|
القرود لا تحب الموز
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6038 - 2018 / 10 / 29 - 13:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد أثبتت سياسة الترغيب والترهيب فشلها الذريع في التخلص من إنتشار "العنف" والقتل والإعتداء على الآخر في كل المجتمعات بدون استثناء، ومع ذلك يظل "العقاب" هو حجر الأساس للمنظومة الأخلاقية وللهيكل القضائي ولتطبيق مفهوم العدالة. السجون المتعددة والعقوبات الطويلة الأمد وعقوبات الإعدام ما زالت هي الحل الوحيد الذي يلجأ إليه المجتمع للتخلص من الجريمة. وذلك لعدم وجود حل آخر كما يقولون، وأيضا لانتشار الفكرة الساذجة بأن الإنسان هو مجرد"عجينة" يمكن تشكيلها كما نشاء، ويمكن تهذيبه وتوجيههه وتقويمه وتكوينه كما نرغب، باستعمال وسائل طفولية يسمونها الترغيب والترهيب. وخير ما يمثل انتشار هذه الفكرة الخاطئة عن الإنسان "العجينة" هو تجربة "القرود الخمسة" والتي انتشرت في الفترة الأخيرة بدرجة كبيرة على الصفحات الإلكترونية بجميع لغات الدنيا، ولكن أيضا في العديد من الكتب والمقالات والمحاضرات والمنشورات العلمية المهتمة بالسلوك والتربية. في سنة 2011 كتب السيد ميكائل ميكالكو Michael Michalko موضوعا في مدونته بعنوان "ماذا يمكن أن تعلمنا القرود عن سلوك الإنسان" "What Monkeys Can Teach Us About Human Behavior" وذكر تجربة قام بها مجموعة من علماء النفس المتخصصين في دراسة سلوك القرود منذ عدة سنوات. التجربة تتلخص في وضع خمسة قرود في قفص كبير ووضع سلم في أحد جوانب القفص معلقا في أعلاه موزة. ولم يمض وقت طويل حتى لاحظ أحد القردة الموزة تتأرجح في أعلى السلم، فأسرع وأرتقى الدرجات القليلة وقبل أن يمد يده ليمسك بها، أنهال عليه وعلى بقية القرود رشاش من الماء المثلج أعده العلماء خصيصا لهذا الغرض، فنزل القرد بسرعة حتى توقف الرش بالماء البارد. وبعد عدة محاولات من قرد آخر أو إثنين وعملية الرش بالماء البارد لكل القرود كلما حاولوا صعود السلم، لاحظ العلماء القائمين بالتجربة أن القرود أصبحت تمنع أي واحد منهم يحاول الإقتراب من السلم خوفا من الماء المثلج. وفي اليوم التالي قام المجربون بإخراج أحد القرود الخمسة من القفص وأدخلوا مكانه قردا آخر لا علم له بالتجربة ولا بما حدث في اليوم السابق. وبعد فترة وجيزة لا حظ بدوره الموزة المعلقة في أعلى السقف، فلم يتردد في الإتجاه إلى السلم، غير أنه قبل أن يضع قدمه الأولى أحاطت به بقية القرود وانهالت عليه بالضرب والصراخ ومنعته من محاولة الوصول إلى الموزة. وفي اليوم الثالث قام المجربون بإخراج قرد آخر من المجموعة الأولى واستبدلوه بقرد جديد. وما أن حاول بدوره أن يقترب من السلم للحصول على الموزة حتى أحاط به بقية القرود ومنعوه من الوصول إلى الموزة بما فيهم القرد الجديد الأول الذي لا يعرف حتى الآن لماذا منعهوه بالأمس من الوصول إلى الموزة. وتكررت التجربة حتى تم استبدال القرود الخمسة الأصلية بقرود جديدة والتي لم ترش بالماء البارد مطلقا ولكنها تمتنع، وتمنع أي قرد جديد بمحاولة الوصول إلى الموزة المحرمة. ويستنتج السيد ميكالكو في نهايه مقاله بأن الناس أيضا يتصرفون بهذه الطريقة ولا يتسائلون عن الأسباب ولا الدوافع طالما "كانت الأمور دائما هكذا" أو "هذا ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا". وبطبيعة الحال يمكن تخيل بقية القصة، فبعد العقاب الأول بالماء المثلج لمن يحاول الوصول إلى الموزة، جاء العقاب الثاني المكون من الضرب والصراخ والمنع الجسدي من مجتمع القرود الذين جربوا عقاب الماء البارد لمنع القرود الجديدة من المحاولة، وقد نصل فيما بعد إلى مرحلة قتل القرد المصر على أكل الموز، وبذلك يمكن تخيل مجتمعا من القرود يعيش في غابة من أشجار الموز ويموتون جوعا لأنه محرم عليهم أكل ثمار هذه الشجرة. القصة تبدو مثيرة ومحتملة بل العديد يعتقد بمصداقيتها، ولكن الحقيقة أن هذه التجربة لم تحدث مطلقا وإنما خرجت مباشرة من مخيلة الكاتب، وسبب نجاحها وانتشارها يعود الى الاعتقاد القديم بأن الإنسان حيوان يمكن ترويضه مثل القرد أو أي حيوان آخر، وهي الفكرة التي توجه أغلب فلسفات ومناهج "التربية"، رغم أنه في الواقع، القرد ذاته لن يتصرف بالطريقة المذكورة في التجربة. وهذا لا يعني أن الإنسان لايغير سلوكه حسب المعطيات الإجتماعيه والظروف الموضوعية وتغيرات المحيط الذي يعيش فيه، وإنما الذي نقوله بأن الإنسان ليس قردا، وذلك لأنه يمتلك جهازا خارقا هو "العقل" له القدرة على التساؤل والبحث والتنقيب عن الأسباب والمبررات وإيجاد الحلول، وأنه الإنسان الفرد هو الذي يختار في نهاية الأمر بين الموزة والماء المثلج، وأن الخوف لن يقنعه إلا مؤقتا بأن "الموزة محرمة".
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسرى
-
حشرجة الهاوية
-
الملائكة الخرساء
-
مطاردة الغربان
-
نيتشة الفنان والفيلسوف
-
الظل المسلول
-
الفن لوجه الله
-
الدكتاتور والمسدس
-
السبابة والقمر
-
المرايا
-
النزيف
-
قطار الرمل
-
عن الصورة الفوتوغرافية
-
عن الفن والصدفة
-
الإستلاب الجمالي
-
الأب والرب، وجهان لنفس الكارثة
-
خذوا الله واعطونا خبزا
-
وغرقت سفينة السيد نوح
-
الحلم المزدوج
-
صامدون في وجه الريح
المزيد.....
-
تحسن طفيف في وول ستريت وتسجيل أرقام قياسية جديدة
-
-حزب الله- يعرض مشاهد من عملية استهداف معسكر جنوب حيفا أسفرت
...
-
الجيش الإسرائيلي يشن سلسلة غارات على مدينة بعلبك ومحيطها شرق
...
-
إيران تحذر.. رد إسرائيل قد يورط واشنطن
-
-الأقصى المبارك-.. جوهر الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال
-
إعلام إسرائيلي: نخوض حرب أدمغة مع حزب الله وقدراتنا الاعتراض
...
-
خبير عسكري: اشتباكات جنوب لبنان التي نشرها جيش الاحتلال -تمث
...
-
رغم المذابح وتفوّق القوة لماذا يشعر الإسرائيلي دائما بالهزيم
...
-
حزب الله ينشر صور عملية -العشاء الأخير- التي استهدفت لواء غو
...
-
مسؤول أميركي سابق يدعو إلى -رد فعل قوي- تجاه الصين
المزيد.....
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
المزيد.....
|