفاذ هذا القانون المعبر عن السيادة داخليا وخارجيا
بيد أن الخاصية الرابعة تدور حول جهاز الدولة البيروقراطي حيث يبدأ حلاق حديثه عن هذه الخاصية بإيراد نص لماكس فيبر يقول فيه "إن الخصائص الرسمية للدولة الحديثة هي ما يلي تمتلك الدولة نظاما إداريا وقانونيا قابلا للتغيير بواسطة التشريع الذي تتوجه إليه أنشطة الهيئة الإدارية الناظمة أيضا بلوائح منظمة ويفترض هذا النظام امتلاكه سلطة ملزمة ليس على أفراد الدولة أي المواطنين فحسب .... ولكن أيضا ولدرجة كبيرة على كل ما يقع ضمن إقليم سيادته فهو إذن منظمة إجبارية ذات أساس إقليمي وبالإضافة إلى ذلك يعتبر استخدام القوة اليوم مشروعا فقط بقدر ما هو مسموح به من الدولة أو مقرر عن طريقها ..... ويعد زعم الدولة الحديثة احتكار استخدام القوة سيمة أساسية لها مثل طبيعتها السيادية القهرية وعملها المتواصل.

فالنظام الإداري إذن هو جزء أساسي من النظام القانوني بل إنه يمثل تابعا من توابعه الأساسية ولعل السمات الأساسية والمركزية لهذه السيطرة تكمن في مبادئ الطوعية والتنظيم(10)
والبيروقراطية في النهاية ليست سوى الأداة التي تمتلكها الإدارة والإدارة في الدولة الحديثة هي تنظيم التحكم والحكم وقابلية الحكم والعنف(11). في حين أن الخاصية الخامسة والأخيرة هي تدخل الدولة الثقافي للهيمنة على النظام الاجتماعي ولعل حلاق قد تأثر في الدولة الغربية من خلال أدواته الاستيعابية و الادماجية بل وحتى هيمنتها حتى في مجال صنع الثقافة هذا المبحث الذي تصدى له رواد مدرسة فرانكفورت وبالتحديد أودورنو وهوركهايمر مسهبين في تحليله من خلال إدراكمها للقوة الاستيعابية للدولة القومية الحديثة وهو إدراك سينحو بهوركهايمر إلى استعادة التجربة الروحية ممثلة في الفن باعتباره الميدان الوحيد العصي على التشيؤ .
ربما هي خلفية راعت حلاق في إطار هذه الخاصية ومدار البحث فيها فبحسب حلاق لا يمكن أن توجد دولة ناضجة ومستقرة من دون هذه الجدلية ويمكن القول إن التماسك والقوة الداخليين
لأي دولة لا يعتمدان على قدرتها على تنظيم المجتمع فحسب -وهو ما تفعله بواسطة دستورها- بل يعتمدان أيضا على التوغل فيه ثقافيا
وهذه النقطة بالتحديد هي التي دفعت حلاق إلى أن يرى أن دول العالم الثالث اليوم هي دول
بالاسم فحسب لأن هذه الدولة ما بعد الكولونيالية قائمة في مجتمعات متجزأة تحكمها القبيلة خاصة في النموذج العربي وتدمير هذه الكيانات الداخلية بطبيعة الحال الخطوة المادية الأولى في توغل الدولة الثقافي(12)
وهي في النهاية تخييلات قانونية خلقتها القوى الاستعمارية في الماضي(13)


ب:أبو يعرب المرزوقي
يعرف المرزوقي الدولة بأنها شعب يملك الاحياز الخمسة يحمي ذاته بحمايتها لأنها مصدر رعايته لذاته بجهاز آلي مؤلف من أعضاء هي المؤسسات وأحكام هي القوانين للحماية الداخلية والخارجية التي من دونها تمتنع الرعاية الذاتية(14)
و هذا التعريف الوجيز يختلف عن التعريف التقليدي شعبا وأرضا وحكما. فهذا التعريف الشكلي يمكن أن يعتبر المحميات دولا. فكل المحميات العربية يسمونها دولا وليس لها المقوم الجوهري للدولة أعني وظيفتيها أو شرطي السيادة: الحماية والرعاية. لذلك أضاف ابن خلدون مفهوم السيادة للدولة(15)
وهنا ابو يعرب يسوغ نهجه وتعريفه الخاص للدولة حيث يتفق بشكل أو بآخر مع خلاق في فكرة أن الدول العربية ليست دولا بالمعنى التام فمبرر حلاق أن الدولة بالأساس محدودة وخاصة وتجربة تاريخية بينما مبررات المرزوقي هي النقص في الوظيفة التي هي مقوم الدولة والتي يحددها في الرعاية والحماية ثم يضيف إليها رؤية لابن خلدون أو شرطه المتمثل في السيادة
وإذا كان حلاق يرى بأن هذه المماهاة القوية والعصية على الانفصام بين القانوني والأخلاقي في الشريعة الإسلامية سبب استحالة الدولة فإن هذا الشرط يمثل الثراء الذي يمكن أن نلج منه إلي امكانية هذه الدولة حسب المرزوقي وفي سؤال له في محاضرة تحت عنوان هل للإسلام نظرية دولة؟
أجاب المرزوقي بأن الإسلام قدم نموذج دولة فريدة فمشروعها المكاني هو العالم وسلطانها هو الإنسانية وليس لها تمييز بين البشر وهذا فحوى دستور المدينة وتدل عليه الآية
السابعة عشر من سورة الحج :"إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيئ قدير".
وهذا يدل على أن خاصة الدين ليست هي الخاصية التي يبنى عليها هذاالمشروع مشروع
دولة الاستعمار والاستخلاف الكونية وتفسير المرزوقي لهذه الآية أن كل المذكورين متعاونون في الدنيا من أجل استعمارها تلبية لحاجاتهم والإنسان مدني بطبعه كما يقول أرسطو في كتابه السياسة وهذا ما يؤكده ابن خلدون في احتياج الخليقة إلى العمران البشري وإلى سلطان يدفع الناس بعضهم عن بعض أما الاستخلاف فإن كل إنسان هو خليفة الله في الأرض
وهاتان الخاصيتان هما اللتان تبنى عليهما دولة الاستعمار والاستخلاف ولنا عودة في أحد الفصول القادمة لمسؤولية الإنسان بوصفه كائنا حرا ومستخلفا اتجاه الطبيعة أحرى تجاه الإنسانية التي تمثل نوعه وهي نقطة بلورها فتحي المسكيني في كتابه الهوية والحرية عاد فيها الي نفس منبع المرزوقي وهو نظرية الاستخلاف الخلدونية وإن بقراءة ما بعد حداثية .
وحيث يصبح معيار المشروع الإسلامي وحدة البشرية دون اعتبار للعقيدة الدينية كمشترك بل فقط وحدة البشرية والالتزام إلى مبادئ المجموعة وقوانينها ونظمها .(16)
أما بخصوص هذه الدولة من حيث تنزلها في التاريخ فيرى المرزوقي أن تثبيتها المكاني كان على يد أبو بكر الصديق وأما تثبيتها الزماني فلقد كان على يد الفاروق الذي بدأه بالتاريخ الهجري كمركز زماني لهذه الدولة الكونية .
أما بخصوص التراث أو الجانب الثقافي فعثمان ابن عفان هو من ثبت المرجع وهو توحيد المصاحف (17)
والمرزوقي هنا يحدد نموذج دولته على مقاس الخلافة الراشدة وهذا أيضا ما نجده بالعودة إلى ابن خلدون الذي يعقد فصلا في كتابه العبر تحت عنوان في انقلاب الخلافة إلى الملك حيث يرى ابن خلدون أن الدولة أن العصبية فعلت فعلتها ولم يكن بد من أن تنقضي الخلافة لا لنقص
الإيمان في من تولوا الملك بعد الخلافة ولكن لضرورة العصبية وفعلها :
اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتبيه....(18)
وكل أمر يحمل عليه الجمهور لابد له من العصبية ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به (19)
فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الحلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغير الا في الوازع الذي كان دينا ثم انقلب عصبية وسيفا...(20)
وهكذا كان الأمر الى أن ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب(21)
ويرى المرزوقي أن الغزالي وابن خلدون رفضا النموذج الأفلاطوني في الدولة المتمثل في قوى النفس وإسقاطه على الدولة حيث يؤسس أفلاطون الدولة على بنية النفس في حين أن أرسطو يبني الدولة على نموذج أسري وبحسب الغزالي وابن خلدون فإن كل دولة تتأسس على نظامان نظام تربية ونظام شوكة فالشوكة تدور حول الجهاز التنفيذي بينما تدور التربية على الحد من الخروج على القانون(22) .
وهذا ما يؤكد زيف ما ذهب إليه حلاق بحسب المرزوقي في الانعدام الأخلاقي في بنية الدولة الغربية التي قامت بالأساس عندما تمت مراجعة فكرة الحق الإلهي في الحكم وقبله الحق الإلهي في العبادة وهي كلها تشكلات وعي حراء ترجمة تراث المسلمين (23).

الفصل الثاني :ثالوث الاستخلاف والقانون والأخلاق

أ-مماهاة القانوني للدولة أم انعدام الأخلاقي ؟
إن النقطة الأساسية التي بنى عليها حلاق أطروحة الدولة المستحيلة حسب فهمنا ترتكز على هذه المماهاة والوحدة بين الدولة والقانون إذ لا يمكن الفصل بينهما إطلاقا لا في السياق الغربي ديدن هذه الدولة بصفتها منتوجا تاريخانيا محددا ولا في السياق الإسلامي الذي تعد مشكلته أكبر في الفصل بين الأخلاقي والقانوني وليست الدولة فيه في العصر الحديث سوى كاريكاتورا إذا -ما استعرنا مصطلحات المرزوقي- أنتجته الدول الاستعمارية ولا حتى الشريعة دستوريا في الكاركاتور موجودة بشكل فعلي فهي ميتة مؤسسيا ومساءة الاستخدام سياسيا(24).
واستحالة الدولة الإسلامية نابعة من هذا التصور ومن تلك الخلفية التي ترتكز عليها الشريعة كنظرية أخلاقية من أجل ما هو قانوني والعكس أيضا صحيح
لقد ظل النموذج الإسلامي على الدوام نموذجا يختلط فيه القانوني بالأخلاقي بالسياسي بالاجتماعي...
يقول حلاق: "فالدولة هي الشخص القانوني الذي يمثل هذه الجماعة ككيان سيسيولوجي وقانوني والحديث عن تفريق بين الدولة وقانونها يرقى إلى عزل خاصية أساسية لشيء ثم الحديث عنها بوصفها قادرة على أن تقف على قدميها باستقلال عن ذلك الشيء وكضرورة منطقية ،فإن جوهرية هذه الخاصية نظرا إلى كونها علائقية تكف عن الوجود مثلما أن العضو الجسدي لا يستطيع أن يوجد في العالم مستقلا عن الجسد(25)الذي هو جزء طبيعي منه(26)
بهذه السردية الكبرى يختم حلاق على ظرف الدولة اختزالا في المحدودية التاريخية والمكانية وحتى الزمانية ثم المصادرة بأن جوهر هذه الدولة هو السيادة والقانون مماهاۃ ووحدة بعيدة عن الانفكاك فهي عضوية جوهرية تتعلق بالماهيات التي لا قوام للشيء بدونها أو التي بها يتقوم فهي علائقية إلى حد بعيد.
بيد أن المرزوقي يرى أن أي دولة مهما تكن لا تنفك عن الأخلاقي كبنية مستنبطة داخل نسيجها المكون لها لكنها قد تتجاوز هذه الأخلاقي في بعض الأحيان من أجل العمل المتمثل في المصلحة .
فالإسلاميون المزعومون يدعون أن الدولة الغربية بلا أخلاق وهذا كذب محض إذ لا يمكن لأي نظام حتى لوكان مافيويا أن يوجد من دون التمييز بين درجتين من النظام المؤسس والمؤسس عليه الأول هو أخلاق المجموعة والثاني هو إجراءات تعايشها(27)
وهذا الانعدام الأخلاقي إلى درجة الصفرية غير ممكن أما بخصوص استحالة الدولة الإسلامية فذاك شطط بعيد وكذب محض كما يرى المرزوقي فكونية الاستعمار و الاستخلاف تظل قائمة بل قد تدخل في باب الوجوب من حيث الإمكان .
والمرزوقي مفتون بهذه الدولة التي لا تتعدى حدود الله التي هي المعيار القيمي الذي يجب أن يكون مراعا في أي شكل من أشكال الدولة أو التنظيم السياسي
فبرأي المرزوقي الله لم يشرع ولم يضع قانونا وإنما وضع معايير قيمية أخلاقية كونية كان الرسول صلى الله عليه وسلم مترجمها الأول من خلال دستور المدينة
ولقد استفاد المرزوقي من العودة إلى التراث الإسلامي خصوصا الغزالي وابن تيمية وابن خلدون وعلاقة المرزوقي بالتراث علاقة حميمية بدأها منذ سبعينات القرن الماضي حين ما أعاد الاعتبار للغزالي كفيلسوف على حساب ابن رشد المترجم وهو مذهب طريف خلف ضجة لا تزال مستمرة حتى الآن ثم تتابع مشروعه من خلال مجموعة من الكتب والأطروحات الطريفة والغنية على رأسها أطروحة منزلة الكلي في الفلسفة من واقعية أفلاطون وأرسطو إلى إسمية ابن تيمية وابن خلدون (28)


ب- الإستخلاف فيماوراء ححاب الملية
كنا قد أشرنا في الفصل السابق الذي حاولنا فيه تحديدا مفاهيميا للدولة من منظور حلاق والمرزوقي إلى نقطة بلورها المسكيني وهي كونية الاستخلاف في ما بعد الملية والتي رأينا أن المرزوقي لا يستنكرها فهو من جهة يرى أن كونية الملة تتمثل في كونية الإنسانية التي دللنا عليها الآية السابعة عشر من سورة الحج كتأسيس قرآني للخروج من أفق الملية بمفهومها الضيق الذي ينادي به الإسلاميون المزعومون على حد تعبير المرزوقي(29) والمتمثل حسب المرزوقي في المطالبة بالتطبيق الإجرائي للحدود ومشكلتهم الكبرى هي أنهم لم يفهموا أن هذه الحدود جاءت كوضع قانوني أو منظومة إجرائية قابلة للفهم والاستعاب وليست ضرورة دينية قانونية في حد ذاتها وهذا ما يؤكد ما ذهب اليه الفاروق عمر بن الخطاب من تعليق للحد فهما منه أنه مجرد صياغة قانونية تفهم وتؤل في أفق الاجتماع البشري وليست فروضا نافذة بدون العودة إلی واقع الناس ومعاشهم(30)
فنحن مدعوون اليوم للإقرار بشكل لا رجعة فيه بأن المعرفة الإنسانية واحدۃ ولأن العقل الإنساني واحد ولأن مصير الجنس الحيواني الذي نحن جزء وراثي وبيئي واحد(.....)(31).
بهذه المقدمات المنطقية يصل بنا المسكيني إلى ضرورة مراجعة كونيتنا في أفق مابعد الملية والخروج من كيانات سردية وهويات متصارعة تفتت وحدة الذات الإنسانية وعليه فإن ضرورة الاستخلاف الذي يتقاطع المرزوقي والمسكيني في ضرورة أن يكون مجردا وبعيدا عن أي مسار هووي حسب معجم المسكيني وآخر كوني قيمي يحيل إلى مسؤولية الإنسان كخليفة لله في الأرض كما تشير إلى ذلك آية الإستخلاف الشهيرة في سورة البقرة > وهذه المسؤولية بطبيعة الحال اتجاه النوع واتجاه الطبيعة بما هي بيت وجوده كما في عبارة هيدجر الشهيرة(32)ولإن كنا قد أسرفنا في التحليل النظري فذلك عائد إلى طبيعة الموضوع نفسه باعتبار ان المرزوقي قد صاغه في شكل نموذج يؤكد هو دائما على أنه مجرد بطبعه ، والمرزوقي هنا يستعير لغة روسو في كتابه العقد الاجتماعي
على اعتبار أن المفكر السياسي منوط فقط بالتنظير يقول روسو أنه لو كنت سياسيا أو أميرا لفعلت أو سكت...(33).
وهذا فصل روسوي واضح للعملي عن غيره وبالعودة إلى المسكيني فإنه يتقاطع مع اليوتار بما سماه أزمة السرديات الكبرى التي أسست الحداثة مشروعها عليها هذه السرديات من أهمها على مستوى الحداثة سردية التقدم التقني باعتبارها النطاق المركزي الذي يصلح فيه كل خلل يصيب النطاقات الجزئية(34).
ولقد ألمح المسكيني بين ثنايا حروف ابن خلدون بقعة ضوء نحو الخروج من هذا المأزق الكوني الذي هو بطبيعة الحال ليس مقتصرا على الغرب الذي أنتجه وإنما هو خاص بالكائنات البشرية التي لا تحمل صفة فوق كونها بشرية ، يقول ابن خلدون : استولت الأفعال البشرية على عالم الحوادث ، فكان كله في طاعته وتسخره ، وهذا معنى الإستخلاف المشار إليه في الآية إني جاعل في الأرض خليفة وهنا يحدد المسكيني ثلاث دلالات لضبط مفاهيم صاحب المقدمة دلالة الهوية تتعلق بمعنى الإستخلاف كهوية كونية جامعة وهذه النقطة بالتحديد يتفق المرزوقي والمسكيني حولها فأية الحج > (35)إذا كانت تحدد العلاقة بين البشر من منطلق يتجاوز الهوية ولا يفرق على مستوى الملة فإنها وبكل تأكيد تتقاطع من آية الاستخلاف في سورة البقرة ، كون مسؤولية الإنسان باعتباره خليفة في الأرض
أما الدلالة الثانية دلالة نظرية تخص معنى الاستخلاف بما هو استلاء على عالم الحوادث عن طريق السببية
أما الدلالة الثالثة دلالة معيارية تشير إلى الاستخلاف من حيث هو أفق أخلاقي ومدني أخير للعمران البشري على الأرض(36).
وهذه الدلالة المعيارية هي التي ينطلق المرزوقي منها على اعتبار أن الخطاب القرآني رسم حدودا قيمية لا تتعدى دون تقديمه لقوانين جاهزة قابلة
للتطبيق في عالم الحوادث بما هو أعيان وعبر كل زمان وكل مكان .

الفصل الثالث :الإمبراطورية الإسلامية هل من أفق حقيقي ؟
أ- حلاق ونطاق الأخلاقي :
ينطلق حلاق بالاعتماد على ماكنتاير من أن مفردة الاخلاق بمعناها الفلسفي لم توجد قط في النظام الإسلامي ولافي النص المؤسس ( القرآن )ففصل الأخلاق عن القانون كما هو الحال في الفكر الغربي لم يكن ممكنا في الجانب الإسلامي الذي بنصه المؤسس يشكل نموذج أخلاق كوني من الطرازالأول وهو مايعني أن الرؤية الكونية القرآنية ليست عميقة في توجهها الأخلاق فحسب بل هي مصنوعة من نسيج أخلاقي في شكلها ومحتواها على السواء فكل ما في هذ الكون مخلوق ليمتع به الإنسان ولكن ليس بالطريقة النفعية بل بطرائق تبرز مسؤولية أخلاقية عميقة (37)
وهذا خلاف النموذج الغربي الذي كان ينظر نظرة ميكانيكية للعالم عند ما يدعون بالفلاسفة الميكانكيين مثل بويل ونيوتن
وقد تميز القرن السابع عشر بمجموعة من الفلاسفة الطبيعيين الذين سحبوا كل الفواعل الروحية والتي بطبيعة الحال من بينها "الإله المنسحب" من الفاعلية في العالم مؤكدين أن المادة متوحشة وبليدة وغبية حتى والإنسان في النهاية خلق ليمتلك هذه الطبيعة ويحكمها كما يذهب الي ذلك الفيلسوف الميكانكي البارز روبيرت بويل (38) سالف الذكر.
وهذا ما يؤكد أن النظرة الحداثية للعالم المتمثلة في أبهى صورها في العقل التقني الذي كان مثار نقد لاذع من جل الفلاسفة الغربيين على غرار هابرماس ومشروعه العقلاني التواصلي بل وحتى فتحه الباب أمام القيم الدينية لإضفاء نوع من الروحانيات على هذا العقل التقني المشيء للعقل والإنسان والطبيعة وهذا الخواء القيمي هو الذي دفع ليو شتراوس إلى محاولة استعادة القيم الغربية الكلاسيكية لكبح جماح هذا السقوط الحر الموذن بالخطر
وبالعودة إلى القيم الإسلامية فإن حلاق يرى بأن الوضع النموذجي للشريعة في التقليد الإسلامي لم يضمن حياة مثالية فالشريعة الإسلامية ليست استثناء فقد اضطرت للعيش في مجتمع مضطرب كان بحاجة مستمرة لأشكال معينة من النظام والتنظيم شأنه شأن أي مجتمع آخر يقول وائل حلاق :"وقد عرف هذا المجتمع الفلاح المرهق بالضرائب والمجرم و المرابي والوقح والزوجة التعيسة المهانة وكأي مجتمع آخر ومن دون مقارنته بأروبا في القرون الوسطى
التي غلب عليها الإفراط في العنف والقمع إضافة إلي سوء استخدام الكنيسة للسلطة، كان للمجتمع الإسلامي من شمال إفريقيا والأندلس إلى جانب جاوه وسمرقند نصيب من البؤس فقد كان له متمردوه ونشالوه ولصوصه وقطاع طرقه بل وقضاته الفاسدون أحيانا لكن القانون الأخلاقي كان مهيمنا دائما بلا منازع (39)وهذ التداخل بين الاخلاقي والسياسي والاقتصادي الذي طبع الإمبراطورية الإسلامية حسب وائل حلاق المستحيل الصياغة في شكل دولة وطنية هو نفسه النموذج الذي يصر المرزوقي على أنه ممكن الوجود وإن بصبغته التجريدية الكونية في سبيل الخروج من هذه الأزمة القيمية التي تعيشها الدولة الغربية كما تعيشها أشباه الدول بالنسبة للساحة العربية وهو تطعيم ضروري لهذه الأخيرة إذا ما أرادت تلمس سبيل النهوض، يقول المرزقي "....فالإنسان يمكن أن يحقق فعل الحذق التقني مقتصرا على النجاعة التقنية مع المواد أوفي البشر فيكون أحذق تقني وقد يكون مع ذلك فظا وغليظا فإذا أضفت إليه طريقة العلم التقني كان ذلك سياسة الفعل وليس سياسة تقنية الفعل فيكون سمحا ولطيفا(40) يرتكز هذا النص حزب فهمنا على هذا الفصل بين الفعل التقني الذي يشير إلى التعامل مع الأشياء تعاملا تقنيا بدون سياسة فعل مرتبطة بالأخلاقي أو الإيتيقي الذي تتحدد معالمه من خلال مفردات من قبيل السماحة واللطف بدل الفظاظة والغلاظة تجاه الفعل في المادة بماهي عالم عيني مستقل عنا أنطلوجيا والبشر بماهم مشاركون لنا وجوديا في الفعل
وهو تصريح واضح للحاجة الفعلية إلى الأخلاق المترجمة بكونية الاستخلاف المتجاوزة للملية و التى حددتها آية سورة البقرة التي ذكرنا في الفصل السابق
هذه الأسباب هي التي دفعت حلاق إلى إحكام سرديته باستحالة الدولة الإسلامية فمفهومها مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي (41) فحتى بداية القرن التاسع عشر ولمدة اثني عشر قرنا قبل ذلك كان قانون الإسلام الأخلاقي والمعروف باسم الشريعة ناجحا في التفاعل مع القانون المتعارف عليه والأعراف المحلية السعيدة وغدا القوة القانونية والأخلاقية العليا التي تنظم شؤون كل الدولة والمجتمع (42) وهذا يعني أن حلاق ليس منوطا بدراسة الدولة في القرن التاسع عشر التي لم توجد إلا كتخيلات صنعتها دول الاستعمار والتناقض برأي حلاق نابع من هذا الاستقطاب المتأرجح بين قبول الدولة الوطنية الحديثة كمسلمة لاشية فيها وكأمر مفروغ منه فهي ظاهرة تصلح لكل زمان ومكان وهكذا يواجه مسلم اليوم تحدي التوفيق بين حقيقتين الأولى هي الوجود الحقيقي للدولة وحضورها القوي الذي لا يمكن إنكاره والثانية هي الحقيقة الديونطولوجية المتمثلة في ضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة .
تنطوي فرضية حلاق على إشكالين مضمرين وهما أولا بما حكم المسلمون أنفسهم في السابق ؟ وهذا مدار كتاب الدولة المستحيلة حسب حلاق أم السؤال الثاني وهو كيف يحكم المسلمون أنفسهم في حاضرهم اليوم وهو موضوع يرى حلاق أنه خارج نطاق إشكاليته وحقيق بكتاب آخر ومؤلف آخر (43)

ب:المرزوقي وأفق النهضة
إن طريق النهضة لهو أطول الطرق واكثرها مطبات وأحوجها إلي دليل ثم والأهم من هذا كله وأكثر الطرق حاجة للخبرة الحياتية بكل ما فيها من تاريخانية تحيل إلى تسلل حوادث عالم الأعيان عبر مقولة الزمن التاريخية وهي نقاط تبدو وكأنها الإطار المعجمي والنظري الذي يفكر المرزوقي من داخله
وما يرغب فيه المرزوقي وبالتحديد في كتابه آفاق النهضة العربية ، هوالخروج من التصورات التي سادت الساحة الفكرية العربية منذ لحظة الوعي بالانحطاط وضرورة النهوض والتي يمكن إجمالها في ثلاث أطروحات أساسية:
-الأولى تتمحور حول الانبتات من الموروث الحضاري العربي الإسلامي واللحاق بالركب الغربي المتطور على كل الأصعدة
-الأطروحة الثانية يرى أصحابها أن النهضة لا تتم إلا بالقطيعة مع ذلك المفهوم القلق الذي اخترعه بودلير سنة 1823 المعروف باسم الحداثة والارتكاز على استعادة عصر الإسلام الذهبي
-الأطروحة الثالثة تتبلور من خلال محاولة التأليف أو الجمع بين الغرب ومكتسباته التي لا مناص من الأخذ بها باعتبارها أمرا مفروغا منه كذلك ضرورة الأخذ بالمورث الديني .
بيد أن المرزوقي يريد تجاوز هذه التيارات من أجل الخروج من هذا المأزق التاريخي الذي لن يكون الخروج منه إلا بالدين ولكن ليس كما هو وسيلة سياسية وإنما بكونه دعوة متعالية لعلاج مسائل الإنسان عامة (44)
وهي نقطة نجد أن المرزوق يتقاطهعها مع حلاق كما بينا في الفصول السابقة
فالإسلام لديه مايقدمه على المستوى القيمي الأخلاقي- ليس فقط العالم الإسلام وإنما لكافة الإنسانية- فالإسلام لم يكن مجرد عقيدة لمجرد لتوحيد العرب أو المسلمين وإنما هو نظرية في الوجود والقيمة لنجاة الإنسان عامة أيا كان من التردي الذي يقصر وجوده على الأبعاد الدنيوية(45)


ولتلمس سبيل النهوض يرى المرزوقي أنه لا مناص للعرب من أن يتسمدوا من منزلتهم في الإسلام مايؤهلهم بالمثال الذي يقدمونه ليؤدوا دورا في تحرير العالم الإسلامي مما تردى إليه من انحطاط روحي ومادي وتقديم مثال أعلى للإنسانية يجعلهم بحق شهداء على العالمين ولا يكون ذلك إلا بتحقيق شرطي النهضة وهما الوحدة والقوة حيث إن الوجود الرائد للحضارة الإسلامية تحقق عندما امتلك عبدالملك ابن مروان رمزي السيادة وهما التعريب(اللغة) والعملة (الاقتصاد) (46)

لعله بات من الجلي أن المرزوقي مشدود دائما للنهضة كما تجسدت ماضيا على أن تتحقق حاضرا باستنساخ الأفكار والوسائل التي حققت تلك النهضة والتى من ضمنها الأخذ بفعل الحضارات لا بمفعولاتها ولئن كان التقليد سمة إيجابية ووسيلة من وسائل النهضة فإن مفتون المرزوقي الأول ومرجعه الأساسي {ابن خلدون} يقنن هذا التقليد بوصفه حالة سيكولوجية سيسيولوجية
خاصة بالمغلوب اتجاه غالبه والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه إما لنظرة بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي(47) وإنما هو لكمال الغالب (48)


الخاتمة أو على سبيل الخروج من التصادم إلى أفق التقاطع

يتفق إرويين روزنتال في ورقة له تحت عنوان نظرية الحكم في الإسلام مع طرح المرزوقي حول دستور المدينة باعتباره الحجر الأساس لدولة الإسلام التي تعد الإنسانية كافة شعبها والكرة الأرضية حوزتها التورابية بينما ترتكز المرجعية القيمية لها حول المبادئ العامة التي وضعها القرآن وخاصة الآية 17 من سورة الحج التي أوردناها في أكثر من فصل
ولقد ارتأينا ونحن نخطوا خطواتنا النهائية في هذه المقارنة
أن نرفع التعارض على المسوى النظري بين المرزوقي وحلاق رغم أنهما يبدوان للوهلة الأولى وكأنهما يتقابلان بالتضاد كقضيتين كليتين موجبة وسالبة والمرزوقي نفسه كتب عدة مقالات في نقد كتاب الدولة المستحيلة إبان صدوره كما بينا سالفا في خصم معالجتنا هذه
غير أن المدقق المتفحص لمشروعيهما يدرك ارتفاع هذا التضاد بالدخول تحته أو نقضه على الأقل نقضا مستويا.
فإذا كان الأخير قد خط لنفسه طريقا جديدا في السعي نحو ما أسماه كونية الاستعمار والاستخلاف من منطلق أنه لربما الأفق الوحيد للأمة الإسلامية وللبشرية بصفة عامة للخروج من هذا السقوط القيمي الا أنه أكد استحالة الدولة الإسلامية خارج هذا الأفق الكوني وهي تقريبا نفسها أطروح الدولة المستحيلة مع اختلاف في المواد والنصوص والروح العامة .
فحلاق يُحْكِمُ سرديته من منطلقين هامين كما أسهبنا في عرضهما لكن لا بأس من تلخيصهما:
1-الدولة الغربية الحديثة معطى أنطولوجي شامل لا يمكن تجاوزه
-هذه الدولة محكومة بمماهاة القانوني والسياسي .
-القانوني فيها مبني على حق التشريع وكذلك المحافظة على السيادة باعتبارها ميتافيزيقا هذه الدولة .
2-الإمبراطورية الإسلامية قدمت نموذجا فريدا على المستوى القيمي حيث لا انفصام بين القانوني والأخلاقي
-فالفقه كقانون يستبطن نظرة قيمية أعلى وأشمل تتجسد هذه النظرة من خلال خلاصة الشاطبي المقاصدية التي استقرأها استقراء كما يقول هو نفسه لا ينازعه فيه الرازي ولاغيره(49).
إذن نحن أمام تقابل بالتضاد واضح فمن جهة الدولة الحديثة معطى جاهز لايمكن التفكير حتى في الخروج عليه وهو محكوم بالقانوني الذي يسلب الأخلاقي من منطلقه الداخلي .
ومن جهة أخرى النظام الإسلامي قائم على المماهاة القوية والصارمة بين القانوني والأخلاقي من هنا تأتي الإشكالية والتناقض والاستحالة حسب حلاق .
لكن المرزوقي يرى بأن الدولة الحالية التي يعتبرها كاركاتورا أنشأته الدولة الاستعمارية غير قابلة لأي أفق أخلاقي وقيمي وهي استحالة مبطنة وتقارب واضح بينه وبين حلاق وخروج بالضرورة من ضيق التصادم إلى رحابة التقاطع.
والكونية التي يتحدث عنها المرزوقي لربما تدخل في السؤال الذي اعتبر حلاق أنه غير معني به وهو كيف سيحكم المسلمون أنفسهم في المستقبل؟
على اعتبار أن كتاب الدولة المستحيلة حقيق بسؤال الماضي وكيف حكم المسلمون أنفسهم فيه ؟ وهو مدار أطروحته وتبقى ميزة الاثنين أنهما مثيران للجدل سواء المرزوقي في مشروعه الطويل أو حتى حلاق في اعادة تصويبه للنظرة الاستشراقية أو حتى اعادته الاعتبار للمسألة الدينية السياسية العربية من خلال سردية الاستحالة الْمُحْكَمَةِ البناء المنهجي والنظري .


الهوامش :
1-ايمانويل كانط نقد العقل الخالص ترجمة موسى وهبة مركز الانماء لبنان بيروت ص 25
2-جان فرانسوا ليوتار / في معنى ما بعد الحداثة ترجمة السعيد لبيب المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء المغرب 2016 الطبعة الأولى
3-فتحي المسكيني الهوية والحرية: نحو انوار جديدة ص 40 وما بعدها
4-حلاق وائل الدولة المستحيلة ترجمة عمرو عثمان/المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية /الدوحة-قطر الطبعة الأولى ص71
5-المصدر نفسه ص نفسه
6-نيتشه أفول الأصنام/ ترجمة حسان بورقية و محمد الناجي/افريقيا الشرق/الطبعة الأولى1996 ص 40 وما بعدها
7-حلاق الدولة المستحيلة المصدر السابق ص66
8-المصدر نفسه ص نفسها
9-حلاق المصدر السابق ص 72
10-المصدر نفسه ص 75
11- المصدر نفسه/ الصفحة نفسها
12-حلاق المصدر السابق ص 75
13-المصدر نفسه ص79
14-نفسه ص 80
15-نفسه ص نفسها
16-أبو يعرب المرزوقي مقال تحت عنوان الدولة مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي الفصل
17-المرجع نفسه
18-أبو يعرب المرزوقي محاضرة تحت عنوان هل للإسلام نظرية دولة ؟
19-أبو يعرب المرزوقي المحاضرة السابقة
20-المرجع نفسه
20-ابن خلدون العبر..المجلد الأول دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط الأولى 1992م ص 213
21-المرجع نفسه ص نفسها .
22-نفسه 219
23-نفسه ص 220
24-أبو يعرب المرزوقي محاضرة سابقة
25-المصدر نفسه
26-حلاق المصدر السابق ص 19
27- حلاق المصدر نفسه ص 73
28-المصدر نفسه ص 74
29-أبو يعرب المرزوقي مقال تحت عنوان هل للإسلام نظرية دولة هل هي فعلا مستحيلة ؟
30-أبو يعرب المرزوقي إصلاح العقل العربي من واقعية أفلاطون وأرسطو إلى إسمية ابن تيمية وابن خلدون
31-أبو يعرب المرزوقي ورقة تحت عنوان "نظرية الحكم السنية" او "كونية بنية الدولة الوظيفية وخلقيتها" تونس 11/7/2015
32-فتحي المسكيني الهوية والحرية نحو انوار جديدة/ جداول-لبنان/الطبعة الأولى 2011 ص39
33-د عادل مصطفى/فهم الفهم/مدخل إلى الهيرمينوطيقا/رؤية, الطبعة الأولى 2007 ص 232
34-جان جاك روسو في العقد الاجتماعي أو في مبادئ القانون ت عبد العزيز لبيب/المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الأولى 2011 ص85 وما بعدها
35-فتحي المسكيني الهوية والحرية (مرجع السابق)
36-الآية 17 من سورة الحج
37-فتحي المسكيني (المرجع نفسه)
38-وائل حلاق المصدر السابق ص 164
39-المصدر نفسه ص 153
40-وائل حلاق/الدولة المستحيلة (المصدر السابق)ص45
41-المرزوقي/ الدين والفلسفة من منظور الفكر الإسلامي/دار الهادي للطباعة والنشر الطبعة الأولى بيروت 2006 ص 289
42-حلاق (المصدر نفسه) 19
43المصدر نفسه الصفحة نفسها
44المصدر نفسه ص 21
45-رضوان زيادة النهضة المستحيلة: قراءة المستقبل بعيون الماضي(أبو يعرب المرزوقي)
46-المرجع نفسه
47-رضوان زيادة النهضة المستحيلة ص 324
48-ابن خلدون/ العبر...الجزء الأول
المرجع نفسه
49-الشاطبي الموافقات الجزء الثاني دار ابن عفان الطبعة الأولى 1997ص12


قائمة المصادر والمراجع
المصادر:
1-حلاق وائل الدولة المستحيلة ترجمة عمرو عثمان/المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية /الدوحة-قطر الطبعة الأولى 2014م
2-المرزوقي/ الدين والفلسفة من منظور الفكر الإسلامي/دار الهادي للطباعة والنشر الطبعة الأولى بيروت 2006
3-أبو يعرب للمرزوقي مقال تحت عنوان الدولة مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي الفصل
4-أبو يعرب المرزوقي محاضرة تحت عنوان هل للإسلام نظرية دولة ؟
5-أبو يعرب المرزوقي مقال تحت عنوان هل للإسلام نظرية دولة هل هي فعلا مستحيلة ؟
6-بو يعرب المرزوقي إصلاح العقل العربي من واقعية أفلاطون وأرسطو إلى إسمية ابن تيمية وابن خلدون
7-أبو يعرب المرزوقي ورقة تحت عنوان "نظرية الحكم السنية" او "كونية بنية الدولة الوظيفية وخلقيتها"
المراجع:
8-ايمانويل كانط نقد العقل الخالص ترجمة موسى وهبة مركز الانماء لبنان بيروت
9-جان فرانسوا ليوتار / في معنى ما بعد الحداثة ترجمة السعيد لبيب المركز الثقافي العرب/ الدار البيضاء المغرب 2016 الطبعة الأولى
10-نيتشه أفول الأصنام/ ترجمة حسان بورقية و محمد الناجي/افريقيا الشرق/الطبعة الأولى1996 م
11-ابن خلدون العبر..المجلد الأول دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط الأولى 1992م
12-فتحي المسكيني الهوية والحرية نحو انوار جديدة/ جداول-لبنان/الطبعة الأولى 2011
13-د،عادل مصطفى/فهم الفهم/مدخل إلى الهيرمينوطيقا/رؤية, الطبعة الأولى 2007
14-جان جاك روسو في العقد الاجتماعي أو في مبادئ القانون ت عبد العزيز لبيب/المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الأولى 2011
15-رضوان زيادة النهضة المستحيلة: قراءة المستقبل بعيون الماضي(أبو يعرب المرزوقي)
16-الشاطبي الموافقات الجزء الثاني دار ابن عفان الطبعة الأولى 1997م ص12



#محمد_المختار_أحمد_فال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- جبريل في بلا قيود:الغرب تجاهل السودان بسبب تسيسه للوضع الإنس ...
- العلاقات بين إيران وإسرائيل: من -السر المعلن- في زمن الشاه إ ...
- إيرانيون يملأون شوارع طهران ويرددون -الموت لإسرائيل- بعد ساع ...
- شاهد: الإسرائيليون خائفون من نشوب حرب كبرى في المنطقة
- هل تلقيح السحب هو سبب فيضانات دبي؟ DW تتحقق
- الخارجية الروسية: انهيار الولايات المتحدة لم يعد أمرا مستحيل ...
- لأول مرة .. يريفان وباكو تتفقان على ترسيم الحدود في شمال شرق ...
- ستولتنبرغ: أوكرانيا تمتلك الحق بضرب أهداف خارج أراضيها
- فضائح متتالية في البرلمان البريطاني تهز ثقة الناخبين في المم ...
- قتيلان في اقتحام القوات الإسرائيلية مخيم نور شمس في طولكرم ش ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد المختار أحمد فال - من الاستعمار والاستخلاف إلى استحالة الدولة أو من الصدام إلى أفق التقاطع (حلاق والمرزوقي)