أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمات البحيرى - من يوميات امراة مشعة















المزيد.....

من يوميات امراة مشعة


نعمات البحيرى

الحوار المتمدن-العدد: 1498 - 2006 / 3 / 23 - 09:37
المحور: الادب والفن
    


تدخل فنى.......


بدت هالة منزعجة لما تدركه من نظرات الجراح الذى راح يفتش فى ملامحهما هى وسهام عن جملة مناسبة يفصح بها عن حقيقة الموقف بأدنى خسارة.. هكذا رأيت وأدركت ببوصلتى الصادقة الصدوق ناحية الأشياء والمواقف والبشر.. تذكرت قول لـ "برنارد شو" عن الجراحين أنهم "جزار ون مهذبون"..
أخذته هالة وتلتها سهام على جانب.. وسرى فى نفسى نزوع غريب مثل صقر يحافظ على حقه فى الطيران ولو للدقائق الأخيرة من عمره.

تدخلت تدخلا صارما وانقضضت على الجراح لأسأله بعد أن أفصحت له أننى امرأة مؤمنة وأؤمن جيدا بالقدر فضلا عن أننى أكتب دراما وأفهم جيدا دراما الحياة..

قال الطبيب الذى يتحدث بشروط السوق ولغته السائدة:
ـ م الآخر ؟..
ـ أيوة م الآخر ..
نظر طويلا ثم قال كل شىء.
أراد أن يخفف المسألة فأخبرنى أنه سوف يضخم من حجمها ليحمس المسئولين فى عملى على الاسراع فى تقديم التسهيلات لإجراء الفحوص و التحاليل اللازمة.. أعرف انه لم يضخم من الكارثة وأن حجمها الكامن يفصح عن نفسه.. وأن ما كتبه على الورق هو الحقيقة غير زائدة..

خفضت كل من هالة وسهام رأسيهما وصمتتا ثم قلت لهما
ـ هيا نبدأ الرحلة الصعبة.. لست قلقة ولا خائفة..إلا أن ذلك لم يكن صحيحا على الاطلاق ..

كتب الطبيب قائمة طويلة استوعبت ورقتين من دفتره الهزيل ..تحاليل وآشعات كان لابد أن تمر أولا بدرجات متفاوتة من بيروقراطية الجهاز الادارى الذى التصق مثل المرض بكل المستشفيات والمؤسسات العلاجية ..
المستشفى صرح عظيم يذكرك بالمولات الكبيرة التى انتشرت هذه الأيام.. متاهة كبيرة تشبه بيت جحا لكن بشروط العصر، الأبنية أشبه بتصميمات المركبات الفضائية. كنت أتنقل فى دروبها وطرقاتها التى تشبه المتاهة وتساندنى هالة البدرى و سهام بيومى، لجمع كم هائل من التوقيعات على استمارات التحاليل والآشعات قبل بداية الرحلة الصعبة.

ثم بدأت الرحلة ربما الأصعب من الجراحة ذاتها بتحليل الدم بكل أنواعه وتحليل وظائف كلى وكبد وآشعات على الصدر والبطن والحوض والعظام خشية أن يكون المرض قد أرسل بعض رسائله الحميمه هنا أو هناك. كذلك رسم القلب وموجات صوتية وفوق صوتية ومسح زرى على العظام وآشعة الرنين المغناطيسى على الجسد كله ..
بدوت لنفسى أمام هذه الترسانة المسلحة من الفحوصات والتحاليل والآشعات أننى فى حالة تأهيل جسدى ونفسى لامتطاء مركبة فضائية حقا..
بعض الآشعات أشبه بآلات التعذيب فى معسكرات النازية، يدرك المريض أنها فقط من أجل تدمير جهازه السمعى والعصبى وربما المناعى. كنت أدرك على نحو وآخر أن ثمة قوى غبية ترغب فى تدمير كائن رقيق.. مرهف الحس.. موهوب حتى أظافره.. ليس هذا عالم الموهوبين..

ومع مرارة الرحلة التى بدت أيضا مثل مسيرة متهم أخذوه "كعب دائر".. لفوا به على جهات أمنية عديدة للتأكد من أنه ليس مطلوبا على ذمة قضايا أخرى. كان لابد من التأكد من براءة بقية أعضاء جسمى من نفس المرض أو أمراض أخرى.

فى حجرة واسعة باردة للغاية، بدا انتظار الدور المقدس الذى سيحسم البراءة من الإدانة أحد الضروريات التى أرست قواعدها المستشفى الضخم. فليس هناك فروقا طبقية أو اجتماعية أو ثقافية بين المرضى. هذا ما يبدو على السطح ..يحدد الدور بأسبقية الحضور ولا يمكن تجاوز المسألة تحت وهم الاحساس بأننى كاتبة أو أننى أعد سلفا من النخبة، ومن يجزم أنه حتى داخل النخبة والصفوة ليس هناك طبقية. كما أن ديمقراطية المرض وهم كبير. المرض نفسه ينحاز للأغنياء فيعاديهم ويتحاشاهم ويتجنبهم.

تعاملت هالة البدرى مع المسألة بإنسانية شديدة وأنا مستلقية على مقعدين بين نوم ويقظة، غائمة الرؤية فى قاعة الانتظار، والتليفزيون حليف متواطىء مع كل أشكال القرف. تنبهت إلى وجه جميل يشبه على نحو ما وجه أمى التى أخفيت عنها المسألة برمتها، خشية من فزع لا تستطيع إزاءه إلا الانهيار، يدعمه ما ترسب فى الوعى الشعبى عن هذا المرض تحديدا. مازال هناك من يدعوه بالخبيث وهناك من يقول "المرض الوحش"، أو "اللى ما يتسماش" وكأن مجرد ذكر اسمه يستعدى حتما شراسته.

كانت المرأة ترافق ابنتها الجميلة بنت السابعة عشرة والتى داهمتها سيارة ونتج عنها كيس ماء فوق الظهر.. أتت لعمل آشعة الرنين المغناطيسى. الأم فلاحة مصرية تشم فى ثيابها رائحة طين الأرض، وعشة الدجاج وبقايا ماجور العجين.
جاءت تشكو لهالة بصوت متهدج..
ـ تصورى يا بنتى الشاى بجنيه .. الله لا يكسبهم ولا يربحهم..
منحت هالة المرأة جنيهين....
تمنعت المرأة لكنها سرعان ما ذابت فى حنان هالة ..
سألتنى وأنا ما زلت أستجدى قدرا من الراحة على مقعدين متلاصقين..وكنا من طلعة النهار نمر على الاقسام ندمغ الأوراق ونأخذ أسعار كل تحليل أو آشعة لتضمن المستشفى أن ثمة غطاء ماديا لكل هذا.
ـ تشربى شاى
ـ يا ريت..
منحت هالة المرأة جنيهين آخريين ..
ـ واحنا كمان ح نشرب معاكوا..
بلعت المرأة ريقها ونظرت إلىّ بحنان بالغ وقالت..
ـ.. انشاء الله ربنا ح يجيبها سليمة.

لا أدرى ما الذى جعلنى أتشبث بكلمات ونظرات المرأة ..سارت خطوات وغابت قليلا وجاءت ترثى لعاملة البوفية الباكية والرهيفة مثل قلب الخسة والتى خصم لها صاحب البوفيه ثلاثين جنيها بدوا عجزا فى نهاية اليوم....

ـ يا حبة عين أمها .. بت زى البدر .. اللى يدوهولها باليمين ياخدوه بالشمال..
حاولت أن تعيد النقود كلها لهالة إلا إن هالة امتنعت.. فجاءت لى بالجنيهات الأربعة فى يدها.. طمأنتها عيناى اللتان تتسولا ابتسامة أمى الغائبة الحاضرة فى عيون وصوت هذه المرأة.

مللت الانتظار وعيونى ـ كلما راحت أو أتت ـ ترتطم بمريض فى أقصى حالات نفس المرض أو أدناه، وبين الإثنين مساحات متراوحة من الألم والهزيمة. شعرت بكثير من الزهق والضجر فأخبرت هالة بأننى سأحضر شيئا من السيارة.

نزلت وسرت فى ردهات مركز الأورام متجاهلة أننى أنا "نعمات البحيرى" بلحمها ودمها، زاعمة لنفسى أننى شخص آخر محايد تماما. يرى الأطفال المرضى بوجوههم "المحمرة احمرارا مصفرا " ورؤوسهم الخالية من الشعر نتيجة علاج الكيماوى والاشعاعى الذى يحقن به مرضى السرطان لقتل المرض. كنت أراهم مثل شخصيات قادمة من عالم آخر. حتى الممرضات جامدات الوجوه قصيرات نحيلات صغيرات الحجم بنظرات مصمتة. بدون لى مثل أورام صغيرة تسير على الأرض..
كنت أرغب فى تجاوز كل أشكال المرض فى زوايا وأركان المركز. على الأرض والمقاعد وفى الحدائق التى انتشرت فى شكل جمالى حول المركز.بدا الأسفلت ينزل ويصعد وينحدر ويطول ويقصر وساقاى على الأرض شديدتى النحول..

فى الصباح كنت قد ركنت سيارتى الصغيرة "فلة"فى "باركينج" المستشفى.. أسميتها "فلة بنت خوخة اللى جت بعد دوخة" وأنا أنحت فى صخر عنيد لتحسين شروط الحياة والحركة داخل هذا الواقع الخبيث بنفس خبث المرض، أحاول أن أمتص خبرة الألم من عيون المرضى وذويهم وأطياف الخوف والفزع، رافضة تسول الشفقة والتعاطف. تلك التى تصلنى كمشاعر من بلاستيك لا حرارة فيها، يمارسها الناس على بعضهم فى مثل هذه المواقف مثل جمل اعتراضية، تقال على مضض ثم يواصلون الحياة البليدة الجافة والتى أراها مثل حبات رماد، تفركها بأصابعك لتطير على أول سلالم الألم...
فتحت السيارة وجلست قليلا إلى "فلة" وقبلت التابلوه وحضنت عجلة القيادة وقلت لها..
ـ خلى بالك منى يا فلة..
كان لسان حالها الصامت الصارخ..يقول
ـ ولا يهمك .. حنعدى منها ياما عدينا أزمات مع بعض..
وكان لسان حالى يهمس لها بأننى لست امرأة "قطعة لحم" لأعيد انتاج الغضب على أنوثة منقوصة لحساب واقع غبى وشرس لم يغفر لى أننى امرأة موهوبة حتى النخاع.

جاءت شوقية الكردى وصديقتها السورية أمل وجلسنا على النجيل نتحدث فى السياسة والفن والأدب وضحكات شوقية تملأ سماء المستشفى.
ـ والله ح تبقى كويس يا جميل..
ابتسامات شوقية وكلماتها تحرك فى نفسى بقايا أمل. غير أمل صاحبتها التى بدت بيضاء ونحيلة ونظراتها محشوة بانكسارات ومكسرات عمرها وأحلامها..
كيس الجوافة الذى اشترته سهام بيومى أمس.نسيته فى السيارة . منحت البنت وأمها شيئا منه... وجهها الجميل وعيناها الصافيتان رسما فى الأفق مرة أخرى وجه أمى التى أشعر تجاهها بالذنب لأنها لم ترنى للآن ولم تعرف ماذا ألم بى..
بدا المنتظرون جميعا على اختلاف شكل وحجم ونوع الورم وذويهم يتابعون جهاز التليفزيون الذى بدا مثل آلة تخدير تسرق العيون والعقول والوقت والتركيز على الألم والمرض وتمنح الصبر والخدر وطول البال ..

بالصدفة المحضة كان اليوم الخامس من أكتوبر والتليفزيون يبث أفلاما وبرامج تتحدث عن النصر المبين ووجوه المسئولين يراوغون الألم والأمل فى عيون المرضى وذويهم..
قلت لهالة البدرى..
ـ بحب مسئولين الحكومة.. دمهم زى الشربات ..حينما يطالعون الناس فى مثل هذه المناسبات بوجوه ذات ملامح حادة وعيون شاحبة يتحدثون عن النصر والأمل بأصوات جهورة.. أو عن أمجاد غابرة ويوهمون الناس بأنها مازالت قائمة..
ابتسمت هالة وقالت ..
ـ انت مجرمة..
ابتسمت ومددت ساقىّ أريحهما من تعب اليوم واللف على أقسام إبراء ذمة الجسد..أقسام التحاليل والآشعات..
فجأة وبدون مقدمات سألتنى هالة..
ـ أخبار سليم إيه
ـ ولا اعرف اى اخبر من 18سنة..
ـ معقولة..
ـ ويعنى ايه المعقول فى كل اللى بيحصل .
ـ انت لسة بتحبيه.. بدليل عمرى ماسمعتك بتتكلمى عنه بشكل سىء..
ـ مش مسألة حب.. لكنه شئت أم أبيت هو جزء من تاريخى..
صمتت هالة فى أعقاب مناداة الممرضة على أحد الأسماء وتحرك صاحب الاسم على كرسى متحرك متوجها ناحية غرفة الرنين..
عدد شكات إبر التحاليل ووجوه البنات الممرضات ورجال الأمن الجالسين ينظمون دخول المرضى حفرت فى مخيلتى حفرا.. حتى وجه فتاة رسم القلب غير المحجبة وأنا أسألها ..
ـ انت مسيحية..؟
ـ لأ..
ـ أمال موش محجبة ليه زى الباقى..
ابتسمت ولم ترد.. ربما خشيت أن أكون "بأتكلم فى السياسة.."
سألتها وهى تدهن منطقة الصدر والقلب بمادة تشبه "الجيل" ثم تثبت دوائر معدنية صغيرة موصولة بأسلاك تمتد إلى جهاز تجاهلته تماما ثم تضع السلاسل والمقابض على يدى وساقى..
ـ وحياتك تشوفى قلبى سعة كام راجل..
قالت هالة وهى تضحك...
ـ ولا راجل..انت ست شريرة..
قالت الممرضة وهى تكتم ضحكاتها ..
ـ لو سمحتى ..اسكتى عشان الجهاز اشتغل..

كنت قد اكتشفت مبكرا أن قلوب النساء ليست حكرا مباحا للرجال لكن حب الحياة والكتابة أجمل كثيرا مما جعلنى أثق فى تحققى كانسانة وككاتبة.

كنت أخشى أن يدخل حياتى رجل تدهشنى معه البدايات البراقة والأغنيات والأحلام والأوهام كما حدث من قبل، ثم أكتشف عند أول محك أنه جامد أو ضعيف أو خامل أو "سى السيد" مثل أبى فأتبخر من حياته مثل بخار الماء أو دخان سيجارته.
تمردت عمتى تمردا صغيرا ظلت أمى تشيد به طيلة حياتها ، ظلت تنجب الذكور حتى وصلوا عشرة من أجل أن تنجب بنتا واحدا. ولما ملأت رئتها بالهواء حين جاءت البنت قررت أن "تخاويها" بأخرى فجاءها ذكر لتكملهم فريق .. بمقدورها الآن أن تلاعب بهم الأهلى أو الزمالك..

جنبتنى آشعتى التى تخترق عقول البشر وتعريهم مغبة الدخول فى تجارب عديدة تستهلك طاقتى الانسانية والابداعية وطاقة العمل والأمل بشكل عام وتحولنى إلى امرأة "مخرمة" من كل جانب مثل منخل..هشمتها التجارب القاسية بحثا عن وهم إسمه الحب..

انتهت الممرضة من عمل رسم القلب، ووضعته فى ظرف من الورق المقوى الشاحب وأعطته لهالة..أخذته منها وفتحته ونظرت فيه.. مجرد منحنيات صاعدة وهابطة لا تفصح عن شىء ..لكنه يعنى الكثير لأهل الخبرة. كما يعنى حقا أنه مازال لدىّ أسباب كثيرة للحياة ...


من يوميات امرأة مشعة"
بيان أخير ضد الموت.......



المشهد في تفاصيله يشي بأن أنوثة هذا الوطن مستهدفة مثلها كما الذكورة.. صرنا نسير على الأرض قنابل موقوتة لا تدرى أى نفس متى تنفجر ومن ينجو ستكون الصدفة وحدها صاحبة الفضل الأعظم. ربما كانت فاجعتى فى قطعة حيوية من جسدى هى التى هيأت لى شيئا من الخرافة..
عدد كبير من النساء بثدى واحد يطمحون فى المحافظة عليه. عفوا نون النسوة لا مجال لها فى واقع مأساوى نعيشه نحن نساء الثدى الواحد.
لذا نأتى فرادى وجماعات للحصول على حصتنا من العلاج الإشعاعى لنخرج للشوارع نساء مشعات تعرضن من قبل للعلاج الكيماوى الذى هو أبشع من السرطان ذاته..
فى اليوم السابق للجلسة يجرى لكل واحدة تحليلا. يرغبون فى التحقق من جدية الجسم على دخول معركته مع الكيماوي بعد أن دخلها مذعنا مع المرض ثم الجراحة..
كلنا قادمات وطامحات فى أن تثبت أجسادنا قدرتها على مواصلة الدفاع عن آخر رمق فى الحياة، بعد أن صرنا نساء بائسات منقوصات الأنوثة وكل واحدة فقدت تاريخ صلاحيتها للغواية بمعايير الأمهات والجدات والفلكلور الشعبى، جميعهم لا يرون المرأة إلا حاملة لفيروس "الغواية"..
حين تتم براءة الجسم من أى تخاذل ترتفع زجاجات بلاستيكية لأنواع الكيمو ثربى ..محاليل بيضاء بنفس بياض الأسرّة وعيون الممرضات النحيفات. أختار سريرى إلى جوار النافذة. يحدد لكل واحدة منا مقدار الجرعة وعلاج لتنشيط الكبد باعتباره العضو المنوط بالتصدى..خط الدفاع الأخير.. وجهاز الأمن القومى للجسم. كلمات صديقى المثقف فى التليفون تفعل فعلها فى استنفار أدواتى للمقاومة.
احدى الممرضات بدينة وقبيحة الوجه تتعامل معنا بعنف شديد. ترانا مجرد ركام من اللحم المعطوب والجهد المبذول لإصلاحه غير جاد بالمرة.. فالمكان أشبه بمختبر لإجراء التجارب على عدد من إناث الفئران.. عرفت هذا من زوج صديقتي التي ماتت بنفس المرض.. الطبيب مثل الممرضة لا يكلف نفسه عناء الابتسام فى وجوهنا، فقررنا تبادل الابتسامات والضحكات كنوع من تبادل الأكاذيب اليومبة..صرنا أحوج البشر لمثل هذا النوع من الكذب.. صار بيننا تعارف وصداقة اللحظة الاضطرارية. كل منا تدرك أنها منوطة بذلك منذ لحظة دخولها العنبر.
بعد أن تعلق الممرضة لكل واحدة زجاجة الكيماوى على "ستاند" المحاليل المعدنى بطريقة عصبية وربما بقرف نتبادل النظر وتقول "العريشية" الشابة "حكم القوى" ...
أشفق على شبابها الغض بعد أن بتروا ثديها.. أحدث نفسي أننى أحببت وتزوجت ورأيت حلو الدنيا ومرها فما بال هذه التي تطالب بأن تغلق أستار الدنيا على قلبها وجسدها المشوه بأنوثة منقوصة...

بدت كل واحدة تنظر إلى الأخرى وطاقم "السنيدة" من الأهل أو الأصدقاء إلى جوارها. وجدت نفسي وحيدة وضحكت فى نفسى وكأننى فوجئت ..هذا العادى عبر رحلة عمر شاقة وجميلة.. وحيدة دون طاقم "سنيدة".. ليت أخى عاطف إلى جواري الآن، ربما أنساني مرارة اللحظة. المرارة متمددة في حلقي مثل جثة كلب أجرب مات لأتفه الأسباب. ربما لأنه لم يعرف لماذا يلاحقه الجرب والبؤس..
حدثت أخى على الموبايل ولم يرد .. ثم وجدتنى "أرن" على أسماء كثيرة..كنت أرغب فى سماع أى صوت بشرى لأى من أصدقائى أو معارفى.
على الموبايل تعلل أخى عن عدم حضوره بيقينه الزائد بوجود إحدى صديقاتي معي، لا يعلم أنها تركتنى فى أول منعطف من أجل موعد مع إحدى جماعات التمويل الأجنبى.. أكد أنه سيأتي فطالني إحساس مراوغ بصدقه. جلست "أفر" الجرايد صفحة خلف الأخرى ولا شيىء يغرى بالقراءة أو الاهتمام . أكاذيب في أكاذيب ولا أحد تغريه لحظة صدق واحدة. أعتي الجرائد هى نفسها تتعامل مع صحفييها بفاشيستية. صديقاتي وأصدقائي الذين يعملون بها تنحى أعمالهم جانبا أمام أهواء أصغر مستثمر يدفع ثمن صفحة كاملة لإعلان عن سلعة تافهة.

المرأة التي في السرير المجاور تئن أنات حزن غريبة.. أزحت برفق الستارة التي تفصلنا وواسيتها بجرأة المتحدث من منطقة الترف الآمنة. على الرغم من أن لا ترف ولا أمان أرزح فيه كما يظن الجميع إلا أنها المكابرة على المرض فى محاولة للإستعلاء عليه اتقاء لهزيمة لحقت الكثيرين قبلى.
منذ تكشف لي الأمر قررت أن ألا أيأس تماما وليحدث ما يحدث وسوف أعيش لآخر لحظة يمكننى فيها ذلك. ربما هي أيضا جرأة اليائس والبائس والمتعوس وخائب الرجاء، تحديدا لست أدرى أيهم أنا..
كل النساء في العنبر مثلى.. جالسات أو راقدات على أسرّة بيضاء بياض موجع والعيون تستجدى لحظة هدوء، وطفلة إحدى السنيدات قبيحة قبحا لا يليق بطفلة تملأ المكان ضجيجا بصخب مائع، له نفس ميوعة الطبيعة التى تنحاز للأغنياء والأقوياء على حساب الفقراء والضعفاء والأنقياء.

المشهد فى إجماله يذكرك بألف ليلة وليلة وعفريت المصباح الذي استرخى لزمن طويل في المصباح وعرائس البحر الجميلات على الشاطىء تجدل الوخم جدائل يمسدن بها وجه البحر. واقعنا الأليم فاق كل خيال..

نحن جميعا عرائس بثدى واحد. بعد الجلسة ستخرجه كل واحدة وتنفخ فيه من آلامها ثم تحوله لثعبان ونجرى فرادى وجماعات فى مظاهرة من النساء المشعات في اتجاه بيت أو فيللا أو قصر السيد المسئول الذي ملأ جيوبه وخزائنه بترف عمولات أجنبية كثيرة ليملأ المدينة بنباتات خضروات وفاكهة مسرطنة وهواء مسموم وماء فاسد ورجال بائسين بأفكار فاسدة ساهموا في قهرنا.. تسببت نفس الأطعمة ونفس الهواء ونفس الماء في اخصاء الرجال فى مقابل إزجاء عصبيتهم وعنتريتهم الفارغة..
لم تغف عيني لكنها حقيقة واضحة كنا نجرى نحن النساء المشعات إلى بيت أو فيللا أو قصر السيد المسئول وهناك وجدناه. تحايلنا على رجال أمنه وأمانه الواقفين يحمونه بكل ما خف وثقل من سلاح ودخلنا إليه.

كانت كل واحدة قد حولت ثديها "الباقى" إلى ثعبان ولفته على رقبته وراحت تعتصر روحه وممتلكاته ومقتنيات قصره واسمه ولقبه ويومه وغده.

في آخر اليوم حين رأينا روحه وقد أزهقت تماما وممتلكاته وقد تبددت وقصره وقد تداعى ومقتنياته وقد تناثرت أشلاء رحنا نجرى نحن النساء المشعات فى مظاهرة كبيرة تملأ شوارع المدينة لنرى أنفسنا فى مرايا كثيرة وزجاج فاترينات المحلات نساء غير بائسات.



#نعمات_البحيرى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمات البحيرى - من يوميات امراة مشعة