أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وليد عبدالكريم - تأملات في أسس المعرفة















المزيد.....


تأملات في أسس المعرفة


وليد عبدالكريم
(waleed abdulkarem)


الحوار المتمدن-العدد: 6097 - 2018 / 12 / 28 - 21:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قد تكون المقالة وموضوعها مألوفة للقارئ ، فما أكثر المقالات والكتب التي تناولت المعرفة وأصولها ومصادرها ، لكنني هنا في هذه المقالة البسيطة سأحاول سرد تجربتي الخاصة في غمار المعرفة الإنسانية وما انتهيت إليه ، ولا أزعم هنا أنني أقدم بحثا موضوعيا محايدا بل هذه المقالة أقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية .

لعل تجربتي المعرفية بدأت بتساؤلات في بعض القضايا السياسية وشيئا من الادعاءات الدينية ثم وصولا إلى الشك والحيرة فانتهاء بوجوب تأسيس منهج متماسك تنسج من خلاله المعرفة البشرية .

خلال بحثي قرأت في الفلسفة الكلاسيكية والتجريبية والمادية والوضعية والبراجماتية ، وقرأت بعض النظريات العلمية ولا أخفي ولا أنكر أنني أعجبت كثيرا بالفلسفة التجريبية Empiricism و التحليلية Analytic philosophy والبراجماتية Pragmatism وكذلك كتب المفكر المصري زكي نجيب محمود رحمه الله الذي تأثرت به كثيرا ولا أزال ، بل أنني أعتبر نفسي في هذه المقالة عالة عليه ، خصوصا في كتابيه المنطق الوضعي و موقف من الميتافيزيقا .


قبل أن أبدأ في سرد تجربتي في المعرفة لا بد أولا من تعريف لما أقصده بالمعرفة البشرية فالمعرفة هي كل اعتقاد صادق ومبرر ، ولعل هذا التعريف من أدق وأوضح التعريفات للمعرفة ، فالاعتقاد هي أي قضية يؤمن بها شخص ما ، والاعتقاد الصادق هي القضية التي يؤمن بها شخص ما وتكون مطابقة للواقع ، والاعتقاد الصادق المبرر هي القضية التي يؤمن بها شخص ما وتكون مطابقة للواقع وتم الوصل اليها من خلال منهج أو نموذج علمي .

بعد تعريفي للمعرفة تبادر لذهني سؤال وجيه ألا وهو ما أصل المعرفة وكيف نحصل عليها وهل معرفتنا صادقة دائما ؟

يقول الفلاسفة الحسيون أنها من خلال الحواس فقط ويقول الفلاسفة المثاليون أنها من خلال العقل فقط ويقول الفلاسفة النقديون أنها من خلال العقل والحواس معا، لكنني بعد التحليل والتأمل وجدت أن هذه اجابات عامة وسطحية وغير محددة وتجعل المسألة معقدة و مبهمة أكثر، وبعد تأملات مرهقة وجدت أن أفضل طريقة للتعاطي مع مسائل المعرفة هي من خلال اللغة وتحليل ألفاظها ومفرداتها وتحليل العلاقات بين الألفاظ والعبارات .

سأحاول أن أبدأ مقالتي بالتحليل اللغوي للألفاظ فلو تأملت في بعض الألفاظ في اللغات البشرية كالعربية وحاولت أن تحلل تلك الألفاظ ستنتهي أن تلك الألفاظ لا تخرج عن ثلاث حالات ، الحالة الأولى أن يكون اللفظ أو الرمز دالا على شيء محسوس بشكل مباشر كألفاظ شجرة وجبل وخالد إلخ ، الحالة الثانية أن يكون اللفظ أو الرمز دالا على شيء محسوس بشكل غير مباشر كألفاظ الانسان أو الحيوان فهذه الالفاظ لاتشير إلى شيء محسوس لكن تشير بشكل عام لنوع محدد ويمكن معرفة أصلها المحسوس من خلال التحليل وسنجد أنها تشير الى مجموعة من المحسوسات مثل انسان معين أو حيوان محدد مثل حصان وغيرها وكذلك الرموز والارقام التي تشير إلى شيء غير محسوس لكن يمكن ارجاعها لأصلها المحسوس ، فالاعداد أصلها معدودات كالحيوانات والنباتات والرموز تدل على مرموزات كالرموز الكيميائية وغيرها ،الحالة الثالثة تلك الألفاظ التي لا تشير إلى شيء محسوس ولا يمكن ارجاعها إلى أصل محسوس وهذا الألفاظ مثل الجن والعنقاء وغيرها ، وهي ألفاظ لا معنى لها .

لكن ماذا عن التحليل اللغوي للعبارات والعلاقات بين الألفاظ فلو فكرت عزيزي القارئ فستجد أنك لا تجد انفكاكا بين التفكير واللغة بل أنك لاتسطيع أن تفكر في أي فكرة بدون لغة وكذلك فكل معرفة يمكن صياغتها والتعبير عنها في عبارة لغوية تتكون من مجموعة من الألفاظ.

فانتهى بي التحليل اللغوي الى أن اللغة وألفاظها وقواعدها ليست إلا وجها آخر للمنطق بل أن اللغة هي الرحم التي خرج منها المنطق وهذا ليس بالأمر الجديد فقد سبق وأن أشار أبو حيان التوحيدي إلى شيء قريب من هذا حيث يقول في كتابه المقابسات أن البحث عن المنطق قد يرمي بك إلى جانب النحو والبحث في النحو قد يرمي بك إلى جانب المنطق ، لكنني سأحاول في السطور التالية أن أسرد بعض الشواهد والأمثلة التي تدعم استنتاجي بأن اللغة هي الأصل للمنطق .

فلو تأملت مثلا التعريف الذي ذكره زكي نجيب محمود للمنطق حيث عرفه بأنه هو العلم الذي يدرس العلاقات الكائنة بين القضايا أو أجزاء القضية الواحدة ، ستجده مشابها ومقاربا لتعريف اللغة فلو حاولت أن تضع تعريفا ستقول أن اللغة هي ألفاظ ( تدل على معاني معينة ) ترتبط بعلاقات محددة ، كذلك في اللغة فالحد الأدنى للكلام المفهوم هي الجملة المفيدة وكذلك في المنطق فالقضية هي الحد الأدنى للكلام المفهوم ، وكذلك في اللغة فهناك علاقات محددة تربط بين الألفاظ بشكل متناسق كأدوات العطف والشرط والمسند والمسند إلية أو المبتدأ والخبر اللذان يكونان جملة مفيدة ، والأمر ذاته في المنطق فعلاقات التساوي والتضاد وكذلك القضية الحملية التي تتكون من موضوع ومحمول ، وكذلك تحتوي اللغة على مجموعة من الألفاظ ولها تصنيفات مختلفة ( نكرة معرفة علم صفة الخ )وكذلك المنطق يهتم بتصنيف الرموز والألفاظ ، (كالاسماء الكلية وهي مجرد أسماء للدلالة على جزئيات ، والجزئيات وهي لفظة تدل شيء واحد ويمكن الاشارة اليها من خلال اسم الاشارة ، والمفهوم وهو تعريف الاسم الكلي ، والمصداق وهو مثال جزئي واقعي على كلمة كلية ، والهوية وهي مجموع الصفات التي يتصف بها لفظ جزئي أو كلي ) وغيرها من المصطلحات .

لكن لو كانت اللغة والمنطق متطابقتان فما حاجتنا للمنطق اذن!!
وهذا اعتراض غير دقيق ، لأنني لا أقول بأن اللغة والمنطق متطابقان ومترادفان ، بل جل ما أدعيه وما أقوله هو أن المنطق في الأصل خرج من رحم اللغة ، وسوف أذكر مثالا شائعا وأحاول من خلال هذا المثال توضيح ما أقصد فمثلا عبارة ( الدائرة مربعة ) لغويا هذه العبارة صحيحة حيث تتكون من مبتدأ وخبر لكن منطقيا تعتبر زائفة لأن معنى الموضوع المحمول متناقض، فهنا بدأت الاختلافات تظهر بين المنطق واللغة ، عندما دخلت فكرة البديهيات أو المسلمات Axioms بدأت ولادة المنطق فلولا وجود مبدأ عدم التناقض The Principle of non-contradiction لما وجدنا اشكالا في قضية الدائرة مربعة ، لكن بفضل المنطق نستطيع أن نحكم على هذه القضية بأنها زائفة ، لكن هذا لا يعني أن اللغة تقبل التناقض في جملها فأكثر الجمل في لغات البشر غير متناقضة ، ومبدأ عدم التناقض موجود ايضا في اللغة قبل أن يوجد في المنطق وقد يكون مبدأ عدم التناقض تعميم تجريبي كما قال جون ستيوارت ميل لكن لأن اللغة ترتبط ارتباطا وثيقا بالانسان وعاطفته وحياته قد تجد أحيانا في اللغة بعض العبارات المتناقضة ، لكن لا يزال المنطق غير كاف لوحده للحكم على قضية ما ، فمثلا لو قلت الخثعل مكسور، في هذه الجملة لا يوجد أي خلل منطقي فيها ، لكنني أعلم بشكل واضح أن هذه الجملة زائفة .

هنا سأعود إلى المبدأ الأول الذي اعتمدته في تجربتي المعرفية ألا وهو التحليل اللغوي هذا المبدأ الذي قادني إلى اكتشاف أن اللغة هي أصل المنطق ثم بعد ذلك قادني إلى التمييز بين اللغة والمنطق حيث يتميز المنطق عن اللغة بالدقة والتحديد والترميز واعتماده على بعض البديهيات والمسلمات المعرفية ، واخيرا قادني التحليل أيضا إلى التمييز بين القضايا ، وانها إما ان تكون تحليلية ومعيار الحكم فيها الاتساق وعدم التناقض ، أو تركيبية ومعيار الحكم فيها مطابقتها للواقع ، أو تكون شبه قضية .

فالنوع الأول من القضايا هي القضية التحليلية ، وتعرف بأنها القضية التي تكرر طرفي القضية أو تستبطنها ، فمثلا قصية ( الأعزب غير متزوج) ، هذا تكرار أو مثل ( الكوكب هو ما يدور حول الشمس ) هذا استبطان ، حيث أن تعريف الكوكب هو ما يدور حول الشمس ومثل (1+1=2 ) وهي قضية تكرارية وقد تكون القضايا التحليلية مصاغة على شكل قياس منطقي من خلال مقدمتين ونتيجة كما في المثال التالي
المقدمة الأولى أ > ب
المقدمة الثانية ب > ج
النتيجة هي أن أ > ج

وكذلك القياس الشهير في المنطق الكلاسيكي
المقدمة الاولى سقراط انسان
المقدمة الثانية كل انسان فان
النتيجة سقراط فان
نلاحظ أن النتيجة مستبطنة ومذكورة في المقدمات فالنتيجة هي تكرار وتحصيل حاصل للمقدمات لا أكثر .

وغيرها من الأمثلة ، سنلاحظ أن هذه القضايا لا علاقة لها بالواقع ولا تخبرنا عنه بشيء نهائيا ، وتعتمد هذه القضايا على تعريف الألفاظ واتساقها وعدم تناقض أجزائها فقط بغض النظر عن الواقع ، وينحصر وجود هذه القضايا في الذهن البشري ، وهذه القضايا لا تجدها إلا في المنطق والرياضيات و الهندسة النظرية والعلوم الاستنباطية ، ومعيار الحكم بالصدق أو الكذب على مثل هذه القضايا هو الاتساق وعدم التناقض في اجزائها وقضاياها ، فكل عبارة أو قضية عند تحليلنا لها وجدناها تكرارية أو مستبطنة وتعتمد على مبدأ الاتساق وعدم التناقض فقط حكمنا فورا عليها بأنها قضية تحليلية .

ولعلي أشير وأوضح أن المنطق والرياضيات والهندسة النظرية تحتاج وتعتمد على بديهيات أو مسلمات تعتبر أساسية لبناء نسق منطقي أو رياضي وهي ليست محددة ومعروفة لكنها تفرض فرضا من قبل عالم المنطق أو الرياضيات أو العلوم حتى يستطيع أن يبدأ في بناء نسق معرفي ما ، وهذه المسلمات هي صحيحة عموما ، مثل مبدأ عدم التناقض وغيره لكنها ليست صحيحة مطلقا ، وتظل هذه المفاهيم والقوانين قابلة للخطأ والمراجعة ، ولعل مبرهنة غيرت غودل أو مبرهنة عدم الاكتمال Godel s incompleteness Theorems التي تنص بوضوح على أن البناء المنطقي والرياضي سيكون ناقصا دائما وغير كامل، وكذلك المفارقات المنطقية مثل مفارقة الكذاب Liar paradox ومفارقة الجد Grandfather paradox ومفارقة سفينة ثيسيوس Theseus s paradox تمثل تحديا واضحا للمبادئ المنطقية والمسلمات المعرفية وغيرها من المفارقات ، وكذلك ما فاجئتنا به الفيزياء الكمومية من اكتشافات ونظريات صادمة للحس المشترك Common sense مثل تجربة قطة شرودنجر Schrodinger s cat ومبدأ اللايقين Uncertainty principle قد تفرض علينا مراجعة بعض المفاهيم والمسلمات حيث أكد هيلاري بوتنام Hilary putnam في كتابه هل المنطق تجريبي Is Logic Empirical ، على استعداد المتخصصين في المنطق على مراجعة بعض القوانين والمسلمات المنطقية اذا ظهرت نتائج تجريبية تخالفها ، كل هذه المسائل والمشكلات هي أمثلة واضحة على نسبية البناء المعرفي للمسلمات المنطقية .

لكن كل تلك الإشكاليات لا تعتبر مشكلة حقيقة إذ أن اقصى ماتؤول إليه هي رفع صفة الإطلاق والضرورة علي تلك المسلمات ، ولا أحد يزعم الاطلاق والضرورة لأي قضية أو مسلمة مهما كانت إلا عند من يؤمن بحقائق مطلقة وثابتة .


لكن مع ذلك كان المنطق وما يزال أحسن المناهج لصياغة القوانين والقضايا العلمية وكذلك الرياضيات فهي أفضل وسيلة للتعبير عن القوانين العلمية كقانون الجاذبية وقياس بعض الظواهر الطبيعة كقياس قوة الزلازل وسرعة الرياح والضغط الجوي ولعل الجملة الشهيرة التي تقول أن الرياضيات لغة العلوم أفضل تعبير عن أهميتهما في مجال المعرفة .

أما القضايا التركيبية ، فهي التي تضيف شيئا جديدا غير مكرر أو مستبطن في أحد جزئي القضية. ولعلي لا أبالغ إن قلت أن كل العلوم والمعارف هي قضايا تركيبية ، وتعتمد القضايا التركيبية على مسلمات كما هو الحال في القضايا التحليلية ، فهي تعتمد على المسلمات الرياضية والمنطقية وتضيف بعض المسلمات مثل مسلمة وجود العالم الخارجي ، وانفصال الوعي البشري عنه ، وكذلك مسلمة أن الطبيعة والواقع الخارجي قابلان للفهم والتفسير والتنبؤ والتحكم ، ومعيار الصدق أوالكذب فيها هي مطابقتها للواقع أو إمكانية مطابقتها للواقع ، من خلال وسليتي القابلية للتحقق Verificationism و القابلية للتكذيب Falsifiability وسنسرد بعض القضايا التركيبية وسنحللها لتوضيح تفاصيل القضية التركيبية ، المثال الأول لو قلت أن درجة الحرارة في غرفتي هي 35 درجة مئوية ، هذه القضية تركيبية وسأتحقق منها فورا بعد بضع دقائق ويتبين هل هي صادقة أم كاذبة ، من خلال مقياس الحرارة، المثال الثاني لو قلت لي أن على سطح كوكب نبتون كائنات حية صغيرة بحجم النمل ، هذه قضية تركيبية، ومن الواضح أنني لن أستطيع التحقق من هذا الأمر أو تكذيبه حاليا لكن ربما بعد بضع سنوات سيصل العلماء لطريقة ما للهبوط على سطح كوكب نبتون ثم الحكم على هذه القضية ، لكن كما هو واضح فهذه القضية يمكن التحقق منها ويمكن تكذيبها ، وهذين المثالين شائعين في العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والأحياء وعلم طبقات الارض والفلك التي تعتمد على التجربة والملاحظة ، المثال الثالث لو قلت لي بأنه كلما ارتفع مستوى المعيشة في مجتمع ما انخفض معدل الانجاب ، فهذه القضية تركيبية يمكن التحقق منها ، من خلال منهج بحث اجتماعي وهذا النموذج من القضايا شائع في مجال العلوم الانسانية والاجتماعية ، المثال الرابع لو قلت لي أن المسلمون عاشوا في اسبانيا لمدة 800 عام لكنهم طردوا منها قبل 600 عام من الآن فهذه قضية تركيبية يمكن التحقق منها وتكذيبها ، وهذا النموذج من القضايا شائع في العلوم التاريخية والاركيولوجية التي تعتمد على المخطوطات والآثار والنقوش والحفريات وغيرها وكل تلك القضايا يحكم عليها بالصدق أو الكذب من خلال مطابقتها للواقع عبر استخدام منهج بحث تاريخي ، فمنهج البحث العلمي التجريبي بخطواته شائع في علوم الطبيعة ومنهج البحث الاجتماعي شائع في العلوم الانسانية ومنهج البحث التاريخي شائع في علوم الاركيولوجي والانثروبولوجي .

ولعل من المهم الاشارة الى ان التمييز بين القضية التحليلية والتركيبية هو أمر نسبي فقد تكون قضية ما تحليلية وهي في الواقع تركيبية أو العكس ، لكن لا يمكن أبدا أن تكون قضية ما تحليلية وهي شبه قضية أو تركيبية وهي شبه قضية.



أما أشباه القضايا أو الجمل الانشائية وهي كل قضية ليست تحليلية تكرارية فيمكن الحكم عليها من خلال اتساقها وعدم تناقضها وليست كذلك قضية تركيبية يمكن مطابقتها للواقع أو تكذيبها لذلك تسمى شبه قضية ويسميها الوضعيون المنطقيون قضايا لا معنى لها ، والأمثلة على هذا النوع هي القضايا التي تطرحها الفلسفات التأملية والمثالية والعقلية، والميتافيزيقية وكذلك الأساطير والثيولوجيا .

وسنذكر أمثلة لعدد من القضايا الإنشائية أو أشباه القضايا التي تمتلئ بها الكتب في مجالات الفلسفة والأساطير المثال الأول ذكره زكي نجيب محمود في كتابه موقف من الميتافيزيقا على أشباه القضايا أو القضايا التي لامعنى لها ، بجملة شائعة في الكتب الفلسفية وفي كلام الناس وقد تبدو صحيحة وعميقة المعنى لكثير من القراء ألا وهي ( الخير غاية الوجود ) فهذه القضية تبدو ظاهريا كأنها قضية صحيحة لكنها قضية لا معنى لها لأنها ليست قضية تحليلية تعتمد على تكرار حدي القضية أو استبطانها وليست قضية تركيبية نستطيع أن نحكم بصدقها أو كذبها من خلال الواقع وأيضا لأن ألفاظ مثل الوجود والغاية والخير لايمكن إرجاعها لأصل حسي ولا نستطيع معرفة معاني هذه الألفاظ بشكل سليم ، وكذلك ما تقوله الفلسفة المثالية Idealism ، من أن الواقع الخارجي امتداد للوعي ، وتنكر وجود العالم الخارجي ، هذه القضية ليست تحليلية ولا تركيبية بل هي شبه قضية ولا معنى لها ، إلا إذا جعلنا هذه القضية بديهية أو مسلمة ، لكن هذه القضية لا يمكن أن تكون كذلك فهي تخالف الواقع وتخالف الحس المشترك Common sense والخبرة البشرية للناس على اختلاف ثقافتهم وأماكنهم وأزمانهم ، وكذلك ماتقوله الفلسفة العقلية Rationalism التي لم تتخل عن مثاليتها عندما قسمت العالم إلى عالمين عالم طبيعي واقعي وعالم ماوراء الطبيعة أو ميتافيزيقي وجعلت عالمنا الذي نعيش فيه تابعا لعالم ميتافيزيقي وهو الأصل لوجود العالم الخارجي ، وهذه القضية أي أن الواقع عالمان عالم طبيعي وعالم ماورائي أيضا ليست قضية تحليلية أو تركيبية بل هي شبه قضية ، بل لم تكتفي المثالية والعقلية بذلك بل نسبت وجود وصدق المسلمات المنطقية وبعض المبادئ المعرفية إلى عالم مطلق متسامي عن المادة أو روح مطلقة ، وأعطت تلك المفاهيم والمبادئ صفة الحقيقة المطلقة لارتباطها بذلك المطلق أو ذاك العالم الميتافيزيقي، وهنالك الكثير من القضايا التي لا معنى لها في الفلسفة التأملية أو أشباه القضايا كالمحرك الذي لا يتحرك عند أرسطو Unmoved mover وعالم المثل عند أفلاطون Theory of forms وإله ديكارت الذي لا يخدع عقله Descartes s trademark والروح المطلقة عند هيجل Absolute idealism ، وكذلك الألفاظ التي تمتلئ بها كتب الفلسفة والأساطير وهي ألفاظ ليس لها معنى وليس لها أصل حسي كالجوهر والعرض والماهية والوجود والعدم وكذلك أشباه القضايا الاسطورية كالروح والجن والعنقاء والتنين لو تم تحليل جملها وألفاظها لعرفنا أنها كلها ألفاظ لا معنى لها .

لكن قد يبرز سؤال وهو ماهي المناهج والطرق التي نستخدمها في انتاج المعرفة ؟

قبل أن أحاول الاجابة لابد لي من أذكرك عزيزي القارئ بأنني أعتمد في مقاربتي المعرفية عموما على 3 ركائز أساسية وهي :

الركيزة الأولى هي تحليل الألفاظ والعبارات ومحاولة ارجاعها الى أصل حسي .
الركيزة الثانية هي تقسيم القضايا إلى تحليلية وتركيبية .
الركيزة الثالثة هي استخدام المنهج الاستنباطي في القضايا التحليلية فقط والمنهج العلمي الاستقرائي في القضايا التركيبية فقط .

فالتحليل للألفاظ والعبارات سيكشف لنا زيف كثير من الألفاظ والعبارات الفارغة والخاوية من المعنى وكذلك القضايا التحليلية التي تستخدم المنهج الاستنباطي تبدأ بمقدمات أو مسلمات ثم تستنبط منها نتائج وهذه النتائج تصبح مقدمات لقضية ثم يستنبط منها نتائج وهكذا ، وهذه الطريقة واضحة جدا في الرياضيات النظرية ، وكذلك القضايا التركيبية فهي نتيجة لاستخدام المنهج العلمي الاستقرائي الذي ينطلق من الواقع ويلاحظه ويراقبه ثم يحاول تنسيق وتصنيف ما يلاحظه وما يشاهده ثم يفرض فروضا لتفسير الملاحظات والتجارب فإذا كانت الفرضية تفسر الملاحظات والتجارب عبرنا عنه بنظرية علمية تكون قادرة على التفسير والتنبؤ والتحكم بالظاهرة ، بشرط أن تكون الفرضيات والنظريات قابلة للتحقق والتكذيب .

والاطراد والتكرار في نظرياتنا العلمية لا يجعل استنتاجاتنا ونظرياتنا صادقة صدقا ضروريا ومطلقا بل هي صادقة بشكل احتمالي ، فمادامت لا توجد أي حالة أو تجربة تكذبها أو تناقضها ، فهي صحيحة ، فحتى تأتي تلك التجربة أوالنظرية التي تكذبها ، سنظل متمسكين بالنظرية وبهذه الطريقة تجاوزنا مشكلة الاستقراء Problem of induction التي تحدث عنها ديفيد هيوم David Hume، وحتى مشكلة الاستقراء كما عبر عنها هيوم تعتبر مشكلة فقط عند من يظن أن نتائج الاستقراء هي صادقة صدقا ضروريا مطلقا ، أما إن كنت تنظر لنتيجة الاستقراء على أنها احتمالية فلا وجود لهذه المشكلة من البداية .

وأخيرا يبقى السؤال المحير هل هذه المسلمات والمناهج التي بنينا عليها بنياننا المعرفي موثوقة ؟ لماذا نثق بهذا البناء المعرفي؟


وإجابتي البسيطة من شقين

الشق الأول هو ان كان المقصود بموثوقة هي أنها صادقة صدقا ضروريا ومطلقا فاجابتي لا فلا مكان لليقين والمطلق في مقاربتي المعرفية بل الشك دائما حاضر والمراجعة واجبة لكل شيء في المعرفة الانسانية ، أما ان كان المقصود هو أنها معرفة صحيحة مطابقة للواقع بشكل عام فاجابتي هي نعم فكل ما رأيته وما سمعته من انجازات واختراعات في المائتي سنة الماضية هو مبني على تلك المسلمات وهذه المناهج العلمية فلو كانت هذه الأسس معيبة أو هشة فكيف توصلنا الى هذه الانجازات الكبرى مثل هبوط الانسان على سطح القمر ووضع اقمار صناعية تدور حول الأرض وتنبؤنا بكسوف الشمس قبل حدوثه بعشرات السنين وعلاجنا لأمراض فتكت بالبشر منذ قرون طويلة من خلال اكتشاف المضادات الحيوية وتشخيص الأمراض بسهولة وسرعة هائلة من خلال أجهزة الأشعة والميكروسكوبات واكتشافنا للحمض النووي للنباتات والحيوانات والبشر وامكانية تعديلنا للحمض النووي لتلافي الأمراض الوراثية وانتاج سلالات أكثر صحة ومقاومة للبيئة القاسية ، وكذلك الالكترونيات التي غيرت حياتنا وجعلنا نتواصل لحظيا مع شعوب وأمم في أقاصي الأرض ، وأصبح تداول المعرفة وانتاجها رهنا بضغطة زر وستحصل على ماتريد ، كل هذه الانجازات تعطينا ثقة اننا على الطريق الصحيح ، بخلاف المناهج الاخرى التي تدعي أنها تنتج معرفة كالفلسفة التأملية والميتافيزيقية التي مازالت تدور في حلقة مفرغة منذ اليونان وحتى الآن ولم تحقق أي تقدم أو اي انجاز .

وهنا تتضح جليا أهمية البراجماتية حيث أنها لا تهتم كثيرا بصحة المبادئ والمقدمات بقدر ما تهتم بالنتائج المترتبة عليها ، فلو تعمقنا في الاستدلال والتحليل للمسلمات والمناهج العلمية فلن نصل أي نتيجة وسنظل في تسلسل لانهائي في محاولات لانهائية وسنظل نراوح مكاننا بدون أي جدوى ولا هدف ، لذلك تعتبر الفلسفة البراجماتية مع بعض تحفظاتي عليها مخرجا قويا لهذا المأزق .

ولعلك أيها القارئ بعد هذا الاستعراض قد أدركت أهمية التحليل اللغوي في تحليل الألفاظ وتقسيم القضايا وتحديد المناهج وعلاقتها بنظرية المعرفة، فكل معارف البشرية منذ القدم حتى الآن لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاث ، فتستطيع أن تضع كل معلومة أو معرفة تعرفها أو سمعتها أو مارستها في عبارة لغوية مفيدة أو صياغتها ب( قضية منطقية) ثم تصنفها في قسم من الاقسام الثلاثة ثم تعرف ما المعيار للحكم فيها فإن كانت تحليلية فالمعيار هو الاتساق والترابط وعدم التناقض ووجودها هو وجود ذهني لا في الواقع، وان كانت تركيبية فالمعيار هو التحقق ومطابقتها للواقع أو امكانية التحقق وامكانية مطابقتها للواقع ، وإن كانت شبه قضية فلا يوجد معيار موضوعي للحكم والبت فيها حتى الآن .

في نهاية هذه المقالة أريد أن أذكر أنه في نهاية رحلتي المعرفية إنتهيت إلى أنه لا يوجد مدرسة معرفية أجابت على كل الأسئلة ، وأعطت منهجا ونموذجا معرفيا كاملا كمالا مطلقا ، فلا مكان لحقيقة مطلقة أو نموذج مطلق ، بل كل ما هنالك أنني وجدت المدرسة التجريبية والتحليل اللغوي للألفاظ والعبارات وكذلك البراجماتية من وجهة نظري أفضل ماتوصلت إلية نظرية المعرفة حتى الآن ، نعم لا ندري فقد يأتي المستقبل بجديد في حقل المعرفة أو اكتشاف علمي يؤسس لمفاهيم ونماذج جديدة في المعرفة أكثر اتساقا وارتباطا بالواقع وأقل نقصا ، عندها سأعيد مراجعة أرائي وقناعاتي ، ثم أغير أفكاري ومعتقداتي بناء على أي معطيات جديدة ، لكن حتى يأتي ذلك اليوم ، سيظل موقفي المعرفي هو ما قرأته في هذه المقالة .



#وليد_عبدالكريم (هاشتاغ)       waleed_abdulkarem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وليد عبدالكريم - تأملات في أسس المعرفة