علي حسين القيسي
الحوار المتمدن-العدد: 1540 - 2006 / 5 / 4 - 10:52
المحور:
حقوق الانسان
في اعوام القهر والمرارة والاستبداد غصت المنافي الباردة البعيدة باللاجئين الهاربين من جحيم السلطة الغاشمة وقبضتها الحديدية التي كتمت على انفاس الاحرار من بنيها لتحيلهم الى المقابر والمنافي والسجون او الركوع تحت قدمي الجلاد القبيح. في تلك الاعوام القاسية كان ازلام السلطة يتنعمون في العواصم ذات الليالي الحمر في وقت كان فيه الاحرار يطعمون اعمارهم للغربة والبعد عن الاهل والاوطان انينهم يصل عنان السماء ونشيجهم يشق السكون ودموعهم تغسل ارواحهم الطاهرة من صدأ الغربة لتزرع الامل تلو الامل في بزوع فجر جديد يخلو من الجلادين.. ولكي لاتضيع المعاناة ويذهب الضحايا الى خزانة النسيان اثرنا ان نستل من سجلات الحوادث التي وقعت في الغربة حكاية تحمل طعم المرارة والالم وما نسرده الان عن شخصية علمية فذة هي واحدة من مئات الضحايا التي اجبرتها سلطة القهر على الهروب الى المنافي بعيدا عن الوطن والاهل والاحباب.... نبدأ حكايتنا من اولها كما تبدأ حكايات المآسي الحزينة. فقد ولد الدكتور نوري جعفر في الجنوب بين الفقر والجوع والفاقة كان ذلك في عام 1914 في مدينة القرنة بمحافظة البصرة لاب فلاح فقير... وبجده واجتهاده وفطنته وذكائه حصل على معدل عال في المرحلة الاعدادية يؤهله لدخول كلية الطب بتفوق.. حمل شهادة البكالوريا واوارقه جاء الى العاصمة بغداد ليصدم بامتحان المقابلة التي تجريها كلية الطب بعميدها الانكليزي سندرسن باشا الذي سأله بعدما رآه بزيه الريفي هل بمستطاعه ان يصرف كل شهر مبلغ (5) دنانير على دراسته فاجابه بطيبة الفلاح الجنوبي الفقير: لا انا ولا ابي شاهدنا الـ(5) دنانير هذه! فرفض الانكليزي سندرسن باشا قبوله في كلية الطب رغم ان معدله 94% الفرع العلمي مما دعاه الى تحويل اوراقه الى دار المعلمين العالية ويكون واحدا من المتفوقين الذين ارسلوا في بعثة دراسية الى امريكا ليحصل هناك على شهادة الماجستير والدكتوراه بـ(5) سنوات وكان من اساتذته هناك الفيلسوف الامريكي جون ديوي ابو البراغماتية والمنظر الكبير للديمقراطية الامريكية الذي اعجب بذكاء الطالب العراقي ونباهته وتنبأ له بمستقبل زاهر يخدم به بلده والانسانية جمعاء... وبقي جون ديوي معجبا بالرجل العراقي هذا حيث ادخله شقته لمدة شهر بنيوريوك جرى فيها الكثير من النقاش والحوار لفائدة الطرفين... وعندما ذهب جون ديوي الى مصيفه في احدى قرى ولاية بنسلفانيا قرر ان يصطحب معه هذا الطالب العراقي النابغة وعندما عاد الطالب الى وطنه العراق بقي جون ديوي متواصلا معه بالمراسلة حتى وفاته عام 1952.. وعند عودة هذا الطالب الى بغداد عين استاذا في كليتها ليكون واحدا من المع الكفاءات التي اسهمت في بناء جيل علمي حتى مجيء (الاوباش) عام 1963 اذ فصل من وظيفته ظلما وعدوانا ولكنه تفرغ للبحث العلمي ليبدع في ميدانه ويعرف ببحوثه الفائقة في الجامعات العالمية مما اضطر السلطة لاعادته الى وظيفته في الجامعة عام 1970... حتى احال نفسه على التقاعد بعدما لاقى من عنت السلطات ما لاقى وليكون عرضة مرة اخرى لمتطلبات العيش في الظروف المعيشية القاسية التي مرت في العقود الماضية وتحت ضغوط عديدة منها ما هو سلطوي ومعيشي اجبر على الهجرة حاله حال الاف الاخيار من اصحاب الكفاءات هروبا من الجحيم القاتل.. اختار ليبيا اذ التقى به احد طلابه الذي اصبح امينا عاما للتعليم العالي فقال له: لدي كلية جديدة واريدك عميدا لها وفعلا جعله عميدا للدراسات العليا هناك. وكانت بصحبته ابنته التي ارتأت عدم الزواج للقيام على خدمته بعدما ماتت زوجته مريضة القلب. الطريف في الامر بقي صاحبنا في ليبيا ليبدع ويطور موهبته العلمية بما توفر له من جو وموقع وظيفي ممتاز واصبحت كتبه المؤلفة والمترجمة وقتذاك تتجاوز اكثر من 36 كتابا مطبوعا وعشرات البحوث والدراسات مازال اثرها باقيا في معظم جامعات العالم.. الى هنا وحكايتنا التي نسردها بما فيها من حيف وظلم وتعسف وسجن وملاحقة وكبد وشظف عيش لحق بهذا العالم العراقي الجليل والمعروف بالدكتور (نوري جعفر) تكاد تكون عادية وهي شبيهة بقصص وحكايات سمعناها عن شخصية سياسية عراقية متعددة لكن الغريب في نهاية هذا الرجل العالم الذي ابعد عن وطنه تحت ضغط وظلم السلطات اولا انه بعد استقراره في ليبيا قدم بحثا علميا الى احدى الجامعات البريطانية يختص بالدماغ وكان بحثا فريدا وجديدا يتفوق به على العلماء والمكتشفين الغربيين مما دعا الجامعة البريطانية الى دعوته لمناقشته في اصول البحث هذا.. بالمناسبة ان الدكتور نوري جعفر لديه اكثر من بحث اثار العلماء الغربيين به، وقد اهتمت بنظرياته العلمية التي تخص الدماغ الكثير من الجامعات العالمية.. المهم ان العراقي في وطنه على حافة الموت وفي المنافي ارادت له المشيئة الالهية ان يكون على تخوم الموت ايضا.. استجاب العالم العراقي الدكتور نوري جعفر لدعوة الجامعة فرحا في بحثه هذا الذي تعب وشقى من اجله سيكون في صالح العلم وخدمة الانسانية.. فتأنق وحمل بيده بحقيبة الجلدية التي تحوي اوراقه وبحوثه واوقف سيارة التاكسي لتوصله الى المطار. وكان ذلك في طرابلس في ليبيا.. وفي الطريق طمع سائق التاكسي بحقيبة الدكتور وحسب انها مملوءة بالدولارات فكان هاجسه الشيطاني اللعين الذي تحرك في تلك اللحظة المجنون يدفعه للحصول على الحقيبة حتى لو قتل صاحبها... وكأي مجرم يلعب به الشيطان حمل بيده الة حديدية استخرجها من صندوق سيارته ليهشم بها دماغ الدكتور نوري جعفر ويرديه قتيلا دون رحمة بسنه او علمه او غربته فقد اوصد المجرم كل منافذ الرحمة داخله ليفوز بالحقيبة ومن ثم ليفاجأ بخلوها من الدولارات اللعينة... وكان ذلك الحادث الماساوي في السابع من تشرين الثاني عام 1991 لتنتهي بذلك قصة حياة عالم عراقي جليل نهايته مأساوية اهملها النظام السابق وغمط حق الدكتور الجليل كما غمطها في السابق لتضاف هذه الحكاية الى عشرات بل مئات الحكايات السود التي ابتلعها النسيان وضاعت في ظلام المنافي وليرحم الله تعالى الدكتور العالم المكافح نوري جعفر... ويموت العالم ولاتموت ذكراه
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟