أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - باقر جاسم محمد - مرة أخرى، حول وجود قوانين للتطور الاجتماعي















المزيد.....



مرة أخرى، حول وجود قوانين للتطور الاجتماعي


باقر جاسم محمد

الحوار المتمدن-العدد: 1539 - 2006 / 5 / 3 - 12:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" الأفكار كلها صحيحة إذا لم يكن معيارها الواقع الاجتماعي و التاريخي"
د. برهان غليون

مقدمة
تثير المقولات الفكرية المستمدة من الشق الأيديولوجي من الماركسية، في الغالب، نقدا ً هو أقرب إلى الحوار منه إلى التفنيد؛ لما تتضمنه من آراء و تنبؤات ذات طابع قطعي فيما يخص التطور التاريخي للمجتمعات البشرية. و لكن البعض سرعان ما يتهم من يمارسون مثل هذا النقد بالتحريفية حتى و إن كانوا من داخل المظلة الأيديولوجية للماركسية. و في تقديري أن مثل هذه التهمة تشين من يطلقونها و تشرف من تطلق عليهم. فهي تكشف عن نزعة تقديسية للنصوص مهيمنة في نفوس القوم و عقولهم تؤدي بالضرورة إلى انكفائهم عليها؛ و هي تنزع عن الفكر الماركسي، في الوقت نفسه، أهم مقوماته، أعني حيويته و صلته الدائمة بأسئلة الواقع و قضاياه و تحولاته و بالتجربة البشرية في تنوعها و تطورها، و هو ما يمكن أن نجده في أهمية مفهوم الممارسة أو praxis عند ماركس الشاب.
و لعلنا نتفق جميعا ً بأن العالم الراهن قد شهد تطورات جسيمة كما ً و نوعا ً تجعله عالما ً مختلفا ً على نحو جوهري عن العالم الذي استند كل من ماركس و انجلس و لينين على معطياته في تحليلاتهم و استنتاجاتهم. و هذا مما يجعل من تلك التحليلات و الاستنتاجات تراثا ً جديرا ً بالاعتبار غير أنه لا يصادر حق مفكري عالمنا الراهن في فحص المعطيات الجديدة. لا بل أنه يفرض عليهم مهمة شاقة ألا و هي تفعيل الجوهر الجدلي للعلاقة بين الفكر و الواقع، التي هي سمة أساسية في الفلسفة الماركسية ( و أنا أميز دائما ً بين الفلسفة الماركسية و الأيديولوجيا المستمدة منها) ، بغية السعي للكشف عن فهم أفضل للعالم في تحولاته و صيرورته. و لعلنا نتفق أيضا ً أن إحدى أهم المقولات الأساسية، و لكن الخلافية، في الفكر الماركسي الأيديولوجي، و في المادية التاريخية تحديدا ً، هي قضية وجود سياق للتاريخ البشري يمكن التنبؤ به. وهو سياق مقرر سلفا ً بحكم قوانين للتطور ماثلة في المجتمع قد تكون مذكورة صراحة أو ضمنا ً. و مسألة وجود مثل هذا السياق من عدمه قضية شائكة تناولها أكثر من باحث مهتم بالدراسات الماركسية. و من أهم هؤلاء الدكتور سمير أمين الذي سعى و يسعى إلى محاولة إثبات وجود مثل هذه القوانين و لكن ليس في الصيغة نفسها التي طرحها ماركس في كثير مما يكتب. و من ذلك محاولته في بحث لـه مهم نشره ملحقا ً بكتاب ( خروج العرب من التاريخ ) للدكتور فوزي منصور. و لن أناقش ما أورده من كلام في هذا الصدد و إنما سأحاول أن أستفيد من بعض كلامه في طرح المسألة بصيغة سؤال: هل يترتب على القول " بأن الإنسانية واحدة منذ بداياتها" أن نبذل جهودا ً للبحث في " احتمال وجود قوانين للتطور الاجتماعي عالمية النطاق"؟ ( فوزي منصور- تعليق د. أمين-: 214 -215) و نظرا ً لجسامة السؤال الذي قد لا ينجح الباحثون في الإجابة عليه إجابة حاسمة و نهائية سواء أكان ذلك بالسلب أم بالإيجاب، فأنني سأركز الكلام في هذه المقالة على جوانب لم يتطرق إليهما الباحث يدفعني إلى ذلك اعتقادٌ تكون لدي عبر بحثي الدائب في هذه القضية أن هذه الجوانب ربما تسهم في تأسيس المهاد العلمي الموضوعي لجواب محتمل حول النقاش في هذه القضية الجوهرية. و لذلك سأحصر الكلام في مسألتين هما:
1. القراءة المعرفية للعنصر الفلسفي الذي لا بد و أن تتضمنه أية إجابة محتملة حول وجود القوانين المنظمة للتطور الاجتماعي، سواء أكان ذلك بالسلب أم بالإيجاب، بوصف أن أجوبة القضايا الكبرى تنطوي بالضرورة على بعد فلسفي.
2. البحث في البعد المعرفي لمفهوم القانون، و هو المفهوم الذي يتردد صراحة أو ضمنا ً في كتابات القائلين بوجود مثل هذه القوانين سواء أكانوا من المؤرخين و فلاسفة التاريخ أم من المفكرين الاجتماعيين.
إن نفي أي وجود موضوعي لقوانين تنتظم التطور الاجتماعي ذات بعد عالمي، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفكرين و على رأسهم كارل بوبر في كتابه " بؤس الأيديولوجيا"، يؤدي بالنتيجة إلى التوكيد على وقائع التاريخ العينية و خصوصيتها في كل مجتمع على حدة و استبعاد أي احتمال لوجود إطار موضوعي عام و شامل للتجربة البشرية. و هذا هو الحد العلمي الوحيد الممكن في نظر هؤلاء. وهو إطار لا يرقى إلى مصاف القانون؛ لأنه ينطوي على نفي للتاريخ بتحويله إلى نوع من القصص المسلية من جهة، و على إقرار بالسوسيولوجيا الآنية أو الوصفية و تثبيت لها بوصفها الحقل المعرفي الوحيد الذي يمكن أن يقترب منهجيا ً من العلوم الطبيعية دون أن يضارعها في دقتها، من جهة أخرى. و يدرك القائلون بهذا الرأي، و هم في الغالب من الوضعيين المنطقيين، أنهم ينزعون إلى التوكيد على نوع من تفرد التجربة الاجتماعية و نسبيتها، و إلى التركيز على الوجوه و المقومات المحددة و الخاصة بكل مجتمع على حدة و ذلك على حساب البعد الفلسفي الشامل للتجربة البشرية. و هؤلاء المفكرون و الفلاسفة لا ينفون ذلك ولا يأنفون منه، بل يعتبرونه ميزة لهم لأنهم، كما يزعمون، أقرب إلى الواقعية و إلى الوصف الأمبريقي ( التجريبي ) و ابعد عن التصورات الفلسفية ذات الجوهر الميتافيزيقي من سواهم.
أما الآراء الأخرى التي تؤكد على وجود مثل هذه القوانين، فإنها متنوعة المنابع الفكرية و متعددة الاتجاهات و لكنها تلتقي على توكيد وجود القوانين التي تنتظم التجربة البشرية منذ الأبد و إلى الأزل. و من الحق أن نؤكد بأن العنصر الميتافيزيقي ماثل ضمنيا ً في كل قول بوجود قوانين يمكن استنباطها من تاريخ التطور البشري. و يستند هذا الزعم إلى نقطتين: النقطة الأولى هي أن التجربة البشرية لم تفرز مثل هذه القوانين المزعومة التي تفتقر للوجود الموضوعي. فالتجربة البشرية أعطت و تعطي إشارات متوافقة أحيانا ً، و هي بذلك قد تغري بالتعميمات الفلسفية، أو تعطي إشارات متضاربة تقضي على أية إمكانية لصوغ تعميمات فلسفية في أحيان أخرى. و هذه الإشارات، سواء أكانت متوافقة أم متضاربة، يمكن أن تـُقرأ قراءات مختلفة تتوصل، في نهاية المطاف، إلى نتائج شديدة الاختلاف. لذلك يمكن القول إن مثل هذه "القوانين" لا تمثل إلا جزءا ً تكوينيا ً من بنية فكرية ميتافيزيقية في عقول القائلين بها. و النقطة الثانية هي أنه حتى لو افترضنا جدلا ً وجود مثل هذه القوانين فإن ذلك يستلزم ضرورة الإقرار بوجود عقل متعال و كلي و مطلق و شامل هو من أوجد هذه القوانين و قام بفرضها. و هذا الرأي قد يوحي بأصداء فلسفية تتردد من فكرة الروح الكلي و المطلق الذي قالت به الميتافيزيقا الهيجلية، كما أنه يمثل عودة إلى الفكر الديني في شتى تجلياته، و بخاصة نظرية الاستخلاف الإلهي. وهو ما سيجمع في الأقل بين الاتجاهات الدينية و الاتجاهات الماركسية على صعيد القول بغائية التاريخ المقررة سلفا ً. و من هنا فهذا الاعتقاد ينطوي ضمنيا ً على موقف الانتساب الصميمي إلى شبكة التصورات الميتافيزيقية بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
و لعل القارئ الكريم قد لاحظ أن المحور الأساس للمسالة الفلسفية الخاصة بطبيعة التجربة البشرية في الحالة الأخيرة هو وجود " القوانين " الشاملة التي تسمح لنا، حسبما يزعمون، بالقول إن السياق المستقبلي للتطور الاجتماعي سيتخذ هذه الشاكلة لا تلك، و سيكون على هذا النحو لا ذاك. و قد يصل الأمر إلى حد الزعم بإمكانية " تخطيط " مثل هذا التطور أو التأثير عليه للتعجيل بوتائره، فليس المهم تفسير العالم، بل تغييره. إذ بوجود جملة معطيات مستمدة من الواقع الاجتماعي الراهن، و باستعمال منظومة مقولات تفسيرية مستمدة من التجربة البشرية، و هي المنظومة التي تعزى لها صفة القوانين، يمكننا أن نتـنبأ بما سيحدث دون احتمال لأن تكذب الوقائع الفعلية اللاحقة ما قررناه من تنبؤات. و هكذا يمكننا أن نؤثر في سياق الأحداث استنادا ً إلى قوى اجتماعية بعينها. و هذا يظهر مدى التعقيد الذي يكتنف هذه القضية. و لا نزعم أن بمقدورنا حسم هذه المسألة الشائكة، و لكننا سنحاول الإسهام بمناقشة أحد وجوها المهمة، أعني احتمال وجود قوانين للتطور الاجتماعي. و لا شك أن هذا المسألة تستدعي حصر معنى مصطلح القانون في الكتابات التاريخية؛ و كذلك تفرض أن نبدأ بالفحص المعرفي لمفهوم القانون المستعمل هنا بصيغة الجمع لأنه يمثل الركن الأساس في مثل هذه المناظرات، و من أجل تحديد المعنى الذي يقصده كل من الفريقين من استعمالهما لهذا المصطلح. فهل يعني هذا مصطلح القانون الشيء ذاته لدى الفريقين أم أن معناه يختلف من فريق إلى آخر؟ و ما الذي يمكن استنتاجه في كل حالة؟ و هل يجوز، منهجيا ً و معرفيا ً، أن نستعمل هذا المصطلح في حقل الدراسات التاريخية؟
في إشكالية مصطلح القانون
يستعمل مصطلح القانون في العلوم الطبيعية مثل الفيزياء، و العلوم الرياضية مثل المثلثات، و علوم الحياة مثل الوراثة، و العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد و القانون و التاريخ، بوصفه مصطلحا ً يضفي وجاهة على كثير من الأفكار و الاستنتاجات في مثل هذه العلوم. و أستعماله يكون عادة بمعان تتفق في دلالاتها الاصطلاحية حينا ً فتنتج بعدا ً مفهوميا ً موحدا ً و قابلا ً للتوصيف المعرفي. و لكن قد تختلف دلالات المصطلح فتؤدي إلى الإرباك و التشويش في أحيان أخرى نظرا ً لافتقار مثل هذا الاستعمال إلى الدقة و الموضوعية. و هذا الاختلاف و التباين يمكن أن يدرس استنادا ً إلى القواعد العلمية المقررة في كل علم أو حقل معرفي على حدة. و يمكن أن يدرس هذا الاختلاف في معنى المصطلح استنادا إلى معطيات فلسفة العلم نفسها. و إذا كان الأمر على ما وضحنا فإنه سيجعل من التعرف على حدود التشابه و الاختلاف في الدلالة الاصطلاحية لكلمة ’ قانون ‘ ضرورة مطلقة لتحديد المهاد المفهومي أو المعنى الدقيق للمصطلح في كل علم مما ذكرنا سابقا ً. وهو ما سيؤدي بنا لاحقا ً إلى فحص و تقرير الفروق الدقيقة في معنى مصطلح القانون بين الفرقاء الفكريين في حقل التاريخ نفسه. و من ثم يمكننا أن نبني استنتاجا ً حول طبيعة القوانين في هذا الحقل. و هذا الاستنتاج يمثل أساسا ً لفرضية معرفية تسوغ لنا قبول أو رفض فكرة وجود القوانين المنظمة لتطور المجتمع البشري، أعني فكرة وجود منطق حتمي للتاريخ.

مصطلح القانون في بعض العلوم
في علم الفيزياء يستعمل مصطلح القانون للوصف الموضوعي المطلق في موضوعيته الذي يقرر، و على نحو شامل، السلوك الحتمي لظاهرة ما ضمن شروط التجربة ذاتها في الماضي و الحاضر و المستقبل و في أي بلد على وجه الأرض. و يمكن التثبت من صحة القانون العلمي من خلال إعادة التجربة لأي عدد من المرات، و في أي مكان، و باستعمال أجهزة القياس و التسجيل. كما أن الباحث أو العالم الذي يكتشف القانون العلمي و يصوغه لا يمثل عنصرا ً داخليا ً من عناصر الظاهرة موضوع البحث. و يكون القانون العلمي كليا ً و شاملا ً، إذ لا يوجد قانونان متعارضان بصدد الظاهرة نفسها. فإذا ما زعم أحدهم وجود مثل هذين القانونين فإننا نملك من وسائل التثبت ما يمكننا من حسم الأمر بشأن صحة أحدهما و بطلان الآخر. ففي الفيزياء التقليدية كان هناك قانون للجذب العام صاغه الفيزيائي اسحق نيوتن ( 1643- 1727 م). فهذا القانون يصف، على وفق ما شرحنا، ظاهرة التجاذب بين الأجسام في الماضي و الحاضر و المستقبل دونما أي احتمال لحدوث أي نسبة من الشذوذ عن منطق هذا القانون. و حين تطورت علوم الفيزياء الحديثة على أيدي كبار الفيزيائيين و منهم آينشتاين ( 1879-1955) الذي قدمت نظريته النسبية العامة فهما جديدا ً للظواهر نفسها التي وصفها و فسرها قانون نيوتن في الجذب العام، لم يؤد ذلك إلى نقض قانون الجذب العام بل جرى تحديد نطاقه. و قل مثل ذلك عن طبيعة الضوء و هل هي موجية كما ذهبت إلى ذلك الفيزياء التقليدية أم جسيمية كما تؤكد النظرية النسبية. فقد أظهر بعض خصائص الضوء ما يؤكد الرأي الأول في حين أكدت بعض خصائصه الأخرى صحة الرأي الثاني، فتكامل الرأيان و لم يتنافيا. و فضلا ً عن ذلك يمكن أن نضيف بأن هذا القانون هو صيغة ’عقلية‘ مشتقة من المشاهدة للظاهرة الطبيعية الموجودة سلفا ً في تكرارها السرمدي منذ الأزل و إلى الأبد. لذلك فهو كشف عقلي مبدع لما هو موجود فعلا ً . و في العلوم الرياضية يختلف المهاد الاشتغال المفهومي للقانون لأنه هنا ليس مشتقا ً من مشاهدة حسية لأية ظاهرة طبيعية خارجية و إنما هو يقرر سلوك ظاهرة هي في الأصل عقلية لأن الرياضيات، من حيث الجوهر، من العلوم العقلية. و في حقل علوم الحياة، فإن قوانين مندل( 1822- 1882) تمثل صياغات عقلية مشتقة من ملاحظة ظاهرة موضوعية هي انتقال الصفات الوراثية الغالبة و المتنحية من الخلف إلى السلف و احتمالاتها على شكل معادلات رياضية بسيطة. و المدهش أن صوغ تلك القوانين قد تم قبل التوصل إلى اكتشاف الكروموسوم و المورثات الجينية بزمن طويل. بمعنى أن التطور اللاحق في علم الوراثة لم يفند هذه القوانين و إنما عززها.

مصطلح القانون في بعض العلوم الإنسانية
يختلف الأمر كثيرا ً عند استعمال مصطلح القانون في العلوم الإنسانية التي تدرس الظواهر البشرية. لأننا هنا نتحدث عن ظواهر نحن جزء منها، بمعنى أننا نلاحظ الظاهرة بعينين: واحدة خارجية عند مشاهدة الظاهرة كما تتجلى لنا و للآخرين بوصفنا راصدين خارجيين، و أخرى داخلية لأننا ندخل تصوراتنا القبلية، الدينية و الأيديولوجية و السياسية عن أنفسنا و عن علاقاتنا بالعالمين الطبيعي و الاجتماعي المحيطين بنا ضمن فهمنا للظاهرة،( و لعل من المؤكد أنني أفعل شيئا ً مما ذكرته توا ً في هذه اللحظة) و بما يؤثر على الصفة العلمية لاستنتاجاتنا و لما نزعم من وجود موضوعي لنظريات و " قوانين " تنتظم الظاهرة. كما تتصف هذه الظواهر الإنسانية بكونها غير قابلة للتكرار من جهة و هي عصية على التقنين التام و الدقيق للعوامل الكثيرة الداخلة فيها منذ البدء. و لوجود عوامل مؤثرة في الظاهرة قد تتلاشى أثناء فحصنا لها و أخرى تدخل على مسار فحص الظاهرة أثناء ذلك. ذلك الفحص الذي يأخذ زمنا ً طويلا ً في العادة،. و لنلاحظ كذلك أننا لا نكاد نتحدث عن تجارب بل عن مشاهدات لحالة حيوية في صيرورتها و تجددها. و هي مسألة تجلنا نقرر بأن كثرة العوامل الفاعلة و المؤثرة فيها و عدم إمكان حصرها بدءا ً و انتماءا ً لا تجعلنا قادرين على معرفة مقدار تأثير كل عامل منها على حدة. و كل ذلك يقلل إلى أدنى حدٍ من إمكانية القطع بأن ظاهرة إنسانية ما يمكن أن تتكرر على نحو بعينه ناهيك عن الزعم بوجود قوانين لها صفة الشمول تنتظم الحراك الاجتماعي و ظواهره التاريخية. و كما اختلفت جزئيا ً دلالة مصطلح ’ القانون‘ بين الفيزياء و الرياضيات فإن دلالة هذا المصطلح تختلف بين علم اجتماعي إنساني و آخر على نحو أكبر، و ذلك آخر فضلا ً عن اختلافها بعدا ً أو قربا ً عن دلالة المصطلح في العلوم الطبيعية.
ففي علم الاقتصاد نتحدث عن قانون الغلة المتناقصة من حيث ثبات و اطراد الظاهرة المشاهدة في الماضي و الحاضر و المستقبل. و أية مشاهدة أو دراسة لاحقة ستعمل على تعزيز منطق ذلك القانون مع إمكانية ضئيلة جدا ً لحدوث شذوذ عن ذلك المنطق. و بالرغم من نقطة الاختلاف هذه في دلالة مصطلح القانون بين الفيزياء و الاقتصاد، إلا أنه يظل أقرب من حيث الدلالة و المهاد المفهومي إلى دلالة القوانين بالمعنى الذي تستعمله العلوم الطبيعية لموضوعيته و شموله.
أما في حقل علم القانون فإن هذا المصطلح يكتسب دلالات متعددة و مختلفة تماما ً. فالقانون الدستوري مثلا ً يقتصر في دلالته على تنظيم الدولة و أسلوب ممارسة السلطة و العلاقة بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية و العلاقة بين الحاكم و المحكوم و الموازنة بين الحقوق و الواجبات و على ضرورة أن تصدر القوانين التنفيذية و التفصيلية بما لا يتناقض مع جوهر الدستور و نصوصه. فهو إذن ليس وصفا ً لظاهرة موجودة بقدر ما هو توصية بما يجب أن يكون. و إذا كان القانون الدستوري لدولة ما منسوخا ً من القانون الدستوري لبلاد أخرى و كان نتاجا ً لتجربة بعينها عاشتها تلك البلاد فإن ذلك لا يضمن قط أن الأمور في المجتمع الذي يتبنى مثل هذا الدستور سوف تسير على السياق نفسه الذي مرَّ به المجتمع الذي اُخذ عنه الدستور. أما في القانون الجنائي فنحن لسنا بصدد تبيان كيفية حدوث الجرائم التي قد توصف في مواد القانون و فقراته بقدر ما نحن بصدد صوغ النصوص التي تجرم و تحدد العقوبات لتلك الجرائم من أجل الحيلولة دون ارتكابها مستقبلا ً. و قل مثل ذلك عن القانون التجاري الذي يحدد العقود و ما يترتب عليها من حقوق و التزامات بين المتعاقدين كما ينظم أسلوب ممارسة المهن. من هنا نلاحظ أن دلالة القانون في علم القانون تنصرف إلى تحديد المباح أو ما يجب أن يكون و غير المباح أو ما لا يجب أن يكون. و من الطبيعي أن المباح و غير المباح لا يتطابقان بالضرورة بين مجتمع و آخر. لذلك فمصطلح القانون في حقل علم القانون ينطوي على سمة النسبية التي تجعل منه أقرب إلى مفهوم القواعد المنظمة لحياة كل مجتمع على حدة. و حتى مبادئ ما يسمى بالقانون الدستوري أو المدني، و هي ما يصطلح عليه بالقواعد القانونية، تختـلف كليا عن مفهوم القانون في الفيزياء أو في الاقتصاد بسبب من صفة النسبية المتأصلة فيها.
و نلاحظ الآن أن هناك الكثير مما يجمع بين دلالة مصطلح القانون في العلوم الطبيعية و بعض قوانين الاقتصاد من مثل تكرار الظاهرة المقننة و العموم في الدلالة زمانا ً و مكانا ً و مجتمعا ً ، و ندرة أو انعدام حالات الشذوذ، أما من حيث الوظيفة فإننا نلاحظ أن وظيفة القوانين في مثل هذه العلوم هي زيادة فهمنا للظواهر المشاهدة أو المفكر بها على نحو يمكننا من السيطرة على تلك الظواهر. فدلالة القانون هنا لا تشمل حالة أو معنى ما مرغوب فيه أو آخر غير مرغوب فيه ؛ إنما هي تصف ظواهر متكررة الحدوث بالكيفية نفسها. أما دلالة مصطلح القانون في علم القانون فهي مختلفة تماما ً إلى الحد الذي يجعلها تنصرف إلى أمور دستورية و تنظيمية و عقابية ذات وظيفة اجتماعية. و السمة الجوهرية الأخرى التي تميز بين دلالة مصطلح القانون بين العلوم الطبيعية و الإنسانية هو أن القانون في حالة العلوم الطبيعية لا يكاد يخضع للتأويل ، بمعنى أنه قطعي الدلالة دائما ً؛ أما في العلوم الإنسانية فإن إمكانية التأويل تكاد تشمل القوانين كافة حتى كأن علم التأويل hermeneutics يجد في " القوانين" الاجتماعية ساحة ممتازة لإظهار براعته و جدواه.

مصطلح القانون في الدراسات التاريخية
و الآن، كيف يمكن أن نحدد المهاد المفهومي و الدلالة الاصطلاحية لمصطلح القانون في حقل الدراسات التاريخية؟ و هل تسمح وقائع التاريخ الملموسة لمجتمع ما في حضارة ما في زمن ما بأية إمكانية لاستنباط " قوانين " عامة يمكن تطبيقها على بقية المجتمعات؟ و هل يجدي إضفاء كلمة " قانون " على حوادث تاريخية بعينها في جعلنا قادرين، و بأية درجة من درجات اليقين، أن نقرر باطمئنان بأن هذه الحوادث ستتكرر حتما ً و بالكيفية نفسها في المستقبل في مجتمعات و أماكن أخرى؟
بداية نقول أن من يذهبون إلى نفي وجود القوانين إلى حد الجزم بأنه " لا يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني" ( أنظر بوبر بؤس الأيديولوجيا: 8) يستندون في ذلك على جملة حجج لعل من أهما عدم انطباق دلالة مصطلح القانون بالمعنى المعروف في العلوم الطبيعية على مصطلح القانون في العلوم الاجتماعية و بخاصة التاريخية منها. فهم إذن يستعملون مصطلح القانون بالمعنى نفسه الذي نجده في بقية العلوم الطبيعية. و لكن مصطلح القانون قد يتخذ شكل إطار عام لتفسير حركة التاريخ. فمثلا ً يقرر المؤرخ آرنولد توينبي ( 1889-1975) بأن القانون في التاريخ هو دورات النكوص و الصعود للأمم و الحضارات نتيجة لمنطق التحدي و الاستجابة. و لكن، و على سبيل المثال لا الحصر، أثبتت التجربة المريرة أن العرب مثلا ً لم يكونوا يمتثلون لهذا المنطق على الرغم من كونهم قد اطلعوا عليه و ترجموه إلى العربية؛ و عدّوه فكرة مهمة و مثلت بالنسبة لهم أملا ً عزيزا ً على أنفسهم فكانوا أكثر احتفاء ً به و تهليلا ً لـه من البريطانيين أنفسهم! كما لم يستجب لـه أغلب الأفارقة الذين ارتكس لديهم حلم التقدم بعد الاستقلال فتحول إلى حروب أهلية طاحنة! فلماذا لم ينطبق القانون في هاتين الحالتين؟
و قد يقول ماركس بأن القانون هو الصيرورة التاريخية ’ التقدمية ‘( التقدمية صفة تقويمية، و الصفات التقويمية ليس لها وجود قط في القوانين العلمية ) من المشاعية البدائية إلى العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية بفعل التناشز بين قوى الإنتاج و علاقات الإنتاج ( دون أن ينسى طبعا ً أن يشير إلى نمط الإنتاج الآسيوي بوصفه سياقا ً مختلفا ً عن و موازيا ً للسياق الأوربي للتطور التاريخي ). و أن محرك هذه الصيرورة التاريخية هو الصراع الطبقي الذي تقوده في المرحلة الرأسمالية الطبقة العاملة. و لكن هل كان بإمكانه، حتى لو عاش كفاية ليشهد ما شهدناه، أن يفسر لنا السبب في عدم نضوج الظروف الموضوعية لقيام الطبقة العاملة بثورتها المأمولة حتى الآن!؟ أو لماذا فشلت التجربة الاشتراكية في بلدان بعينها‍‍!؟ ‍‍ أشك في ذلك لأن من أخطأ مرة قد يخطئ مرة أخرى.
و قد يرى د. برهان غليون، و هو ممن يرد مصطلح القانون صراحة في كتاباته الممتازة، أن حركة المجتمع و تطوره تخضع لقوانين حركة يمكن أن تدمج في " قانون عام يشمل حركة المجتمع ككل." ( غليون، إغتيال العقل: 39)، سعيا ً منه إلى تفسير " وجه من وجوه حركة التاريخ الاجتماعي" محولا ً فكرة صحيحة استمدها من بحث معمق و أصيل في مسألة " تطور الثقافية " إلى قانون دون الالتفات إلى أكثر سمات مصطلح القانون أهمية.

خاتمة
يظهر الفحص المعرفي لدلالة استعمال مصطلح القانون في حقل الدراسات التاريخية ، و بعد قراءة مدققة و مركزة للمهاد المفهومي للمصطلح نفسه في العلوم الطبيعية و الإنسانية و دلالاتها الاصطلاحية، أن هذه الدلالة بعيدة كل البعد عن الاستجابة للتوصيف العلمي لمصطلح القانون. فهي تعبر عن رغبات و تصورات و انحيازات مسبقة و تنبؤات. فما يسمى بالقوانين التاريخية لا تتطابق مع أهم حدود مصطلح القانون العامة إلا و هي: العموم، و الوصفية، و الموضوعية، و وجوب تكرار الظاهرة موضوع القانون دون أية حالات شذوذ، و عدم وجود قوانين متضاربة لتفسير الظاهرة نفسها، و قلة أو انعدام إمكانية تأويل القوانين . و بذلك يمكن لنا أن نستنتج بثقة أن " القوانين" التاريخية تنتسب إلى حقل الأيديولوجيا عن جدارة. فأنا حين أقرر بكامل الاطمئنان أنه " إذا غمر جسم ما في مائع ما فإنه يفقد من وزنه بقدر وزن المائع المزاح"، فلن ينظر إلى أحد، بعد أن يتحقق من مطابقة الواقعة الملاحظة مع ما قلته، و يقول لي: يا لك من متنبئ عظيم!
لأنه ببساطة يعرف جيدا ً أنني أقرر قاعدة معروفة و صحيحة دائما ً قالها أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد. أما إذا قلت، و بعد دراسات مستفيضة، بأن السياق المستقبلي للتطور سيكون على نحو بعينه ثم جاءت الأحداث لتثبت جزئيا ً أو كليا ً صحة ما قلته فأن من حق أي فرد أن يصف ما قمت به على أنه نبوءة صدقت، و ليس لـه أن يزعم بأن ما قلته قانون أثبتت صحته الأحداث. تلك الأحداث التي ربما لن تتكرر مطلقا ً. و هذا يعني أن مهمة دراسة التاريخ البشري ما زالت بعيدة عن التوصيف العلمي الموضوعي. فكل ما لدى المؤرخ من وسائل، كما يقول لوسيان جولدمان، ينحصر في النزاهة و النظرة الشمولية و الروح النقدية و الإخلاص في العمل ناهيك عن الفطنة و الذكاء[ دون أن تكون القوانين من ضمن وسائله] ( جولدمان، العلوم الإنسانية و الفلسفة: 50). وحتى مع الترخص في فهم دلالة مصطلح القانون، تظل مهمة الكشف عن طبيعة التطور التاريخي للمجتمعات مهمة غير منجزة. أليس كذلك؟
المصادر
أمين، سمير " النظام الرأسمالي العالمي و النظم السابقة" ملحق في كتاب فوزي منصور: خروج العرب من التاريخ. مكتبة مدبولي، القاهرة. 1993.
بوبر، كارل " بؤس الأيديولوجيا : نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي ". ترجمة: عبد الحميد صبرة. دار الساقي، لندن.1992.
جولدمان، لوسيان " العلوم الإنسانية و الفلسفة". ترجمة: د. يوسف الانطكي، مراجعة: د. محمد برادة. المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة. 1996.
غليون، برهان " اغتيال العقل: محنة الثقافة العربية بين السلفية و التبعية". ط 3. مكتبة مدبولي، القاهرة. 1990.



#باقر_جاسم_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول احتمال وجود قوانين للتطور الاجتماعي
- تعاريف ليست سياسية
- جناية محمد الماغوط
- حول حرية الكلام
- قصائد قصار
- الخطاب السياسي و اللغة العادية
- صمت الجميل ، فهل سيصمت كل جميل في حياتنا!؟
- قراءة جهرية في نص مسرحية صامت
- رسالة محبة للدكيور سيار الجميل
- أصدقاء الديمقراطية و أعداؤها
- حياة جديدة في كيريفاسو
- الأيديولوجيا و السلطة السياسية
- قريبا من الفن بعيدا عن السياسة
- نظرية الاحتمالات و نظرية المؤامرة
- الديمقراطية و الإصلاح السياسي بين الواقع و الطموح
- الكتاب المقدس: حول أصل اللغة و أختلافها
- أرسطو: حول الاستعارة
- من أغاني العاشق القديم
- أتألق دائما لأن مائي سيكون
- في أي الأرض...!؟ إلى جورج حاوي إنسانا


المزيد.....




- السعودية.. الديوان الملكي: دخول الملك سلمان إلى المستشفى لإج ...
- الأعنف منذ أسابيع.. إسرائيل تزيد من عمليات القصف بعد توقف ال ...
- الكرملين: الأسلحة الأمريكية لن تغير الوضع على أرض المعركة لص ...
- شمال فرنسا: هل تعتبر الحواجز المائية العائمة فعّالة في منع ق ...
- قائد قوات -أحمد-: وحدات القوات الروسية تحرر مناطق واسعة كل ي ...
- -وول ستريت جورنال-: القوات المسلحة الأوكرانية تعاني من نقص ف ...
- -لا يمكن الثقة بنا-.. هفوة جديدة لبايدن (فيديو)
- الديوان الملكي: دخول العاهل السعودي إلى المستشفى لإجراء فحوص ...
- الدفاع الروسية تنشر مشاهد لنقل دبابة ليوبارد المغتنمة لإصلاح ...
- وزير الخارجية الإيرلندي: نعمل مع دول أوروبية للاعتراف بدولة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - باقر جاسم محمد - مرة أخرى، حول وجود قوانين للتطور الاجتماعي