أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال جيلاني - في سايكوآيديولوجيا التنوير















المزيد.....



في سايكوآيديولوجيا التنوير


كمال جيلاني

الحوار المتمدن-العدد: 6331 - 2019 / 8 / 25 - 02:28
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


هذه العجالة تخص تقديم منهج مقترح للفكر والإعلام التنويري (1). إن بعض الأفكار المقدمة هنا، والتي سألخصها وأوردها تباعا، قد تكون ذات قيمة مهمة في المساهمة في جعل المنهج التنويري الذي يركز على نقد الفقه والحديث وعلومه، ويتجنب، في هذه المرحلة، اقتحام المجال القرآني كليا، أكثر استعدادا للانتقال الى المرحلة المقبلة التي سيرتحل مركز الثقل فيها الى المصحف حتما.
ان الاسلاميين التراثيين (2) هم أكثر من لعب لعبة التدخل في معالجة النص القرآني، والحديثي كذلك، بطريقة افرزت نتائج مدمرة في المنظومة الاعتقادية والفقهية الاسلامية. فقد تمكنوا مثلا، بجرأة، من استغلال منهج اعد لمعالجة موضوع النسخ في آيات القرآن استغلوه لتحييد الآيات التي لم تكن تروق لهم، وهو علم الناسخ والمنسوخ (3) الذي يستند على آيات النسخ الواردة في المصحف، ليحققوا نسخا يخدم أهدافا معينة يتطلب تحقيقها تكفيراً او تحليلاً او تحريماً أو اكراهاً.. الخ. وإذا كانت المرحلة التنويرية التي ركزت على نقد الفقه والأحاديث قد حققت نجاحا ملحوظا في النشاط القائم لوضع حد لتوسع فكر وتأثير التيارات التراثية، والسلفية خصوصا وما نشأ منها من تطرف، وان احجمت في نفس الوقت عن وضع القرآن موضع البحث، فأن ذلك سيكون الى حين حتما. فحتى لو تم اصلاح موضوع الأحاديث بحيث لم يعد يُستغل لإنتاج التطرف والنكوص الناشئ من جهة الأحاديث، الا اننا نعلم ان الطرف الآخر يمكن ان يعود بذات الأفكار التدميرية من خلال بعض آيات القرآن دون الحاجة للأحاديث، لان فيها ما يكفي لتحقيق ذلك، يؤازره الاعتقاد السائد في ان الآيات المصحفية على درجة واحدة من الأهمية والقدسية. ان اخراج التراثيين من باب الحديث والفقه لن يمنع ابدا من امكان عودتهم بسهولة من شباك الآيات القرآنية مستعينين بسلاح الناسخ والمنسوخ الذي حقق لهم في السابق الكثير، اضافة الى باعهم الطويل في التأويل المغرض (4) الذي قد يفوق الناسخ والمنسوخ تأثيراً.
لكي نعالج مسألة القرآن بحيث يمكننا تناول الآيات القرآنية بمنهج مشابه، الى حد ما، لمنهج الناسخ والمنسوخ، بالاستناد الى نص قرآني أعظم وضوحا وقوة بكثير من النص الذي استند اليه التراثيون في النسخ تأويلا، ذلك الذي يمكن ان يُطلق عليه اسم علم المحكم والمتشابه بإزاء علم الناسخ والمنسوخ عند الإسلاميين التراثيين، والبدء بوضع منهج ومقاييس حكيمة لتصنيف الآيات وتدريجها وفقا لذلك. ولكن هذا الامر لن يكون يسيرا إذا ما عولج وعرض على المتلقين بشكل مباشر، لان العقل الجمعي الواقع تحت القهر التقديسي (5) يتمتع بطاقة عالية لرفض المخالف. ويمكن للظلاميين ان يستفزوا القوى العمياء المتجذرة في عقلِ ولاوعي الجموع، هذه القوى التي تم بنائها عبر مراحل زمنية طويلة من التلقين الترغيبي-الترهيبي من خلال العائلة والمجتمع، ومؤسساتهم الإعلامية كالجوامع والمؤسسات التعليمية التلقينية التراثية، التي تم بناء تأثيرها بإحكام عبر حقب طويلة من الزمن. هذا اللاوعي المُهيأةُ طاقاته لتُقاد وتطلق عند الضرورة بالاتجاهات التي تخدم الأهداف ذات النتائج النكوصية والتدميرية للطرف الآخر.
أما الحديث، والفقه الناشئ عنه، فهو أكثر تأثيرا في العقل الجمعي للامة، لما فيه من مجال واسع للتلاعب والتوظيف، مما لا يتوفر في مجال القرآن بنفس الرحابة. وقد مكن الحديث وفقهه من تمرير غالب الاعتقادات والنزعات الجاهلية التدميرية والتي تعد نكوصا بحق الى الجاهلية الأولى. فهي ذات الجاهلية ولكنها مليئة بأنواع أخرى من الأوثان والاصنام. هذه الجاهلية، الثانية ان صح التعبير، تمكنت من البقاء متخفية بطريقة تروجانية (6) متمترسة وراء ما تيسر من عناصر سامية في الاسلام.
لا بد في البداية، اذن، من مرحلة فكرية وإعلامية تمهيدية تلين اللاوعي الجمعي وتهيئه لتقبل فلسفة من نوع جديد لفهم القرآن، مع الاستمرار في إنضاج الديناميكية التنظيرية القوية الموظفة الآن لتفكيك الفكر الاسلامي التراثي. وليس، كذلك، قبل تكوٌّن جموع تنويرية طليعية مثقفة كافية وانتحاآت سلطوية نحو التنوير تدعم مجرى التغيير. ستكون المرحلة التمهيدية لتهيئة الوعي الجمعي لقبول التغيير من خلال استخدام منهج نفسفكري يعمل على اضعاف هذه الطاقة العالية للرفض، ويؤمل منه ان يمهد للمعالجة التالية، أي في المرحلة القرآنية، عبر نوع من الاحتثاث اللاشعوري يشبه نوع من التسلل الى، او الالتفاف عبر لاوعي الجمع المتلقي، وهذا ما سنشرحه في عجالتنا هذه. وفيما يلي تعريفا ملخصا للآلية، او الميكانزم (7)، المزمع الاستعانة به.
يشتمل هذا الاجراء النفسفكري (8) على استثمار الميكانزم الطبيعي لتكون الارتباطات الشرطية على مستوى اللغة بين المعرف وتعريفه بعد تكرار فعل التعريف عدد كاف من المرات لتكوين الربط الشرطي المطلوب بينهما وبالتالي زرع المفهوم الناتج في العقل.
يعني ان عملية الزرع (9) المقصودة لمنهج معين مقبول في أحد المجالات العقلية لذهن المتلقي، بشكل مباشر واضح، شعوري واعٍ، يؤدي الى ازدراع (10) هذا المنهج في اللاوعي الخاص بمجال عقلي ثاني فيه عناصر ذات طابع مشابه لعناصر المجال الأول. أي يتسرب هذا المنهج ذهنيا ليتلبد بطريقة لاشعورية (11) في جزء اللاوعي (12) المرتبط بمجال عقلي ثان ضمن عقل المتلقي عن طريق استثمار آلية الارتباط الشرطي، والذي يكون فيه هذا المنهج مرفوضا فيه أصلا إذا ما عرض على مستوى الوعي. ويراد من خلال هذه العملية خداع حاجز الرفض العقلي للمنهج آنف الذكر، من خلال هذه العملية ذات الطابع التروجاني، حيث يتمكن المنهج من العبور من المجال العقلي الذي يلقى القبول فيه لاشعوريا، بهيئة مقبولة، الى لاوعي المجال العقلي الثاني متجاوزا نظام رقابته، متلبدا فيه بدون مقاومة. بعد ذلك يؤثر تواجد المفهوم الذي تم ازدراعه وتلبيده في لاوعي المجال الثاني إيجابيا في حلحلة عقدة المقاومة التي تعمل بالضد من المنهج المزدرع، ويمهد لقبوله إذا ما تم عرضه، في الوقت المناسب، على المتلقي بشكل مباشر شعوري، ويسهل عملية زرع واعية ناجحة للمنهج المقصود الذي كان يواجه معارضة قوية في هذا المجال الثاني اصلا.

استخدم مصطلحي حديث صحيح وحديث ضعيف ليعبرا عن نوعين من الكلام المنسوب الى الرسول. وجعلت ضوابط لذلك، اختلف المحدثون في طبيعتها ودرجاتها، الغاية منها للتأكد، طبعا وفق شروطهم على ما فيها من علل: هل هذا الكلام قد قاله الرسول فعلا ام لا؟ فإذا تعاضدت الحجج وجزموا، استنادا اليها، ان هذا هو قول من اقوال الرسول، وعدوه إثر ذلك صحيحا، عَجَّلوا الى آية و "ما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى" التي عمموها على كل كلام قاله النبي خارج حال الوحي فأصبحت الأحاديث الصحيحة "آيات جديدة" فاعتبروا ما سموه بالصحيحين، إثر ذلك، وحيا ثانيا. وفتح أفق جديد للانحراف على مصراعيه، أفق أوسع بكثير مما فتحه علم الناسخ والمنسوخ وعموم التأويل السلفي والتراثي، تقدم من خلاله كل ما هو جاهلي ومدمر وشاذ واختلط مع بقية العناصر الأخلاقية والروحية في الإسلام، والتي كانت هي من يجذب الناس اليه، ليكون جزءا من الاسلام، وتخفت هذه الأفكار كفيروسات او تروجانات احتوت في داخلها تلك العناصر الدخيلة المقيتة، لتُزدَرَع بخبث في العقل الجمعي وتظهر عند كل فرصة ممكنة، وبذلك ولد دين هجين فيه قدر كبير من الغرابة والشذوذ عن ما تيسر في الإسلام الأصلي من مفاهيم ودعوات تنحى مناحي سامية.
تركز الاستراتيجية التنويرية الحالية على معالجة مسألتي الأحاديث والفقه، باعتبارهما العاملين الأكثر تأثيرا في بناء الشكل الرجعي المدمر للدين الهجين الذي صنعه التراثيون. وتجنب التنويريين بحرص على عدم معالجة القرآن ذاته، والذي تم إبقاءه في مجال المقدس، وصاروا يحتكمون اليه في الجدل الدائر بينهم وبين التراثيين. كانت استراتيجية ناجحة، ولكنها من ناحية أخرى عززت من إحكام تقديس القرآن بكل آياته دون تمييز مما سيفضي الى عواقب وخيمة. وهكذا فان نجاح هذه الاستراتيجية سيكون الى حين. وأصبحت بذلك حتمية الانتقال من مرحلة معالجة الحديث والفقه الى مرحلة معالجة القرآن ضرورة، رغم خطورتها، لا مناص منها. لان إبقاء كل آيات المصحف الذي بين أيدينا على مستوى واحد من التقديس على حد سواء، دون أي تدريج وتمييز بينها، سيقود الى نتائج وخيمة في الاعتقاد والاتباع، ولن يكون الفكر النكوصي الناتج عن ذلك اقل خطورة عما سبق افرازه في مرحلة سيطرة الفقه والحديث. ولذلك اعتقد جازما ان تأخير معالجة هذه المسألة من قبل التنويريين سيكون خطأ فادحا، وسيفضي الى نتائج وخيمة قد تكون معالجتها أصعب وأخطر بكثير من الصعوبات التي رافقت مرحلة معالجة الفقه والحديث. لا بد، اذن، من مرحلة تمهيدية مناسبة تسبق مرحلة معالجة المصحف يتم انضاجها وتطبيقها في مجال الحديث أولا، ثم العمل على ترتيب تطبيقها على المصحف في المرحلة التالية.
تشتمل هذه المرحلة التمهيدية على وضع منهج يمكن ان تُفرز وتُقيم فيه الأحاديث من منظور جديد ينتج متنا حديثيا جديدا تُسد به الطرق على الفكر الجاهلي النكوصي، وتمنعهما من العودة الى الولوج مرة أخرى في هذا المجال. عندما سيتم عرض الخطوط الرئيسية للمنهج الجديد هنا، والذي ستُقيًم فيه الأحاديث وفقا لمفاهيم ومقاييس جديدة، ستكون ممانعة العقل الجمعي المتلقي اقل مقاومة يعزز ذلك وجود الإحساس العميق بان الأحاديث مهما بلغت فهي في رتبة أدني من الآيات، مما يسهل نسبيا تجاوز الممانعة النفسفكرية في مرحلة معالجة الأحاديث. ولا شك ان للجهود الفكرية والاعلامية التنويرية، التي نشطت بقوة في العقد الأخير، مساهمة فاعلة في تذليل هذه العقبة. مع ذلك، صحيح ان المرحلة التنويرية الحالية قدمت منهجا نقديا هدمت معاوله البنى الهشة للجاهلية والرجعية المتلبدة في الدين، ولكن نحن الآن بحاجة الى فلسفة جديدة ينبغي ان تُفرَزُ وتُصَنفُ من خلالها الأحاديث وتُقيم عبر نظام فكري - تحقيقي ومصطلحات جديدة أكثر تأثيرا. وسيكون هذا هو هدفنا القريب في المرحلة الحالية. ولكننا يجب ان نأخذ من الآن، ونحن في مرحلة معالجة الأحاديث، متطلبات التهيئة لمرحلة معالجة القرآن.
ويجب ان نفرق مبدئيا بدقة بين الصدق والتحقيق، في تمييز له مغزاه العميق والذي سيساعدنا كثيرا في فهم التباسات دقيقة عند العقل الجمعي الموروث. فعلى سبيل المثال، لو رأى اثنين سرابا، فاقسم الأول بانه رأى ماء، وقال الثاني بانه رأى سرابا، الأول صادق لكن ما يقوله غير صحيح فقد اشتبه عليه الامر، فهو صادق مخطئ او مشتبه. والثاني صادق وما يقوله صحيح، فهو صادق محقق. فما يصدر عن الأول مشتبه او متشابه، حسب التعبير الكتابي، وما يصدر عن الثاني محكم. لا يؤخذ من الأول ولكن لا ُيكذَب، لأنه صادق وفقا لما اعتقد هو.. ويؤخذ من الثاني. فالأول يقدم مقولة متشابهة والثاني يقدم مقولة محكمة. ويشرح لنا ذلك كيف ينبغي ان تكون طريقة نظرنا الى كل محكم ومتشابه عموما والى الآيات والأحاديث في مبحثنا خصوصا، فالصدق لا يكفي، اذ لا بد من التحقيق. فالمحكم الحق هو حصيلة التحقيق والمشتبه وليد الالتباس، وفي حالتنا الملتبس والمحقق صادقين، ولكن الأول في حال الخطأ والثاني في حال الإصابة. عقل الأول هو العقل التصديقي الذي يستسلم صاحبه ويدخل نفسه في حال اليقين اعتمادا على عدد غير كاف من المعطيات الحسية والتجريبية، وهو الشائع في تعامل العقل مع المعتقدات الدينية مثلا. اما عقل الثاني فهو العقل التحقيقي الذي يعتمد على عدد أكبر من المعطيات الحسية والتجريبية ويستمر في توسيع وتعديد واستحداث مصادره الحسية والتجريبية حتى يصل الى الحق المفضي الى اليقين الحقيقي. هذه العقلانية-التحقيقية هي التي يرجى ان تكون الحكم والمقياس في كل امر ومن بين اهم الأمور النصوص الدينية.
لابد أولا ان نحدد ما الذي ينبغي عمله بالضبط في مرحلة المعالجة القرآنية، لنعرف ماذا يجب ان يُهيئ لها من الآن انطلاقا من مرحلة المعالجة ما بعد التفكيكية لمسألة الحديث. ببساطة نريد ان نصنف الآيات القرآنية الى صنفين: نضع في الصنف الاول كل آية لا تجافي العقل - التحقيقي، لا تناقض العلم ولا الموروث الأخلاقي والروحي الإنساني، هذه العناصر التي تبلورت عبر التاريخ الطويل للتجارب والفلسفات التي انتجتها او ستنتجها الحضارة العقلية/الروحية-التجريبية الإنسانية، وهو منهج وقياس يقع خارج المقدس الديني. ونضع في الصنف الثاني كل آية لا تنطبق عليها شروط الصنف الأول. وأفضل مصطلحين، وهما اصلا هكذا في القرآن، يمكن ان يستخدما للتعبير عن ذلك هما: آيات محكمة وآيات متشابهة (13). فمصطلح الآيات المحكمة لن يعبر فقط عن وضوح معنى الآية بل وجوب ان تنطبق عليها الشروط اللازمة الصنف الأول من الآيات الآنفة الذكر. ومصطلح الآيات المتشابهة يجب ان لا يعني الآيات التي تشتبك فيها ضلال المعاني فقط بل، وهو الأهم، انها لا تتوفر فيها شروط الصنف الأول من الآيات، أي الآيات المحكمة. وسيؤدي ذلك ببساطة الى تدريج الآيات تلقائيا الى آيات ذات قيمة ومقام عال وهي المحكمة، وأخرى دون ذلك وهي المتشابهة، مما ينعكس ذلك إيجابيا على طريقة التفاعل الحضاري مع المصحف وتوقف عملية التقديس الاعمى لكل ما هو قرآني دون تمييز وإحكام تحقيق.
ان الهالة التقديسية التي احيطت بالنصوص الدينية عموما، المُعزَّزَة بترهيب وترغيب ترسَّخ في غور اللاوعي للفرد المسلم عبر المراحل التاريخية المختلفة، والتي جعلته مشلول العقل منقادا اليها، قد زودت هذا الفرد بطاقة سلبية عالية، يمكن ان تتحول الى سلوك مدمر إذا ما استغلت من خلال توجيه ما، لتعوق أية مخالفة او معارضة او تجديد، او ما يُشتبه انه مس بقدسية أي عنصر من عناصر النص القرآني. فكان لا بد من إيجاد طريقة لحلحلة هذه العقدة الكؤود. ولذلك فإنه من الممكن ان يتقبل المجتمع المُهيمَن عليه بالطريقة الآنفة الذكر، فكرة تقسيم جميع الآيات الى محكمة ومتشابهة، ولكن لن يُتقبل المفهوم الجديد ولا التعاريف الجديدة التي ستَخضع من خلالها عملية الحكم على النص وتصنيف آياته لمنهج ومقياس من خارج النص المقدس مهما كان هذا المنهج والقياس عقلانيا - تحقيقيا.
المشكلة التي ستواجَه في مرحلة معالجة الآيات القرآنية هي ان الطاقة اللاواعية (14) الغاشمة، التي تم انمائها في العقل الجمعي ، والتي يمكن ان تتجلى على شكل أنماط من السلوك العدواني والتي بسببها يتجنب التنويريين فتح مرحلة معالجة المصحف، ستنفجر في وجه المنهج والتعاريف الجديدة لمصطلحي محكم ومتشابه الآيات، اللذان يستندان ويستمدان قوتهما من التحقيق العقلاني الذي هو من خارج الإلهي والمقدس، إذا ما طبقا دون تمهيد فطن على القرآن مباشرة. ولكي ننجز هذا التغيير سنستعير مصطلحي محكم ومتشابه من المجال العقلي للقرآن، لنستخدمهما في المجال العقلي للحديث. فنستبدل مصطلحي حديث صحيح وحديث ضعيف بمصطلحي حديث محكم وحديث متشابه. ورغم ان الأحاديث قد قام الطرف الآخر بترقيتها الى مستوى الآيات تقريبا، ولكن امكانية تطبيق المنهج والفهم الجديد المشروح آنفا على الأحاديث ستكون فرص نجاحه أفضل بكثير، وسيواجه مقاومة ورفضا اقل. فاذا ما تم زرع المنهج الجديد وتعاريفه بنجاح على الأحاديث سيكون إنجازا مرحليا مهما سيختمر في اللاوعي الجمعي ويكون الوعي الجمعي أكثر استعدادا لقبوله على الآيات في الوقت المناسب.

سيتم تفعيل المنهج المقصود أولا، وبحرية أكبر واعتراض اقل ضراوة، على موضوع الأحاديث الذي يمثل المجال العقلي الأول الذي سيتم زرع المنهج الجديد فيه من خلال ربط مصطلحي حديث محكم وحديث متشابه بالتعاريف الجديدة وذلك شرطيا (15) بشكل واع. وينبغي ان يتم إنضاج المنهج والتعاريف والمصطلحات والربط الشرطي البيني الى اقصى مدى ممكن. ان هذا سينمي استعدادا وتقبلا عند المتلقي لتطبيقه لاحقا على الآيات من خلال عملية تعمل على مستوى اللاوعي دون الإشارة فعليا، في المرحلة الحالية، الى آيات المصحف (16) مباشرة، والتي وضعت جميعها في إطار المحكم المقدس دون استثناء. هذا الإجراء الخطير قد ترسخ في العقل الجمعي الديني القائل بعدم جيزوزة حتى التفكير بمناقشة وتصنيف الآيات الكتابية، والضرورة الحتمية للانقياد لا عقليا لها بشكل صارم يدعم ذلك ترهيب نفسي ذو طابع معقد خلق مجالا مريحا للجاهلية الجديدة لتعمل على هواها. الميكانزم المستخدم هنا، الذي سيعمل جزء منه تحت الوعي، إذا ما نفذ بطريقة حصيفة سيساعد الجموع الواقعة تحت القهر التقديسي على تقبل الفكرة المركزية لتفعيل الإشارة القرآنية الواضحة بوجود آيات محكمات واخر متشابهات، هذا الباب العظيم الذي سيمكن من مناقشتها وتصنيفها وتدريجها من منطلق تحقيقي - عقلاني سيحقق لاحقا فرصا أفضل للتوافق مع الحضارتين المادية والروحية للإنسانية.
وعندما يتحقق قبول كاف لهذا المنهج العقلي - التحقيقي في الوعي الجمعي، وعندما يصبح الوقت مناسبا للمرحلة المُصْحفية، يُباشر عندها بتصنيف الآيات تحت عنوان محكم ومتشابه مع العرض التدريجي للتعاريف التحقيقية الجديدة، سيكون جزء كبير من فحوى التعاريف ومنهجها قد انتقل بحكم ارتباطاتها الشرطية، التي تم بنائها في مرحلة الأحاديث المحكمة والمتشابهة، لا شعوريا الى المجال العقلي للآيات.
سينتقل هيكل المنهج المزروع شرطيا، وذلك بطريقة لاشعورية عبر لاوعي المتلقي، الى المجال العقلي الثاني، الهدف، المتعلق بآيات الكتاب، مٌزدَرعاً في لاوعي المتلقي لذلك المجال. العامل الأول الذي سيساعد على تحقيق هذا الازدراع يعود فضله للتشابه الناشئ عن توظيف مصطلحي محكم ومتشابه في الحقلين العقليين للحديث والآيات المصحفية مما سيؤدي بواسطة التأثير الذي تحدثه إعادة استخدام طقم المصطلحات هذا في مجال الآيات بحكم آلية التشابه والترابط الشرطي الى جر فحوى تعاريفهما الى المجال العقلي الهدف.
بتطبيق هذا الميكانزم، يمكن لعقل المتلقي ان يتهيأ لتطبيق المنهج الآنف الذكر، في مستوى اللاوعي الآن، على الآيات القرآنية، ثم على المستوى الواعي في الوقت المناسب لاحقا. وتفعيل هذا المنهج في مجال الحديث سيمكن من تهيئة الأسس التي ستعالج بها مشاكل آيات المصحف شرطيا دون الاشارة اليه في المرحلة الراهنة. وينبغي ان يتم، اثناء ذلك، إنضاج نظام تحقيقي-عقلاني اعلى يرجع اليه في البت في مدى مُحكمية كل نص يقع في مدار البحث. سيتم انماء هذا النظام بالنسبة لموضوع المصحف على مستوى اللاوعي من خلال ميكانزيم الاحتثاث اللاشعوري غير المباشر عبر النظير المناسب، الذي هو منظومة الأحاديث في هذه الحالة، والتي تتم معالجتها في مستوى الوعي الآن، ومن خلال الاستخدام المستحدث، هنا، لمصطلحي الحديث المحكم والحديث المتشابه.. وهما لم يستخدما في مجال علوم الحديث في السابق ابدا، بإزاء مصطلحي الصحيح والضعيف المستخدمين فعلا في علوم الحديث. سيعمل هذين المصطلحين الجديدين كرمزين حاثين شعوريين فيما يخص الأحاديث، عند معالجتها من هذا المنظور، وكرمزين مولدين للاحتثاث لا شعوريا في جزء اللاوعي للمجال العقلي للآيات في لاوعي المتلقي في هذه المرحلة.
ويجب ان ننتبه الى نقطة مهمة للغاية في بناء المفاهيم الجديدة، وهي ان علينا ان نبدأ بإنضاج مقياس جديد للحديث المحكم يختلف كليا عما سبق فيما يخص الاحاديث الصحيحة والضعيفة من خلال التعريف التحقيقي المستحدث التالي للمحكم اجمالا: النص او المنقول المحكم هو الذي يتطابق مع الحقيقة والفطرة السليمة والغرائز والاخلاق السامية والتراث الروحي الحق الذي تتمثل به الحكمة والقيم العليا للإنسانية، لان ذلك هو الغاية المرجوة أصلا من أي دين او فكر ...وهكذا فان الحديث الذي قاله الرسول فعلا من خارج الحال السامي(17) له او لم يقله ولكن نُسب اليه والذي يتعارض مع المقياس اعلاه يعتبر حديثا غير محكم، أي متشابه. اذن مفهوم النص او القول او المنقول عموما لغير المحكم هو ذلك الذي بالضد من مفهوم المحكم. ان النص المقدس او ما يصدر من الرسل والانبياء والحكماء، والذي اتبعهم الناس استنادا اليه، يجب ان يجسد او يعبر عن العناصر القيمية العالية الواردة في تعريف المحكم الآنف الذكر. وحسن الظن الاولي يقودنا الى ان لا نأخذ باي منسوب الى النبي يخالف ذلك، أي ما يخص الحديث الذي تأكدنا بطريقة ما ان الرسول قد قاله فعلا ولكنه لا يتطابق مع الشروط السابقة، ولنسمي هذه الشروط بشروط الحديث المحكم، فإننا سنعتبر هذا الحديث في هذه الحالة حديثا متشابها رغم صدوره عنه.. وأي حديث منسوب للرسول قاله او يشك بانه لم يقله تنطبق عليه شروط المحكم يعتبر على هذا الاساس حديثا محكما لسمو فائدته ولمناسبة تنسيبه للرسول وان لم يقله. وكل حديث يُخالف شروط المحكم صدر من الرسول فعلا لحال معين او نُسب اليه فانه حديث متشابه.. لان النبي كإنسان، يخطئ ويصيب ويقول في حال احيانا كلاما راقيا، وفي أحوال اخرى دون ذلك. لان الحال الأصلي له، الذي استوجب الاتباع هو الحال السامي الذي وارده (18) الدعوة الى الحق والمحبة والسلام والرقي الحضاري والروحي، لا الرسول نفسه عندما يكون في حاله العادي، أي حال البشرية، ويكون الصادر منه مخالفا لذلك. وعلينا ان نميز بين مثال الرسول المعبر عن الحال القدسي الذي يؤخذ منه، بالاستناد الى المقياس العقلاني - التحقيقي أعلاه، والرسول نفسه عندما يكون في حال الاكتظاظ بالبشرية، فيُلتقفُ منه قول عارض لا يمتلك بعدا ساميا من قبل أحد الادنياء فينسب اليه بحيلة فيصبح مقدسا ثم يُهرع الى تطبيقه من قبل جموع المتبعين بطريقة كارثية.
اذن نحن نحدد مقياس المحكم وشروطه وفقا للعقلانية التحقيقية. فلا ينبغي للنص ان يكون محكما لمجرد انتسابه لشخصانية معينة، بل لتحقيقه لشروط المحكم التحقيقية الجديدة آنفة الذكر. أي توفر حكمة عالية، روحية او حقانية. لان و "ما ينطق عن الهوى" نكصت بالمصدرية السامية الى الرسول لشخصه ولم ترده الى مقاييس عقلية- تحقيقية خبيرة. وهكذا أصبح مجرد صدور القول من النبي شخصيا حُكما اعلى، او دليلا كافيا على صحة الحديث. واسفرت هذه المغالطة القاتلة ما اسفرت من دخول هوام الأفكار الى المعتقد، ونكصت بمجرى الأمور الى جاهلية جديدة مُقنَّعةٍ ربما هي أسوأ بكثير من الجاهلية الأولى في بعض مناحيها، وما أدى اليه ذلك من نتائج كارثية. نعم ينبغي ان يكون تقريرنا قائم على أساس منهج عقلي - تحقيقي جديد متقدم ينهل من الخبرة والحكمة الإنسانية العالية التي حققها الجنس البشري. ولا يمكن بعد هذا ان ننكص الى القياس على أساس المصدرانية الإلهية او الشخصانية، أي لمجرد ان الكلام يُنسَّبُ صدوره عن ذات الهية او بشرية معينة، مع وجود خلل علمي او عقلاني واضح فيه او ضرر جلي وخيم العواقب او عدم نفع، هذه الصادرات الشخصانية اللاتحقيقية عمل التراثيين بدأب على اكسابها حصانة مقدسة بمجرد هذا الانتساب الشخصاني. اذن لا مناص ابدا من امرار نصوصنا الدينية على محك الخبرة العقلية - التحقيقية العالية التي اكتسبها الانسان المعاصر في مجرى تاريخٍ طويل من الكفاح من اجل تحقيق النضج العقلاني- الحقي المتقدم.
ان الرؤية التنويرية التي تقبل بالحديث المتوافق الذي يطابق أي آي في المصحف، اجمالا، وان ذلك كاف لوحده يستوجب الاخذ به، فان ذلك سيكون اخذا على علاته، وبهذا نكون قد ارتكبنا خطأ فادحا سيفضي الى نتائج وخيمة. ان هذا الحديث، وفقا للفهم الجديد، لن يعني ابدا انه حديث محكم، ذلك لأنه على الاقل ينبغي ان يطابق آيات الكتاب المحكمة حصرا لا الآيات اجمالا، تلك التي سيقرر لاحقا عن محكميتها من خلال انتسابها الى القيم العليا بالأصالة، وخضوعها لنفس الشروط والمقاييس العقلية-الحقانية التي يخضع لها الحديث المحكم في المنهج الجديد. وان لا نكتفي فقط بمجرد مطابقته للمصحف الذي بين أيدينا اجمالا دون تفصيل، لان هذا الاجمال سيعرقل التفكيك المطلوب للبنى الجاهلية المتلبدة في النصوص قيد البحث ويهيئ مرة أخرى لعصر جديد من الارتداد الى جاهلية جديدة.
ان اقوى الشروط التي وضعت لجمع الأحاديث والتحقق منها عند التراثيين قد قامت الى حد كبير على مبدأ المصدرية الشخصانية (19) فيما يخص الرواة أي على مبدأ التحقق من صدق وعدلية (20) سلسلة من "الأشخاص" مع اهمال، يبدو متعمدا، لشرط القبول العقلي الحصيف لمدى حقانية المتن. واحتج التنويريين بالمتن من حيث مطابقته او مخالفته لنصوص القرآن وجعلوا القرآن مرجعا رئيسيا في تقييم الأحاديث وكانت حركتهم ناجحة من حيث انها عملت على تنشيط العملية التفكيكية الموجهة نحو الأحاديث والفقه المستند اليه ولكن غير انها لم تكن قاطعة. وكان في ذلك نوع من الركون أيضا الى نمط من الشخصانية الكتابية، ان صح التعبير، لا الى التقييم على أساس الفحص التحقيقي-العقلي العالي. يجب علينا بلا أي مواربة سد الطريق على أي مُحكمية ترتكز على أساس الشخصانية لا على أساس الفحص المتقدم آنف الذكر. ان الانتقال من المُحكمية المرتكزة على الشخصانية الى المُحكمية المرتكزة على العقلانية فيما يخص الأحاديث والآيات، هو الخطوة الفاصلة للوقوف بوجه التدليس وهيمنة الخرافات والاساطير والفكر النكوصي (21) والسلوك التدميري.

إن الاستخدام الحصيف لمصطلحي المحكم والمتشابه المستخدمين في المصحف رسميا يعني تقسيم آيات الكتاب الى نوعين: الآيات المحكمة المسمى مجموعها باسم "ام الكتاب (22) “والآيات المتشابهة، التي لم يضع لها الكتاب اسما اخر. ولن اناقش تفاصيل هذا الآن لأنه من الصعوبة بمكان ان يتم عرض ذلك بشكل منهجي منظم موجها الى الآيات مباشرة في هذه المرحلة قبل تهيئة العقل الجمعي عبر الاعلام التنويري، خاصة، والمثقف عموما باستخدام التكنيك السايكوآيديولوجي المقترح المعروض في هذه العجالة. ينبغي ان يشتمل هذا المنهج الذي ننصح بتطبيقه اوليا في علوم الحديث على آلية لتصنيف، وربما لتنقية الكم الكبير من المنسوبات الى النبي. وسيفضي ذلك بالتأكيد ليس الى قطع الطريق على التطرف والنكوصية في فهم الدين من جهة فحسب، بل يقطع الطريق أيضا، على ذلك النوع المبتذل غير العلمي من الالحاد ذو الثقافة السطحية المتوجه الى الدونية الأخلاقية والتحلل الاجتماعي.
ان ترسيخ المنهج الجديد وانضاجه باتجاه الأحاديث للتحقق منها وفق المنهج المستحدث على مستوى الوعي الجمعي سيهيئ، كما قلنا، تطبيق هذا المنهج لاحقا على الآيات القرآنية والذي يؤمل من ان يخفض من مستوى الإشكاليات المحتملة تبعا لذلك. بالتالي يبقى العقل المحقق الحكيم الفارز بين طرق الخير والحقيقة ومنزلقات الشر والخطأ والذي انضجته البشرية عبر التاريخ، تنقيحا واعلاء، يبقى هذا العقل المحقق هو الحاكم على النص مهما كانت نسبة هذا النص ولا يمكن اعلاء أي مقولة او نص، بحجة انتسابها الشخصاني، على هذا العقل الخبير.
ان تعميق منهج المحكم والمتشابه، وفقا للفهم الفلسفي الجديد، في منظومة البحث الحديثي وإنضاج وترسيخ آلياتها التي ستعمل على بلورة النصوص ذات الطابع السامي وفرز كل خبث دوني نكوصي، سيهيئ بفاعلية المجال لتطبيقه منهجيا على المصحف بنفس الطريقة لإنجاز فرز متقدم للآيات والذي مونع بإصرار عنيد عبر القرون السابقة لأغراض متعددة، كان للسلطة والدوافع النفسية المختلفة دورا كبيرا في ذلك. هذا الحَجْرُالعقلي قد أوقف اهم عملية نقدية ذاتية يوجهها الكتاب الكريم لنفسه صراحة.. عبر الإقرار بوجود آيات متشابهات وأخرى محكمات هن ام الكتاب وجوهره.

(1) التنوير: العودة لاتباع العقل. في أوروبا، اقترن بترك الاتباع الديني والعودة الى اتباع العقل، مما أسفر عن تراجع الجهل وانبثاق تطور حضاري هائل. تولدت عندنا حركة مماثلة منذ عهد محمد عبده 1849-1905 ولكن ضعيفة بسبب التسلط الديني الشديد. تزايدت فعالياتها بعد ظهور التطرف الديني الفكري والمسلح وما احدثه من كوارث. فالتبدلات باتجاه التنوير أصبحت أكثر وضوحا في المغرب العربي وفي مصر خاصة بعد ابعاد الاخوان. ويؤمل حصول تغيرات غير متوقعة البتة قد ينتقل فيها مركز التنوير الى السعودية ودول الخليج.. مؤذنة بحصول تغيرات دراماتيكية.
(2) التراثيين الاسلاميين: هم الذين يتبعون التراث الديني للمسلمين ويعدون هذا التراث من تاريخ وسلوك وفقه وأحاديث وتفسير من صميم الإسلام، في مقابل الإسلام القرآني، الذي يكتفي بالقرآن كمصدر للإسلام. ونكتفي بالإشارة إليهم هنا باسم التراثيين اختصارا.
(3) الناسخ والمنسوخ: في القرآن، والحديث ايضا، تعارض في معاني الآيات لا يمكن حله الا بنسخ بعضها للبعض الآخر، وتنسخ عادة الآية المتأخرة زمنيا التي تسبقها إذا تم التوثق من ذلك.
(4) التأويل: يختلف عن التفسير، فالتفسير هو إعطاء المعنى البسيط المباشر لمقولة او نص، هو أقرب ما يكون الكلمة ومعناها أي الطبقة المعنائية الأولى المباشرة المحاذية لمعنى النص، اما التأويل فيعنى الذهاب الى طبقات معنائية ابعد من ذلك واقل ارتباطا وبالتالي أكثر نأيا عن معاني طبقة التفسير.
(5) القهر التقديسي: القهر، وهو شكل آخر للإكراه ربما اشد وأعم، الذي يتم اكراما للمقدس استنادا الى التبرير القائل انه أولى واعلى واهم ومقدم على كل شيء. واول من اصطنع واستفاد من فكرة المقدس الكهنة والشامان لكيلا يجرؤ عقلاني من الرعاع على اعتراض خرافاتهم، وكوسائل تستثمر لتحقيق الكسب المالي والجنسي والهيمني. ثم لاحقا في وقت ما بدأ السلطويون بتوظيفها لأغراضهم المماثلة، غالبا بالتفاهم المشترك مع الكهنة والفقهاء ورجال الدين لاحقا. لم يبتكر شيء انتفعت به السلطتان الدينية والدنيوية كفكرة المقدس حيث تم من خلالها اخضاع الجموع فكريا ونفسيا له، بالترغيب أحيانا والترهيب غالبا، ومن خلاله تمكنت السلطتين، متفاهمتين غالبا، من احكام السيطرة الفكرية والسلوكية على الجموع التي تحت سلطتيهما.
(6) تروجان: حصان طروادة Trojan horse قصته التاريخية معروفة، واليوم في علوم الكومبيوتر يقصد به نوع من الفايروسات يخترق الكومبيوتر متخفيا بشكل يوهم النظام عادة، لغاية تكون في الشائع سلبية او هدامة، اما هنا فان ما يهمنا هو فكرة التخفي والولوج الفكري الى مجال فكري مناوئ للعمل، فيما يخص بحثنا، بطريقة بناءة. عمله يشبه بطريقة ما عمل الكوماندوس التي تخترق خطوط العدو او يتم انزالها ورائها، لتقوم بعمليات تمهيدية تيسر عمل القوات الاساسية كثيرا عند حصول العمليات الرئيسية.
(7) ميكانزم: بمعنى آلية، استخدم بطرق مختلفة، أشهرها الميكانزمات النفسية الدفاعية. ولكننا هنا نعني بانها أداء، تتحرك به أفعال، ذهنية في حالتنا، بشكل متآزر او متناغم، لتحقق إنجازا ذهنيا معينا، وقد يكون بعض او معظم الميكانزم ومنجزاته في مستوى اللاشعور واللاوعي. بغض النظر عن المفهوم الدفاعي الذي يرتبط بمفهوم الميكانزم الا ان الميكانزم هنا يعني أية آلية نفسفكرية يتم من خلالها تحقيق او ايقاف اجراء نفسفكري معين.
(8) النفسفكري او السايكوآيديولوجي Psychoidealogy وهو مصطلح صيغ هنا ليعبر عن مجال موحد يعمل فيه النشاط النفسي مع الفكري لتحقيق منجزات ذات بعدين متآزرين: فكري ونفسي. ذلك ان كثير من المعتقدات الفكرية، منها الدينية، لا يمكن تغييرها دون معالجة للبعد النفسي المصاحب لها الذي يظهر على شكل قصور ذاتي يشد المتلقي الى معتقده القديم بقوة نفسية لا عقلية. لا يمكن للعرض الفكري الجديد في معظم الأحيان ان يتغلب عليها، رغم حججه الغالبة ومنطقه الأعلى، إذا ما واجهها على مستوى الوعي المباشر دون تمهيد كاف. ذلك الفكر الجديد لينجح يجب ان يمهد بواسطة ميكانزم الحث بشكل غير مباشر عبر اللاوعي عن طريق عرض فكري وسيط مقبول مشحون بالماكروات الفكرية، التي تعمل تحت الوعي، مُضعفةً للمقاومة النفسفكرية لتهيئ للتغييرات الفكرية الجديدة عندما يحين موعد عرضها بعد حصول اضعاف للمقاومة الآنفة الذكر..
(9) زرع: أي زرع معرفي او فكري. الواقع ان كل عملية تعليم هي نوع من الزرع المعرفي او السلوكي. المقصود هنا الزرع المعرفي الشفاف، ويكون المتلقي بكامل وعيه وعارف بما يجري تفصيليا بل ومتعاون، أو موافق مبدئيا على الأقل على الاصغاء لما يطرح له، فلا مقاومة شعوريه او غير شعورية ذات بال تقف بشكل يعوق ويعرقل مجرى التلقي.
(10) ازدراع: Transplantation تعني نقل أفكار بطريقة مخصوصة من مجال عقلي مانح الى مجال عقلي متلقي لغرض استعادة الاخير لصحة أدائه من وجهة نظر معينة.
(11) اللاشعور: ان اللاشعور واللاوعي في الاصل شكلين لترجمة كلمة Unconsciousness الإنجليزية. ولكن المقصود باللاشعور في هذه العجالة انه حال اللاوعي اثناء تفاعله المباشر مع المعطيات الحسية الخارجية، او الخيالية الذهنية الآنية في عقل المتلقي وليس لاحقا.
(12) اللاوعي: Unconsciousnessعند فرويد وعاء نفسي يشتمل بالدرجة الأول على مشاعر وأفكار ودوافع وذكريات، غير محبوبة عادة، وهو معزول عن وعينا بالشكل الذي نعهده عادة بسبب الرقابة والكبت. مع ذلك فان محتويات اللاوعي تستطيع ان تؤثر على طرق تفكيرنا وسلوكنا بحيث يمكنها، فيما يخص موضوعنا هذا، ان تجعل العقل لا يؤدي وظيفته بطريقة سليمة بسبب انحراف التقييمات المنطقية العقلية عن مناطها السليم بتأثير أنشطة اللاوعي الضاغطة على مسارها الطبيعي.
(13) محكم ومتشابه: الآيات المحكمة هي التي لها معنى محدد واضح لا لبس فيه. والمتشابه الذي يقبل أكثر من معنى وتشتبك فيه ظلال المعاني. والتعريف الذي نقصده هنا ليس هذا فقط، بل ان من خلال تعريفنا لمعنى المحكم، أي الناضج الحكمة، والذي يجب ان لا يناقض العلم والتاريخ المؤكد والقيم والمفاهيم العليا السامية التي اختبرتها البشرية، انه لا يمكن اعلاء نص فوق مقياس الحكم المرتكز على ما تبلور من الحكمة الإنسانية، بسبب وضع مصدره موضع التقديس. فقد يكون النص واضحا لا لبس فيه ولكنه يناقض ابسط الحقائق العلمية. فيكون حسب ما اوردناه غير محكم. ولهذا فان التعاريف التي استخدمت هنا للمحكم والمتشابه مختلفة عن المعهود، ويقصد منها احداث تغييرات دراماتيكية كبيرة في المجال المقصود يصبح فيها العقل لا الشخصانية المرتكز الأول للحكم القياس.

(14) طاقة لا واعية: تتجلى في القوة التي يعبر بها سلوك معين عن نفسه، بشكل سلبي او إيجابي أصل هذه القوة قبل تجليها طاقة مخزونة تنامت وتراكمت عبر ميكانزمات معقدة في اللاوعي.

(15) ارتباط شرطي: نوع من التعلم يكتسب فيه منبه ما القدرة على اثارة استجابة معينة تستثار في الأصل من منبه آخر هو منبهها الأصلي. الطعام الذي يوضع في الفم هو المنبه الأصلي لاستثارة منعكس افراز اللعاب غير الشرطي. عندما يقرن قرع جرس في وقت قليل قبل موعد وجبة الطعام ويكرر عددا كافيا من المرات تبدأ الغدد اللعابية بالإفراز حتى قبل رؤية الطعام. ويسمى هذا بالمنعكس او الارتباط الشرطي، وهو مؤقت ويمكن ازالته بتكرار العملية دون احضار الطعام عدد كاف من المرات.
(16) المصحف: ليس القران ولا الكتاب ولا ام الكتاب ولا الذكر المحفوظ بل يبدو لأول وهلة ان كل ذلك هو جزء منه. فهو الصحف التي جمعت في ازمنة مختلفة ومرت بمراحل، يبدو ان عملية الجمع هذه اعقد بكثير مما اُحطنا به من علمها. يفترض ان من وضع اللمسات الأخيرة على المصحف هو الحجاج ابن يوسف الثقفي.
(17) الحال السامي: الأحوال من مجريات الارتقاء الروحي وعندما يستقر الحال لفترة طويلة نسبيا يصبح مقاما. الأحوال في الطريق متنوعة، النقي الذي يحمل وارده فحوى روحية راقية من خبرة، او فكرة روحية او معرفة اصيلة جديدة ملهمة موجهة نافعة للفرد او المجتمع او الجنس البشري تعتبر احوالا سامية بسبب رقي واردها نتيجة حدوث الصفاء الحقيقي للقلب. وكثير من الأحوال تكون وارداتها دون ذلك شأنا ومصدرا فلا تسمى سامية بسبب تدخل شوائبً القلب في حرفها عن مجراها وتسمى هذه العملية تشبيها. وهكذا فان الحال السامي الحقيقي إذا ما كان وارده خاطر او خطاب فانه يحتمل ان ينتج، وفقا لفهمنا، نصا محكما بالمعنى الذي عرفناه آنفا او متشابها منحرفا عن الشكل الأول الصحيح للوارد بسبب تأثير النفس او "الشيطان".
(18) وارد: طارئ غير معتاد يعيشه السالك، وهو من صفات الطريق الصوفي. وهو عدة أنواع: انفعالية، ووجودية، ومعرفية. تهمنا هنا الواردات المعرفية او العلمية، أي التي تحمل معها معرفة او معلومة جديدة صادرة الى السالك من مستويات روحية اعلى وهو خارج حال البشرية.
(19) الشخصانية: لها معنى محدد هنا دون غيره: عندما يجتاز شخص معين الحدود العادية ليكتسب مقاما او مكانة مميزة او فريدة يصبح ما يصدر عنه من قول او فعل ذا قيمة عالية في المجتمع يجري معه التوقف عن الحكم عليه استنادا لمقاييس عقلية كما كان سيحدث لو صدرت من شخص عادي، بل يتم القبول بها استنادا الى مجرد صدورها عنه لمقامه ومكانته دون اجراء التمحيص والتحقيق اللازم.
(20) عدل: ويسمى أيضا العدل الضابط وهو شرط خيالي لا يمكن تحقيقه الا في حالات جد نادرة. فشرط كونه صادقا مخلصا لله لا يحقق لنا شرط كونه محققا، فقد يكون صادقا غير محقق، اما مفهوم الضابط فلا يمكن ضمانه على طول العمر للإنسان لأنه يتغير بتبدل الأحوال والعمر والظروف والضغوط. هذه الشروط فيها معايب كثيرة.
(21) فكر نكوصي: التقهقر او التراجع يعني الرجوع الي الوراء ولكن الوجه الى الامام، اما النكوص فهو يعني الرجوع الى الوراء والوجه والقلب يتجهان الى الوراء أيضا. انه رجوع وليس تراجع.
(22) ام الكتاب: أطلق على مجموع الآيات المحكمات، بإزاء الآيات المتشابهات. ولكن لم تجري أي محاولة لتحديد منهج للفرز بين المحكم والمتشابه او عزل المحكم عن المتشابه.



#كمال_جيلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال جيلاني - في سايكوآيديولوجيا التنوير