أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - نعمات البحيرى - من يوميات امراة ..الطابق الخامس















المزيد.....

من يوميات امراة ..الطابق الخامس


نعمات البحيرى

الحوار المتمدن-العدد: 1516 - 2006 / 4 / 10 - 05:10
المحور: كتابات ساخرة
    


فى اليوم المحدد لدخول المستشفى جاءت سهام ووفاء وجعلتهما تحدثان أمى بالتليفون لتؤكدا صدق كذبتى عليها بأننى سأنشغل عنها لعدة أيام بأحد المؤتمرات بالمجلس الاعلى للثقافة وأن المؤتمر يرشحنا ككاتبات لمؤتمر آخر فى الاسكندرية. صدقت أمى ونزلت بحقيبتى تحملها عنى سهام وتساندنى وفاء .
كان الطريق هاديء على غير العادة مما سمح لى بدرجات من الشرود أيقظنى منها صوت سهام وهى تقول لى
ـ ايه يا نعنع.. والله بكرة ح تروق وتحلى..
ثم قالت وفاء والله أنا قلبى حاسس خير..
طريق محور أكتوبر من أجمل الطرق الجديدة .. أستشعر أنه قيمة جمالية خاصة لا مجرد طريق.. مساحات خضراء وجبال ومنحدرات خضراء أو صحراوية متباعدة ومتقاربة تفجر بداخلى الرغبة الدائمة للتأمل واستنشاق كم هائل من الأوكسجين..

لأول مرة أشعر بعدم الرغبة فى رؤية كورنيش النيل فأغمضت عينى وأسندت رأسى ثم انتفضت لأنظر للدنيا التى ربما أغيب عنها.
دخلنا المستشفى والتوجس من مشهد الرجال والنساء الذين ينتظرون جثة ميت أمام المشرحة جعلنى أنظر إلى السماء وأتابع سرب طيور هاربة من مناخ الموت والألم مع أغنية على الحجار..
خلاص خرجنا م الأزمة وترجع على دارك مجبورين..
قالت وفاء : شفتى يا نعمة .. الفال بيقول ايه..

حجزونى فى غرفة فى الطابق الرابع.. دفعت الفرق من أجل غرفة "لوحدى"، بلا رفيقة ورم أخرى تلاحقنى آهاتها لتدمر ما تبقى من جهازى النفسى والعصبى.
ظللت ليوم كامل ثم نوهوا لنقلى بعد إجراء الجراحة للطابق الخامس.. ابتسمت وقلت لهم..
ـ قصة "دوبونزاتى" الكاتب الايطالى كان اسمها " الطابق السابع".. ابتسمت سهام وقالت..
ـ انسى الثقافة الأيام دى الله يخليكى..
ما قرأته طيلة حياتى أصبح ذاكرة محفورة فى عقلى وروحى ونفسى مثل مدينة كاملة.. فيها شوارع وحوارى وأزقة وعمارات وبيوت وشقق وغرف ودهاليز وممرات.. صارت الثقافة مدينة بحجم الوطن أعيشها وحدى... لكنى عشقتها فقد كنت أفك قيودى واحدة فواحدة وأعمل على حل العقد التى تسبب فيها غيرى بشروط الممكن والمتاح..

فى يوم العملية أخذت سهام بيومى على جانب وقلت لها إنى دافعة إيجار شقتى فى أكتوبر لمدة شهر قدام.. مدة كافية لأن تخرج مجموعتين قصص قصيرة وروايتين من على الكمبيوتر وتقدمها للطبع بعد ما "تبص فيهم"... قالتلي بقسوة ..
ـ انت بت خايبة..
ـ اهو إنت .. افهمى بس
ـ مش عايزة أفهم.... الطب اتقدم بشكل مذهل... انت بتتكلمى ف ايه..وبعدين ما حدش ح يخلص قصصك ورواياتك غيرك.. وانت اللى ح تتخانقى مع الناشرين عشان كتبك..
ـ تفتكرى ح أعدى منها يا سهام..
ـ خلاص يا ستى ..قوليلى أبعت لك الشيك بتاع مكافآت النشر على الجنة والا على النار..
ـ انت شريرة..
بدت ضحكاتنا مثل جبيرة جبس وشاش وقطن، أو محلول جلوكوز معلق فى الهواء أو مريضة تتدلى منها خرطوم "الدرنقة" تقابل حبيبها خلسة فى نهاية الطابق الخامس..
‏كنت تحت وطأة الجرح أفهم جيدا ما يحدث حولى بينما العيون ترتبك وتضطرب وهى ترسل نظرات أشم رائحتها جيدا. تنسى شوقية ووفاء وأختى منال أننى "تربية قطط".. صرت أشم البشر والمواقف والأحداث لأستبطن كنهها. ودخلت غرفة الجراحة.. قاعة كبيرة أشبه بمذبح السيدة زينب، لكن بشروط أخف وطأة. رافقت جدتى ذات مرة وأنا صغيرة لشراء لحمة رأس وكرشة وفشة وكوارع. لم يتركوننى أتأمل وجوههم حتى رحت فى غيبوبة تامة..

وكأنه الغيم تصعب الرؤية من خلاله ثلاث ترولات معدنية ملقى عليها ثلاث جثث أقصد أجساد ملفوفة فى ملاءات خرجوا لتوهم من غرفة العمليات لغرفة "الإفاقة"... وضوء شحيح وأصوات ممرضات يتحدثن عن الطبيب الفلانى والعلانى.. وصوت الجثة اليمنى ـ صوت رجل فى غيمة الصورة
ـ انت عاملة عملية ايه..
ـ سرطان ثدى وانت ثدى برضه..
ـ لأ سرطان معدة..
وصوت الجثة الثالثة ينضح بالتعب..
ـ وطوا صوتكوا شوية..
ثم نغيب ثلاثتنا إلى وقت آخر وعالم آخر..
كان الصوت كأنه قادم لتوه من فسحة بين طبقات الوعى بدنيا مغايرة..
وبحثت بداخلى عن صوت آخر.. ليس هناك يقين بأن موتى هذا مؤقت .. ربما لوقت قليل لا أدرى مداه.. وربما يحدث بعث من نوع جديد.. وليس غير اللعبة القديمة تأكل الوقت والملل..
المشهد كاملا تحتفظ به ذاكرتى وأستدعيه دائما ثم أتراجع .. آن الأوان لفك أسره. هناك ضرورة ملحة ليكون ماثلا أمامى مثل ذكرى فاضت رائحتها فى الخريف.. ووجه نهاد "بنت عبد العزيز بتاع اللبن" الذى يتحرك فى شوارع العباسية البحرية كل صباح وهو يلحن جملته المعهودة..." لبن..يا عزيز يا لبن" وتصلك الجملة مشكلة ومنغمة وملحنة مثل لحن طبيعى يوقظك على توقيت أشبه بالساعة البيولوجية..وأحيانا الجملة تدخل معك فى نسيج الأحلام فتحلم بأن كل الدنيا بيضاء وكل شىء أبيض..

أغلقت نهاد الفصل وأومأت لبنات فصل تالتة تانى ..كل منهن تنزع ثياب المدرسة وتقشر جسدها فى نصفه الأعلى حتى اللحم، لأرى أمامى أثداء صغيرة ونحيلة.. رأيتهن يتحركن فى اتجاهى فتهتز الأثداء.. كلها تتقدم نحوى فى مسيرة عجيبة ومدهشة..
ـ اقلعى..
ـ أقلع ايه؟.. فى ايه..؟
ـ إقلعى .. ماحدش ح يقلعك..
ـ انتو اتجننتوا ..حا أفتح باب الفصل واجرى..
ـ اقلعى..
ـ حافتح شباك الفصل وحصرخ..
ـ اقلعى ..
على الباب تقف فردوس بنت النحاسة بجسدها الضخم ترسل نظرات نارية.جدتها بنت جامع بفلوس البيت الذى تهدم وباعته واشترت الايمان والتقوى...تجلس أمام الجامع لتختار بعناية فائقة من يصلى من بين كثيرين تعيدهم بلا صلاة.. لابد أن يكون نظيفا ويرتدى ثيابا تليق بدخول جامع النحاسة..
ـ اقلعى..
كنت أضم فتحة قميصى الابيض على صدرى وأتعلل بالزراير الكثيرة.... زى مقدس.. قميص أبيض بارلون بفرانشة بيضاء محلاة بالدانتيل والجيب الكحلى الترجال وقروح ركبتى النحيلتين تطل هى الأخرى تلويحا لما يمكن أن يحدث..
ـ اقلعى..
عرفت أن "السوتيان" الأسود الساتان هو الهدف.. آسريت لزميلة لى أن أمى حكمت علىّ بارتدائه لأن صدرى رغم نحافة جسمى يهتز أمامى. أمرت عمتى "منصورة" بشرائه من العتبة وقد عرفت المقاس من نظرة عينها المدربة..
كنت أول فتاة فى الفصل ترتدى "سوتيان" وفى ذلك اليوم كان علىّ أن أخلعه ليتبادله بنات الفصل جميعا فى فرح وحبور وبهجة تفتح بواكير أنوثة الجسد والروح. كانت أجسادنا جميعا سمراء عجفاء تطل من قمصاننا البيضاء مثل أعواد قطن جافة..

ارتدته كل واحدة ورأت نفسها فى زجاج نافذة الفصل المغلقة والواقفة خلفه فردوس بنت النحاسة.. تسده بظهرها حماية وضمانا لنصاعة الرؤية لترى كل واحدة نفسها وهى ترتدى حمالة صدر .. ساتان أسو ودانتيللا، وأنا واقفة فى حراسة سهير بنت الصهبانة وسعاد بنت الفكهانى..نماذج فذة من عصابة بنات شارع المناخ فى العباسية، كما كنا نلقبهن.

أضم صدرى الى جسدى وأستعجلهم من آن لآخر أن يردوه لى خشية أن تدخل المشرفة أو حتى الفراشة أو أى بشر فجأة..
بدا المشهد احتفالية ببداية كيمياء تتشكل فى أجساد نحيلة بأنوثة كامنة لبنات الفصل وكنت أخشى أن أرتدى بقية ثيابى وأعود إلى بيتنا بلا حمالة صدر لتنصب جدتى محكمتها القاسية..
تدخلت عوامل الصدفة بغياب عدد كبير من المدرسين والمدرسات لذهابهم وتادية واجب العزاء فى والدة الناظرة. بدا ذلك ـ لصالح بنات الفصل ورغبة كل واحدة فى أن ترى نفسها بنفسها وهى ترتدى "حمالة صدر" ساتان سوداء وتتحرك أمام البنات وتمعن النظر إلى نفسها فى زجاج النافذة المدعوم بظهر واحدة من الطالبات.
لم تكن فتحتا الحمالة تمتلىء بأثداء البنات تماما.. كن نحيلات بشكل مبالغ فيه وكأنه قدر حىّ بكامله أن تكون بناته نحيلات وبلا أثداء ،حتى "إيفيت" بنت عم صبحى وأم جيهان جيراننا الأقباط والتى كان لها جسد ممتلىء نسبيا.

كنت أشعر بعبء امتلاء الحمالة بثديىّ على نحول جسدى وبوادر شىء تحاصرنى من أجله عيون شباب الحى وأنا أخفيه باحتضان حقيبة المدرسة، وكأنه عيب خلقى..
طفر بداخلى سؤال عن اهمية تلك القطعتين من الجسد لتهيأ لهما حمالات .. كنت أربط شعرى بشريطة بيضاء مثل نيللى وأقصر الجيب الترجال الكحلى وأشمر القميص وأفتح زرارين لابتعاث قدر من الهواء ثم تزجرنى أمى فأغلقهما لأرتاح من "زنها".
كان النموذج والمثال للبنات "سعاد حسنى" فى الست الناظرة وماجدة فى "المراهقات" ونيللى فى بيت الطالبات مع اختلاف المستوى الاجتماعى..
كنت اسمع بأذنىّ بنات المدرسة وهن يتبادلن الحكاية السرية والسحرية..
ـ مفيهاش غير صدر..
ـ بنت الكلب..هى الوحيدة اللى لابسة "سوتيان"..
ـ احنا كمان قلعناهولها ولبسناه واحدة واحدة...
فى نهاية اليوم ألقوا لى بـ "السوتيان" وقد بدا مثل عظمة كلب نهشها ألف كلب.. ألقوها لى مشيعة من عيونهم بنظرات الحسد والحسرة.. سرعان ما جريت بها على التواليت فى نهاية المدرسة وخرجت أنظر يمينا ويسارا.. أخشى من مؤامرات أخرى.
كانت المدرسة بالنسبة لى مؤامرة كبيرة على روحى وعقلى.. كل المعارف التى يسكبها المدرسون والمدرسات فى رأسى أعرفها من كتب مكتبة عم حسان جارنا.. باستثناء الجبر والرياضيات وهى معارف سقيمة لا أشعر بأى رغبة فى فهمها..
فى البيت حكيت لعمتى "منصورة" كانت تعيش معنا.. بعد أن تزوج عليها زوجها فكرهته وطلبت الطلاق.. تحاصرها عيون أمى أنها هى التى ستتسبب فى إفسادى ربما تقصد إنضاجى قبل الأوان.

فى ذلك الوقت كان عمى حسان جارنا وتاجر الكتب بالجملة. يورد لتجار الكتب على سور الأزبكية ينزح من ركام الكتب التى تنزلها سيارة نقل أمام الباب ويصعد بها مع عماله الى شقته. كنت أقف مثل قطة على باب جزار تنتظر قطعة اللحم التى يلقيها أحد صبيانه. أنتظر أن يسقط أحد الكتب من العمال أو أدخل لإحدى بنات عم حسان لأنتقى كتابا فى مقابل أن ترى كل واحدة صدرها فى حمالة صدرى.
لفت "الحمالة" على بنات المدرسة وبنات العمارة والحى وكل بنات العائلة.. حمالة صدر سوداء من الساتان الأسود،موشاه بآجور ودانتيللا رفيعة. كانت حلما لبنات شارع المناخ فى ذلك السن..
.. صوت عجل التروللى الذى يسرع بى فى اتجاه الغرفة يقلب الوعى بالحياة.. أننى افيق شيئا فشيئا من موت صغير.. وصوت الممرض لأختى منال يؤكد أن فى الغد أصعد للطابق الخامس وتأخذنى غياهب اخرى لا أفيق إلا على صوت شوقية وسهام بيومى وأخى مجدى..



#نعمات_البحيرى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من يوميات امراة مشعة-بيان أخير ضد الموت-
- من يوميات امراة مشعة


المزيد.....




- “شاهد الحقيقة كامله hd”موعد عرض مسلسل المتوحش الحلقة 32 مترج ...
- -سترة العترة-.. مصادر إعلامية تكشف أسباب إنهاء دور الفنانة ا ...
- قصيدة (مصاصين الدم)الاهداء الى الشعب الفلسطينى .الشاعر مدحت ...
- هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟
- إلغاء حفل النجمة الروسية -السوبرانو- آنا نيتريبكو بسبب -مؤتم ...
- الغاوون.قصيدة مهداة الى الشعب الفلسطينى بعنوان (مصاصين الدم) ...
- حضور وازن للتراث الموسيقي الإفريقي والعربي في مهرجان -كناوة- ...
- رواية -سماء القدس السابعة-.. المكان بوصفه حكايات متوالدة بلا ...
- فنانون إسرائيليون يرفضون جنون القتل في غزة
- “شاهد قبل أي حد أهم الأحداث المثيرة” من مسلسل طائر الرفراف ا ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - نعمات البحيرى - من يوميات امراة ..الطابق الخامس