أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نايف سلوم - كراسات السجن-تمهيد على شكل إضافة















المزيد.....



كراسات السجن-تمهيد على شكل إضافة


نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري

(Nayf Saloom)


الحوار المتمدن-العدد: 1513 - 2006 / 4 / 7 - 10:36
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


كراسات أو دفاتر: هذا يذكرنا بـ "الدفاتر الفلسفية" التي كتبها لينين في الأعوام 1915-1916، التي تتضمن من بين ما تتضمن خلاصة "علم المنطق" لهيغل، حيث يلخص لينين "المنطق الكبير" المجلدات III، IV ، V ، إضافة إلى "المنطق الصغير" أو ما اشتهر باسم "موسوعة العلوم الفلسفية" وهو الجلد VI. وهي منشورة كاملة في المجلد 38 من أعمال لينين الكاملة بالإنكليزية. وكان الياس مرقص قد ترجم قسماً من دفاتر لينين إلى العربية في ثلاثة مجلدات وبقي قسم من الدفاتر لم يترجم بعد. وهذا هو مصير كراسات أو دفاتر السجن لغرامشي- التي نعرض لها اليوم- حيث تشمل الترجمة العربية مختارات من كراسات السجن لغرامشي مترجمة عن الإيطالية إلى الإنكليزية. وكان ماركس قد مهد لكتابه رأس المال بجموعة من الدفاتر سميت "الغروندريسّة " أو الأسس ، وهي مجموعة دفاتر كتبها ماركس لنفسه ولم تكن معدة للنشر . إن أسلوب الدفاتر الذي ظهر عند كبار المؤلفين الماركسيين يشير إلى ضخامة المهمة النظرية الملقاة على عاتق الماركسيين ، و يعتمدها المؤلف للتوضيح الذاتي في الموضوعات المبحوثة ، أي هي نوع من التأليف السلبي إذا صح التعبير. فغير الضخامة والتنوع في القضايا، هناك عدم التبويب ، أو هناك فهارس لأجل الاستخدام الشخصي ، وهي مكتوبة على امتداد سنوات عدة . هذا التوصيف ينطبق على كل من دفاتر السجن لغرامشي و دفاتر لينين الفلسفية ودفاتر ماركس الاقتصادية والفلسفية . يقول مترجم ماركس: "الغروندريسّة هي الذروة في نهاية رحلة خاصة طويلة وشاقة على حد تعبير مارتن نيكولاس أحد أبرز دارسي ماركس " فخمس عشرة سنة من البحث الفلسفي والاقتصادي هي خيرة سني حياة ماركس محتواة في صفحات العمل" وهي سلسلة من سبعة دفاتر ، صاغها ماركس كمسودات أولية خلال شتاء 1857- 1858 لأغراض التوضيح الذاتي بالدرجة الأولى .. ولم تنشر إلا في عام 1953 وبنصها الألماني. إضافة إلى دفاتر ماركس لعام 1851 والمتضمنة مقتطفات عن ريكاردو.
يقول المترجم العربي لدفاتر غرامشي في مقدمته: "هذه ترجمة لمختارات من كراسات السجن حررها وترجمها إلى الإنكليزية كينتين هور وجيفري نويل سميث، دار لورانس، و ويشارت لندن 1978". الطبعة العربية لهذه المختارات من منشورات "دار المستقبل العربي" القاهرة 1994.
اعتمدت الترجمة الإنكليزية على طبعة تورين التي نشرها إي نودي لكراسات السجن مع نص أو نصين لغرامشي لم يسبق نشرهما، مع إدخال تعديلات طفيفة على الترتيب في بعض المواضع. وإعداد مدخل لكل قسم من أقسام الكتاب.
بدأ غرامشي العمل "بكراسات السجن" في "فبراير" شباط 1929 وفرغ منها 1935. وتبلغ 33 كراساً (دفتراً). كانت الكراسات استمراراً لنضال غرامشي الثوري، وكانت كما وصفها غرامشي نفسه: "بؤرة حياتي الداخلية" "الكلام لـ غرامشي بالطبع".
توفي غرامشي سنة 1937 على إثر خروجه من السجن. وهو المولود سنة 1891 في جزيرة سردينيا جنوب إيطاليا
مفهوم الثقافة، ومفهوم المثقف العضويّ:

جاء في القاموس المحيط في معنى كلمة "ثَقُف": ثقُف، ثقفاً، ثقافة، صار حاذقاً خفيفاً فطناً. فهو ثِقف كـ حِبر. و الِثقاف ما تسوّى به الرماح .
هكذا تكون الثقافة حصيلة ما تكتسبه الجماعة تاريخياً ، حيث تصقل وتتهذب عاداتها وتقاليدها. ويفهم من كلمة ثقافة كل فعل للتاريخ في تهذيب الجماعة البشرية ، كل فعل للتاريخ في الطبيعة. فهي الثقافة ضد الطبيعة الأولية الخام والخشنة؛ "المتوحشة". المشغول بفعل التاريخ، والمصقول بهذا الفعل هو المثقف. والثقافة هي المتولدة بالخبرة والمكتسبة بالتربية المديدة.
جاء في المورد في معنى كلمة culture: حِراثة، تثقيف، تهذيب، حضارة أو مرحلة معينة من مراحـــل التقدم الحضاري... المستنبت أو نتاج عملية الاستنبات.
الثقافة: هي الحِراثة ، أي هي تهذيب الأرض من الحجارة والأعشاب الضارة، مع إحداث طبقة ترابية جديدة عبر قلب الوضع القائم أو إزالة حضور "الطبقة" السائدة.
إن دفع تعريف الثقافة إلى هذه العوالم الأخيرة المجازية يعني اتصالها بالأيدولوجيا العضوية أو إعادة إنتاجها(الثقافة) تحت هيمنة الإيديولوجيا العضوية، بحيث يشكل النتاج الإيجابي لنقد ثقافة قومية معينة، المحتوى "المادي" لهذه الإيديولوجيا إذا جاز التعبير. فإذا كانت الثقافة هي المسافة بين العلم التاريخي من جهة واحدة، وبين الإيديولوجيا من الجهة الثانية، فهذا يعني أن العلم التاريخي والثقافة و الإيديولوجيا ليست سوى لحظات ثلاث لعملية تاريخية واحدة هي عملية تشكل الإيديولوجيا العضوية كأيديولوجية للطبقة الصاعدة تاريخياً، أو الطبقة التقدمية، بالواجب وليس بالوجود، أي تقدمية بالقوة، وعليها أن تصبح تقدمية بالفعل عبر الوعي والتنظيم . تحيل الإيديولوجيا إلى الإيمان والعقائد ، بينما تحيل الثقافة إلى العادة والتقليد . الإيديولوجيا العضوية في عصرنا هي إيديولوجيا تدعو لتغيير التشكيلة الرأسمالية عبر القضاء على الملكية الخاصة الرأسمالية.
في حال غياب الشروط التاريخية لتشكل أيديولوجية عضوية بفعل تراجع الحركة الشعبية، تتصدع هذه الوحدة وتنفصل اللحظات الثلاث. ويمكن للثقافة في حالة كهذه أن تتشبه بـ الإيديولوجيا العضوية بحيث تطرح نفسها كخصم تاريخي للوضع السائد أو القائم وهذا هو حال الإسلام السياسي في الزمن الراهن في المواجهة المزعومة مع الإمبريالية الرأسمالية .
في الماضي القريب، زمن الحرب الباردة، ونظراً لسيطرة الفكر البيروقراطي السوفييتي، كان هناك استبعاد من قبل الأيديولوجية العضوية للثقافة القومية، بحيث ظهرت هذه الإيديولوجيا وكأنها غنية عن هذه الثقافة وعن جهد مراجعتها نقدياً . الآن وبعد تصدع الثقة بالأيديولوجية البيروقراطية خصوصاً والعضوية عموماً، وبعد الردة السلفية الدينية، راحت الثقافة الدينية السلفية تلعب الدور ذاته، حيث أبعدت بل أزاحت الأيديولوجية العضوية من حركتها في المواجهة المزعومة مع "الغرب" ، أو المواجهة مع التحديث الغربي في عصر انحطاطه. هكذا ظهر الجفاء بين الثقافة القومية من جهة والأيديولوجية العضوية من الجهة الأخرى مرتين. وهذه العملية في وجهيها لن تكون في صالح مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي .
أريد أن أفرق بين التدبّق من جهة بين الارتباط العضوي من الجهة الأخرى. إنه كالفرق بين العين والبصر بعلاقتهما بعضوية الإنسان الفرد. العين متصلة ميكانيكياً وفيزيائياً كالفرد البورجوازيّ عضو الطبقة البورجوازية السائدة ، والبصر غير متصل وغير منفصل عن العضوية الفردية كالمثقف العضوي للطبقة البورجوازية. المثقفون ينفصلون عن الطبقة السائدة لكي يتحدوا بها اتحاداً أوثق، لكي يكوّنوا بنية فوقية حقيقية، لا مجرد عنصر غير عضوي، وغير متمايز من البنية الاقتصادية ، إنها حركة استيعاب الاقتصادي وتجاوزه أو رفعه إلى مستوى السياسي، إلى مستوى المهمة التاريخية للطبقة المعنية.
العضويّة تعني التمايز عن البنية الاقتصادية والارتباط بها من الجهة الثانية . وكلمة عضو organ تعني لسان حال كالجريدة أو المجلة تكون ناطقة بلسان حزب أو جماعة. و organic عضويّ أي جزء لا يتجزأ من كلّ . وكلمة عضو تعني أيضاً تميز العضو في وظيفته داخل الكلية العضوية . إن سمة العضوية تماثل تماماً علاقة الفكر بالدماغ البشري والأعضاء الأخرى ؛ فالعضوية البيولوجية للفرد الإنساني هي في أساس حياة الفكر ، ومع هذا فهي غير متصلة فيزيائياً أي حسياً مع هذه العضوية البيولوجية . العضوية بالمعنى الفلسفي العميق تعني غير المنفصل وغير المتصل. وأنا أستخدم صيغة السلب لكي لا أخلط المعنوي بالفيزيائي.
يأتي استقلال المثقفين العضويين النسبي عن الطبقة التي ينتظمون بها من دور المثقفين الضروري كمنظمين ومربين وعلماء وباحثين ومحققي تجانس الطبقة في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويأتي استقلالهم أيضاً من أن المنظمة التي تربط المثقف بالطبقة هي ذات المنظمة التي تفصله عنها، وتعطيه نوع من الاستقلالية. ( نستعير من القاموس الصوفي: باب وحجاب)
الصفة العضوية للمثقف منوطة بدرجة ارتباط التنظيم الذي ينتمي إليه مع الطبقة التي يمثلها هذا التنظيم، لكن هذه العلاقة العضوية منوطة بأمر آخر وهو المكانة التي يشغلها المثقف في المنظمات الطبقية للمجتمع المدني (منظمات الهيمنة أو المنظمات الاقتصادية / الحرفية) والمجتمع السياسي(أجهزة الدولة)
فمعلم المدرسة أقل عضوية من عضو في حزب النظام . وزعيم هذا الحزب أكثر عضوية في تعبيره عن مصالح طبقته السياسية من عضو طارئ وعادي.
وهكذا ، كلما زاد خضوع التنظيم الذي ينتمي إليه المثقف لطبقة بعينها ، وكلما شغل وظيفة أرفع في هذا التنظيم صار أكثر عضوية كمثقف لهذه الطبقة.
بما يخص استقلال المثقفين النسبي ، يجب التفريق بين الكينونة الطبقية أو ما يسمى بالأصل الاجتماعي للمثقف ، وبين التنظيم الطبقي الذي يشمل الموقع الطبقي والموقف الطبقي والدراسة الطبقية . والدراسة الطبقية تعني استعمال البنية النظرية وأدواتها كمنطلق للبحث وإنتاج المعرفة الجديدة. بالنسبة للمثقف البروليتاريّ تعني، استعمال النظرية الماركسية أو نتائج العلم الماركسي بما يخص دراسة التنظيم الاقتصادي للمجتمع البورجوازيّ ، واستعمال الديالكتيك المادي كمنهج إجمالي وثوري بطبيعته، كعلم جبر الثورة أو رياضياتها العالية ..
تتوسط بين المثقف العضوي والبنية الاقتصادية كل من الطبقة الاجتماعية التي ينتظم فيها المثقف العضوي ، والمنظمة التي ينتمي إليها. والتوسط مقولة أساسية في الماركسية . من هنا مناهضة الماركسية لكل ربط ميكانيكيّ مباشر بين التنظيم الاقتصادي للمجتمع من جهة وبين البنى الفوقية الإيديولوجية والسياسية من الجهة الثانية .
لذلك أقول : إذا كانت دراسة البنية الاقتصادية أو ما يسمى بالتنظيم الاقتصادي للمجتمع يمكن أن تقدم إطاراً عاماً لتحليل مكانة المثقفين ووظيفتهم في المجتمع ، فإن هذا التحليل سيكون مرتبطاً مباشرة بدراسة الطبقات الاجتماعية والمنظمات القائمة في المجتمعين "المدني" والسياسي. أي في تنظيمات الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية وفي تنظيم الإكراه أو الدولة السياسية الحديثة.

تراتب المثقفين:

لدينا أربعة أنماط من المثقفين: 1- الباحث(العالم) ؛ منتج العلم أو منتج معرفة جديدة. 2- المربي؛ المنظر أو الداعية لفكرة بعينها أو لمذهب بعينه ويسميه غرامشي بـ عضو الحزب الأيديولوجي 3- منظم الهيمنة ؛ عضو الحزب السياسي 4- منظم الإكراه؛ أو عضو الدولة بالمعنى الإداري والعسكري. ويوجد نوع خامس من المثقفين الاقتصاديين / الحرفيين وهم التقنيون.
يتوجب التمييز بين التكنوقراطيين ، والتقنيين على أساس تراتب المثقفين في بنية اجتماعية معينة . لقد أصبح التكنوقراطيون يلعبون أدوارا فكرية أكبر من التقنيين في النصف الثاني من القرن العشرين ، وأمام التفوق التراتبيّ في البنية الرأسمالية البورجوازية تم رصد ميل عند التقنيين نحو البلترة (من السمة البروليتاريّة) ، مما أوهم بعض المنظرين إلى اعتبار التقنيين طبقة عاملة جديدة.على سبيل المثال "سيرج ماليه" في كتابه "الطبقة العاملة الجديدة" وأصحاب الياقات الزرق والبيض في بعض تنظيرات هربرت ماركوز الخ..
سيكون للتكنوقراطيين وظيفة فكرية أكثر أهمية من التقنيين . من هنا التقنيون أقرب إلى العمال منهم إلى البورجوازية كميل.
توجد ضرورة رصد التراتب الذي يربط المثقفين من نمط واحد: مثلاً تقوم فوارق في نظام التربية الحديثة ملموسة بين أساتذة الجامعات من جهة وبين المدرسين في المدارس ما قبل الجامعية من جهة أخرى . المدرسون بحكم قربهم من الجماهير الشعبية يمكنهم بسهولة أن ينشدّوا إلى القوى التقدمية في المراحل الثورية أو فترات الأزمة العامة للطبقة المسيطرة. بينما تتعزز الميول الرجعية لدى أساتذة الجامعات بشكل إجمالي . هذا لا ينفي ظهور حالات فردية مفارقة . بالطبع ليس كل من يعمل في المدرسة مثقفا، وليس كل من يعمل في الجامعة مثقفا أيضاً.
في التنظيمين العسكري والإداري وفي الغالبية العظمى من التنظيمات التي تمارس وظيفة الهيمنة أو السيطرة توجد تشكيلة من الأعمال التنفيذية المحضة التي لا تتضمن أية وظيفة تنظيم أو تربية أو بحث، كالجندي البسيط أو الجندي الذي "تطوع" ليعيل أسرته، أو الكويتب في دائرة حكومية الخ.. بينما يلعب كل كادر من كوادر حزب سياسي بعينه دور المثقف التربوي والتنظيمي و الدعاويّ . العامل في حزب سياسي من الطراز اللينينيّ، ليس عاملاً فحسب، بل هو مثقف عضوي للطبقة العاملة لأنه ليس في الحزب ليدافع عن مصلحته النقابية القريبة ، فهناك نقابة لذلك، بل ليدافع عن المصالح السياسية العامة لطبقته وللطبقات المتظلمة الأخرى في المجتمع المعني.
إن استقطاب الطبقة العاملة وامتصاصها لمثقفين من أصول إقطاعية يدل على اندحار تاريخي نهائي للطبقة الإقطاعية وعلى انحطاط مشروع الطبقة البورجوازية بكل أشكالها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. وحتى يلعب هؤلاء دوراً عضوياً ؛ سياسياً ومستقبلياً فعليهم الالتحاق بمواقع الطبقة البروليتارية. وإذ حاول مفكرون في أوربا لعب هذا الدور، والإقطاعية ما يزال دمها حارا، فقد ظهر ما يسمى بالاشتراكية الإقطاعية. جاء في البيان الشيوعي: "وجدت الأرستقراطية الفرنسية نفسها محكوماً عليها ، بحكم وضعها التاريخي ذاته ، بأن تهجو المجتمع البورجوازيّ الحديث . فأمام هذا الوصولي الكريه خسرت مرة أخرى معركتها في ثورة 1830 الفرنسية وفي الحركة الإصلاحية الإنكليزية 1831، وبما أن النضال السياسي الجدي لم يعد، بالنسبة إليها وارداً ، فلم يبق أمامها غير ميدان المعركة الأدبية . وحتى في ميدان الأدب كان إنشاء عهد الردة الملكية قد غدا مستحيلاً . كان على الأرستقراطية ، لكي تحرك مشاعر التعاطف معها ، أن تتخلى ظاهرياً عن مصالحها الخاصة ، وأن تصوغ قرار اتهامها للبورجوازية دفاعاً عن مصالح الطبقة العاملة المستَغلّة فقط. وهكذا وفرت لنفسها لذة إنشاد هجاء سيدها الجديد في أغان مقذعة ، ولذة الهمس في أذنيه بنبوءات مفعمة إلى حد قليل أو كثير بالتشاؤم. وعلى هذا النحو ولدت الاشتراكية الإقطاعية ، نصفاً أغنية حزينة ونصفاً هجاءً ساخراً ، نصفاً صدى الماضي ونصفاً وعيد المستقبل . وإذا كانت أحياناً تصيب بنقدها المر ، الذكي واللاذع للبورجوازية في الصميم ، فقد كانت دائماً تترك تأثيراً مضحكاً لعجزها الكامل عن فهم مسيرة التاريخ الحديث. ولكي يجتذب هؤلاء الأرستقراطيون الشعب إليهم لوحوا بخرج المتسولين البروليتاريين راية لهم ، لكن ما أن مشى الشعب وراءهم حتى لمح شارات الإقطاعية العتيقة مرسومة على مؤخرتهم ، فتولى عنهم وقهقهة السخرية على شفتيه . وقد مثل هذا المشهد المرح فريق من الشرعيين الفرنسيين " كان بلزاك كاتب الملهاة الإنسانية أعظم ممثليه. ولدينا في سوريا اليوم ممثلين كثر من هذه الشاكلة ذات الرسوم العتيقة على مؤخراتهم. وهو ما نلاحظه أيضاً في مصر بعد الحرب العالمية الثانية من تحدّر مثقفي البروليتاريا وبنسبة ملفتة من أصول إقطاعية، وهذا ما يمكن رصد ملامح له في بعض قيادات الحزب الشيوعي السوري التاريخية.
يعارض غرامشي المثقفين الذين تنتجهم البورجوازية الصغيرة الريفية بالمثقفين الذين تنتجهم البورجوازية الصغيرة المدينية. فهؤلاء الأخيرون هم تقنيو الصناعة ، وبصفتهم هذه هم المثقفون العضويون للبورجوازية الصناعية . وهذا التقسيم الريفي والمديني لم يعد قائماً في سوريا بعد سياسة الاستيعاب العامة في التعليم بعد 1970. فقد بات الريف يقدم مثقفين تقنيين (اقتصاديين/حرفيين) بشكل واضح إضافة إلى الأطباء والمحامين والكاتب بالعدل الخ ..
لقد كان مثقفو البورجوازية الصغيرة الريفية ، أي الأطباء والمحامون والكاتبون بالعدل الخ.. يؤلفون في بداية عهد الرأسمالية المثقفين العضويين للمركنتيلية والمعملية (المانيفاتورية) . لكنهم فقدوا مع نهوض الصناعة الحديثة ، أولويتهم ، فناب منابهم التقنيون الممارسون لوظيفة معرفة تطبيقية أو اختصاص علم تطبيقي.
لقد حرصت البورجوازية دائماً إلى دمج مثقفي الريف التقليديين سواء أكانوا وجهاء ريف (أعيان ريف ) أو وجهاء بدو وعشائر أو مثقفين تقليديين كالأطباء والمحامين وذلك بصفة شخصية عبر ضمهم إلى جهاز الدولة الحاكم وعبر منحهم امتيازات قانونية وبيروقراطية ومالية. لا يمكن يمثل المثقفين التقليدين بشكل كانل إلا بعد إنشاء الدولة الجديدة التقدمية . وتعود هذه المسألة عينياً إلى كيفية استعمال الدولة الجديدة لوسائل الإكراه ووسائل الهيمنة لإنجاز هذا التمثل . إن هذا الإلحاق للمثقفين التقليديين يتناسب تناسباً مباشراً مع قوة السمات العضوية لمثقفي الطبقة السائدة وتقدمية هذه الطبقة ويتناسب مع ضعف تنظيم المثقفين التقليديين.
يمثل المثقفون المذكورون والمتحدرون من أصول ريفية مثقفين تقليديين بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا . والتقنيون الذين هم مثقفو البورجوازية العضوييون، فإنهم تقليديون بالميل والنزوع بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا . فما دامت البورجوازية في طور صاعد ، فلا مجال للقول أن مثقفيها العضويين تقليديون بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا . لكنهم يغدون كذلك بمجرد أن تخسر البورجوازية دورها التقدمي وتغدو رجعية في السياسة والأيديولوجيا، لكنها تبقي على تقدمها التقني / الاقتصادي . إن خسارة البورجوازية للتقدمية في حقلي السياسة والفكر تعني خسارتها لأية رؤية مستقبلية واعدة للبشرية بالتالي يغدو مثقفيها عديمي البصيرة لهذا المستقبل ويتحولون إلى مجرد مثقفين اقتصاديين/حرفيين ومهنيين كرجال اقتصاد أو رجال دولة بالتالي يفقد هؤلاء صفة العضويّة وصفة السياسيّة بالمعنى التاريخي والمستقبلي ويمكن أن نطلق عليهم سمة الاعتباطية طالما بقيت البورجوازية حاكمة. بهذا لم تعد البورجوازية قادرة على إعطاء وعد بمستقبل أفضل بعد كمونة باريس وقد ظهرت هذه النزعة التشاؤمية عبر تيارات أدبية وشعرية تسمي نفسها حداثة شعرية وهي حقيقة ما بعد حداثة. تيارات ناكسة نحو العوالم الصوفية القديمة، وتتميز بالعدمية الوجودية والصمت والتهكم تجاه طروحات الحداثة الأوربية فجر صعود الطبقة البورجوازية.
غرامشي يعرف العضويّة بشكل باطني أي بالارتباط مع الطبقة المعنية بذاتها ، ويعود ليعرف العضويّة بالتقابل بين مثقفي طبقة صاعد تاريخياً وأخرى في طور انحطاط لهيمنتها التاريخية ولمشروعها الإنساني المستقبلي.
سوف تعاني البروليتاريا من الانقسام بين بروليتاريا المراكز الرأسمالية وبين بروليتاريا الأطراف الرأسمالية في العصر الإمبريالي ، وبالتالي ستعمل البورجوازية على دمج وتمثل الكثير من مثقفي البروليتاريا . في المراكز عبر ما سمي بأحزاب الدولية الثانية ، وفي الأطراف عبر ما عرف بالأحزاب الشيوعية الرسمية ذات التربية السوفيتية البيروقراطية(الستالينية) . كل من هذه الأحزاب استوعبته البورجوازية في أجهزتها الهيمنية وفي جهاز دولتها. لا بد من الإشارة إلى أن أزمة البيروقراطية السوفياتية ، ومن قبل صعود هذه البيروقراطية ساعد إلى حد ما عملية التمثل الإمبريالية هذه . لكن يبقى أساس الظاهرة هو الظاهرة الإمبريالية وسيطرة الاحتكار في التنظيم الاقتصادي الرأسمالي نهاية القرن التاسع عشر.
كراسات السجن ( دفاتر السجن)
(Prison notebooks)
تأتي خصوصية هذا العرض من أنه يركز على القسم الخاص بالمثقفين لما للجبهة الثقافية في الشرط الراهن العالمي والمحلي من مكانة مهيمنة. ولكون القسم الخاص بالمثقفين يلحظ أغلب القضايا التي يعالجها غرامشي في كراسات السجن. أما القراءة فغايتها أن تعطي العرض نوعاً من التبيئة والعضوية بما يخص الواقع العربي القائم. و تأتي أهمية انشغالنا بغرامشي وفكره من تشابه الشرط العالمي الراهن مع شرط أوربا التاريخي عندما كتب غرامشي الكراسات. حيث كتبت في اللحظة التاريخية لهزيمة الثورة الاجتماعية "البروليتارية" في أوربا. وتحديداً ألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى.
وتأتي أهمية قراءة غرامشي اليوم من الأزمة البنيوية للرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الانتكاسة التي أصابت البروفات العظيمة للثورات الاشتراكية(الاجتماعية) في القرن العشرين. لقد دشن تفكك الاتحاد السوفياتي نهاية مرحلة ثورية عظيمة؛ مرحلة تعتمد "حرب الحركة" باعتبارها هجوماً مباشراً على سلطة الدولة البورجوازية، وبداية مرحلة جديدة عالمية تعتمد ما يسميه غرامشي بـ"حرب المواقع" War of position تدور رحاها في مؤسسات الدولة البورجوازية ومجتمعها المدنيّ. والشرط الكونيّ لهذه الحرب، هو أزمة رأسمالية بنيوية على أرضية احتضار الرأسمالية من جهة وأزمة تشكل البديل البروليتاريّ الثوري من الجهة الأخرى. أو كما يقول غرامشي:"القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد. في هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها".
في حرب المواقع تلعب "الجبهة الثقافية" دوراً مهيمناً. ونلاحظ في هذا السياق كثرة استعارات غرامشي اللغوية من حقل "العلوم العسكرية"، كالحرب والموقع والجبهة، وحرب الحركة الخ..
الكراسات في ترجمتها العربية مقسمة إلى الأقسام التالية :
القسم الأول: قضايا التاريخ والثقافة ويشمل:1-المثقفون، 2-حول التعليم، 3-ملاحظات حول التاريخ الإيطالي.القسم الثاني: ملاحظات حول السياسة . ويشمل:1-الأمير الحديث، 2-الدولة والمجتمع المدني، 3-الأساليب الأمريكية والفوردية.القسم الثالث: فلسفة الممارسة Praxis . ويشمل:
1-دراسة الفلسفة، 2-مشكلات الماركسية وأخيراً "قضايا عامة" وتشمل متفرقات مثل المادية التاريخية وعلم الاجتماع، الديالكتيك، العلم والمذهب/ النسق، حول الفن، وقضايا أخرى. مع مقدمة المترجم العربي. يقع الكتاب في 494 صفحة من القطع المدرسي.
في ملاحظة لا تخلو من الرهافة يقول غرامشي في سياق الحديث عن رجال الدين كمثقفين تقليديين في العصر البورجوازي : "يمكن الربط بسهولة بين الفلسفة المثالية ككل، ووضع التركيبة الاجتماعية للمثقفين . ويمكن تعريف الفلسفة المثالية بأنها تعبير عن تلك اليوتوبيا الاجتماعية التي تصور فيها المثقفون أنهم "مستقلون" ومتميزون، وأن لهم شخصيتهم الخاصة أو ما يسمى "روح الفريق" الخ.." . المثالية بهذا المعنى فكر شطح وفشل في العودة إلى الواقع الذي جُرّد على أساسه، والفكر المثالي تضخيم لجانب من جوانب واقع معقد. يكتب لينين في دفاتر حول الديالكتيك: "المثالية الفلسفية ليست سوى حماقة من وجهة نظر مادية فظة، مبسطة، ميتافيزيقية. بالعكس، فمن وجهة نظر الديالكتيك الماديّ ، المثالية الفلسفية هي إنماء أحادي الجانب، مبالغ فيه "مفرط ، فوق الحد، فياض" (على حد تعبير ديتسغن)، تضخم ، تورم، لإحدى العلامات الصغيرة، لأحد الجوانب، لأحد وجوه المعرفة، الذي يصبح على هذا النحو مطلقاً، مفصولاً عن المادة، عن الطبيعة، مؤلهاً".
"وفيما لو توخينا إيجاد شبيه لهذا الأمر لكان علينا أن نتوغل في المجالات الضبابية لعالم الدين. فهنا تبدو منتجات الدماغ البشري كائنات مستقلة لها حياتها الذاتية ، وعلاقات محددة مع الناس ومع بعضها بعضاً. وهذا ما يحصل أيضاً لمنتجات الأيدي البشرية في عالم البضائع. إنني أسمي هذا بالصنميّة" والقول الأخير لماركس في رأس المال.
في تحديده للمثقفين ينبّه غرامشي إلى أن التحديد ليس باطنياً أو بذاته، ليس في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين، التي هي النشاط الذهني. بل في نسق العلاقات الاجتماعية الذي تجري فيه هذه الأنشطة. فالعامل أو البروليتاري لا يميز بأنه يقوم بجهد أو عمل عضلي "وإنما في أدائه لهذا العمل في ظل ظروف معينة وعلاقات اجتماعية محددة" . المثقف يتميز بوظيفته كمثقف في مجتمع محدد. كل عمل مهما كان بدائياً فيه إلى حد ما شيء من النشاط الذهني. ولكن ليس كل نشاط ذهني يقوم بوظيفة المثقف. يقول غرامشي: "عندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط إلى الوظيفة الاجتماعية المباشرة" . إذا كان بإمكاننا الحديث عن المثقفين، فإنه لا يمكننا الحديث عن غير المثقفين لأنه لا وجود لهم.
"لم يعد أسلوب المثقف الجديد يعتمد على البلاغة التي هي محرك خارجي مؤقت للمشاعر والعواطف، بل أصبح يعتمد على المشاركة الإيجابية في الحياة العملية كبان ومنظم لها". فمن التكنيك كعمل ينتقل الإنسان إلى التكنيك كعلم ومن ثم إلى المفهوم الإنساني للتاريخ. هنا ينتقل الإنسان من النقابية والمهنية-التقنية إلى السياسة والقيادة حيث يغدو متخصصاً وقيادياً...لقد تجاوزنا التقني إلى السياسي. والتجاوز هنا رفع مع احتفاظ ، أو تضمن . نقرأ في كراسات السجن: "إن أهم ما يميز أية جماعة تتجه إلى السيطرة ، هو نضالها من أجل استيعاب المثقفين التقليديين وإخضاعهم أيديولوجياً. غير أن هذا يتحقق على نحو أسرع وأفعل إذا ما نجحت في الوقت نفسه في إعداد مثقفيها العضويين". ليست علاقة المثقفين بعالم الإنتاج علاقة مباشرة ، كما هو الحال بالنسبة للجماعات الاجتماعية الأساسية (البورجوازية والعمال) ، وإنما في علاقة غير مباشرة ، يتوسطها بدرجات متفاوتة نسيج المجتمع كله، ومركب الأبنية الفوقية، التي يعتبر المثقفون بالتحديد موظفيها.
إن فهم الإسهام الذي أنجزه غرامشي يتطلب تحديد مستويين في الأبنية الفوقية أحدهما، ما يمكن تسميته بـ"المجتمع المدني" ( أجهزة الهيمنة في الدولة البورجوازية الحديثة). والمستوى الثاني هو "المجتمع السياسي" أو "الدولة" (سلطة الدولة) . يقابل هذين المستويين وظيفة الهيمنة الاجتماعية Hegemony التي تمارسها الجماعة الحاكمة في المجتمع كله من جهة، ووظيفة السيطرة المباشرة أو الإمرة و(الإكراه) التي تمارسها من خلال الدولة وحكم "القانون" من الجهة الأخرى، وهي بالتحديد وظائف رابطة وتنظيمية. كما يقول غرامشي .
إن الجدل بين المستوى الوظيفي للثقافة والمستوى الخصائصيّ الباطني يذكرنا بالثنائية التي تشتمل عليها السلعة أو البضاعة في التحليل الماركسي الكلاسيكي: قيمة تبادلية وقيمة استعمالية، حيث تهيمن الأولى في النظام البضاعيّ وخاصة الرأسمالي. وما يشير إلى هذه الهيمنة في النظام الرأسمالي هو فرط حضور السلع متزامناً مع فرط حضور الفقر والجوع وعوز الملبس والمسكن. يكتب غرامشي : "تقتضي وظيفة الهيمنة/القيادة الاجتماعية وسيطرة الدولة، بلا شك، نوعاً من تقسيم العمل، وبالتالي تدرجاً هرمياً للمؤهلات اللازمة لوظائف بعضها لا ينتسب في الظاهر إلى وظائف القيادة والتنظيم"... لقد طرأ على فئة المثقفين ، بهذا المعنى، في العالم الحديث توسع لم يسبق له مثيل. فقد ولد النظام الديمقراطي- البيروقراطي (وهذا وصف سيسيولوجي) عدداً هائلاً من الوظائف والتي لا تبررها ضرورات الإنتاج الاجتماعية، وإن كانت تبررها الضرورات السياسية للجماعة الأساسية الحاكمة .
إن موقف الفلاح من المثقف هو موقف مزدوج ومتناقض، فهو يحترم المركز الاجتماعي الذي يتمتع به المثقفون وموظفو الدولة عامة، ولكنه يتظاهر أحياناً بازدرائهم، وهذا يعني أن إعجابه بهم يمتزج أحياناً بمشاعر غريزية، مشاعر الحقد والغضب المتقد. (كراسات) أما بالنسبة لمثقفي المدينة فالأمر مختلف حيث تمارس الجماهير العاملة على الأقل من خلال مثقفيها العضويين تأثيراً سياسياً في الفنيين أو التقنيين.
تبقى النقطة الرئيسية في القضية، وهي التمييز بين المثقفين كفئة عضوية في جماعة اجتماعية أساسية والمثقفين كفئة تقليدية.
إن حال المثقفين في الأقطار العربية هي حال بنى اجتماعية ذات قاعدة صناعية ضعيفة التطور مع طبقة من ضباط الجيش ذوي ميول "علمانية" تلفيقية مع طبقة كبيرة من المثقفين الريفيين وزعماء العشائر وطبقة واسعة من المثقفين التقليديين المدينيين من رجال الدين. ومثقفين مهاجرين على نوعين: كوزموبوليتي (عولمي) ، وديمقراطي. إضافة إلى وجود مثقفين اشتراكيين من النمط السوفييتي- البيروقراطي ملحقين بسلطة الدولة البورجوازية الطرفية. ومثقفين ديمقراطيين- ليبراليين تركوا حقلهم الاشتراكي بحكم نفورهم من الاشتراكية البيروقراطية. في بنى اجتماعية اقتصادية عربية معقدة كهذه تظهر أشكال من الكفاح الثقافي Cultur kamph ، و أخرى من انفصال المثقفين عن الشعب، وتظهر ضروب من العلمانية السياسوية المجردة غير المرتبطة بطبقة بعينها أو بمشروعها السياسي، ومن الليبرالية العلمانية الرومانسية والتلفيقية. ومن الليبرالية الدينية. إن ظاهرة أمريكا اللاتينية تؤكد ملاحظة غرامشي التي تشير إلى وجود ثلاث مراتب أو درجات ضمن الدين الواحد : كبار رجال الدين، رجال الدين اليساريين ، والشعب كأفراد متدينين. يكتب غرامشي : ويصل هذا الاختلاف في شرقي آسيا إلى حد لا يصدقه عقل، حيث لا علاقة البتة لدين الشعب بدين الكتب وإن حملا ذات الاسم.
أسهبنا في عرض مشكل المثقفين عند غرامشي في كراسات السجن لما لهذا الموضوع من خطورة. أما الآن فسنعرض تلميحاً لملاحظات غرامشي حول التعليم والتربية.
يقسم غرامشي المدارس إلى نوعين: مدارس تكوينية ومدارس مهنية. بخصوص المدارس التكوينية يقول غرامشي : "فما يتعلمه التلاميذ يجب أن يكون محايداً، أي ليست له أهداف عملية مباشرة ، أي يجب أن يكون تكوينياً إلى جانب كونه تعليمياً (تلقينياً) أي أن يكون غنياً بالحقائق الملموسة. إن أزمة الثقافة التقليدية ومنها الدينية قد أدت إلى انحطاط مطرد لهذا النمط من التعليم. أما المدارس المهنية فقد صممت استجابة لاهتمامات عملية مباشرة.
المدارس التكوينية كانت حكراً للطبقات السائدة قبل العصر البورجوازي بحيث كانت تهدف إلى تكوين جماعة ثقافية تمارس وظيفتها كهيئة حاكمة. هكذا من المفيد دائماً ملاحظة العلاقة بين التعليم العام والميزانية القومية. وذلك لرصد مدى ديمقراطية التعليم القومي.
وفي سياق المقارنة يقول غرامشي: "هذا النمط من التعليم المهني يبدو ديمقراطياً ويدافعون عنه باعتباره كذلك، في حين أنه يستهدف في الحقيقة الإبقاء على الفوارق الاجتماعية، بل وتجميدها".
ليس تعلم الحكم ، أو خلق رجال موهوبين هو الذي يحدد الطبيعة الاجتماعية لنمط معين من التعليم وإنما يحددها واقع أن لكل جماعة اجتماعية نمط من التعليم الخاص بها، والذي يهدف إلى تأبيد وظيفتها التقليدية النوعية وهي الحكم أو التبعية.
وهذا ما يسميه غرامشي بالتعليم التقليدي أو الأوليغاركي (تعلم القلة الحاكمة) وإذا أردنا أن نقوض هذا النمط من التعليم، فإننا نحتاج بدلاً من الإكثار من أنماط التعليم المهني المختلفة وتدرجها أن نخلق نمطاً واحداً من التعليم التكويني (ابتدائي- ثانوي) يتعهد التلميذ حتى يصبح شخصاً قادراً على التفكير والدراسة والحكم أو الرقابة على الذين يحكمون.
إن الديمقراطية بالتحديد لا يمكن أن تعني فقط أن يكون في مقدور العامل غير الماهر أن يصبح ماهراً بل ينبغي أن يكون معناها أن يستطيع كل مواطن أن "يحكم" أو يهيئ له المجتمع نظرياً على الأقل الوضع العام الذي يمكنه من ذلك. إن التعددية المهنية خداع ديمقراطي ليس إلا ، وعلى هذا يكون تكاثر المدارس المهنية منذ البداية الأولى لحياة الطفل التعليمية هو أبرز مظاهر هذا الاتجاه، اتجاه لتعليم يميل نحو التعليم التقليدي الأوليغاركي (تعليم أفضل للحاكمين) ونحو تكريس الفروقات الطبقية وتعميقها.
يشير غرامشي إلى أهمية التجريد في التعليم الابتدائي، فنحن نعلم التلميذ أن واحداً يساوي واحد من دون أن يعلم التلميذ أن ذبابة واحدة لا تساوي فيلاً واحداً. المقياس الذي نقيس به الأشياء مركب من تجريدات ولكن لا يمكننا من دونه أن ننتج أشياء حقيقية. التجريد نستخدمه يومياً في عمليات البيع والشراء ، فأثناء وزن كغ من السكر لا نفكر في هذه اللحظة إلا بالتساوي بين كفتي الميزان ، مع أنه في واحد كغ سكر وفي الأخرى كغ من معدن. هكذا تكون العلاقة بين الأشكال التربوية وسيكولوجية التلميذ دائماً علاقة إيجابية وخلاقة. إنها تشير بكلام آخر إلى علاقة المجرد بالعيني والمشخص.
في ملاحظاته حول التاريخ الإيطالي يورد غرامشي عدداً من القضايا الأساسية في البحث التاريخي والسياسي. ففي سياق حديثه عن الطبقات التابعة أو الهامشية (المتنحية) يشير إلى العلاقة العضوية القائمة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني ويؤكد على مهمة دراسة تاريخ أحزاب الطبقات الهامشية. وهو تاريخ كما يقول غرامشي في غاية التعقيد. وفي سياق العلاقة بين المجتمعين السياسي والمدني، وفي سياق العمل على مبادئ البحث التاريخي والسياسي، يشير غرامشي إلى الطبقات السائرة نحو السيطرة والهيمنة فيقول: "كان عليها كي تصبح دولة أن تقضي على الخصوم وأن تظفر بالرضا الإيجابي أو السلبي للأصدقاء التابعين (الحلفاء)".
إن أي أثر للمبادرة المستقلة للطبقات الهامشية أو التابعة ينبغي أن تكون له أهمية كبرى عند أي مؤرخ نزيه.
سوف نطلق على الطبقات التابعة اسم متظلمة تارة أو حليفة أو متنحية أو هامشية أو محكومة تارة أخرى. إن كل هذه التعددية في الاسم يقابلها في الجهة المضادة الطبقة السائدة أو المسيطرة.
في ملاحظة لا تخلو من طرافة وردت في مدخل المترجم الإنكليزي: وهو التزامن بين إبداع دانتي الشعري 1265-1321 وبين مولد اللغة الإيطالية كلغة للأدب في صقلية. أما فترة ميكافيلي فقد كانت الفترة التي شهدت الغزوات الأجنبية وبلغ الشقاق فيها مداه بين الدويلات وهي بالتحديد الفترة التي كتب فيها ميكافيلي أعماله السياسية الخالدة كـ"الأمير، والمطارحات‘ الخ.." 1469-1527.
يرد مفهوم الثورة السلبية عند غرامشي في الكراسات كما يرد هذا المصطلح عند لينين في مقالة له عام 1906 تحت عنوان "أزمة المنشفية" . يعرّف غرامشي الثورة السلبية بأنها ثورة تفتقر إلى المشاركة الشعبية وترجع إلى فعل قوى خارجية. هذا تعريف أول، أما التعريف الثاني فهو تحول اجتماعي جزيئي Molecular يجري تحت سطح المجتمع في ظل أوضاع لا تستطيع الطبقة التقدمية أن تتقدم بمطالبها علانية.
في ملاحظة مثيرة يكتب غرامشي حول الفاشية قائلاً: "ليس هناك حتى الآن نظام فاشي أطاحت به قوى داخلية" .
وفي تعليقه على الجنوب الإيطالي وعلى إحدى الشخصيات السياسية والثقافية في تاريخ إيطاليا الحديث والذي يدعى كريسبي (1) يقول غرامشي: "يكشف موقف مختلف الجماعات الاجتماعية في الجنوب في الفترة 1918-1926 جوانب الضعف في معالجة كريسبي المتعصبة لقضية الوحدة الإيطالية. ما يلفت النظر هنا أن كريسبي لم يكن ليؤيد نزعة يعقوبية- اقتصادية تسعى إلى توزيع الأرض على الفلاحين وإشراك الطبقة الفلاحية في السياسة، أي أنه لم يكن من أنصار تعزيز هيمنة رجال الصناعة في الشمال الإيطالي على فلاحي الجنوب عبر تحالفه معهم ضد ملاك الأرض التقليديين. وهذه إشارة إلى بداية انحطاط مشروع البورجوازية التاريخي كطبقة عالمية.
هكذا يفصل كريسبي بفظاظة بين مشروع الوحدة القومية والديمقراطية ويستعيض عن الهيمنة بنزعة بيروقراطية مستبدة مترافقة مع نزعة استعمارية توسعية إمبريالية. هذا القول السياسي مهم بالنسبة للمسألة القومية العربية، وهو أحد الدروس الكبيرة للمسألة العراقية التي عانت من تجربة نزعة قومية بيروقراطية توسعية ، ذات حذر منهجي تجاه المشاركة النشطة والمستقلة للجماهير الشعبية ، نزعة عانت منها المسألة العربية وهي الفصل بين القومية والديمقراطية منذ منتصف ثلاثينات القرن العشرين.
أخيراً لابد لنا من لفت الانتباه إلى أهمية البحث عن آلية لربط الماركسية (فلسفة الممارسة) بالمسألة العربية والثقافة الحديثة. هذا الربط يمر من وجهة نظري عبر المحاور التالية:
1-ربط فلسفة الممارسة بنقد التراث القومي العربي، ومنه الديني، نقداً جذرياً. وهذا النقد سيشكل الرابط الحقيقي بين فلسفة الممارسة والثقافة الشعبية ذات الصبغة الدينية الطاغية.
2-ربط فلسفة الممارسة مع مشروع النهوض القومي العربي الديمقراطي، عبر السعي لدفع فلسفة الممارسة لقيادة مشروع النهوض هذا . بحيث تهيمن عليه أخلاقياً (مسألة ماهو واجب) وسياسياً.
3- ربط أشكال المقاومة العربية ومنها الدينية الشكل، بمشروع النهوض السالف الذكر. مع ربط الليبرالية العلمانية والليبرالية الدينية المستنيرة بالحركة الأخلاقية والفلسفية والسياسية لفلسفة الممارسة، أو تقدم الهيمنة الماركسية. مع تطوير برامج ديمقراطية ذات ملمح ليبرالي لربط شرائح كبيرة من البورجوازية الصغيرة والمتوسطة المدينية المسلمة (طبقة البازار العربية مقابل البازار الإيرانية) بمشروع النهوض الديمقراطي وبفلسفة الممارسة. في سبيل قطع الطريق على هذه الشرائح والطبقات كي تقلع عن التعبير عن نفسها سياسياً عبر الحزب الديني.
4-نقد التيارات الوضعية والبيروقراطية والاقتصادوية والميكانيكية في الماركسية، مع قراءة للتجارب الثورية الاجتماعية في القرن العشرين، ودراسة الإمبريالية المعولمة والليبرالية الجديدة المتوحشة. عبر كل ذلك نستطيع ربط الماركسية أو فلسفة الممارسة بالثقافة الحديثة و بكلية الحياة العربية.



#نايف_سلوم (هاشتاغ)       Nayf_Saloom#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الحاجة لإطلاق حوار جديد؟
- المجتمع المدني في الايديولوجية الألمانية
- نقد المنهج الظاهراتيّ الاجتماعي
- في المسألة الوطنية السورية
- تحية وامتنان للحوار المتمدن
- إعلان رأي بخصوص المسألة الوطنية السورية
- -مشروع الوثيقة الوطنية- ك-إعلان دمشق- تأسيس ل- مواجهة بين -ا ...
- الهجوم المضاد للخروج من الدوامة الأميركية
- -ملاحظات أساسية على -إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي
- إسهام في مُشكل الأقليات
- رسالة في الجنون
- الكتاب اللامعقول أو -كتاب الرمل ل بورخيس-
- تصدير الديمقراطية الغربية
- حياة سَيّد محمود القمْني - إعلان براءة صريحة وتوبة
- أجوبة على أسئلة موقع الحوار المتمدن-الماركسية وأفق البديل ال ...
- في مخاطر المواجهة بين الديمقراطية والحريات السياسية
- الحركة الشيوعية في المشرق العربي-خصوصية النشأة
- الازدهار القطري للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية
- الحادي عشر من أيلول/سبتمبر اللبناني
- شبح الليبرالي العائد، قراءة نقدية في مشروع البرنامج السياسي ...


المزيد.....




- Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
- خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت ...
- رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد ...
- مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
- عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة ...
- وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب ...
- مخاطر تقلبات الضغط الجوي
- -حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف ...
- محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته ...
- -شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا ...


المزيد.....

- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نايف سلوم - كراسات السجن-تمهيد على شكل إضافة