أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صلاح الداودي - نحو -جمهورية الجماهير- أو الجمهور كواقعة ما بعد ديموقراطية















المزيد.....


نحو -جمهورية الجماهير- أو الجمهور كواقعة ما بعد ديموقراطية


صلاح الداودي

الحوار المتمدن-العدد: 1552 - 2006 / 5 / 16 - 17:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ثمة احتمالات عديدة قد تشهد غدا على أن الإنسان المعاصر لم يعد يموت. ذلك انه يقتل فقط.هو إنسان القتل بامتياز و كلما قتل إنسان ما إلا و كانت دولة ما وراء ذلك.و هذا القتل هو كذلك تسهيل للديمقراطية السلسة.هو ديمقراطي مادام ثمة "ديمقراطية الكترونية" صالحة للانتخابات المريحة التي لا يمارسها إلا الأكفاء الذين ناضلوا بشراسة و ببالغ الثورية من اجل حقهم في الانتخابات أو في" العبودية الإرادية".قلما تقتل الطبيعة أبناءها المعاصرين نهشا أو غرقا, نسفا ,مرضا أو تخريبا ...و إن حدث ذلك فمن المؤكد انه بمقتضى انفلونزا هذه الدولة التي كانت و لا تزال أفضل معوض و حارس للغابة و النهر و البحر ...و كل الغرائب الأخرى فهي إذن مقتل الإنسان و مصرعه. و أما سكانها, الشعب بخاصة, فلقد وقع في مأزق خطير هو الزويبوليتيكا الكانّيبالية التي تعتمد على عنصر الحيوانية و ليس على أساس الحيوية البشرية أو بعبارات أخرى, تقوم على الحياة العارية و ليس على الحياة كثقافة. وهو ضحية الدولة و ضحية نفسه . يكمن الإشكال الكبير في كونه استبطن السلطة (تسلط على نفسه )حتى النخاع و كاد يودي نهائيا بحياة الجمهور لولا انه لم يكن يحمل معه ,تماما كالدولة ,شروط انهياره الداخلي و تدميره الذاتي .هذا الشعب هو اليوم المأزق و الفخ الذي وقع فيه الجمهور حينما صدق انه يمكن أن يكون شعبا واحد وحيدا أوحدا يحمي الوطن ,يطرد الاستعمار ,يؤسس إمبراطورية قومه و دينه و عرقه و لغته و ثروته ...وهو لا يزال يواصل ذلك بعد الكولونيالية المباشرة و الحروب الإمبراطورية و الثورية و حروب التحرير و الأنصار....



ربما يكون الخبر السعيد الوحيد لهذا العصر هو انه بقدر ما يصطدم الشعب بكل الاستحالات بقدر ما يستفيق الجمهور أكثر و يتعرف على نفسه أكثر على وجه عالمي أي بسعة كل البشر الذين كانوا يسمون شعوبا .على أن الأمر في الواقع في بدايته و هذا الجمهور ليس شعب الغد و إنما ما ستصنعه شعوب اليوم بنفسها و قد أخذت بعد تتحول إلى جماهير" جماعة من لا جماعة له" ومن لا ارض له ,لا وطن له, لا مال له ,لا رب قديم له ....


لابد إذن من انه ثمة كفاية ما للقول بان البنت المدللة والعذراء للدولة و الشعب و ربما الام الحنون و الجد الخبيث , لمالا, لا تتعدى كونها ممثلة معتوهة أو ممثل دنكيشوتي: اعني الديموقراطية قصة فاشلة و مصابة بداء اللمعان لأنها معروضة أكثر من كل الأرصفة .إنها لا تحلو حتى للأطفال و شيوخ القبائل كذلك فضلا عن أنها تهالكت و تأكد الناس من هشاشتها رغم وفرة محترفي الثرثرة و التدجيل باسمها , فبات إذا من العبث الإصرار على المخادعة و التسلية السياسية على خلفيتها و كأنما هي مزايدة لفظية لا غير و الحال أنها لم تعد سوى "ديموقرا- تسلية" ,مغالاة في اللهو بمفتاح منخور و مسوس من فرط انه يدعي فتح كل الأبواب امام المتلحسين و المتلحسات , لهو الكل مع الكل أو لهو الكل بالكل و تلهي الكل عن الكل , أفضل: لعب الشعب بواسطة الشعب.


إن أقصوصتنا طويلة جدا و غريبة أيضا. لأنها وقعت في فك الحيوان المطلق , فهي لم تهاجر من أثينا القديمة إلا لتتراجع أكثر و تافل أكثر. حيث لم تكن منذ البدء رفيقة جيدة لا لحب الحكمة و لا لكره السلطة. لقد ضيعت عمرها بين الطرق و قطاعها و لم تصل للقارة المنشودة لا قديما ولا حديثا. و لبرما يجدر بنا أن نخلص الناس من الانبهار بهذا الاسم المسموم الذي تتراوح مفاعيله بين تقديس الديموقراطي و تدنيسه في حين أن أمرا كهذا ليس هدفا في حد ذاته .


انه يتوجب أن نفك رقبة الديموس الذي لم يصبح يوما لا حاكما لنفسه و لا محكوما بنفسه و لكن مجرد قيد, شرط, شعب يختزل إلى وحدة صماء عمياء بكماء خرساء دهماء .هو ليس سوى كما عدديا يداس بفكرة الشعب في حد ذاتها, فلا الحرية حررته و لا العدالة و المساواة لأنه, ببساطة, ليس جمهورا كثيفا , متعددا , مختلفا و غير متناه يخشى من أن يرد إلى مجرد شعب و يخشاه حاكمه أو من يريد حكمه لأنه يمتلك حق المقاومة و يقتدر على انتزاعها متى أنقذ نفسه من فكرة الديموقراطية أصلا حتى لا يظل من يتلاعب بالناس أكثر يحكم أكثر و يصبح بطلا ديمقراطيا لا نظير له . بقي انه من المهم أن نلاحظ أن هذا الديموس تكاثر و تطور بشكل عجيب حتى أصبح له أكثر من "سبعين اسما " المقاوم و المجاهد و المقاتل و المناضل والكاميكاز ....و كل هذه الأسماء مقدسات لائكيه أو مدنية ....وصولا إلى المارق و الهوليقان و و الجيسقراط او الترّوقراطي المضاد لسلطة الرعب المنظم و المعمم الذي يختلط فيه الديموس كمقاوم و مناضل بالديموس كبوليس و جيش.

تفصح الديمقراطية بلا شك عن حقيقة إن هذا الديموس الرفيع- الحقير- بلا تناقض لان الأمر هنا غير مبني على الصراع-
قد أصبح أفضل أداة استسهال و ترفيه. ذلك أن اللاعب الديمقراطي لا ينفك يستغل ايهام الناس بانهم هم الذين يختارون ويحكمون أنفسهم بأنفسهم- (يهزا حاكم تافه ما من روسو مثلا)- ليجعل منهم تربة مثالية للشعوذة السياسية ,للتحقير و السفالة و الاستبلاه و ذلك عين الدناءة و السفالة بعدما كانت السيدة الديمقراطية ايطوبيا حيازة الفضاء,

ملئ الخلاء ,الحياة العامة ,ابداع وجود اجتماعي و سياسي رفيع القيمة ,وجود مشترك في هيئة مدنية متقدمة... الخ. و على ذلك لم يعد امرا كهذا سوى ابتذالا و بذاءة بل انه ليس اقل من بورنوغرافيا سياسية.
لعل مرد ذلك ان السيد الشعب لم يتحول الى قوة تشريع و اشتراع لما هو من حقه. فلا يمكن إذن لأي نوع من أنواع السيادة و من أنواع الحكم و من أنواع الدولة أن تقوم بأجهزتها و سلطاتها التنفيذية و القضائية و كحالة مؤقتة و انتقالية دون قيام الجمهور أي أولويته داخل فرضية المقاومة و خارج فرضية الانتخابات من اجل جمهورية الجماهير. و عليه, فلا الجمهورية الدستورية, البرلمانية,الديموقراطية .....و لا الدولة الوطنية ,القومية ,الاجتماعية ,الأمة ,دولة القانون الوضعية –الحديثة العلمانية و لا دولة المؤسسات المنتمية للمجتمع الدولي و ما بعد القومية ...الخ و لا أي من هذه "المقامات"كفل له القيم التي يتوق اليها بعدما تكبد بطولة –هزيمة – العبد,القن,الرق, الاسير,الرهينة,القربان,المقامرة,الضحية-المقدسة,المدنسة,الهدية , الهبة , المسجون, المستغل , المنفي , المفصول ,المعزول, المجنون, المغترب , المريض , المشنوق , الأجنبي ,الاقلي ,المغتال , الملاحق ,المحاصر , الغريب , المهدد , المقنبل , المجند ,المبعد , المهجر , اللاجئ ,الفقير ,المقصي , المجهل , المجرم ,المشرد ,الجائع ,الممنوع من السفر , المهاجر السري , ال...بلا ماوى ,بلا اوراق ,بلا عمل , بلا عائلة ,بلا حقوق ,المعطل , المسجون المابعد اجتماعي و سياسي و اقتصادي و بشري
أ-قوانتانامو
ب-ابو غريب
ج-اريحا
إنسان ما قبل الحق و ما بعده ,ما ابعد من الحق , إنسان ما وراء الديموقراطية ,ما بعدها و ما ابعد منها , إنسان ما فوق السياسة و ما أعمق منها: البيوسياسة ضد اللاسياسة .
في الحقيقة البسيطة ليس في ذلك سر كبير لان قلب المشكل هو أن الجمهورية كذلك لم تتمكن من أن تكون في مستوى تلك الحرفية الحالمة :الشأن العام, و لا الدولة كذلك انتهت إلى شئ آخر يمكن أن يصلح لمحيا الإنسان .

إن الديمقراطية لا يمكن بالنتيجة ان تكون قاعدة لاتفاق سياسي حول كيفية تحقيقها و هي في الواقع مشروع ثوري. اذ كيف لها اذن ان تبني الجمهورية ؟و كيف لهذه الأخيرة أن تكون شئنا عاما ؟
يبدو أنه من الوجاهة أن نتوقف وبلا رجعة عن متابعة الهيام بهذه الأوهام وأن ننظر الي الواقع بأكثر جذرية وبأكثر اقتدار على تحليل راهننا لعلنا ننجح في أبداع بدائل عن الفرضيات التي لازلنا نتردد في دفنها مرة والى الابد . ومن أجل ذلك نامل في تحقيق وشيك "لجمهورية الجماهير ", جمهورية يكون فيها الجمهور واقعة مابعد ديموقراطية ، جمهورية تقوم على فكرة الجماعة العرضية ، على الاشتراك المدني وعلى الشأن المشترك . الا أنه لا قيام لهذه الجمهورية من دون الجمهور الذي يظل مفهوما طبقيا لان الطبقة أصبحت جمهورا يسعى رأس المال إلى اختزاله إلى وحدة عضوية بعدما اختزلته الدولة في الشعب واختزله الحزب في الأيديولوجيا
وان هذا الشعب هو النوع الاجتماعي الوحيد الذي بوسعه أن يحكم نفسه بنفسه بوصفه ما بعد ديمقراطي أي لا شعبا ولا حاكما وإنما مشرع عام من اجل حق عام يجعل هذه الجمهورية المنشودة جمهورية حق تحكم بالحق لا غير . وعلاوة على ذلك لا يمكن لجمهورية الحق هذه أن تكون دون قطع جذري مع كل أنواع الفساد الديمقراطي ، البيروقراطي ، التكنوقراطي ، والاكسبارتوقراطي سواء أكانت تمثيلا أو مشاركة ، أو مباشرة أو جريمة منظمة أو سيادة على الجريمة. و أما الجمهور فانه يحتاج الى أن يكون مشرع حق وعدل ، سيد حق أوحاكم حق على أن تكون سلطته مؤقتة وانتقالية لا مجال فيها للخلط بين حقوق أصحاب الحقوق الفعليين وسلطة المحامي مثلا أو القاضي وباقي ممثلي سلط التشريع والقضاء والتنفيذ. لان المهم ليس الفصل الإجرائي في حد ذاته وأنما أن تنبع سلطة كل جهاز من الجمهور وعلى الدوام على اعتبار أن هذا الفصل لم يتجاوز أفق اللبرالية و التيولوجيا السياسية التي لم تأت وبصفة متناقضة تماما ، إلا بفصل الدين عن الدولة أي الائكية وفصل سلط الدولة عن بعضها البعض . وهذا المطلب يظل تافها حتي وان تحقق لان قبول الائيكية يعني قبول الديمقراطية مهما كان نوعها وبالتالي قبول منظومة الحقوق الفردية ، حق الاعتقاد الشخصي على وجه الدقة . وهو مطلب لا يتحقق الا داخل الخيار اللبرالي الذي يقوم على زوج الخاص والعام أي داخل فرضية الشعب دون غيرها .
لا يمكن بالنهاية أن ينتج عن ذلك سوي أمرين :أما العودة علي الائيكية بقبول الديمقراطية بحيث لا يصبح من الممكن فصل الدين عن الدولة وبالتالي السقوط في الشلل الديمقراطي .
وأما الارتداد و الانقلاب على الديمقراطية وقبول الائيكية بحيث يصبح من المستحيل فصل السلطات وذلك لا محالة سقوط في شلل الائيكية . وكأن الفصل هنا أصبح ضروريا بين الاثنتين ( الائيكية والديمقراطية بعدما كانتا متلازمتين ) أي البحث عن صيغة نصف –ديمقراطية – نصف لائيكية . وفي مطلق الأحوال إفلاس الاثنتين لأن قبول أحدهما دون الآخر يعني بالضرورة الديكتاتورية والتوتاليتارية المطلقة حيال الائيكية النسبية والديمقراطية النسبية .
إن كل ذلك هو في الأصل من تبعات تلك القسمة الثنائية اللبرالية خاص/عام وكأن من يتمتع بالحق الخاص لا يجب أن يتمتع بالحق العام والعكس بالعكس. في حين أن الجمهور خاص وعام أو عمومية متكوّنة من خصوصيّة لا يمكن في كل الأحوال أن تمشي على قدم واحدة .وذلك يستلزم أن يكون مشرّعا فعليا لواقع تاريخي جديد أي مشرّعا عاما ما بعد ديمقراطي.
انه جمهور عالم أخر بدا يتحقق بعد ، فهو تعايش سلمي كوموني مقاوم يشرع لحق المقاومة الجماعية المشتركة بين الايطوبيا المغالية و المفرطة في الديمقراطية و العدمية مابعد الثورية ومابعد الايطوبية والديمقراطية المضادة الثورية.

كل هؤلاء ضد التيوقراطية وديمقراطية السوق .
يعرف هذا الجمهور بما سيصير اليه وليس بما هو الان عليه .فيبتعد أكثر فأكثر عن نسخة النسخ الديمقراطية ويقطع مع هذه المحاكاة الساخرة .بحيث لا يستغفله تحالف الخطابات ، لا يقبل تحييده وطمس دوره التأسيسي . يتمثل وجوده في عموميته وليس في من يتكلم باِسمه .وهو لا يزكّي تحالفات وقتيّة وإنما يفرض تحالفات انتقالية متسلحا بالفطنة والخبرة والمعرفة التي تجعله يتحقق ويجعل منها سلاحا يحقق له عالما آخر وليس بالوعي الذي يتمثل ثمّ يتعطل . جمهور لائيكي يقاوم تدخّل السّلطة في الحياة . وهو ذلك الذّي يجعل من قضاياه الأكثر عموميّة ومن حقوقه الاكثر مساسا بحياته مشروعه النّضالي . هذا الجمهور يرفض الّلوبينق السّياسي كما الماركيتنق الديني. جمهور ما بعد كولونيالي ، ما بعد سلطوي ، ما بعد إمبراطوري ومابعد ليبرالي ، لا يهادن :دعني أفكّر أدعك تعتقد أو العكس ، لا يكابر : لكم ديمّوقراطيتكم ولي ديمّوقراطيتي ، لا يصدّق لا الاّئيكية المتديّنة ( الخوف من أن يقال ملحد ومتطرّف ) ولا الديمُوقراطيّة اللّبرالية ( الخوف من أن يقال مؤمن ومتسامح ) .


يتعلق الأمر إذن بجمهور لائكي بالمعني الحقيق ، جمهور معطاء ومنتج لجسد سياسي عام وعالمي ، جمهور كُُوربُورُوم أكثر ممّا هو جمهور منتدى عالمي للأجساد ، جماعة –جسدية ماديّة أكثر ممّا هو جماعة رُوحية .
عندما تلتقي جماعة سياسيّة متناقضة المنطلقات والمبادئ والأيديولوجيات على برنامج إ خلاء السّجون مثلا فذلك لا يمكن أن يكون موضوعا سياسيّا حزبيّا وإنما مطالبة جماهيرّية بأمر يخصّ
الشأن العام كفضيلة جمهوريّة. لأن المسجون ليس مسجونا لأنه لائكي ومتدين ، المسجون مسجون فقط .وجريمته الوحيدة "افتراضيّة ": ما فعل حتّي يقوضّ السجون ، هل فعل مالا يكفى لحدّ الآن ؟ ماذا فعل الآن وماذا سيفعل غدا ؟

في الأصل ، لا يكون المجرم مجرما إلا إذا ارتكب جريمة ماديّة ضدّ بشر أو ضدّ مجموعة بشرية : البشرية جمعاء .و بالمقابل ، لا معني ولا وجود لجريمة رأي ، لجريمة استباقيّة ولقانون وقائي . وأما غير المسجون فجريمته مضاعفة اذ ماذا فعل حتي يقوضّ السّجون ؟ وماذا فعل حتّي يحرّر المساجين ؟

ثمّة اذن جريمة كامنة وليست افتراضيّة وهي قابليّة الجريمة على وجه حق وهي في نفس الوقت براءة غامضة، شائكة وليست مطلقة . هي الحياة على باب السّجن ، قاب السّجن . السّجن أمام العين ، وراء الباب ، خلف النافذة ، فوق السطح ، سطح الجلد ، لوح المائدة ، ريشة المائدة ، مقبض المنجل ، يسار الجفون ....بقي المجرم الفعلي وهو من لا يجرم بشكل مطلق ، جريمته بيضاء ، صفر جريمة ، وهوالسجان . وكلّ من يحوّل سجنه الي نظام حياة يقبل السّجن. وكلّ من يحوّل عدم سجنه الى نظام حياة يرفض السّجن . ومن يحوّل حريته بعد السجن الى نظام حياة يتوقى من السجن ، يقاوم الحرّية ،و كلّ هؤلاء مجرمين .
المجرم هو الوحيد الذي ليس له أيّ حق فهو يشرّع بباطل ، يقاضي بباطل وينفّذ بباطل .
.انّ تقويض السّجون خيار راديكالي لائكي ، هو فكّ عقال ، تدمير للعقلانيّة اللّيبراليّة ، نظام ذاتي حرّ ، مستقل ، مفتوح على التناقضات وهو من حيث هو كذلك تطرّف انتقالي ومؤقت . وعلى هذا النّحو هو فضيلة جمهوريّة تكون فيها الديمُوقراطية حدا أدني لا يقتلع حقوق الناس ويكون قبولها مؤقتا مهما كان نوعها .
وأما اطلاق سراح العصافير أو عنان الحيوانات فليبرالي والعفو متديّن والتّحرير علماني ومفتوح على خيار التنظم من أجل تقويض القائم .
يحتاج ذلك الى تحليل يفصل موضوعه عن أدواته وعن أهدافه حتّي يستقرّ في السؤال الدائم الذي يتبقّى فيه موقع للسؤال كيف ؟
حيث تكمن شطر الاجابة في السؤال .وحتّي يظلّ الهدف يتقدّم في كل مرّة أي يصبح هدفا أخر فلا يكون لا جامدا ولا قابلا للتضييق ولا ضغطا مباشرا على السائل الذي يتخلى عن دوره كمسؤول –مجيب ويصبح متوسل اجابة –حل . وهكذا يستحيل السؤال كيف الى السؤال متى ؟ فتنقلب الغاية منه منحصرة في الآن مباشرة بعد السؤال أو ما دون السؤال ومن دونه . وذلك يعني الخلاص الفردي ، الارتعاب من المطلق والخوف من المجرّد وبخاصّة, الخوف من ان يتحوّل المجرّد الى علني وعام ومشترك يزعج راحة الأفراد وهم ليسوا أولئك الذّين "ينطلقون من أنفسهم " كما يفكّر كارل ماركس وانما أولئك الذين لا يخرجون عن الفرديّة ويقفون على أنفسهم .
ينتج عن ذلك اذن تحوّل السؤال الذي هو منطق التّحليل ومكونه الأساسي الى مسألة عقدية خالصة تنتهي الى لبراليّة هي مزيج بين حبّ الذّات والخوف من الاخر أو كره الاخر والخوف على الذّات ومنها . ذلك هو في راينا أخطر مشهد يمكن أن نتبينه في افق ديانة جديدة هي سلطة الرعب التي تتداخل مع تجارة جديدة هي تجارة القتل التي لا تحسب الناس لا أحياء ولا أمواتا وانما وسيلة احياء المال هنا وضرب أو أفتكاك رؤوسه الصغيرة هناك .
لا يتجاوز هدفنا في هذا المقام الفصل بين ستراتيجيا سلميّة وأخري حربية . فاذا ما فكّرنا في بديل عن الرّعب المعمّم فان أوّل نقد يتوجه صوب الآئيكية وهو أساس كلّ نقد لآئيكي للآئيكية بدءا بالفصل بين السلم والحرب بما أن لا شئ يستقيم مالم يخرج الجمهور وبصفة نهائيّة عن كلّ صورة من صور العنف يمكن أن يصّورها له توقه الى السلم ماعدا التطرّف مابعد الدّيموقراطي .أي القطع مع فكرة تمثيل القوّة أو تمثّلها واستعراضها و ذلك لا يعدوا أن يكون سوي التسلّح باقصى درجات القدرة والرغبة والحاجة الى المواجهة دون تجاوز الطّاقة البدنيّة القابلة للاستعمال فقط . وبلغة أخري ، الجسد كسلاح بيوسياسي يتخّذ من لحمة لا غير أداة مقاومة .


يمكن أن نسمي هذا النوع كاميكاز سلم أو كاميكاز لا عنف يواجه برأسه ويده وراء ظهره ( الطفل وجها لوجه الدبّابة أو حنظله ناجي العلي مقلوبا ) ، يهاجم عندما يحس أن في دماغه جمهورا كثيفا لا يصدّه شئ سوي عقلية السلم وتحقيقها الفعلي ( مثل نوارس وغربان هيتشكوك ). وعندما يفهم أن قلبه مقبض والجسد كلّه نبضة واحدة تفصل اللحم عن العظم حتّى الجمجمة بلا مخ ، حتّى العمود بلا فقرات ، كما تموت الشجرة وتحيى واقفة .
لا بّد ، إذن من أن تكوّن كل التحاليل الاقتصادية والسّياسية والاجتماعية والإنشائية الفنية مجرد مقدمات لتحليل الحياة تحليلا علمانيا لا سبيل فيه لفصل الحيوات عن بعضها البعض، ولا لحرب الحيوات في ما بينها ولا لتدميرها كذلك. وذلك عن طريق استبعاد فكرة القتل وأطرافها الصغرى استبعادا تاما .
قد نجد في نضالات الجماهير المعاصرة بعض الأدوات للتوجّه في هذا النوع من التفكير . فالجنّة مثلا يمكن أن تكون استراتيجيا مقاومة صالحة للاستعمال الجيّد من أجل مواصلة المقاومة . فإمكانها أن تكون قيامة راهنة للحشود الغفيرة . ولكنّه ليس من الممكن اعتبارها استراتيجيا صراع سياسي واجتماعي مدني من أجل نمط حياة نختاره . وقد يكون سلاح الجنّة سلاحا ناجعا اذا ما اعتبرنا أنّ مستعمليه غير مضطرّين للانخراط الآمشروط في منظومة المعاهدات و الأعراف والقوانين الدوليّة وحتّى اعلان حقوق الانسان والمواطن والحق في الأختلاف ....التي تظلّ مسيحيّة يهوديّة مغلّفة بفكرة التقدّم والتّيولوجيا كما هو معلوم وقد يجوز كذلك اعتبارها لائيكيّة لاهوت تحريري على طريقة سان بول وسان فرونسوا داسّيز وغيرهما أو لائيكيّة تحرير تعتمد على القيامة لفصل الحياة عن الموت وهي كفر بالنّهاية على يد المستعمر الامبريالي ، كفر بالهزيمة والذل كما في الأغلبية الساحقة لحركات التحرّر الوطني العربي علي الأقل ، يتحوّل بمقتضى ذلك الى ايمان بأنه حجة وبرهان على أنّنا لا زلنا أحياء على وجه حق ومن أجل الحق لا أكثر والعدل لا اقل . انها لائيكيّة مقاومة وسلاح مقاومة ضدّ لائيكية الحرب التي هي سلاح حرب لبرالي يدّعي إجبار الناس على السلم وإخراجهم بالقوّة من حالة الحرب .وعليه ، فان العنصر المدني الوحيد في هذه الآئيكية التي تحتفظ بغيبيتها الخاصّة هو المكوّن البيو-ثقافي الذي يحدّد، بشكل مؤكدّ ، مصير المقدّس المدني الآئيكي والسّلمي الذي هوحق الحياة بلا نقصان وبلا انتقاص .وذلك يستدعي الالتزام بفصل الجنّة عن النار في مستوي الاستعارة الدينيّة أي الحياة الرّاقية والرّفيعة في المستوي المادّي أو اتيقا السّعادة وهو ما يعادل فصل الخلود عن الفناء في مستوي اختلاط الاستعارات والمجازات الدينيّة والأسطورية والتاريخيّة وغيرها ( الأبدية – الأزليّة – السرمدية –الدّهرية ...) وفصل الحياة عن الموت في مستوي الاستعارات المؤسسة للحقوق السياسّية في حد ّذاتها وفي الأخير فصل الحياة البسيطة "الطبيعية " عن الحياة المصطنعة فيما يتعلّق بايتيقا الحياة وفصل الموت عن القتل في مستوي سياسة الحياة . وإذا كان لا بّد من استعارة جهنّم الآن كاستعارة حيّة تكون آلية ماديّة لتحقيق واقع أخر يقتل جهنّم الآن ولو أغنية. بغدا الجنة ولو كوريغرافيا المذبوحين تهليلا و تسبيحا


يلزمنا بعد ذلك الإشارة الى أنّه لا يمكن فهم الأمر هكذا لولا حالة الشذوذ التي عليها الوضع العالمي والمحلّى الرّاهن أعني الطوارئ ، التسييج ، الاستثناء ، الاستعجالية ، الاستغاثة العامّة ....
ونستخلص أن الإبقاء على الرّوح ضروري للإبقاء على رائحة وعرق ودم الإنسان المادّي والتّاريخي لفصله عن كلّ الأجناس الحاليّة الممّيزة للحيوان الا خير . إلا أنّ الاعتراض الوحيد على الرّوح يكمن في كونه لا يمكن أن يكون برنامجا سياسيا ماديا ولا حقا عاما الآ اذا كان روح الجماهير ما بعد الدّيموقراطية في طور انجاز جماعتها الجسديّة الآتية التي لها أن تميّزها عن روحيّة أيّة جماعة روحيّة عارية وخالية من اللّحم الحي" الأحمر" .


كما نستخلص أن الآئيكية التي تستحق أن ندافع عنها هي لآئيكية سلم أو لآئيكية علمانية تفصل فيها الحرية عن الاضطهاد ، الكرامة عن الإخضاع ، العمل الحي عن العمل الميّت ، الحق عن القانون والحياة عن الحياة الحيّة.

صلاح الداودي (تونس)
في 11 ماي 2006
.




#صلاح_الداودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - صلاح الداودي - نحو -جمهورية الجماهير- أو الجمهور كواقعة ما بعد ديموقراطية