أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - مشهد من رواية فرس العائلة














المزيد.....

مشهد من رواية فرس العائلة


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 6344 - 2019 / 9 / 7 - 13:46
المحور: الادب والفن
    


للبرّيّة أعرافها التي ابتدعها أبناء بسطاء.
منّان هو أحد هؤلاء الأبناء، والبرّيّة لم تعد كما كانت من قبل، أو هذا ما يعتقده منّان. فالريح التي تقبض على الغيوم من أذيالها لتأخذها إلى شتّى البقاع جالبة معها المطر، لا تحضر إلا لتعيث خرابًا في مضارب العشيرة، والمطر منقطع أو هو شحيح في أحسن الأحوال. والأغنام جفّت ضروعها، وسبل العيش أصبحت أكثر صعوبة، وعسكر الانكليز لا يغيبون عن العشيرة حتى يظهروا في أفقها من جديد، والنساء صرن يكثرن من الدعاء لربّ العالمين بأن يبعد الشرور. خوفهنّ لم يكن ليمرّ بسهولة، صار يسبّب قلقًا للرجال.
منّان اتّخذ بعد طول تفكير قرارًا بالرحيل، وبالتوجّه غربًا إلى مشارف المدينة. هناك يمكنه أن يحقّق ما تصبو إليه نفسه من رغبات، ويمكن لأبناء عشيرته العثور على فرص شتّى للرزق. ولم يكن قراره سهلاً، فهو ولد في البرّيّة وعاش طفولته وشبابه فيها، وهو الآن كهل، وله فيها ذكريات.
بعض رجال العشيرة لم يرقهم قرار منّان. تهامسوا في ما بينهم واتهموه بأنّه يضحّي بأمن العشيرة من أجل أطماعه الخاصّة. وصل الهمس إلى منّان ولم يأبه له. ولم تشكّ أمّه صبحاء في صدق نواياه. ربّما كانت له تطلّعات، لكنّها لا تصطدم بمصالح العشيرة ولا تنتقص منها. أمّه لها أسباب أخرى. قالت إنّها لا تحبّ مغادرة البرّيّة حيث ولدت وعاشت. فهي ابنة البرّ ولا يمكن تدجينها. وكيف يمكنها هجر المكان الذي يحتضن قبر زوجها والعيش في مكان آخر بعد هذا العمر؟ هي التي لم تزر المدينة إلا عددًا قليلاً من المرّات، ولم تغادر البرّيّة إلا حينما ذهبت إلى بيت الله الحرام لتؤدّي فريضة الحجّ صحبة زوجها. بذل ابنها جهودًا متّصلة لإقناعها بالرحيل، ووعدها بأنْ يأتي بها إلى البرّيّة كلّما رغبت في زيارة قبر أبيه.
ظلّت أمّه متمنّعة، وكذلك زوجته مثيلة وعمّه عبد الجبّار وآخرون. لم يكن مرتاحًا لتمنّعهم وهو مختار العشيرة. بعد أشهر من احتلال الانكليز للبلاد أصبح مختارًا، وها قد مرّت خمس عشرة سنة، ولا بدّ له من أن يكون قريبًا من المدينة ومن دوائر حكومة الانتداب. في زمن الأتراك كان والده محمّد هو المختار، وكان الابتعاد عن مراكز الحكّام مطلوبًا آنذاك انصياعًا للحكمة التي تقول: لا تمرّ من قدّام حاكم ولا من ورا بغل. الآن، عليه أن يغادر البرّيّة، لأنّ زمنًا جديدًا ابتدأ منذ أن أصبحت البلاد تحت حكم الانكليز.
مهيرة، زوجة أبيه، وزوجة عمّه بعد موت أبيه، تحمّست للرحيل الذي يقرّبها من القدس. وقعت مهيرة في حبّ المدينة منذ زيارتها الأولى لها. جاءت إليها وهي تركب الفرس خلف زوجها. أخته من أبيه، معزوزة التي كبرت ولم تتزوّج بعد، شجّعته على الرحيل. معزوزة منذ أن أنهت حدادها على حبيبها الذي قتل عند الحدود، لم تظفر بعريس، ولم تكفّ منذ مقتله عن الهديل مثل حمامة. في الليل، يملأ هديلها البيت ويفيض نحو الخارج فيسمعه الجيران، وتكثر جرّاء ذلك تأويلات النساء، فهو نداء الشهوة يصعد من قلب معزوزة ولا تستطيع التهرّب منه مهما بذلت من محاولات، أو هو حزنها على حبيبها الذي لا يغادر قلبها، أو لعلّه التذكير بضرورة الأخذ بثأر الحبيب القتيل.
معزوزة رغبت في هجر البرّيّة لعلّها تنسى هديلها وتستريح. شجّعت أخاها على تنفيذ قراره من غير إبطاء، إلا أنّ أمّه والآخرين أوقعوه في بلبلة، فهو يحبّ البرّيّة مثلهم، وهذا لا يعني البقاء فيها إلى أبد الآبدين.
كان كلّما ألَحّوا عليه بالبقاء فيها يغادر مضارب العشيرة ويتّجه نحو الخلاء الفسيح على صهوة فرسه. تركض الفرس في السهل وصولاً إلى سفح الجبل، والسماء مجلّلة بغيوم بيضاء حيث لا مطر، والقحط يأكل وجه الأرض. ينزل عن فرسه ويقودها على مهل، ثم يجلس فوق صخرة مطلّة على المضارب وعلى الجبال البعيدة وعلى المدى الممتدّ نحو الغرب، ولا تغيب عن باله الأيّام التي قضاها هنا وجعلت لحياته مذاقًا لا ينساه.
في أيّام الصيف القائظة، كان ينصبُ بيتًا من شعر الماعز في الطرف القصيّ من بيوت العشيرة، تهرّ من حوله كلابه وتنبح نباحًا متقطّعًا، ويجثم قطيع الماعز الذي يملكه في الحظيرة المحاطة بسلسلة حجريّة، تنبعث منه أصوات تتراوح بين طقطقة أسنان الماعز وهي تمضغ ما تجترّ من طعام، وبين ثغاء بعض الجديان أو تناطحها العابث الودود، أو "بعبعة" تيس هائج يحاول عنزة متمنّعة. ولا يندر أن تهبط على طرف الحظيرة في المساء بومة، تطلق نعيبها المشؤوم، يركض نحوها، يطردها، ويستعيذ بالله من خبر مؤلم أو مأساة.
بعد أن تنشر العتمة رداءها الخفيف على البرّيّة تحت قمر متلألئ في السماء، يخفّ الضجيج وتضطرم نفس منّان بمشاعر شتّى، ويبدو مستعدًّا لأيّ عراك. يبدو في الوقت نفسه متعطّشًا للحظات من اللذّة، يتفحّص بعينيه الحادّتين أطراف السهول الساكنة في جلال الليل، تحسّبًا من ذئب غادر أو من سارق، فلا يرى أو يحسّ ما يكدّر صفوه، ينضو عنه ثوبه، يتبدّى بالشعر الكثيف على جسده كأنّه من وحوش البريّة، يسارع إلى زوجته المستلقية في فراشها، يعرّيها بلا استعصاء، كما لو أنّها كانت تنتظره، يتلألأ جسدها تحت النور الخافت الذي يرسله القمر، يلتحم بها وهي تحمحم مثل فرس، يشعر بأنّه سلطان هذه البرّيّة الشاسعة. تمتدّ يده إلى بطنها، يتحسّسه كما لو أنّه يستعجل قدوم طفله الأوّل.



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خمس وأربعون سنة من الكتابة للأطفال/ شهادة.
- أهل البيت/ قصة
- أدب الأطفال والتشجيع على القراءة
- أنا والرواية/ شهادة
- أدب الفتيان وتحديات الانتشار في زمن الثورة التقنية
- عن صفقة القرن وورشة البحرين
- عن أدب السجون
- الغسيل/ قصة قصيرة
- الاتحاد الحيفاوية مسيرة نضالية حافلة
- قصص عدي مدانات/ مقالة
- عن العودة وحلم العودة
- عن الجبهة الوطنية الفلسطينية وتجربة الاعتقال والإبعاد
- إشكاليات التحديث الثقافي في فلسطين للباحث سعيد مضية.
- الفارس/ قصة
- زجاجة ماء/ قصة قصيرة جدًّا
- من دفتر اليوميات 24/3/2008
- عيد ميلادها
- من دفتر اليوميات23/03/2008
- من دفتر اليوميات/الاثنين17/03/2008
- من دفتر اليوميات11/03/2008


المزيد.....




- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال ...
- كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم ...
- عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة ...
- مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
- محاربون وعلماء وسلاطين في معرض المماليك بمتحف اللوفر
- إخترنا لك نص(كبِدُ الحقيقة )بقلم د:سهير إدريس.مصر.


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - مشهد من رواية فرس العائلة