أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - اغلالو ياسين - الامبريالية - عندما يدوم الاستعمار طويلا















المزيد.....


الامبريالية - عندما يدوم الاستعمار طويلا


اغلالو ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 6415 - 2019 / 11 / 21 - 01:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة:
يعتبر الاستعمار شر الحضارة ومصدر قلقها المستمر. فأمام واقع التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي...الذي كنا نعتقد انه سيقود العالم والوجود البشري الى مزيد من الحرية والامن والاستقرار، إلا انه كان يحمل في طياتنا نقيضه. وبهذا قادت القوى العظمى الغربية المهيمنة على مسرح التاريخ الحديث والمعاصر العالم الى واقع من الاضطهاد والاستعمار والهيمنة والسيطرة على الاخر، وإخضاعه ونهب ثرواته وتبديد احلامه في مقابل وعودها بمزيد من الحرية والأمن والاستقرار. وقد ذاقت البلدان العربية الاسلامية نصيبا من هذا الشر، خصوصا بعدما استجاب مناخ البلدان العربية للخمول والانقباض بتعبير ابن خلدون. الامر الذي جعل منها محطة لأطماع استعمارية، لتأتي النهضة والاستفاقة العربية على أصوات الدبابات الاوربية التي حطت على شواطئها. وكما يقول أحد المفكرين وإن غادرت الدبابات، فقد بقيت المطبعة. في حديثه عن أشكال الاستعمار الجديدة التي تتربص بالبلدان العربية.
غرضنا في هذه الدراسة يتعلق بالتفكير وتفكيك الابعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية للامبريالية التي تتربص بالبلدان العربية، خصوصا وان الدراسات العربية عن الامبريالية نجدها معدودة على رؤوس الأصابع. وإذا استثنينا كتابات سمير امين عن الموضوع، ومن بعده رفيقه الهادي التيمومي في كتابه "مفهوم الامبريالية من عصر الاستعمار العسكري الى العولمة" والذي قدم له المفكر سمير أمين نفسه. سنجد ان باقي الكتابات العربية عن الامبريالية قد اعتنت في جزء كبير منها بالامبريالية وعلاقتها بالثقافة، وهذا ما يجسده عنوان كتاب إدوارد سعيد "الثقافة والامبيريالية"، وبعض مقالات المفكر المغربي عالم المستقبليات المهدي المنجرة خصوصا في كتابه "الإهانة في عهد الميغاإمبريالية".
إن الامبريالية الاستعمارية تشكل التجسيد الفعلي للشيطان بتعبير لوك فيري في كتابه "الانسان المؤله أو معنى الحياة". وواقعنا العربي يقتضي تأمل وتفكيك هذه الشيطنة التي تنطوي عليها الامبريالية، خصوصا وان الحديث عن هذه الاخيرة كما يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية" "هو حديث عن غزو عسكري سياسي وإقتصادي وأخلاقي وثقافي ولغوي وأزيائي وطعمي..." .
أمام هذا الوضع يعتبر التفكير في الاستعمار وآلياته المختلفة الجديدة بالنسبة للباحث العربي والدول العربية، شكلا من أشكال المقاومة وتأكيد الذات وإعادة رسم الحدود ونمط علاقتنا بالأخر. خصوصا وأن "تاريخ العالم الثالث في الخمسين سنة الاخيرة عبارة عن سلسلة لا متناهية من المهانات والمذلة" كما كتب المهدي المنجرة متحدثا عن الماضي الاستعماري للبلدان الاوربية، الذي يقوم على إخضاع الاخر واستغلال خيراته وثرواته اعتمادا على اشكال استعمارية تتجدد باستمرار في اطار تقسيم العالم بين القوى العظمى.
ان البحث في الاستعمار وآلياته الجديدة يعد اليوم ضرورة ملحة، خصوصا في ظل استمرار فشل المخططات التنموية بالبلدان العربية - ووضعيتها التاريخية الموضوعية والذاتية التي تسائل بشكل مباشر التدخل الخارجي، والهينة الامبريالية التي تقودها القوى العظمى. التي تتوجس من قيام دول عربية قوية بإمكانها ان تقف عائقا امام غطرسة القوى الغربية، وأطماعها الاستعمارية الجديدة. ونظرا للطابع المعقد للامبريالية بحيث ترتبط من جهة بتكوين إمبراطوريات اقتصادية وسياسية والترويج لعلاقات إنتاج محددة، ومن جهة اخرى نجدها تتأسس وتسلك طريق الغزو الثقافي والأخلاقي مستهدفة الاخر على مستوى هويته ووعيه. كل هذا يدفعنا الى معالجة الموضوع وفق منهجية ننطلق فيها من معالجة البعد السياسي والاقتصادي للامبريالية وعلاقتها بالرأسمالية، ثم التطرق فيما بعد للثقافة والامبريالية وأشكال المقاومة وتاكيد الذات التي يسلكها الاخر.


1- الامبريالية الاستعمارية شبح الرأسمالية
إذا كانت الامبريالية "المشتقة من الكلمة اللاتينية Empire (امبراطورية) كلمة قديمة، وتعني في الازمنة السابقة لعصرنا اما كل سياسة توسعية ترمي الى إنشاء امبراطورية او كل منظومة فكرية تبرر ذلك" كما جاء على لسان المهدي التيمومي في كتابه " مفهوم الامبريالية من عصر الاستعمار الى العسكري الى العولمة "، فإن الدول العربية الاسلامية عانت ولازالت تعاني من هذه السياسة التوسعية الاستعمارية سواء بشكل عسكري مباشر، او بشكل غير مباشر اعتمادا على طرق مختلفة جديدة تضمن وتكرس هيمنة وسيطرة القوى العظمى. على اعتبار ان الامر لم يعد يتطلب بالضرورة وجود قوة السلاح والدبابات والطائرات.
لقد كان الاستعمار القديم كما يقوم الهادي التيمومي "يكتفي بسلب المستعمرات جزءا مما كانت تنتجه من فائض، لكنه يُبقي في الأعم الأغلب على ما بتلك المستعمرات من بنى اقتصادية واجتماعية وثقافية. اما الاستعمار الجديد فهو استعمار نهاب ومقوض لما بالمستعمرات من بنى مختلفة." لهذا قبل الخوض في الابعاد الثقافية والأخلاقية للامبريالية، تجدر الاشارة الى ان تاريخ الدراسات والبحوث حول الامبريالية مر بمراحل. اذ ركزت الكتابات الاولى التي قد نسميها اليوم كلاسيكية على الامبريالية في جانبها الاقتصادي. فتم اعتبار الامبريالية وليدة والابن الشرعي للرأسمالية، وان الرأسمالية في تطورها تحمل بالقوة مرحتها المتقدمة والمتجلية في الامبريالية. ويمكن ان ندرج في هذا الاتجاه من البحث كل الكتابات التي تنخرط في التقليد الماركسي. ودليل قولنا كتاب فلاديمير لينين الذي اختار له عنوان "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية"، مرورا بنكولاي بوخارين وكتابه "الاقتصاد العالمي والامبريالية"، ومن قبل هذا كله بحوث وكتابات كارل ماركس ورفيقه فريدريك إنجلز عن الاستعمار وأزمات الرأسمالية. لهذا كان من الطبيعي وفق الدراسات والبحوث الماركسية أن ننتظر تطور الرأسمالية حتى تنضج وتبلغ قمتها، لنشهد ولادة عصر الامبريالية الاستعمارية. ليتوسع شطط هذه الاخيرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وترسيم القطبية الواحدية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، وتحالفاتها ذات الهندسة المتنوعة. وبالتالي وكما يذكر الهادي التيمومي "أن كلمة الامبريالية وإن كانت معروفة منذ العصور القديمة، فإنه لم يكتب لها الرواج إلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويعود ذلك الى هستيريا التنافس الضاري حول المستعمرات التي استبد بالدول الرأسمالية الاقوى انذاك وأفضى الى اقتسام كل العالم ولأول مرة في التاريخ بين أقطاب النظام الرأسمالي العالمي."
غرضنا لا يتعلق بعرض تصور كارل ماركس او الماركسية بصفة عامة عن الاستعمار الذي يتخذ أبعادا معقدة، خصوصا في مشروع كارل ماركس الذي رأى في الاستعمار آلية مساعدة للمجتمعات المستعمرة ما قبل الرأسمالية على الانتقال بسرعة الى النظام الرأسمالي. وبالتالي تكوين طبقة بروليتاريا عالمية تتحالف ضد البورجوازية. بل ما يهمنا هو البعد المتناقض للنظام الرأسمالي، والذي سينتهي في مرحلة انتعاشه وازدهاره الى نظام امبريالي للحفاظ على وجوده وضمان استمراره، على اعتبار ان الامبريالية هي عجلة ووقود الرأسمالية.
وبهذا لوحظ "أن الدول الرأسمالية الكبرى قادرة على استغلال خيرات بلد معين باللجوء فقط الى الوسائل الاقتصادية، دون الوسائل العسكرية. وقد أطلق بعض المفكرين تسمية الامبريالية l’imperrialisme (على هذه العملية)." هذا التوصيف الذي يقدمه التيمومي للامبريالية ويتخذه كتعريف لها، هو نفس الفهم الذي حرك معظم الدراسات العربية لتطوير تصور عن اشكال الاستعمار الجديدة التي تكرس التبعية للقوى العظمى. خصوصا بعدما وجدت نفسها في علاقة غير متكافئة رغم خروجها من قبضة الاستعمار المباشر وتأخر قطار التنمية بمعظم البلدان العربية الاسلامية رغم اراداتها القوية.
ان الرأسمالية بطبعها لا أخلاقية كما يقول كارل ماركس، هدفها هو الاغتناء وتحصيل والمال وبالتالي الاستغلال، انها في جوهرها لا عادلة. لهذا عاشت القارات الثلاث تبعية اقتصادية وسياسية وثقافية للدول العظمى الامبريالية التي قسمت العالم، بعدما استحوذت الدول الرأسمالية على مناطق التأثير والرأسمال الممول لعجلة النظام الرأسمالي. وصار الاخر لا يمثل إلا مصدر للثروة، او يد عاملة رخيصة، او سوق متلهفة للسلعة.
ان ارتفاع مستوى الانتاج قاد القوى العظمى الى تقسيم العالم فيما بينها، وقد دفع هذا الامر فلاديمير لينين في كتابه "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية" الى تقديم احصائيات لأحد الباحثين عن المجال الجغرافي الخاضع للمستعمرات الاوربية، فيذكر ما مفاده انه خلال سنة 1900 كانت اكثر من 90 في المئة من بلاد افريقيا تحت الاستعمار الاوربي. وهذا ما يدفعنا الى القول ان الاستعمار وان كان موجودا قبل المجتمع الرأسمالي، فان ما يميز هذا الاخير هو بعده التصنيعي الرأسمالي، فيصبح الاخر مصدر للمواد الاولية وسوق استهلاكية.
وبهذا فكل اشكال التدخل الاجنبي تهدف الى تكريس علاقات انتاج معينة، التي هي بالطبع علاقات تخدم مصلحة القوى العظمى المسيطرة. فتشييد السكك الحددية كما يقول لينين "يبدو عملا بسيطا طبيعيا وديمقراطيا ثقافيا وحضاريا: لكنه في أعين خبراء البرجوازية طريقة لإخفاء بشاعة العبودية الرأسمالية." الامر الذي يعني ان الامبريالية تسلك طرق عديدة وذات أبعاد اجتماعية تغطي بها على اهدافها الاصلية. ولم تعد بالضرورة في حاجة الى القوة العسكرية المباشرة. فبعد مغادرة وإجلاء الدبابات وكل تجليات القوة العسكرية تبقى الشركات العابرة للقارات، والرأسمال التمويلي الاجنبي الذي يكرس الهينة والتبعية. لأنه كما كما جاء على لسان لينين "إذا أردنا تعريف الامبريالية بشكل مختصر يمكننا القول انها مرحلة الرأسمالية عندما تتحول الى شركات احتكارية." مما ان القوى العظمى تعمل على تركيز الرأسمال في يد تكتلات وشركات بعينها، الامر الذي يجعلها مهيمنة وسائدة وتمنع صعود الرأسمال الوطني للبلدان المستهدفة. انه وجه اخر للاستعمار يقوم على التحكم السياسي والاقتصادي باعتماد وسطاء -شركات ومؤسسات تعمل كطواحن لخدمة النظام الرأسمالي، وتستغل دول نائية أقل تقدما وتعتبرها خزان للثروة وسوقا متعطشة ويدا عاملة رخيصة.
إذا كان للامبريالية كل هذه التجليات والأوجه المتعددة، فان لينين حاول تحديد خصائصها وجعلها خمسة:
1- تركيز الانتاج والرأسمال الامر الذي انتج الاحتكار
2- ظهور اوليغارشية تمويلية بعد ادماج الرأسمال المالي مع الرأسمال التمويلي
3- تصدير الرأسمال الذي اصبح مختلف عن تصدير السلع
4- نشأة شركات احتكارية قسمت العالم
5- تقسيم المجال الجغرافي العالمي بين القوى الكبرى الرأسمالية.
تبين هذه الخصائص كيف ان الامبريالية تهدف الى ضمان استمرار الهيمنة، وإخضاع الاخر لمنطق علاقات انتاجية معينة. وتدفع القوى العظمى الى التنافس على المجالات الجغرافية الغنية طبيعيا و بشريا، مما يولد الصراعات والحروب والانقسامات داخل البلدان المستهدفة وتأجيج الهويات القومية. وهي حرب "تقودها مصالح وأطماع معينة على مستوى المنطقة" بتعبير المهدي المنجرة في حديثه عن الحرب على أفغانستان والعراق، والتي اعتبرها حرب من أجل النفط. وبالتالي فالاستعمار وكل تدخل اجنبي بالمنطقة العربية والشرق الاوسط وباقي دول العالم النائية لا ينفك عن هذه القاعدة، التي تديرها المصالح والأطماع وتكرس الهيمنة والتبعية.
اذا كنا قد اكدنا سابقا على الابعاد المتعددة للامبريالية، بحيث وراء أطماعها الاقتصادية تقف ترسانة من السرديات الاستعمارية ذات الابعاد الثقافية، والأخلاقية، والأزيائية...والتي تهيئ الوعي البشري. وتخلق عنده بالتالي بنية إيديولوجية تمكنه من الانخراط السلس في علاقات الانتاج التي تقودها وتكرس لها القوى الامبريالية العالمية. التي رأينا كيف انها تتطاحن لتقسيم العالم جغرافيا، خدمة لمصالحها الرأسمالية. وإذا كنا قد تحدثنا سابقا على البعد الاقتصادي للامبريالية، وعلاقتها المباشرة بالرأسمالية. فان المهمة المتبقية تتعلق بتسليط الضوء على هذه السرديات الناعمة، التي تغزو العالم ثقافيا وتقوض بنية وعيه الأصيلة بتعبير الفيلسوف الالماني مارتن هيدغر. وتخلق عنده وعي مزيف يجعله ينخرط في بنية النظام التي تروجه الامبريالية العالمية وكأنه النظام الواحد الممكن والأصلح وفق سردية نهاية التاريخ التي روج لها فوكوياما.


2- الامبريالية والثقافة وأشكال المقاومة المضادة

نصادف في كتاب المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد "الامبريالية والثقافة" مقطع معبر للروائي الانجليزي جوزيف كونراد من روايته "قلب الظلام"، يعتبر "أن فتح الارض، الذي غالبا ما يعني انتزاعها من أولئك الذين لهم بشرة مختلفة عن بشرتنا أو انوفا اكثر تسطيحا بقليل من انوفنا، ليس عملا جميلا حين نتأمله بإمعان، وليس ثمة ما يشفع له ويمنح الخلاص سوى الفكرة ذاتها: فكرة كامنة وراءه، لا ذريعة عاطفية بل فكرة، وإيمان لا تشوبه الانانية بالفكرة – التي هي شيء بوسعك أن تقيمه نصبا وتنحني أمامه مبجلا وتقدم له القرابين." ان الامر لم يعد يتعلق بإدخال الدبابات واحتلال الشواطئ والبراري، بل يتعلق بتمرير وإدخال الفكرة وجعلها مقبولة عند الناس ومتحمسين لها. إنه إقناع للرأي العام بمشروعية التوسع الامبريالي وببعده الاخلاقي احيانا وذلك بعرض حجج عبارة عن تبريرات: فالروائي البريطاني روديارد كيبلينغ المناصر للامبريالية كان يعرض حجج يمكن ان نسميها حضارية، تقر بأن الرجل الابيض يتحمل مسؤولية ادخال الشعوب المتخلفة ولو مرغمة في الحضارة، مرورا بحجج أخرى إنسانية تعتبر "أن الدول المتقدمة لها حق التدخل الانساني لاستئصال العبودية والاستبداد الشرقي ونشر قيم الحرية والعدالة وحقوق الانسان داخل البلدان غير الغربية." وحجج اخرى عنصرية تقوم على ارادة القوة والتمييز بين الاجناس النقية والدنيئة، وأخرى إحيائية بتعبير الهادي التيمومي التي تعتبر الامبريالية ضرورية لإحياء الشعوب وتخليصها من البيروقراطية والعقم، وقد تكون تبريرات ذات مصوغات دينية تعتبر الامبريالية تخليص للعالم من الوثنية وتنصير غير المسحيين. كل هذه التبريرات التي تهدف الى اقناع وطمأنة شرائح واسعة من الرأي العام الأجني، وتبرير غزو بلده للبلدان الاخرى. وهي نفس التبريرات التي قد يطمئن لها الرأي العام المستهدف خصوصا عندما يتعلق الامر بمصوغات محاربة التخلف، وتحرير الشعوب من الاستبداد، ونشر ثقافة حقوق الانسان وتبريرات أخرى جديدة اكثر موضة تتجلى اليوم في سيمفونية محاربة الارهاب...
كل هذه الحجج والتبريرات هي الوجه الاخر لعملة واحدة عنوانها الامبريالية العالمية، التي تحكم قبضتها على العالم. وبالتالي "فالجدل حول مفهوم الامبريالية منذ تشكل هذه الظاهرة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الى أيامنا هذه لم يكن لإشباع فضول معرفي، وإنما كان يعكس صراعا فكريا بين خطين: خط القوى الاجتماعية المستفيدة من الامبريالية، وخط القوى المتضررة منها." انه نوع من الصراع بين المراكز العالمية، وقوى الهامش. وهو صراع غير متكافئ. بحيث توظف القوى العظمى اذرعها الاقتصادية الاحتكارية كما رأينا سابقا، كما تسخر آلاتها الاعلامية ونواياها الاخلاقية السيئة...لهذا قلنا سابقا ان الكتابة عربيا عن الامبريالية هو نوع من انواع المقاومة باعتماد اللغة والفهم والوعي.
ان الهيمنة الثقافية وتكريس التبعية على مستوى الذوق الفني والأدبي والأخلاقي... هو جزء من مشروع الامبريالية العالمية التي رأينا سابقا وجهها الاقتصادي. لهذا اعتبر ادوارد سعيد ان الثقافة ليست محايدة، بل أول ما يجب الانتباه له اليوم هو ان الغزو صارت أحداثه تنسج على حلبة الساحة الثقافية. بحيث أصبحت هذه الاخيرة "مسرح من نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة متباينة، هيهات ان تكون الثقافة مملكة ساجية...بل إنها قد تكون ساحة عراك فوقها تعرض القضايا نفسها لضوء النهار وتتنازع فيما بينها." لقد ادخلت الامبريالية العالمية الاخر في ازمة تحكمها الغربة عن الذات، وفقدان المعنى. نتيجة الهجوم على القيم والمنظومات والمرجعيات الكبرى التي تجعل الفرد يحس بالانتماء، وينطلق بالتالي من هوية تاريخية يستطيع عبرها الاجابة على قلق الحضارة المعاصرة، ومواجهة الاستلاب، والأخطار الخارجية التي تتربص بالذات. لهذا تسعى الدول التي تعرف هجوما وتدخلا خارجيا امبرياليا الى تقوية وتأكيد الهوية القومية ثقافيا وأخلاقيا...
ان الامبريالية تهاجم ثقافيا، لتمنع سرديات أخرى من ان تتكون وتبزخ. لان الهيمنة والسيطرة الثقافية والأخلاقية، تجعل الاخر المغلوب والمستلب يدخل في هيستيريا تقليد الاخر، والتماهي به وسلوك طريقته ونمطه الاقتصادي والثقافي. وهذا ما انتبهت له السرديات العربية التي سلكت طريق المقاومة والتصدي لمخططات الامبريالية العالمية، إذ يقول المهدي المنجرة معلقا على تجربته كمسؤول بمنظمة اليونسكو "لقد ازددت قناعة بفكرة ابن خلدون في ان القوي ينطلق دائما من قيمه، والحقيقة تحتاج الى القوة، وعندما تخسر قبيلة ما النزاع يكون أول رد فعل عندها هي ان تقلد القبيلة التي تفوقت عليها، والرغبة في قيادة الانسان كثيرا ما تحرك ما يسمى بالحضارة الغربية في علاقتها مع الاخر." هذا القول يكشف لنا عن الابعاد الامبريالية والرغبة في السيطرة وتصدير القيم والأخلاق التي تحكم الوعي الغربي، باعتباره القائد للعالم والنمط الواحد الممكن الذي يجب على كافة دول العالم ان تتشبث به وتسلكه.
لقد جندت الامبريالية العالمية اليات متعددة مختلفة لتأكيد فكرة التقدم والتفوق الأجنبي، وجعلت التاريخ الحديث والمعاصر يكتب بأعين اوربية. في طليعة هذه الوسائل تأتي الآلة الاعلامية للقوى العظمى، ثم أقلام المفكرين والأدباء الذين يتخذون الحكي والسرد آلية لتمرير فكرة نهاية التاريخ، ورسم مسيرة واحدة للتاريخ على الطريقة الغربية. ونستحضر هنا امثلة متعددة لأقلام فكرية اعلنت نهاية التاريخ وانتصار النموذج الرأسمالي الغربي، وأفول كل السرديات المضادة والمخالفة كما فعل فوكوياما. الذي اعلن نهاية الانسان وكل الارادات الاخرى التي تتحرك خارج نسق القطبية الواحدية. ومن بعده أستاذه صامويل هنتنغتون الذي رأى ان نظرية تلميذه نظرية قاصرة وأبدع في تأسيس نظرية تقول بصراع الحضارات، هذا الصراع الذي سيحدد شكل العالم مستقبلا.
انه في الحقيقة ليس صراعا بل خطرا مصدره القارات التي عانت من الامبريالية الاستعمارية. وهذا ما جعل عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة الذي قال بحرب الحضارات قبل هنتنغتون، يعلق عائلا أن طرح هذا الاخير المتعلق بصراع الحضارات وقائيا بحيث يعتبر "ان الخطر سيأتي من العالم غير اليهودي – المسيحي، وهذا خطاب يستند الى الدفاع عن النفس." في حين كان خطاب المنجرة مستقبليا استشرافيا، يتنبأ بوضعية العالم العربي الاسلامي الذي الصقت به صفات وأصبح الشر والخطر الذي يهدد استقرار العالم وأمنه. لقد كان لهذا الخطاب الامبريالي الثقافي صدى كبير على الوعي العربي، الذي نهض لتأكيد هويته الانسانية الكونية ومواجهة التهم المنسوبة للهوية العربية الاسلامية. وذلك بتشجيع التربية التي تعزز القيم العربية الإسلامية مع ربطها بالقيم الانسانية الكونبية من: حرية وحقوق الانسان وديمقراطية ... مع النهوض باليات التعبري والاعلام المضاد الذي يفتح النقاش مع الحضارات الأخرى، لبيان القصور الذي يلحق بعض النظريات التي تروج لها الامبريالية العالمية على المستوى الثقافي. ويمتد النقاش الحضاري اليوم الى الهويات المتطرفة او القاتلة بتعبير امين معلوف والتي تعمل السرديات الامبريالية على الصاقها بالذات الاسلامية مباشرة لتبرير غزوها وتدخلها الاجنبي، في الشؤون العربية الاسلامية وتوجيه سياسات هذه البلدان ونهب خيراتها وثرواتها. الامر الذي حمَل الحضارة العربية الاسلامية عبئا مضاعفا. يجعلها تضطلع من جهة بمهمة تحصين الذات وتأكيد هويتها التاريخية وربطها بالقيم الانسانية الكونية، ومن جهة اخرى مواجهة الغزو الامبريالي الثقافي الذي يوزع التهم ويعمل على شيطنة الاخر واتخاذ الامر حجة للسيطرة والتدخل في شؤونه ونهب ثرواته.

خاتمة:
امام هذه الاوجه المختلفة للامبريالية العالمية والوضعية والمهمة المعقدة التي تضطلع بها الدول المستهدفة، نجد أن الامبريالية لا تنفك تجدد ذاتها وتتخذ أقنعة مختلفة. تسقط الاخر في شباكها ومصالحها، اذا لم يتسلح بالوعي المناسب واليات الفهم والتحليل الضرورية لتفكيك بنية الخطاب الاجنبي والتعرف على طموحاته الاستعمارية الثاوية. وبقدر ما تنجلي وتنكشف الامبريالية العالمية من طرف الخصوم ويتم كشف أبعادها وأقنعتها، بقدر ما يزداد الوعي وتتعاظم الاجتهادات لدى خبراء ومنظري السياسات الامبريالية لتجديد اشكالها.



#اغلالو_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محمد عابد الجابر بين دعاة اللغة العامية و عبد الله العروي
- المرأة من منظور فلسفي (ابن رشد - Averoès)


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - اغلالو ياسين - الامبريالية - عندما يدوم الاستعمار طويلا