|
بين البدوية والرأسمالية والشيوعية ضاعت شعوبنا
كريم عزيزي
الحوار المتمدن-العدد: 6071 - 2018 / 12 / 2 - 17:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بداية ، أذكركم ونفسي بالأهمية القصوى لأن نكتب - وكل حسب استطاعته - ، وإن خطر ببال من يكتب أن موضوعه قد تناوله الكثيرون قبله ولا فائدة من إعادة الكلام فيه. لا يجب أن نخطئ هذا الخطأ فكل حرف يكتب أو يقال سيفيد - لا شك عندي في ذلك - ، عالمنا أمامنا وكل شيء قد فُضح وصار مكشوفا للعيان: هذا ما نقوله ، لكن للأسف هناك من لا يرون ولا يسمعون ، هناك من لا يفهمون ومن لا يريدون الفهم بل يرفضون حتى السماع ، هؤلاء إن لم يسمعوا لك ولكم ربما سيسمعون لي ، وإن لم يفعلوا معي فربما سيفعلون مع غيري ، ولا يهم ممن سيسمعون أو على يد من سيعقلون المهم أن يسمعوا وأن يعقلوا ويتعقلوا .
نحن في ورطة ، ورطة عظيمة جناها علينا أسلافنا ويزيدها عالمنا اليوم كل لحظة تأزما ، نحن شعوب متخلفة ولا أمل لنا في النهوض إلا بنخب نيرة مستنيرة "استنارة حقيقية وكاملة" (المسيحي الذي يحمل الكثير من عقائد المسلم يرى نفسه "مستنيرا"!) يجب أن توجد اليوم قبل الغد ، ويجب أن تبدأ عملها مباشرة على الأرض مع الشعوب التي لا تزال ترى جلادَها منقذِها من الهلاك ومستعبِدها فارسَها الأوحد ، شعوبنا وصلت إلى مستوى شارف على الفناء وبتنا قاب قوسين من أن تُطلق علينا رصاصة الرحمة ، نحن حقيقةً "مريض بالسرطان في أيامه الأخيرة" لكن المؤسف أننا لا نزال نرى السرطان صحة وشرفا ومنعة لنا! نراه كل شيء إلا مرضا يجب الخلاص منه والقضاء عليه لنعود للحياة التي نستحق حقيقةً ونحن شعوب -نعم !!- نستحق الحياة .
قرأت منذ فترة لكتاب غاضبين فيهم من قال / ومن قالت أن شعوبنا لا تستحق الحياة ، وإن أتفهم لحظات الغضب واليأس التي تنتابنا جميعنا لكني أرفض أن يقال كلام مماثل - على شعبي على الأقل! - ، قد أفقد الأمل في أبي لكني لن أقلل من احترامي له ، وقد أيأس من أمي - أو أختي - لكني لن أصرخ في وجهها أو "واضربوهن" ! شعبي عظيم بل أعظم شعب على سطح الأرض ، لكنه ، مريض ! معاق إعاقة عقلية علاجها عندي واضح لا مشاحنة فيه : شعبي مشكلته دينه وهويته وأؤكد على هويته قبل دينه الذي لم يأت ليكون فكرا يُعتنق بحرية بل جاء ليكون هوية - وهذا أصل الداء - و "الهوية الوحيدة" - وهذه بذرة السرطان التي يجب "استئصالها" والقضاء عليها - .
لا أحد يريد القطع مع السماء اليوم ، باستثناء قلة من "السذج!" - وأنا أولهم - . نرى أمامنا العالم برمته يرفض حتى الفكرة في أصلها ويتعلل العلمانيون والواقعيون "البراغماتيون" باستحالة ذلك لعوامل كثيرة لعل الطاغي عليها في أطروحاتهم "الوراثة" و "حرية العقيدة / الضمير" ، تلك الشعارات الرنانة الخداعة التي بها سنستعبد إلى الأبد ولن تعيش شعوبنا عصر ثورتا الحقيقية لتمرّ إلى عصور الحرية الحقيقية والسيادة والاستقلالية .
السماء ليست المعضلة الوحيدة ، فلو افترضنا أن القطع معها وتجاوزها سيحصلان فعلا يوما ما ، فستبقى عندنا معضلة أرضٍ خربة مدنسة بأيديولوجيات عفى عليها الزمن لا يزال يعبدها حتى من تجاوز السماء - كما يزعم - : الحرية وهم يزعمه الجميع ، ويُرمى المتدينون بصفة العبودية -التي يفتخرون بها- ليظهروا العبيد الوحيدين الذين نعاني من تبعات عبوديتهم لجلاديهم ، والحقيقة أن الجميع عبيد وكل لإلهٍ وهمٍ إما ورثه وإما جُنِّد له بالرغم من زعم هذا العبد أنه "اختار عن قناعة وبعد دراسة وتمحيص".
نحن في ورطة ومعضلتنا لن يحلها العبيد بل يلزمها "أحرار" ، والأحرار عملة نادرة اليوم في بلداننا بل وفي كل العالم ، الأحرار لا يتبعون أي أيديولوجيا بل يأخذون من السوق فقط ما يصلح والأهم من ذلك أنهم يستطيعون عدم اقتناء أي شيء من هذه السوق التي يقتني منها الجميع وكل حسب نسبة العبودية التي تجري في دمه وأيضا كل ونسبة الحرية الموجودة عنده والمستحدثة -ونحن كلنا نشأنا عبيدا!- .
أكيد أن الفرق شاسع بين "التنظير" / "الكلام في الهواء" وبين "الواقع" / "الأرض" ، ولذلك يَعذر الكثيرون أهلَ السياسة في مواقفهم الزئبقية التي تُمليها عليهم في كثير من الأحيان مجتمعاتهم وثقافاتها المتحجِّرة بل ويَعذرون حتى رجال الدين "المستنيرين!" على مواقفهم الخجولة في مواجهة ذلك الإله الجبار الذي لا يرحم : الشعب ! بالرغم من أن هؤلاء "المستنيرين" هم الأدرى بحاله فهُم وغيرهم من كانوا السبب في غلق عقله ورفضه للتساؤل والشك.
لكن هذا "الفرق الشاسع" لا يجب أن يستعمله العبيد ليخدعونا ، فالحق يجب أن يقال ليتحرر الحريةَ الحقيقيةَ والغير منقوصة أكبرُ عدد من العبيد ، وضع شعوبنا اليوم هو - وبدون مبالغة - عبودية ويستحيل أن يكون حامِل مشعل تحريرها عبدا أو حاملا لنسبة من العبودية : حرّرْ نفسك يا عبد قبل أن تظن أنك قادر ليس فقط على تحرير بضعة أفراد غيرك بل شعب وشعوب ! العبد لا يصنع التاريخ ، التاريخ يصنعه الأحرار ، وإن صنع ذلك العبد شيئا في هذا التاريخ فحتما سيضرّ بغيره مستقبلا لأنه يستحيل أن يتحرّر عن سيده وجلاده والمستقبل سيشهد حتما العودة إلى أحضان ذلك الجلاد أو السيد :
ألمانيا قطعت مع ثقافة النازية فصارت ما هي عليه اليوم ، النازية جزء من تاريخ الألمان لا ينكرونه لكنهم وضعوه في المتاحف بل في المزابل لذلك وبعد أن سُوي بلدهم بالأرض بعد الحرب العالمية الثانية عادوا إلى الحياة وإلى التاريخ وإلى صناعته ليس لهم فحسب بل لكل الأرض . نفس الشيء حصل مع اليابان الذي تجاوز ثقافة الساموراي والإمبراطور الإله بالرغم من أنها ثقافة جعلته يحكم أراضي شاسعة وشعوبا لا تحصى، بعد الحرب لم يقل اليابانيون علينا العودة إلى ماضينا لنعود لحكم الصين وما جاورها بل قالوا تلك كانت ثقافة أسلافنا حتى وإن انتصرت وحكمت في الماضي فإنها اليوم لا تصلح وإن أردنا ترميم البلد وإعادة شعبنا للحياة وللتاريخ فعلينا إلقاء ذلك التراث في المزبلة .
سيفهم القارئ - للأسف - أني أُورّي عن ثقافة الإسلام وإمبراطورتيه وسيندر عدد القراء الذين سيفهمون أني أقصد ذلك نعم لكني أيضا أقصد أن الياباني والألماني لم تكن عندهما "مشكلة هوية" كما عند شعوبنا اليوم وغدا إلى أن يستيقظ مثقفوها .
"التنظير" عادة ما يواجِه أصعب الأسئلة ويجيب عنها دون مهادنة ، قد تختلف الطرق حسب شخصية من "ينظر" وحسب المخاطر التي تحيط به ، لكنه حتما سيقول الأصولَ التي عليها سيؤسس "نظريته" . قلت : (حسب شخصيته والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها) ولم أقل "حسب معارفه وعلومه" التي وإن كانت مهمة إلا أنها إن لم تذكر الأسس الصحيحة فلا قيمة لها . قد نتعامل مثلا مع طبيب حاصل على جائزة نوبل - أي لا أحد سيشكك في علمه - لكنه يسكت عن الشعوذة والرقية وإخراج الشياطين : إذا كنا نرى أن ثقافة الدين برمتها يجب تجاوزها ليتحرر شعبنا ، فما قيمة نوبل هذا الطبيب في مسيرة الأحرار ؟ المعارف مهمة جدا لكنها وحدها لا تنتج "ثقافة تحررية / ثورية" ، الحر قد يكون عامّيًّا دون تحصيل علمي / أكاديمي وقد يكون من قادة مسيرة التغيير ، وأستطيع القول أن شعوبنا يلزمنا "نخبة" من هذا النوع : أزعم أن أغلب المستويات المعرفية / الأكاديمية العالية التي تتصدر الساحة السياسية والثقافية لا أمل فيها ولن يأت منها أي خير باستثناء الشعارات للضحك على عقول البسطاء .
معضلتنا ليست تأخرا تكنولوجيا أو عسكريا بل معضلتنا ثقافية بالدرجة الأولى . ثقافة عندها أصول أسستْ لها منذ قرون ، والحل الحقيقي يأتي عند مقارنة "الحلول!" المقترحة للتعامل مع هذه الثقافة من كل الأطراف التي كل يرى بيده الحل .
ماركسية الكتب تقول لنا بأن التاريخ يحركه صراع الطبقات ويتبنّى هذا القول "المنتسبون" للماركسية، وهذا الصراع حقيقة لا مشاحنة فيها لكننا لا نرى الغربيين متخلفين مثلنا وهم أيضا تاريخهم يحركه هذا الصراع وسيحركه إلى الأبد ؟ الرأسمالي الغربي سيسرق شعبه إلى الأبد لكننا لا نرى شعبه يشحت كما عندنا . مِن بعض أقوال أصحاب السترات الصفراء في فرنسا هذه الأيام أنهم لم يعودوا قادرين على الذهاب في عطل ، أي هم يدافعون عن مستوى معيشي معين تعودوا عليه عكس شعوبنا الجائعة التي لا تجد ما تأكل وأين تسكن وبعيد عنها كل البعد الكلام عن العطل والسفر كل بضعة أشهر أو سنة إلى بلد جديد ، المتظاهر الفرنسي اليوم الذي يُرى ثوريا وصاحب حق أجزم أنه سيقبل بمزيد سرقة موارد شعوبنا وسيقبل بنفس حكوماته إن هي وفّرت له "المستوى المعيشي" الذي يريد وإن كان ذلك على حساب غيره . نسانده في رفضه لنهب دولته اللبرالية له نعم ، لكن قبل ذلك علينا أن نضع وضعنا قبل وضعه لأن حكومته التي تسرقه تسرقنا وتمص دماءنا قبله . "اليساريون" يُسمون هذا الدعم "نضالا أمميا" وأمميتهم تضيع فيها شعوبنا "عبيد الأطراف" لصالح الغير "سيد المركز" : هم يأخذون النظرية التي منذ البدء وضعت شعوبنا شعوبا متخلفة وتابعة ، ويواصلون العمل بها دون أي تساؤل بأي حق يكون من وضعها سيدا عليهم وعلينا ؟ والأرضية الثقافية التي ينطلقون منها خصبة جدا لثقافة العبودية والتبعية فشعوبنا من التبعية للسيد الغربي المسيحي انتقلت للتبعية للسيد العربي المسلم البدوي ومع حلول السيد الروسي الشيوعي حارت نخب شعوبنا مَنْ تتبع فاختارت إما هذا أو ذاك أو حاولت الجمع بين إثنين بل وحتى بين الثلاثة وبذلك حكمت هذه النخب - وكل القيادات التي حكمت والتي لا تزال تحكم - علينا بالتبعية إلى الأبد ، ثقافة صارت جينات لنا أَسستْ لثقافة الاستهلاك وغياب الإنتاج وكيف سننتج ونحن عبيد ولاؤنا الأول والأخير لسيدٍ هدفه الأول والأخير مص دمائنا ومن حقه ذلك! فهو "السيد" وما دمنا قد قبلنا بتسيده علينا عبر أكاديميين ومتعلمين ورؤساء وحكومات وخلال كل فترات تاريخنا فأين العجب في ذلك ؟
بين السيد الرأسمالي والسيد البدوي والسيد الشيوعي تكمن مأساة شعوبنا ونخبنا ! أدعو إلى التحرر من العبودية لكل جلادي شعوبنا فهل كلامي "جنون" أم هو الثقافة الوحيدة التي ستجعل هذه الشعوب تتحرر ؟
كريم عزيزي 2/12/2018.
#كريم_عزيزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماركسيون والإسلام : نظرة سريعة
-
لماذا يتواصل تعثر نهضتنا ؟
المزيد.....
-
نائب قائد حرس الثورة الإسلامية: أي استهداف لنا من قبل الكيان
...
-
نائب قائد حرس الثورة الإسلامية: أي خطأ للكيان الصهيوني سيقاب
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان: قصفنا مدينة صفد المحتلة بصلية ص
...
-
المقاومة الإسلامية في لبنان: إستهدفنا موقع رويسات العلم في ت
...
-
شهيدان مسعفان وعدد من الجرحى من الهيئة الصحية الإسلامية باست
...
-
آية الله خامنئي: الجمهورية الاسلامية ستقوم بما هو ضروري بقوة
...
-
شاهد.. قراءة عميقة لخطبة قائد الثورة الإسلامية
-
آية الله خامنئي: حزب الله والسيد الشهيد بدفاعهم عن غزة وجهاد
...
-
إقامة صلاة الجمعة بإمامة قائد الثورة الاسلامية آية الله خامن
...
-
آية الله خامنئي: لم يكن فقدان قادة الثورة الاسلامية في ايران
...
المزيد.....
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
-
جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب
/ جدو جبريل
المزيد.....
|