أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسلام الجبالي - الصوفية والتجريدية : تحرر من المادة وانسياق نحو المطلق















المزيد.....

الصوفية والتجريدية : تحرر من المادة وانسياق نحو المطلق


إسلام الجبالي

الحوار المتمدن-العدد: 6122 - 2019 / 1 / 22 - 19:50
المحور: الادب والفن
    


تعتبر الصوفية مسارا فكريا وروحيا يخص الإنسان المسكون بهاجس التحرر من عالم مادي يولد فيه الشعور أنه يقيده, فهي تجربة تصله بذاته الداخلية العميقة وبكل ما يتجاوز الواقع الذي يحجبه عن الذات, والنظر إليها على أنها تجسيد لرؤية فنية, فهي لا تنفي العالم المادي, ولكن تنفيه بوصفه حجابا يحجب الواقع الحقيقي والفعلي, ويقول الدكتور عفيف البهنسي:" يتفق الفلاسفة الصوفيون, ابن العربي والجيلاني والنابلسي, على أن الجمال المطلق هو الكمال الذي لا يتعين في مادة ولا يتكيف بشكل أو هيأة, والذي يحقق متعة روحانية لا حسية, لأنه لا ينتسب إلى عقل نسبي, بل إلى العقل الأول. وهكذا فإن الكمال, المطلق خالص من أسر المادة."
ومن خلال هذا المفهوم يمكننا ربط الصلة بين الصوفية والتجريدية فالتجربة الصوفية هي موازية للتجربة التجريدية فهذه الأخيرة كأنها نوع من التصوف كما نعتها البعض ب"صوفية الفن". وبذلك يمكننا القول أن هناك علاقة باطنية متداخلة بين الصوفية والرسم التجريدي في انسياق كل منهما نحو الصورة المجردة.
وفي تحديد المفاهيم نجد أن الصوفية هي "أرفع تجربة دينية تكمن في معرفة الله معرفة خاصة جدا, بصورة تجريبية لا عقلية منطقية"
والتجريدية هي "استخلاص جوهر الأشياء, باخفاء معالم الأشكال وأجزاءها, تجمع بين المادة والروح, انها صوفية الفن, مضامينها تأملات ورؤى ذاتية"
وأما التجريد فهو "نشدان المعنى اللاتشخيصي" : "الفن التجريدي هو فن التأليف بصورة أساسية, وهو مانتلقاه, كنتيجة, كدفعة واحدة. نحن لا نستطيع أن نتعقب المعنى أو نتبع مراحل التأليف, بل أن ننظر إلى اللوحة, عند القراءة الأولى, نظرة "جمعية" تبرز مركز الاهتمام فيها"
ويعتبر المذهب التجريدي هو" صوفية" الفن , تلك التي تهدف عن طريق الرمز إلى ما وراء الطبيعة للوصول إلى المطلق, وهو الفن الذي ينتقل بأشكال الطبيعة من صورتها العرضية إلى أشكالها العميقة الخالدة, حيث التحول من الخصائص الجزئية إلى الصفات الكلية, ومن الفردية إلى التعميم المطلق, فهو كشف للأسرار الكامنة في الطبيعة وكشف الستر عن معانيها الغامضة, فالتجريد هو إيحاء بمضمون الفكرة التي يقوم عليها العمل الفني.
وبالتالي فإن الصوفية تتجلى معناها في الدعوة إلى استبطان الأشياء والتأمل في الطبيعة التماسا للحقيقة, فهي تدير ظهرها للعالم المادي المحسوس وتنشد العالم الروحي اللامرئي الذي يتصل بالغيب, بالنسبة للصوفية الوقوف عند المرئي هو وقوف عند السطح والقشرة, فالمرئي هو الظاهر المتجلي: " فالوجود في الرؤية الصوفية ليس موضوعا خارجيا, يدرك بأداة من خارج, كالعقل أو المنطق. إن الوجود بواسطة العقل التحليلي المنطقي لا تزيد الإنسان إلا حيرة وضياعا."
وتبعا لهذا التعريف فالصوفية تنشد مغادرة الواقع المعاش ومغادرة الوعي, وذلك ما تدعوه بالفناء :" والفناء هنا زوال العائق ومحو الحجاب, وبه يفقد الوجود تعييناته وتحديداته وقيوده, ويعود إلى أصله (اللاتحديد واللاتعيين) ويتم التطابق عبره بين الحالة الذاتية للعارف والبنية الموضوعية للعالم المعروف, وأن الأشياء الخارجية بوصفها تعيينات الوجود ماهي إلا روابط وعلائق قائمة على التوهم. وبالفناء يتمزق حجاب الوهم, ويكون الفناء بدءا من هذا التمزق, وتسقط الأوصاف المذمومة وتتمظهر الأوصاف المحمودة."
وهذا ما يبحث عنه الرسم التجريدي في نزوعه نحو الخلاص من شوائب الأشياء الواقعية وكل ما له صلة بالواقع والحقيقة الملموسة الظاهرة والبحث عن باطن الأشياء المتخفي وراء ظاهرها. وكما يقول شربل داغر في كتابه "الحروفية العربية فن وهوية" فإن: " التجريدية لم تكن مجرد شكل جديد للأساليب الفنية التي تمخض عنها النصف الثاني من القرن التاسع عشر, والتي نمت وترعرعت في القرن العشرين بل كانت وجهة نظر جديدة في تخلي الفنان عن رؤيته الطبيعية أو شبه الطبيعية للأشياء, في العالم الخارجي بالمرة, سواء أكانت مجالا للمحاكاة أو للمناقشة أو التعبير عن الذات والمشاعر, مستبدلا اياها بالرؤية غيرالطبيعية, بل بالرؤية اللاشكلية.. ." ثم يضيف:" ومع ذلك فإن الفن التجريدي ظل آخر معقل لكيان الفنان الإنساني المعبر عن حريته الإنسانية عند مناقشة القيم الموضوعية التي يصوغها. صحيح أنه في افناءه للشكل الطبيعي معوضا اياه باللاشكل يلغي الحقيقة الموضوعية في فن كان حتى الآن خاضعا لهذه الحقيقة, بواسطة وسط ثالث تلتقي فيه وجهة نظر كل من الفنان والمشاهد. إلا أنه باتخاذه من العلاقات بين الفنان والعالم الخارجي مسرحا للبحث يظل خاضعا للموضوعية الشكلية في التعبير ولو عن طريق تقنية لا شكلية."
تعد بذلك اللوحة التجريدية كينونة بحد ذاتها , فهي لا تحتاج لأي شيء خارجي, كما أن المعنى محمول على الشكل بوصفه لحظة من لحظات تجلي المعنى, بما يهيئ قدرة على الإدراك الفني الذي يفتح بابا واسعا على معاني عميقة. وهذا ما قاد التجريدية إلى تمجيد الذات وجعل الشكل يتماهى مع المتخيل من خلال ما يخلق من علاقات بامكانها أن تثيرنا من دون الموضوع المباشر, وبالتالي يتم تدريجيا اقصاء العالم الخارجي والدعوة إلى تكريس الأشكال اللونية في هيأة من ألوان وأشكال وحين يلجأ الفنان إلى التجريد فإنه استلهم من المعالم المميزة لحقيقة الأشياء وأبدع بأخرى تجعلنا نتأملها وتدعون أن ننخرط في مجموعة ألوان, فالتجريدية تتقصد البحث في جوهر الأشياء وباطنها والمعنى المتخفي وراءها لذلك سميت ب"صوفية الفن".
كما يعتقد جميع التجريديين بأن للفن التجريدي امكانات عديدة للتعبير عن الانفعالات الباطنية العميقة أكثر مما في الفن ذي الموضوع فهي تدعو الفنان الى الانسحاب إلى داخل الذات بعيدا عن صخب العالم: "وبشكل مناهض للعقلانية قيل أن طريق التجريد مفتوح إلى اللامتناهي: اللامتناهي في الكبر واللامتناهي في الصغر واللامتناهي في المسافة كما يقول غارودي الذي أراد أن يوفق هذا المفهوم مع المفهوم المطلق في الفكر الإسلامي, حيث مازال يجمع بين العقل والروح في توضيح بناء الإبداع الفكري والفن الذي يدور حول البحث المطلق". وهنا تصبح هناك ارتباط وثيق بين التجريد وفكرة المطلق بما أن الفنان التجريدي ينشد المجرد والغيبي بدلا من الواقع الفعلي فهو يرتبط بالمطلق الذهني وذلك يعني المراوحة بين تحويل ما هو بعيد ومطلق إلى حقائق ثابتة وتشكيلها كحقائق ذهنية وفي هذا إشارة إلى أن المجرد الوهمي يتحول إلى شيء من الحقيقة, ف"بول كلي" يعتقد أن الفن يلعب في الأشياء العلوية, وقد ينتهي به الأمر إلى بلوغها أحيانا, وما الأشياء المرئية إلا أمثلة جزئية في الوجود الكلي.
فالفن التجريدي يتحول بذلك إلى علامات تشكيلية ويصبح الفنان التجريدي متماهيا مع الصوفي حين يطهر جسده ويكبح رغباته ليصل إلى مرحلة صعود الروح إلى مكان الجمال المثالي الذي هو نوع من التماهي مع ذاته والسعي إلى محاولة اكتشاف الحقائق والمعرفة في الفضاء الروحي العميق, وفي ذلك نجد هناك شبه بين التجربة الصوفية والتجربة التجريدية.
وبما أن الفن الحديث قد أعلن قطيعته مع كل ماهو خارجي فقد أعلى مقابل ذلك مع كل ماهو ذاتي وجوهري وخالص وهو ما جعل كل هذه المفاهيم تلتقي مع كل ما هو مقدس وديني: "كان على بعض الباحثين العود الصريح للحديث من علاقة التجريد بالمطلق, باعتبار أن المطلق يجسد نظام التجريد, وفي هذا تقارب من الفلسفة العربية, ومحاولة لإعادة سيطرة التراث في مسيرة التغيير والاختلاف التي تقوم عليها الحداثة".
فالصوفية والتجريدية تشترك في البحث عن حقيقة غائبة لا مرئية حتى وإن اختلفت طرق التعبير عند كل منهما.
كما أن الصوفية مثلها مثل التجريدية فهي تؤكد على فعل الذات لكونها معبرة عن الحقيقة الكامنة في اللامرئي والخفي واللامتناهي. وكما يبين حسن شاكر آل سعيد في كتابه "البعد الواحد": "والواقع انه من الممكن اعتبار ان هذه الصيغة الجديدة للفن المكاني وهو في شكله الزماني قلبا أساسيا لمفهوم الفن كلغة شكلية ومرئية في نفس الوقت. ذلك أن وعينا إياه يبدأ من كونه إدراكا لأثر فان عن أي رمز لغوي. وعلى انه لا يتخذ من الأشكال أو المساحات التصويرية أساسا جماليا في الرؤية, بل هو على الضد من ذلك يتوخى الكشف عن جمالية ما ورائية ما قبل الوجود الشكلي. ومن هنا فإن كيانه كيان غير حسي, أو أنه حسي كلي,(أي ليس بصريا فحسب), بحيث يمكننا القول أنه يستهدف تعميق مفهوم اللا-رؤية الفنية.."
كما تتماهى الصوفية والتجريدية في فكرة أن الفن يخوض في الأشياء العلوية التي بإمكانه أن يبلغها, فما المرئي المحسوس إلا جزء بسيط من الوجود الكلي المطلق وهذا ما يذهب إليه الفكر الصوفي حين يتوق إلى انصهار الذات الإنسانية بالذات الإلاهية فيصبح عندها العالم بالنسبة للصوفي والتجريدي على حد السواء هو تعالق بين الرموز والإشارات والإيحاءات في غلاقات باطنية تنشد الوصول إلى المعنى الحقيقي والنهائي.
كما أن تأثر الفنان التجريدي بالفكر الصوفي وتعلقه به جعله يستثمر في لوحاته رموزا دينية وروحية ويوظفها فيها فتظهر على صعيد اللون والشكل ودلالة العلامة والمضمون.
فعملية البناء التشكيلي في عالم صوفي لا تسلك مسارات النشوة في بلوغ ذروتها, فالصوفية كما لها في الرؤية الإسلامية مذهبها وأحكامها وشرائعها, فلها أيضا في المبدأ الجمالي المعاصر الذي يجسد رؤيته بأدوات الفن الحديث في كل مجالات الفنون المتعددة كالموسيقى والمسرح والتشكيل, وكل تجمعه الرغبة ذاتها وهي الارتقاء إلى مقام الرؤيا الأعلى وبلوغ الحقيقة اللامرئية ك"أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تراه فهو يراك". فتنتهي المسارات برؤاها الجمالية الصوفية عند الله جل جلاله في العلا اثر الوصول إلى أعلى درجات النقاء, فتكون الصوفية في الأعمال الفنية تزكية لفعل ذاتي يحاكي الصفاء المنشود.
والفكر الصوفي قد بحث في نشاط المخيلة وسعى إلى الوصول لتمثيل الغيبي وتفسيره بمفردات حسية مرئية والبحث عن الحقيقة الغائبة اللامرئية والغير ملموسة وتحديد الحقيقة الكونية وفي هذه النقطة بالذات تلتقي الصوفية مع طبيعة فعل الفن التجريدي الذي يسعى إلى تخيل واقع يمكن إخفاء ملامحه الواقعية ومن ثم تجريده.
فالبحث عن المطلق واللامحدود يعد أساسا من الأساسيات التي يلتقي فيها الفكر الصوفي بالرسم التجريدي ورغم أن لكل منهما خصوصياته ووسائله الخاصة في سلك طريقه للوصول إلى الهدف المنشود سواء أكانت صورة عقلية تتراوح بين التجريد والتشبيه أو التجريد المطلق, فهي في كلتا الحالتين تكون متغيرة ومتحركة وفي حالة بحث دائم وخلق متواصل عن عالم لايشبه العالم الواقعي والمحسوس, وإن كانت في الرسم التجريدي تتمظهر في تجربة فنية جمالية ترسمها ذات مدركة وعارفة فإنها في الفكر الصوفي تظهر مثلا في نصوص شعرية أو تقترب في هيأتها من الشعرية تروم تصوير الذات الإلاهية وكيفية التواصل معها.
والفنان التجريدي يلجأ إلى لوحة بصرية فيها إشارات مجردة للتعبير عن عالم آخر غيبي ومجرد من ذلك الواقع الفعلي الملموس الذي هجره مثلما هجره الصوفي باحثا عن حقيقة ربما ظائعة أو مفقودة تنصهر فيها الذات الأنسانية مع الذات الالاهية بما يسمى "الحدس الصوفي" الذي يتجاوز كل الأحاسيس بما فيها الحدود الحسية والعقلية.



#إسلام_الجبالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسلام الجبالي - الصوفية والتجريدية : تحرر من المادة وانسياق نحو المطلق