|
عذرا يا وطني…إنّه عمى العدسات
فتحية علاية المعاوي
الحوار المتمدن-العدد: 6450 - 2019 / 12 / 29 - 21:39
المحور:
الصحافة والاعلام
بعد أن أوصلت طفلي إلى الرّوضة، عدت إلى المنزل وتوجّهت رأسا إلى المطبخ لتحضير قهوتي الفوريّة التي لا تفارقني، لأستهلّ بها يومي (جرعة الكافيين وحدها قادرة على بعث نور الصّباح ونسماته في كل خليّة من خلايا جسدي). على كلّ، هذا الصّباح إستمتعت بقهوتي أمام برنامج صباحي يبثّ على القناة الوطنيّة (ونادرا ما أفتح التلفاز لأسباب يتعذّر حصرها) وتتنقّل عدسته بين الجهات الدّاخلية للبلاد التّونسية. لا أخفي سرّا إذا ما قلت أنّه على قدر تفاجئي بالأماكن والمشاهد الطبيعية الجميلة التي تزخر بها بلادنا على قدر الأسف والأسى اللّذان إستبدّا بي. فعلى إمتداد سنوات ونحن لا نشاهد سوى التّذمّر وغلاء المعيشة وانتشار الجريمة و إرتفاع إستهلاك المخدرات بين الشباب وفي الوسط المدرسي و إرتفاع نسبة البطالة والمديونية و الادوية المفقودة والتّهريب و الامّيّة و إضراب عمّال النّظافة و الاطبّاء والمدرّسين والمناوشات داخل مجلس الشّعب التي باتت محور كلّ نقاشاتنا… إلى غيرها من الأخبار الكارثيّة التي جعلتني أنا شخصيّا أعزف عن مشاهدة القنوات المحليّة لما لها من تأثير كئيب على معنوياتي. وفي هذا الصّباح، تفاجأت بمشهد مغاير تماما لما ألفناه في قنواتنا بعيدا كلّ البعد عن التّشائم والتّذمّر والشّتم داخل البلاتوهات الحواريّة…حتّى أنني نسيت أن بلادنا ورغم ما تعانيه من تشقّقات ومناورات وفترات إنكسار، أنّها ماتزال تلك البلاد التي نشتاق إليها و لرائحة ترابها ونحن في الغربة وأنّها ذلك الوطن العزيز الذي نقشت على جدرانه كلّ ذكريات طفولتنا وكلّ ضحكاتنا البريئة، وأنّه نفس الوطن الذي يحتضن أبي وأمي وأخواتي وأجدادي ويواري بترابه أجساد أحبّتنا…و أنّه ليس بهذا السّوء الذي سوّقوه لنا في وسائل الإعلام كامل الوقت حتّى جعلونا نؤمن بأن الهجرة ضرورة وأنّ الحياة هناك على الطّرف الآخر وليست هنا، وأنّه رغم معاناته وإنكساراته مايزال يختزن جوانب مشرقة تبهج النّفس وتستحقّ تسليط الضّوء عليها حتى لا نفقد أملنا فيه. تأكّدت هذا الصّباح أنّ الوطن ليس فقط مجرّد كومة أخبار سياسيّة وإقتصاديّة وإنّما هو أرحب بكثير من هذه الحدود الضّيّقة التي سيّجونا بها طيلة هذا الوقت وأنّه يحقّ لنا أن نفخر به ونعتزّ بعظمته التي توارت خلف أطنان من الأخبار القاتمة. ف... عذرا يا وطني إذا ما رغبت يوما بالتّحليق خارج أسوارك عذرا يا وطني إذا ما ظننت يوما أنك مجرّد رقعة أرضيّة جدباء لا يوجد فيها ما يستحقّ الزّيارة والاستكشاف عذرا يا وطني إذا ما فكّرت يوما في غيرك من الأوطان التي تكون أصلح للعيش عذرا يا وطني إذا ما جهلت يوما ثراء تاريخك وجمال صحرائك وروعة واحاتك عذرا يا وطني إذا ما يوما غفلت عمّا تزخر به من معالم أثريّة و من حضارة عريقة و من تاريخ عظيم عذرا يا وطني إذا ما لم أر ينابيع مياهك الكريستاليّة ولم أتنشّق شذى الياسمين على شرفاتك ولم أطرب لموسيقاك الخالدة سأطلب صفحك دائما وأبدا، سأطلبه لي وللّذين سكنوا ربوعك في زمن مضى سأطلبه لي وللّذين أداروا ظهورهم لك للبحث عن سواك سأطلب العفو لي وللذين إستهانوا بقيمتك وخذلوك وقت الحاجة سأطلبه لي وللّذين أبدعوا في نسج النّكات للتندّر بجراحك والسّخرية من عجزك في لحظة تقهقر سأطلبه لي و للّذين شكّكوا بمجدك في لحظة هوان وقلّة حيلة ليست فيك بل في من استوطنوا ربوعك يا وطني عذرا يا وطني إذا ما سئمت يوما سماع أخبارك الموغلة في الكآبة والسوداويّة سأعتذر منك ومن أعلامك التي تفخر بإنتمائها إلى ترابك يا وطني و اعلم يا وطني أنّ عظيم الشّأن يبقى عظيما أبد الدّهر حتّى لو أدمته السّنين فالرمز يبقى رمزا وستبقى هيبتك تتدفق في عروق أبنائك كلّما ضخّت فيها الدّماء سألتمس منك الصّفح لأولئك الذين روّجوا عنك سوى القصص المخيفة والصّور القاتمة، ولم يجتهدوا لينقلوا لنا جوانبك المضيئة التي تعبق بمجد الأجداد و إبداع الشّباب. الغالي يبقى غالي يا وطني حتى لو رخّصوه ستبقى أبيّا وعالي الهمّة حتى لو كنت ترزح تحت أثقال غباء وقسوة الكثيرين من أبناءك ستبقى منيعا وعالية حصونك مهما حاولوا إذلالك وإخضاعك لا تخشى الانكسارات يا وطني حتى وان كانت كبيرة، فالمصائب الكبرى لا تأتي للطفيليّات، بل تلحق بالأسود لتنال بهم شرف المنازلة. قالوا أنّك عديم الفائدة وأنّك ستبقى على اعوجاجك ونسوا أنّك فوّضت لهم مقاليد التحكّم والتّسيير فعاثوا فيك عهرا وفسادا. بنيت المجد أمجادا فلم يبالوا ولم يحافظوا و لم يضيفوا... لا تعتب عليهم يا وطني، فربّما سيأتي يوما و الثّقوب السّوداء التي تستوطن رؤوسهم ستؤثثها عقول راقية بحقّ ويدركوا أنّ الإعلام الحرّ ليس ذلك الذي يقتصر على النّبش في النفايات وإنما ذلك الذي يشدّ الهمم والعزائم ويوقد شعلة الأمل في عيون أبناء هذا الوطن. "الخير يجلب الخير" هذا ما على كلّ الأقلام والعدسات والرّاديوهات أن تتعلّمه. وبالنتيجة "لا تسأل ماذا قدم لك وطنك، بل اسأل ماذا قدمت أنت لوطنك". على هذا الأساس يجب أن تبنى علاقاتنا مع أوطاننا.
#فتحية_علاية_المعاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خطوة جديدة إلى الخلف أم توجه نحو آرية جديدة؟
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|