أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جسار صالح المفتي - التأويل والتصور والقدسية ومفاهيم ومعتقدات الدين ورؤية العلمنة!؟















المزيد.....


التأويل والتصور والقدسية ومفاهيم ومعتقدات الدين ورؤية العلمنة!؟


جسار صالح المفتي

الحوار المتمدن-العدد: 6244 - 2019 / 5 / 29 - 18:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لقد ظل مفهوم الجسد في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة حبيس النص الفقهي، التشريعي منه والسجالي. ولم يجد مرتعا لبعض من حرية التفكير والتصور إلا في النص التخييلي شعرا كان أو حكيا أو مسرحا. وبين صرامة النص الفقهي والحرية الممكنة للنص الأدبي يصعب الحديث في ثقافتنا هذه عن تصور فعلي للجسد من حيث هو كيان له استقلاله الذاتي".
الجسد في الإسلام: أية مكانة؟ظل الجسد في الثقافة الإسلامية مرتبطا إذن بمجال التخييل، إنه المسكوت عنه في هذه الثقافة أو هو التاريخ الجهوي لهذه الثقافة الذي لم تلتفت إليه التواريخ الرسمية. لكن السنوات الأخيرة عرفت اهتماما واسعا بهذا التاريخ، وأخذ موضوع الجسد يأخذ مكانته ضمن التجربة المعرفية للإنسان، حتى إنه أضحى من الممكن الحديث عن فكر للجسد كما يقول فريد الزاهي. لكن ما الذي يعنيه الزاهي بالجسد الإسلامي؟
"الجسد الإسلامي مفهوم جامع للعناصر النصية والواقعية. المتخيلة والتاريخانية التي بلورتها الثقافة الإسلامية في ذاكرتها المكتوبة والشفوية بصدد الجسد. بهذا يكون الجسد الإسلامي نتاجا لمختلف مكونات هذه الثقافة. لا فرق في ذلك بين التصورات السائدة والهامشية، ولا بين الفقهي والكلامي والتصوفي والفلسفي والشعبي والعالم".
إنه تصور جديد لا ريب، فهو يفتح الباب للاشتغال أيضا على الثقافة الشعبية والشفوية والنهل منها، بدلا من الاعتماد فقط على النصوص العالمة. وهو ما سيمكن الزاهي من تقديم صورة واضحة عن المكانة التي احتلها الجسد في الثقافة لإسلامية وتفسير ذلك. فالإسلام دين تنزيه، والكلمة الأولى والأخيرة فيه للروح، وهي نظرة تؤسس وتحكم الثقافة الإسلامية ما يوضح الرؤية المحطة بالجسد والتي تطالب بضرورة كبح جماحه. إن الجسد في ظل هذا المنطق التنزيهي سيكون خادما للمقدس وخاضعا للقواعد الدينية أو للنموذج الجسدي في الإسلام كما نجده مبوبا في الصحيحين والسنن أو في مصنفات أخرى للغزالي والسيوطي وابن تيمية وغيرهم. إنه "جسد من أجل المقدس" يقول الزاهي، لأنه لا يملك حق التصرف بنفسه ولا الخضوع لأهواءه. إنه جسد لم يكتشف بعد استقلاليته وحريته تجاه المقدس. إنه مجرد دال للتعبير عن مدلول روحي وسننية إكراهية، لكنه دال ضروري في هذا السياق لا يمكن الاستغناء عنه كما هو الحال في الصلاة. وحتى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فإن عملية تدجين المقدس للجسدي مستمرة، وارتباط السياسي بالمقدس يتم غالبا على حساب الجسد وعلى حساب استقلاليته وانطلاقه، وبلغة أخرى على حساب الفرد.
الإسلام، الجنس والمقدس لقد انتبه الإسلام للجسد وعمل على تقنين حركاته وسكناته، وإلحاقه بالنظام الإلهي، بشكل يمكننا الحديث فيه عن جسد مقدس، أو جسد لا جسد. إنه هنا من أجل الصلاة والصيام ومن أجل التماه المطلق بالنص. لكن كيف تعامل الإسلام مع قضية، لربما هي الأكثر جسدية في الجسد: الجنس؟
لقد تحدث القرآن عن الجنس بوضوح، في صور بلاغية قد تبدو من النظرة الأولى بدهية وعادية ولكنها موغلة في القداسة كما يعلمنا الزاهي:"إن تشبيه الذكوري بالمحراث وتشبيه الأنثوي بالأرض يحيل في المتخيل الكوني إلى خلق تعاضد صوفي بين المرأة والأرض. ويجعل الرموز المتصلة بالمرأة رموزا ليلية لها صفة العمق والغور والظلمة. وتلك المرتبطة بالرجل رموزا نهارية عمودية ومنتصبة. من ناحية أخرى، يؤكد هذا الترابط الرمزي أن لخصوبة المرأة نموذج كوني يتمثل في الأرض الأم المنجبة والكونية".
لقد حاول الإسلام تجاوز الجنسية الجاهلية وفوضاها التي كانت تمثل خطرا على النسب. لهذا سعى إلى ربطه بدائرة المقدس. لكن الخطر الحقيقي لم يكن فقط على النسب، بل على المقدس نفسه، لأن اكتشاف الجسد يمهد للخروج من المقدس. إن الجسد هو الدال، وغياب الدال يعصف بالمدلول أيضا. ولهذا وجب تقنين الجسد وتدجينه وربطه دينيا بالمقدس:"إن تأطير المسلم للعملية الجنسية بصيغ بسملية وحمدلية مثلها في ذلك مثل الأكل وغيره من الممارسات اليومية، يجعل الجنس ـ رغم طابعه الغامض والرهيب أحيانا ـ جزءا من سمفونية الفعل اليومي للمؤمن، الذي يعيش كل شيء بشكل طقوسي خاص. هذه الألفة والتآلف هي ما دفع بوحديبة إلى القول بأن الجماع ليس ولوجا إلى عالم الشر وإنما دخولا إلى عالم القوى القدسية".
إن ربط الجسد بنموذج محدد المعالم ومقنن، هو حرب ضد الحواس كما يصفها الزاهي، أو حرب ضد الجمال باعتباره فتنة كما تقول اللغة الدينية، ولهذا وجب إدماجه في المؤسسة الزوجية. إن كل خروج على النموذج أو كل انطلاق خارج المؤسسة يواجه بالعقاب الشديد، فهو يهدد كل البناء الإلهي، ولربما هذا ما جعل فرويد يقول بأن "الجسد تحرر أولا وبعد ذلك تبعه العقل"، وهو ما يفسر إقدام كل أشكال التوتاليتاريات الدينية منها والدنيوية على تدجين الجسد ورسم سكناته وحركاته.
التّقديس لغة: هو التّعظيم والتّوقير، والمعنى الاصطلاحيّ له هو: التّنزيه عن النّقائص الكونيّة مطلقا
ظاهرة التّقديس وسلبيّاتها
ويستعمل عرفا: أنّه ماجاوز الحدّ المشروع فالقدسيّة درجة أعلى من التّقدير والاحترام والهيبة، وقد ترقى إلى درجة الكمال وعدم جواز النّقد.
تتعدّد أسباب ظاهرة التّقديس في المجتمعات، فتارّة تكون سياسيّة، وأخرى اجتماعيّة، وثالثة دينيّة، وقد يشترك سببان أو أكثر في مجتمع دون آخرويمكن أن نعزو السّبب في هذه الظّاهرة إلى جهل الذين يقعون تحت تأثير تقديس الأشخاص المنتحلين للعلم والدّين، وخلق هالة من المعصوميّة فوق رؤوسهم، تصل إلى حدّ الاستماتة في الدّفاع عنهم بما يفوق العقل والمنطق و ينتج بسبب ذلك، جعل هذه الشخصيّة “المقدّس” المقياس للحبّ والكره،فيكون كلّ فعل يصدر منها – بالنّسبة لهم- هو الصّواب، وإن كان مايصدر منها ينافي المصلحة العامّة والعرف السّليم والدّين والأخلاق والمنطق، ويضعون من يخالفها في خانة الخطأ والانحراف وبعد الدّراسة، تبيّن أنّ هذه الظّاهرة تنشأ وتترعرع وسط الفوضى التي يعيشها مجتمع من المجتمعات، من حروب وفقر وحرمان من أبسط مقوّمات الحياة، كما يلاحظ أيضا أنّ منشأ هذه الظّاهرة، مركّب بين المقدّس المفترض والمجتمع؛ وذلك بحاجة المجتمع إلى رأس يقوده ويسيّره، و باستقواء وترهيب أو إغراء وترغيب من المقدّس المفترض وانسياق ناتج عن جهل وتجهيل متعمّد للمجتمع من قبل أدوات الجهة المطلوب تقديسها، أو الجهة الرّاعية لها.
وهذا التجهيل المتعمّد له أهداف بعيدة الغرض، منها قتل الفكر ومنع وصوله للنّاس، وتكسير قواعد العقل، كي تتحوّل الأكاذيب إلى قناعات ذات أسوار عالية، وذلك لتغطية وإخفاء الفساد الماليّ والإداريّ والاجتماعيّ، والحفاظ على ديمومة هذا الفساد، بالإضافة إلى استغلال الأديان السماويّة، عن طريق الشّحن المذهبيّ والقبليّ، لتكريس مبدأ الاستفراد بالسّلطة، و قد يصل إلى حدّ تحويل رجل الدّين من أداة للاتّباع وحبّ النّاس والانفتاح عليهم، إلى أداة للهيمنة والإرهاب وعلى مرّ العصور وفي العهود الماضية، شهد التّاريخ الإنسانيّ، قيام عشرات الإمبراطوريّات والدّول والممالك، التي قامت أنظمتها السياسيّة على الحكم الاستبداديّ؛ المتمثّل في استفراد عائلة أو عرف معيّن بالسّلطة، تحت غطاء الدّين أو العقيدة أو الزّعامة العرقيّة والقبليّة، وفي بعض الأحيان كان الزّعيم ينصّب نفسه إلها، كي يعبده النّاس ويتقرّبون إليه بالطّاعات والقرابين ونرى في الجانب السّياسيّ والاجتماعيّ، أنّ الثّورات الفكريّة والاجتماعيّة في دول أوروبا، قد ساهمت بتغيير نظرة الشعوب للقائد والزّعيم، وأطاحت بالنّظام الملكيّ الاستبداديّ، وبناء جمهوريّة تقوم على الديمقراطيّةوالانتخابات والتعدديّةالحزبيّة.
هذه التغييرات الفكريّة قلبت المفاهيم في الغرب، فلم يعد القائد والرّئيس بمثابة الإله المخلّص، وأنهت ثقافة تقديس الزّعيم والقائد، التي سادت لآلاف السنين وتلاشت وانتهت هذه الثّقافة في أغلب دول العالم، ولكن بالنّسبة لمجتمعاتنا، فإنّها لازالت تعاني من هذه الأفكار على الرّغم من تستّر بعض الأنظمة بمفاهيم كالدّيمقراطيّة، لأنّ ثقافة مجتمعاتنا في عمومها، سواء منها قديمها أو حديثها، تدعم الاندماج في ثقافة وقيَم الجماعة، ولا تدعم النّزعة الفرديّة، التي تجعل الفرد يملك عقله وتفكيره، ممّا يجعله قادرا على تقييم الآراء والقيَم والأشخاص بنفسه، دون وصاية أو سلطة عليه، الأمر الذي يؤدّي إلى تذويب شخصيّة الفرد وعدم تقدير ذاته، وجعله مجرّد انعكاس للبنية الثقافيّة لمجتمعه، التي تحدّد له القيم والسّلوك التي يجب عليه أن يسير عليها بموجب معايير مجتمعه فعدم تربية العقول على حريّة التفكير، يؤصّل مسلك تقديس الرّمز سواء كانت سياسيّة أو دينيّة، في كلّ مسألة أو قول أو أمر أو فكر لهذا الرّمز ولا يخفى على أحد منّا اليوم وضع الفرد في مجتمعاتنا، وشبكة المصالح التي يمكنه الحصول عليها من خلال زعيمه، فالوظائف والمعاملات في الدوائر الحكوميّة باتت لا تنجز إلّا “بالواسطة”، حيث أنّ من ينتمي لحزب من الأحزاب الحاكمة، ويتبع زعيمه، يمكن توظيفه وإتمام معاملته بكلّ سهولة، أمّا عامّة النّاس فهم مغلوب على أمرهم، وحقوق الفرد أصبحت مسحوقة، والجميع مسؤول عن ماجرى ويجري كلّ يوم، فالمواطن عليه أن ينظر إلى زعيمه بموضوعيّة، وعدم تأليهه واعتباره لا يخطئ، بل عليه أن يحاسبه عندما يخطئ، وذلك من خلال قانون انتخابيّ عادل، ومن خلال إصلاح حقيقيّ، وبثّ الرّوح في المؤسّسات الرّسميّة، من خلال تغيير القيادات فيها بشكل حضاريّ كل فترة، عندها يستطيع المواطن الحصول على حقوقه والقيام بواجباته أمّا في الجانب الدّيني، فأبرز المشاهد المؤلمة التي تحدث اليوم في مجتمعاتنا، هو تعظيم من لا يستحقّ من رجال الدّين إلى درجة فرض هالة من القداسة على أشخاصهم و أقوالهم وأفعالهم، وهذا ناتج عن الجهل بالمقدّس علما بأنّه لايوجد إطار تقديسي في التّعاليم السّماويّة، سوى من خصّهم الله تعالى بذلك. فقد جاءت هذه التّعاليم لنزع الإطار التّقديسيّ عن التفكير البشريّ، ونزع الصّفات الإلهيّة عن البشر بمختلف طبقاتهم ومستوياتهم، وحاربت مفاهيم الولاء لغير الله، فهدمت أصنام البشر والحجر، وأعادت المفاهيم الإنسانيّة إلى أماكنها الطبيعيّة والسّليمة، لإطلاق العنان للفكر الإنسانيّ، والتّفكير في الله تعالى وصفاته العظيمة، وجلاله وكماله وأفعاله التي كلّها حكمة، وشرعه العادل ونعمه على عباده، فهو وحده من يستحقّ التّعظيم أمّا بالنّسبة لحملة هذه الرّسالة والتعاليم السّماوية(رجال الدّين) فإنّهم فئة متخصّصة في علوم الدّين ومهتمّة بتبيان مفاهيمه وأحكامه للنّاس، وهذا أمر ضروريّ ومطلوب في أيّ مجتمع ينتمي إلى الدّين، وهم يمثّلون نماذج عمليّة لسماحة الأديان، التي وجدت كي يشعر الإنسان بإنسانيّته، ولهم دور اجتماعيّ مهمّ، في تحفيز المجتمع للالتزام بالقيَم والأخلاق، فمهمّتهم هي استمرار لمهمّة الأنبياء والمرسلين الذين يبلّغون رسالات الله ويخشون الله فقط، لذلك يُنظر إلى رجال الدّين باحترام وإجلال، ولكن مايناقض هذا إلى حدّ الخطورة،هو اتّباع النّاس لمطلق رجال الدّين( الصّالح والطّالح منهم)، وفق مبدأ الثّقة المطلقة، والوصول إلى تقديسهم دون محاذير ومفهوم الأديان السماويّة أنّ البشر يخطئون، وأنّ خيرهم من يسارع بالتّوبة، وأنّ الله يحبّ من عباده من إذا أخطأ تاب، وهذا يؤكّد على أنّ الخطأ جزء من بنية الطّبيعة البشريّة،وانتصار الإرادة العاقلة لمواجهة النّفس لايتحقّق دائما، وهو جزء من قدر الله لنا في حياتنا الدّنيا إنّ السّيرة الحياتيّة لأيّ رجل دين مهما علا شأنها، يجب أن تخضع للدّراسة والنّقد والتّحليل، فهم بشر مثلنا، يحبّون ويكرهون ويأكلون ويشربون، ولهم زلّاتهم وأخطاؤهم، ومعرّضون للإصابة بمختلف النّواقص، التي قد يتعرّض لها أيّ فرد من أبناء البشر إنّ تركيز مكانة رجل الدّين في المجتمع أمر مطلوب، ولكن تعامل النّاس مع كل رجل دين بالتّقديس المطلق والثّقة العمياء، أمر خطير وأضراره بالغة، لذلك يجب عدم السّكوت عن الخطأ، ونشر ثقافة النّقد البنّاء، وعلى رجال الدّين أن يتّسع صدرهم للنّقد، وإبداء الملاحظات لهم بهدف الإصلاح وحماية المصلحة الدينيّة. فهذا الذي يتيح فرصة التغيير والتّطوير نحو الأفضل وعدم تحوّل هذه الظاهرة التقديسيّة إلى إرهاب، ويتمّ استغلال مكانة رجل الدّين، ويتحوّل الدّين إلى مِعوَل هدم بأيادي أناس يتلبّسون برداء الدّين إنّ نتائج تقديس الأشخاص هي جهل المجتمع بما له وماعليه. وبالجهل يتوطّد التخلّف وبالتخلّف يحصل الجور ومع الجور تسوء الأخلاق،وتفسد الضمائر وتسود الانانيّة، وهذا كلّه يؤدّي إلى خنق المجتمع، وتعطيل مسيرة الحضارة، ويستحكم الانغلاق، ويتوقّف النموّ، ليسود الجفاف والتيبّس، ويختفي الإبداع وأمام هذه النتائج الشّرسة التي تفتك بالانسان والمجتمع، لا بدّ من إعمال العقل واستخدام الفكر والبصيرة الواعية، ونشر ثقافة النّقد والتعقّل والاحترام،فقيم الدّين واضحة، ومصالح المجتمع تدركها العقول.
ما هو مكان مصطلحات القدسيّة في عالم تخضع فيه مفاهيم الإنسان والحيز المكان، والجسد والمادة إلى تحوّلات سريعة؟
في محور هذه الموضوعة يقف استقصاء متجدّد لمفهوم القدسيّة، وذلك في سبيل فتح كوّة تمكّن من إجراء مراجعة جديدة لمكانة القدسيّات بأنواعها المختلفة – القدسيّات المتعدّدة (Multiple Sacrednesses) – في الثقافة المعاصرة، وللمدلولات الثقافيّة الواسعة التي تستنبَط من هذه المراجعة.
في المائة وخمسين عاما الأخيرة مثُل مفهوم القدسيّة في قلب الكثير من الأبحاث، حيث قام الفلاسفة بالبحث في السؤال النظريّ حول ما إذا كان بمستطاع الفرد أن يكون مقدّسا، أم أنّ القدسية هي حكر على الرب الأزليّ؛ وقام علماء الاجتماع بالبحث في القدسية كمفهوم يخلق المجتمعات أو يكتّلها؛ وقام علماء الأديان بالبحث في القدسيّة على نحو مقارّن، حيث توقفوا عند الأمور التي تقدّسها الديانات المختلفة؛ وكذلك البحث الفنومينولوجي، أي ما هي جودة تجارب القدسية بأنواعها؛ وقام الأنثروبولوجيّون أيضا بسبر أغوار القدسيّة على نحو مقارَن، حيث تمعّنوا في ممارساتها في صفوف مجتمعات دينيّة ومجتمعات قبل دينيّة، وسعوا إلى عرض تراتبية للتقدّم في مفهوم القدسيّة. خبراء علم النفس قاموا بمراجعة القدسيّة كأنموذج ومفتاح لفهم سلوك الأفراد والمجموعات؛ بينما أخضعت القدسيّة في السياسة إلى عملية إنشاء كموضوعة للاستملاك، وكأمر يقع بملكيّة أو مسؤولية جسم معيّن. هذه العمليات الاستقصائية أجريت من منظور الحداثة والعلمنة، ومن خلال افتراض وجود "أديان" عملت فيها موديلات من القدسية، أو توقفت عن العمل، أو ترجمت إلى عالم خضع لعمليّات العلمَنة. تسعى الموضوعة إلى البحث في مفاهيم القدسيّة من منظورات ما بعد العلمنة، تلك التي لا تفترض مسبقا وجود موديلات قدسيّة وثنائيّة الدين والعلمنة. هذه المنظورات لا ترى في الحداثة التي أخضعت للعلمنة أمرا بديهيا، ولا هي أسيرة لتصوّرات اللاهوتيّة السياسية.
كيف تجري صياغة القُدسيّات في الفضاءات المختلفة، وما هي آليات القدسيّة وكيف تعمل؟ كيف يمكن تخيّل فضاءات ما بعد العلمانية بمفاهيم القدسية؟ وما هي الترتيبات الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي تتشكل في هذه الفضاءات، وما هو مكان الذات "العلمانية"، و"الدينية" فيها؟ القدسيّات التي ستُخضع لعمليّات البحث والتّقصي تشمل أنواع قدسيّة تختلف الواحدة عن الأخرى، لكنها تمارس فيما بينها علاقات متبادلة، وهاكم بعضا منها:
‌أ. قدسيّات روحية: قدسيات داخل الديانات التوحيديّة، وقدسيات جرى نسخها من الدين أو ابتُكرت في إطار مفاهيم أيديولوجية، أو حكايات فوق- حداثيّة كالقوميّة، والليبراليّة والعلمانيّة.
‌ب. قدسيّات تنبع من تصنيفات الموروث الثقافيّ، ومن تصوّرات وعادات القدسية التي تنتمي للعام السابق للعلمانية، وهي تواصل العمل بطرائق مختلفة في عالم يجري التعامل معه كعالم خضع لمسارات العلمنة (على سبيل المثال: الختان في الإسلام واليهودية، قبور القديسين، والحجب واللغة المقدسة).
‌ج. قدسيات لا تنتمي للأعراف التوحيديّة، ولا يمكن على الدوام نسبها لمنظومة إيديولوجية تمارس الطهارة أو الرفعة القومية/ الاجتماعية/ الفردية (على سبيل المثال: القدسيّة في سياقات الوثنيّة، وقدسيّة الجسد، والطبيعة والبيئة، والقدسيّة والتفاني في سياق حميميّة الخطاب الإشفائي).
سيجري تحليل القدسيات من خلال تأمل تمظهراتها المختلفة في الحيّز، وفي الطقوس، والزمن والأجسام- ولن تتقيّد بنظرية معينة أو بتقسيم بين قدسيات دينيّة وقدسيّات دنيوية. إلى ذلك، لن يقتصر التحليل على النحو الذي تُنسخ فيه قدسيّات دينية إلى داخل العوالم التي أخضعت للعلمنة، ولذا سيكون بمقدور هذا التحليل المساعدة على فهم تنويعة من المكونات التي تميّز التفكير، والسياسة والثقافة في عصرنا الحالي.
سنسعى بواسطة مفاهيم القدسيّة بمختلف انواعها (نحو النجاسة، والطهارة، الضحيّة، والتفاني)، وطريقة إنشائها، والممارسات التي ترافقها، إلى استيضاح ما حدث عندما تتلاقى حداثيّات متعددة مع قدسيات متعدّدة تولدت داخل سياقات ثقافية ليست مسيحية أو توحيدية بالذات: ماذا كان الحاصل؟ وكيف تعمل القدسيّات التي خضعت للعلمنة نحو "قدسية الإنسان" و "قدسية الحياة" و"حقوق الإنسان"؟ وكيف تعمل الحميمية كقدسيّة؟
علاوة على ذلك سنسعى لاستشفاف كيف تعمل مفاهيم القدسيّة بدون مولّد القدسية- قدسية بلا ميتافيزيقا: هل يمكن عرض إعادة بناء لمصطلحات فكّرنا بها كمصطلحات "علمانية ودينية" بمساعدة فنومنولوجّيات تستَخدم مصطلحات القدسيّة التي تنبع من الموروث الثقافي؟ نقطة الانطلاق هي السياق الثيولوجيّ اليهوديّ والاسرائيليّ المتفرد ومغزاه المزدوج كحالة خاصة، وفي الوقت ذاته كحالة برادايمية يمكن من خلالها فهم العلمنة فهما مجددا. سنقوم بفحص الطريقة التي يمكّن فيها استخدام مصطلحات القدسيّة التي تستقى من المورثات المختلفة (وليس على خلفية العلمنة بالذات) من إضاءة نقاط عمياء بالنسبة للثقافة. سنقوم بذلك من خلال تأمّل مفاهيم نحو الخشوع والتقبل، وفحص التوتر بين العلمنة والتدنيس (التجديف)، وتحليل الأبعاد السياسيّة والسيكولوجيّة للقدسية والانفتاح الذي تسمح بها حركة التدنيس. هكذا على سبيل المثال تقوم العلمنة باسترجاع ونسخ التفرّد والقوة وتقدّسهما، بينما يقوم التدنيس وفق أغامبين بتفكيك الحركة وتمكينها: "إعادة للاستخدام العام لما كان محصور داخل حيز المقدس".



#جسار_صالح_المفتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرية وفلسفة ودراسة المذاهب الرمزية في جسم الانسان


المزيد.....




- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جسار صالح المفتي - التأويل والتصور والقدسية ومفاهيم ومعتقدات الدين ورؤية العلمنة!؟