أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - مسعود دالبوداك - رحلة العقل الكُردي















المزيد.....



رحلة العقل الكُردي


مسعود دالبوداك
باحث

()


الحوار المتمدن-العدد: 5896 - 2018 / 6 / 7 - 16:57
المحور: القضية الكردية
    


ملخّص
هل تدهور المجتمع الكُردي قائم على عزل الوعي لديه عن الواقع وتهميش دور العقل لصالح العاطفة؟ وهل تعددية التيارات عموماً عند الكُردي تؤدي إلى نتائج إيجابية أم سلبية؟ وهل تبعية العقل الكُردي لغيره سبّب الفشل في انتاج ذاته وتطوير مجتمعه، وهل الفشل قدر حتمي يتميز به العقل الكُردي دون غيره؟ وأخيراً، ما هي سبل الخروج نحو مستقبل مشرق وأفضل؟
تطوّر العقل الإنساني عبر الزمن كضرورة حتمية لا مفر منها نتيجةً لِشَرَه الإنسان الإبيستيمولوجي النابع من كونه كائن فضولي تارةً وبراكماتي تارةً أخرى، وتأثر العقل الإنساني بجانبيه (الفيزيقي) والميتافيزيقي أثناء تطوره بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المحيطة به، ونظراً لاختلاف هذه العوامل من شعب إلى آخر بحسب البيئة التي يعيش فيها كوّنت هذه العوامل للشعوب عقلها الخاص بها والمتميز عن غيرها، وبالتالي فإن محاولة دراسة العقل لأي شعب يجب أن تعتمد على معرفة جيدة بالسياقات الطبيعية من مناخ وجغرافيا، والتاريخية والثيولوجية والقبلية والاجتماعية والسياسية والحالة الراهنة وتطلعات المستقبل.
ولفهم العقل الكُردي لابد لنا من فك تركيب الكل إلى أجزاء يسهل التعامل معها، وبالتالي نتمكن من فهم العقل الكُردي، لعلنا بعد تفكيكه ننجح في تكوين نظرة وفرضية مستقبلية لإعادة تركيبه وإنتاجه من جديد.
وسنتنقل بين ثنائية العوامل المؤثرة والعقل أثناء البحث كأن نفهم العقل من خلال فهم العوامل المؤثرة، وأن نفهم العوامل المؤثرة من خلال فهم العقل، لسد الفجوات التي ربما تنجم عن عدم توفر المعلومات الكافية التي ستسهم في إتمام بحثنا المزمع إجراءه، ليبقى الواقع الكُردي الراهن بجوانبه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الدافع والمحرك الأساس لهذا البحث، وما يطلبه الحال من تغيير في ظل الحروب والهجرة للعقل الكُردي، متسائلين عن علاقة العقل من الناحية الإبيستيمولوجية بديالكتيك المعاير الأكسيولوجية والبسيكولوجية عند العقل الكُردي؟
الكلمات المفتاحية: العقل، بنية العقل، العقل الكُردي، البيئة الكُردية، العاطفة الكُردية.
مدخل
يُعتبر العقل من أكثر المفاهيم إشكاليةً بين العلماء لذلك لا نكاد نرى تعريفاً متفقاً عليه من قبل الجميع مما يدخلنا في حالة من التشتت المعرفي، لهذا لا بد قبل الشروع بالبحث في "رحلة العقل الكُردي" أن نحفر في الجذور الأولى لوجود العقل الإنساني، وبالتالي هذا سيقودنا إلى البحث في وجود الإنسان ككل، فليس بالخفي علينا أن نظريات وجود الإنسان تعتمد على مبدأين أساسيين الأول ميتافيزيقي ديني ، والثاني فيزيقي دارويني يتبنى أصل (حيواني) تطوري للإنسان ، وكلتا النظريتين لهما أدلتهما وجمهورهما الكبيرين وهنا نحن سنتطرق إلى هذا الجانب من الموضوع بما يهم بحثنا، ومبتعدين عن المنهجية النورماتيفية في إثبات أو نفي إحدى النظريتين ، لكن لا مفر من تناول وجود العقل في كلتا النظريتين لنتمكن من مخاطبة الكتلة الأوسع ليكون البحث أكثر شمولية في هذا الإطار.
ومن الضروري تحديد بعض الكلمات ترمينولوجياً ومعانيها سيمانتيكياً، كوننا سنستمر في ذكرها كثيراً أثناء البحث هذا، ولأن معانيها مختلفة عن المعاني التي نتداولها في حياتنا اليومية، فالدماغ هو الجزء الفيزيقي الموجود داخل رؤوسنا، والذي يُعتبر من قبل التيار الماتيرياليزمي الدارويني هو العقل نفسه، بينما المتدينون المؤمنون بوجود الروح داخل الإنسان فهم يقصدون بالعقل ذلك الجزء الميتافيزيقي للإنسان نفسه بما فيه الدماغ، وكثيراً ما تختلط وتتداخل التسميات فربما سمي العقل روحاً أيضا، وكثيراً ما يُشار إلى وجود العقل ببعده الفيزيقي إلى الرأس.
وفي الحقيقة لن تسعفنا العلوم الحديثة في إزالة الإشكالية الترمينولوجية والسيمانتيكية، لكن من المهم أن يعلم القارئ العزيز أننا سنستخدم مفهوم العقل الأكثر شيوعاً وتداولاً على شرط أن يحمل معنيين في ذهن القارئ أنه هو نفسه (العقل) بجانبيه الفيزيقي والميتافيزيقي.
تعتمد النظرية الدينية على البعد الميتافيزيقي لخلق الإنسان في الجنة أي (الهومو) الأول (آدم) ومن خلفه حواء زوجته، وتذكر الكتب المقدسة في الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية بشكل واضح مسألة خلق الهومو الأول في الجنة ومن ثم هبوطه إلى الأرض بعد اقترافه الذنب الأول مدفوعاً برأي (حواء) الأولى و(إبليس) الذي ظهر لهما بأشكال مختلفة .
أما النظرية الداروينية لخلق الهوموسابينس ككل و(دماغه)، فكانت نتيجة عملية تطورية بيولوجية سلك فيها الهومو مراحل تطورية عبر الآلاف السنين حتى وصل إلى شكله المورفولوجي الحالي، وإن التشابهات البيولوجيّة بين الهوموسابينس والقردة العليا تدفع إلى التفكير بوجود (شيء ما) مشترك بينهم؟
وما آل إليه مصير الهومو (المتخلف) الذي سبق الهوموسابينس؟ وكيف أثر الكفاح والتنازع من أجل البقاء على الانتقاء الطبيعي أو البقاء للأصلح ؟ فالتخلي عن الفرضيات القائلة بأن جميع القاطنين للكرة الأرضية قد تم اكتساحهم عن طريق كوارث حدثت في فترات متتابعة دعا البعض لأن يعتبروا آدم (الهوموسابينس) المتطور مورفولوجياً والذي يمتلك دماغاً (أكبر) وأكثر (تعقيداً) قاتلاً متسلسلاً يسعى إلى القضاء على إخوته الهوموإريكتوس والهومونياندرتال والهومورودولفينس قبل (100) ألف عام ! أثناء احتلاله للعالم مدفوعاً بمفهوم الكفاح والتنازع، فآدم المذنب حسب الأديان ظل مذنباً حتى في الفرضيات العلمية أيضا!
تكوّن العقل الكُردي
ونعني من تطور العقل الكُردي التطور المعرفي الذي أسهم في ارتقائه ولسنا بوارد الخوض في تطوره من الجانب البيولوجي فحسب الداروينية كلما زاد استخدام الأجزاء زاد تطورها بيولوجياً والعكس صحيح ، وكون الموضوع لا يخدم ما نحن بصدد إنجازه.
أكدت الاكتشافات الحديثة في كهف شاندر الذي يقع شمال شرق (أربيل) وجود هياكل عظمية تعود إلى الهومونياندرتال ، الذي كان يعيش في كُردستان قبل (100) ألف عام تقريباً، وقبل أن يأتي الهوموسابينس ويسكنها، أو كما يرى البعض بأنهم عُوضوا فجأة بالهوموسابينس مكان الهومونياندرتال مباشرةً، وإن كان في هذا تناقض، فكيف يمكن أن يحصل تبدّل أنثروبولوجي جذري بهذه الدرجة والسرعة؟ فهم أنفسهم يتبنون نظرية التطور البطيء الذي يستغرق آلاف السنين؟ وكذلك يعتقد أغلب علماء الأنثروبولوجيا أن الهوموسابينس ليس من نسل الهومونياندرتال، فهل يكون الهوموسابينس هو نفسه (آدم) الذي هبط من السماء؟
لقد عاش الإنسان في العصر الحجري الأخير على القنص والصيد النهري وجمع الثمار في كُردستان، وأدى ارتفاع درجة الحرارة في نهاية العهد الجليدي الأخير تقريباً قبل عشرة آلاف سنة إلى حدوث تغيرات في نمط حياة الإنسان في جبال كُردستان وميزوبوتاميا حسب معظم الأبحاث الأنثروبولوجية والأركيولوجية، حيث بدأ فيها أول توطين من نوعه على سطح الأرض لبعض النباتات مثل القمح والشعير، ومن ثم تدجين المواشي وتربيتها، كمحاولة للتحرر من جبروت المناخ الذي كان يهدده بالمجاعة والفناء، فأصبح العقل الكُردي مستقراً في أرضه، إلى أن صار عرضةً لنهب الرُحل، فتحصن في القرى، ومعها ظهرت صناعة الطين والخزف والأدوات التي استعملت في الحياة اليومية.
ولقد حثت الدوافع الكُرديّ في بيئته على السلوك باتجاه معين ثم لتُستغل هذه الدوافع فيما بعد في عملية التعلم وبالتالي كانت الأساس في اكتساب الكُردي لخبراته، بالإضافة إلى اكتساب عادات جديدة تُغير من سلوكه بشكل مستمر، لذلك فوجود الدوافع تعني استمرارية تغير سلوكه وطريقة عيشه وثقافته من حالة بسيطة في البداية تستمر لتصل إلى حضارة أكثر تعقيداً وتداخلاً تمر بمراحل بارزة كالخلق والهبوط والطوفان.
ويعتبر الاجتماع المنظم الواعي أول الخطوات التي تمهد لظهور الحضارة، لذلك كوّن الهومو الكُردي نفسه في مجموعات صيادة وجامعة للثمار ثم داجنة رعوية ثم زراعية لتكون الأخرى بدورها تجمعات سكانية تقسم الوظائف فيما بينها لتصل بهذا التدرج إلى الحضارة الحديثة في يومنا الحالي، فعلماء الانثروبولوجيا يجمعون على الارتقاء الثقافي للهومو وفق تراتبية محددة لكن هذا لا يعني أن جميع الشعوب مرت بنفس مراحل التطور الثقافي .
وهنا يمكن تحديد تطور الشخصية الأساسية للشعب الكُردي بالاعتماد على ثقافته ونمط المزايا السايكولوجية المشتركة لدى جميع أو أغلب أفراد المجتمع الكُردي نتيجة التشابه في الممارسات في مراحل الطفولة ، وهذه المرحلة وفق الأبحاث العلمية تعتبر من أهم المراحل في تحديد الملامح الأساسية لشخصية الإنسان فيما بعد.
ويمكن اعتبار الكُرد من الشعوب المحافظة على نقاء عرقهم وعلى السمات الرئيسية لثقافتهم لمدة زمنية طويلة ، فالعلاقة بين العقل الكُردي والثقافة الكُردية علاقة وثيقة ومتداخلة، فإذا كانت المعرفة التي يحصل عليها الفرد من محيطه لا تنعدم ، إنما تكوّن عقله من خلال اللاشعور ليقوم العقل من ثم بتشكيل الثقافة التي تحيط به بمنحى كرونولوجي فالعقل هنا منتِج ومنتَج في آنٍ واحد، فالمناخ والجغرافية والدين والقبيلة والاجتماع والسياسية كوّنت عقل الكُرديّ وكوّن بنفسه هو الآخر ثقافته بشكل متداخل ومتزامن مع تلك المؤثرات، لذلك من الأهمية بمكان تناول هذا المؤثرات المتداخلة بين كل مكوّن بمعزل عن الآخر، فربما سهل ذلك اكتشاف الملامح الأساسية للعقل الكُردي الذي وصف من قبل المؤرخين بالبداوة وعدم التحضر الممزوج بالوحشية وسفك الدماء كيف لا وهو قاطع طريق ولص في أحسن الأحوال ، وهم بالمطلق شعب همجي رغم أن كثيرا من عقولهم اشتهروا بعلوم العمارة والفلك والهندسة والرياضيات والموسيقى عبر التاريخ!
العقل الطبيعي
للبعد المكاني تأثير كبير على بنية العقل الكُردي، فاختياره للأرض الجبلية وطناً ولّد عبر الزمن علاقة حميمية بينهما منقطعة النظير، وكلما زاد وعي الكُردي المعرفي زادت قدرته على ترويض الطبيعة من خلال الإدراك الحسي الذي اعتمد على المؤثرات الخارجية التي تمثلت في الطبيعة الجبلية وثم انتقال هذه المؤثرات إلى ذات الكُردي ليقوم العقل الكُردي بدوره بإعطاء هذه المحسوسات معانٍ معينة لها دلالات خاصة.
وهذا ما يفسر غزارة أسماء تضاريس الجغرافية الجبلية في اللغة الكُردية ، ولكن الأرض الجبلية سببت صعوبة في التواصل بين العقل الكُردي أيضا، وانغلاقاً بين القرى على التفاعل اللغوي فيما بينها، لذلك نرى بعضاً من الاختلافات المحدودة في لغة الكُرديّ حسب المناطق الجغرافية، فاللغة تحدد درجة فهم الكُردي وطريقة تصوره للعالم.
كما اعتمد العقل الكُردي على التحصن بالجغرافية الجبلية في مقاربة تبدو أكثر براكماتية كونها أقل تكلفة وجهد من إنشاء جيش من المقاتلين، فكانت قراهم في قمم الجبال كثكنات عسكرية متكاملة، وكانت هذه استراتيجية دفاعية بالدرجة الأولى لذلك لا نرى الميول التوسعية عند الكُرد نحو أراضي الشعوب المجاورة .
وروض العقل الكُردي الجبل بزراعته على شكل طبقات دائرية تلفه متغلباً على الانحدار الشديد، وأنشأ طرقاً وممرات ضيقة يسلكها أثناء رحلاته وتجواله، كما بنى البيوت السكنية باستراتيجية قريبة منها على شكل درجات يسند بعضها بعضاً، وكانت ذات جدران سميكة مبنية بشكل متقن من الحجارة الجبلية، فكان الكُردي يراقب ويتأمل من نافذة البيت تفاصيل أرضه المزروعة في قمم الجبال، وسمى البساتين والطرق بأسماء مميزة توارثتها أجيال بعد أجيال، ويمكن القول بحق لقد أخضع الكُردي الجبال لإرادته وسطوته بشكل محكم عبر التاريخ.
طبيعة المناخ وطوبوغرافية الأرض الكُردية جعلت حياة الاستقرار صعبة نوعاً ما، وذلك نتيجة الانتقال الفصلي من الجبال إلى السهول في الشتاء وبالعكس من السهول إلى الجبال في الصيف، غير أنه لا يمكن تسمية هذا التنقل بالتنقل البدوي الذي يعتمد على الترحال بشكل مستمر، والذي جاء على لسان بعض المؤرخين أن (الكُرد من الشعوب البدوية الرُحل)، الحقيقة أن الكُرديّ كان يعتمد التنقل بين مكانين محددين فقط يتنقل بينهما، لذلك عندما يترك مسكنه في الشتاء بالجبال نتيجةً لقساوة المناخ يعود في الصيف إلى ذات المسكن.
ونحن نرى اليوم أيضا أن القرى الكردية الجبلية تكون مسكونة في فصل الصيف من قبل سكانها الذين يعيشون في المدن في فصل الشتاء كمحاولة للتغلب على قوة الطبيعة بواسطة ثنائية التنقل المكاني، ليتذبذب العقل الكُردي بين التأقلم مع حياة المدينة بكل نواحيها وبين حياة القرى التي حملت بعداً عاطفياً وتلاحماً مع ذاته الأولى تاريخياً قبل أن يسكن المدينة، فكان العقل الكُردي الساكن للقرى أكثر تبعيةً للطبيعة وانقياداً لها، فتولدت نتيجة هذه التبعية مدن حديثة لكنها بالمعنى الحقيقي قرى كبيرة لا تختلف عن القرى العادية إلا بحجم سكانها الأكبر.
كونت ثنائية المسكن عند العقل الكُرديّ الحنين المستمر في ذاته، فإذا سكن السهول في الشتاء أذابه الشوق للجبال وإذا سكن الجبال في الصيف أذابه الشوق للسهول، فولّد هذا الحنين قوةً أكبر لتعلق الكُرديّ بأرضه ووطنه بمفهوم أوسع.
كما لم يقتصر التنقل بين السهل والجبل على الظروف المناخية الفصلية فقط، بل كانت المدن التي تبنى في السهول الأقل تحصيناً من مثيلتها التي تبنى في الجبال تنزح إلى الجبل أثناء غزوات الأعداء، كمحاولة للصمود وللاستمرار واستراتيجية للبقاء الكُردي ، ليعود لاحقاً بعد تنظيم نفسه لينتزعها من قبضة الغزاة.
وربما يتبادر إلى الأذهان ما جرى في كركوك من نزوح للكُرد إلى مناطق نحو العمق الجغرافي الكُردي بعد تقدم الغزاة واحتلالها، بغض النظر عن كل الأحدث والأخبار التي رافقت تلك الحالة، تحمل هذه الحادثة في مضمونها استراتيجية فعالة للحفاظ على الوجود الكُردي عبر التاريخ في حين ذابت واندثرت أغلب الشعوب والأعراق التي كانت ساكنة للمنطقة لافتقارها إلى استراتيجية التحصن بالجبال وقت الشدة.
العقل الديني
ولا يمكن الحديث عن العقل الديني دون الخوض في ثنائية العقل الاعتقادي والمنطقي كونها تحدد سلوك الكُردي في التعامل مع ما يحيط به، فالتعرض إلى حادث سقوط أثناء السير حسب العقل الاعتقادي قضاء وقدر، أما حسب العقل المنطقي فخطأ فيزيائي يحتاج إلى فهم أسبابه لتفادي السقوط مرة أخرى، فكِلا الرأيين يحملان جزءاً من الحقيقية بشرط ألا يطغى أحدهما على الأخر، فالأخذ بالعقل الاعتقادي بشكل مطلق يعني أنك ستقع مرة تلو الأخرى كونك غيبت الجانب المنطقي، كما إن الأخذ بالعقل المنطقي بشكل مطلق يجعل فهم سبب السقوط الأول أمراً مستعصياً ويُخرج الدين من مفاصل الحياة وما يتبعها من توتر في الحياة النفسية، ألا ترى أن كِلا العقلين يكمِّلان بعضهما البعض؟ للأسف غلّب الكُردي عقله الاعتقادي على المنطقي فلا يزال يسقط مرة تلو الأخرى في مسيرته المتعثرة أصلاً، فالكُردي لا يتعلم من أخطاء الماضي إلا نادراً.
وكأننا حينما نقول ذلك ترى ثلة من أنصاف المثقفين من ذوي الخلفية المتدينة شكلاً أو نسباً من الكُرد يُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها لتدرك في قرارة نفسك حجم المشكلة في العقل الديني للمثقف الكُردي الذي لم يفهم الجانب المنطقي من الدين رغم هذا الكم الهائل من الوضوح في النصوص المقدسة التي تدل على ذلك وخصوصاً الإسلامية .
إن إعادة التوازن إلى العقل الديني الكُردي لا يعني إخراج الناس من دين الله، بل تعتبر خطوة تقطع الطريق أمام حالة التشتت التي يعيشها العقل الكُردي بين ما يعتقده وبين ما يراه، لينقاد عاطفياً بسهولة فالآراء والأفكار التي يخوضها إما تُقبل أو تُرفض بالجملة دفعة واحدة، فتكون إما حقائق مطلقة أو أكاذيب مطلقة، وهي نتيجة التَرِكَة الطويلة للموروث الديني التي كوّنت منهجية التفكير المعياري في إطلاق الأحكام على الأشياء بالخير والشر لتتحول المسألة إلى محاكمة نظرية للأشياء تنعدم معها مراعاة الجوانب الأخرى المنطقية وخاصةً مع العقول التي تفقهت بشكل خاطئ بمفاهيم الخير والشر الدينيين.
ربما أكثر العقول تأثيراً في ثقافة الكُردي كان العقل الديني الاعتقادي البحت وكانت له تبعات منذ القدم ولا يزال يلقي بظلاله على يومنا هذا، كما أثر على العقول الأخرى وإن كانت بطرق غير مباشرة، ولا شك أن العقل الكُردي عانى من جدلية تحديد مصدر المعرفة بين العقلين وأي منهما جدير بامتلاك الحقيقة، قد يستغرب الآخر ــــــ المتدين الكُردي شكلاً أو نسباً ــــــ حين نقول إن الحضارات السابقة كالسومرية والإغريقية والفرعونية ربما كان الأساس الفاعل في انتاجها هو العقل الاعتقادي أو لِمَ لا تكون أنقاض نبوات؟ بالمقابل فأن العقل المنطقي اليوم هو الذي يحتكر المعرفة بشكل شبه مطلق، لعلك ترى مثلي أن العقل الاعتقادي ينتج إنساناً قادراً على انتاج الحضارة من خلال عقله المنطقي، فالأول ينتج الإنسان والثاني ينتج الحضارة، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، فإذا كان العقل الاعتقادي قد أنتج الكُردي يبقى لعقله المنطقي أن ينتج الحضارة.
الكُرد في معظمهم من المسلمين السنة مع أقليات مذهبية ودينية أخرى، وهم شوافع في الفقه والحقوق الإسلامية وأشعريون في العقيدة، وتشير الدلائل على انتشار ديانات مختلفة في جغرافية كُردستان قبل أن يعتنق الكُرد الإسلام، العقل الكُردي الديني الإسلامي عانى من خلل مزمن مثل غيره من الشعوب المسلمة الأخرى التي كانت ولا تزال تسير نحو الانحطاط، فبالإضافة إلى هيمنة العقل الاعتقادي على المنطقي لدى الكُردي سبّب تبني الفقه الشافعي الأكثر تقيداً بالنص جموداً في تفكير الكُردي بما يتعلق بتطبيق الفقه الديني والأحكام الحياتية التي سبّب تطبيقها المستمر لفترة زمنية طويلة نمطية تفكير راديكالية أصبحت جزءاً من بنية العقل الكُردي.
في حين توجه تيار من العقل الكُردي نتيجة الضغوط التي تعرض لها من قبل الأنظمة الحاكمة وخصوصاً التي تختلف عنه بالمذهب، كالمذهب الشيعي والفقه الحنفي اللذين فرضا على العقل الكُردي ضغوطاً في اختيار الأفكار الدينية، فكان ثنائي التأثر حيث أدى إلى عزوف العقل الكُردي عن الدين وظهور التيارات الماركسية والليبرالية، أو إلى ظهور التطرف الديني في العقل الكردي.

العقل القبلي
المجتمع الكُردي محكوم بروابط القرابة القوية التي أنتجت بدورها تضامناً وظائفياً ساهم في تكاملية العيش القبلي والقروي، وتشغل العائلة مكانة هامة في المجتمع الكُردي مدعومةً بقوانين السلطة الدينية والقوانين المعاصرة، لذلك نرى العائلة الكردية تكبر وتتشعب لتكون عائلة داخل عائلة بشكل مركب يطغى فيها المنحى الترابطي على الاستقلالي فنادراً ما ينتقل الأبناء إلى قاعدة سكن جديدة بعد الزواج فزوجات الأبناء يأتون إلى بيوت الآباء مع أن علاقة الابن بالأب ينطوي عليها طابع الخضوع في حضور الأب.
الأب الذي يمارس السلطات الدينية من خلال مراقبة علاقة أفراد العائلة بالله، والسلطة السياسية حيث يمثل العائلة في مجلس القرية والقبيلة، والسلطة التشريعية في إصدار الأوامر وحل الخلافات وتطبيق الحدود، والسلطة الاقتصادية في ملك الأموال والمردود، أما علاقة الأحفاد بالأجداد فتكون أكثر حميمية ربما لكونها حلقة التبادل والانتقال بين الجيلين، وتسمى المواليد الجديدة بأسماء الآباء تخليداً لذكرها، ويكنى الرجل باسم أبيه وحتى لو لم يكن متزوجاً.
تأكد هذه التفاصيل أن العقل الكُردي مرتبط بمؤسسة العائلة ومن خلفها القبيلة بشكل وثيق لدرجة تشعر أن الدول التي أسسها العقل الكُردي كانت شبيهة بالنظام الموجود في العائلة الكُردية المصغرة التي يحكمها الأب بسلطة مطلقة، وربما كان هذا أحد أهم الأسباب التي جعلت العقل الكُردي غير قادر على تكوين كيان سياسي موحد على كامل جغرافية كُردستان إلا قليلاً، وبالإضافة إلى طبيعة العيش القروي المبني على أساس القرابة الذي يضمن الولاء للقرية والعشيرة بالدرجة الأولى، فسبعة وعشرون عاماً من الحكم الفيديرالي في جنوب كُردستان لم يستطع كُرد الجنوب (باشور) من التغلب على مشكلة الإدارتين وبناء دولة مواطنة تعتمد على الولاء للأمة والشعب.
أفرز العقل القبلي زعمات سياسية كونت إمارات على شكل دول مصغرة يكون فيها الولاء بدافع القرابة، ولا تزال هذه الآلية في انتاج الزعمات السياسية مستمرة إلى يومنا هذا، فلم تمر الزعمات السياسية بمرحلة تأهيلية معرفية تجعلها مدركة لذاتها إنما كان انتقالاً عشوائياً جاعلاً معه ظهور قيادات سياسية ذات جذور معرفية أمراً مستحيلاً، كما إن اعتماد الزعمات القبلية على الطبقة الاقطاعية في تثبيت دعائم حكمها مقابل الأراضي التي منحت للإقطاعيين ركز الأموال في يد طبقة قليلة في المجتمع الكُردي، ولا ننسى مأساة العقل القبلي الكُردي الذي سبب التنازع على السلطة والنفوذ ومصادر الرزق حروب دامية عصفت بالإنسان الكُردي لم تجف ذكراها بعد.
الترابط الآخر عند العقل القبلي قائم على العيش في الأرض نفسها وكثيراً ما نرى تجمع قروي متضامن دون وجود قرابة تامة بين أفرادها، حيث سميت تلك المجموعات البشرية القروية على اسم المناطق التي تسكنها، وهنا يعتمد العقل القبلي على ميزة حب الكُردي للأرض لتكون ترابطاً آخر قوياً غير قائم على أساس الدم وربما يسمى بالترابط المناطقي حيث تشكل لحمة عصبية وإن كانت أقل قوة من التجمع القبلي القائم على أساس رابطة الدم.
العقل الاجتماعي
المجتمعات الكُردية تقدّس وتحترم الأجداد لذلك تكون فيها مؤسسة الزواج أكثر رواجاً وقوةً، ويعتبر غير المتزوج والمنجب فيها هامشياً وعديم الأهمية، وقد شغل الخال في المجتمع الكُردي دوراً بارزاً في العلاقات الأسرية نظراً لطبيعة المجتمع الأمومي كونه محسوباً على عائلة الأم، والمرأة على العموم تتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع الكُردي، والذي قلل من التسلط الذكوري هي الطبيعة التي أكسبت الأنثى سلطة قوية مثل الرجل، واستقلالية مستوحاة من كل شيء يحيط بها، فكانت الأعمال الموكلة للمرأة الكُردية تأكد حجم المسؤولية التي تقع على عاتقها، فالمرأة الكُردية تربي أولادها وتقوم بكل واجبات البيت وتدافع عن بيتها بشراسة في غياب زوجها، ولا نكاد نبالغ إذا قلنا أنها تتقاسم كل الأعمال مع زوجها مناصفة وخصوصاً في المجتمع القروي، ساهمت هذه التفاصيل كلها في تثبيت مكانة المرأة وربما كان هذا من أهم الأسباب التي جعلت الكُردي ينصرف عن تعدد الزوجات، وتنال زوجته مكانة مرموقة في ذاته.
رغم طبقية العقل الكُردي في الجانب الاجتماعي لكن يُسجل له عدم وجود طبقة العبيد (الرق) لم تكن روح الاستقلال والحرية تسمحان للكُردي أن يستعبد أخاه الكُردي، ولم يستعبد الكُردي غيره أيضاً وبالمقابل لم يقبل أن يستعبده أحد.
حالة الهجرة الحالية التي عصفت بالعقل الكُردي وصعوبة الاندماج في المجتمعات الجديدة أفقدته التواصل الاجتماعي والمشاركة فيها بشكل ايجابي وخصوصاً في ظل التواصل الافتراضي الذي كان البديل لتغلّب على بعد المسافات، إن انخفاض معدل التفاعل الاجتماعي في الأعمار بين العشرين والخمسة وثلاثين يرفع معدل الاكتئاب ومشاكل نفسية أخرى، كما يُثبت تاريخ العقل الكُردي أنه من أصعب العقول قابلية للاندماج في المجتمعات الجديدة وإن حدث اندماج فإنه يكون بمقاس وهوى كُردي تبقى ملامحه الأساسية كُردية.
ودمرت الحرب التي جرت قبل عقود وخصوصاً في شمال وجنوب كُردستان بنية المجتمع الريفي وأجبرت الكُردي على الانحدار نحو المدن خلال فترة قصيرة بشكل جماعي، ونتيجة لضعف الإمكانيات المادية بنى الأخير عشوائيات حول المدن لتتحول فيما بعد إلى مرتع للجريمة المنظمة وتجارة الممنوعات، وخصوصاً في فئة الشباب التي واجهت صعوبة في الاندماج بمجتمع المدينة وكانت صيداً سهلاً إما للجماعات الدينية المتطرفة أو لشبكات تجارة المخدرات والجريمة، كما كانت الحالة المادية الضعيفة السبب في عدم التحاق الشباب بالمدارس التعليمية وكان العمل في المصانع والمعامل الحل الوحيد أمامها، فشكلت هذه الأحداث مجتمعة ذوباناً لمنظومة الأخلاق والقيم عند العقل الكُردي، وانخفضت الثقافة إلى الحضيض، ولاعتبارات تجارية وتعليمية كان سكان المدن من الكُرد يتكلمون اللغة الرسمية لبلدانهم مما فرض على الجيل المنحدر نتيجة الحروب التكلم بلغة المدينة التي افقدت الكُردي لغته الأم لنرى بعد عدة عقود جيل من الكُرد لا يعرفون أي شيء عن لغتهم وثقافتهم.
العقل السياسي
لا جرم أن الميول القومية فُرضت على العقل الكُردي كنتيجة حتمية لمحيطه المتشكل من دول قائمة في ذاتها على أساس قومي عرقي وليس كنزعة متأصلة في تكوينه، ولم يكن ليرى دادلي سيرز أبعد من أنفه في مستهل نقده للنزعة القومية عند بعض الشعوب ـــــ ومنهم الكُرد ــــــ التي تسببت بحربين عالميتين وظلت تهديداً للدول الحديثة التي ظهرت فيما بعد حسب وصفه، ويحصر حل المشكلة في توزيع عادل للثروات وكأن المشكلة اقتصادية فقط! فهل العقل الكُردي تجمع قائم على أساس شعور قومي أو تجمع أمة بحد ذاتها؟
المشاعر القومية عند العقل الكُردي هي يقظة وعي بنفسه، وليس اختراعاً لأمة ليس لها وجود، فالأمة سابقة بوجودها وإن لم تعِ نفسها في الماضي، وتؤكد التجارب الكُردية في العصر الحديث بُعد العقل الكُردي عن النزوع القومي العنصري والشوفيني فبعد كل جرائم البعث في (العراق) ضد كُرد الجنوب لم نر الانتقام على أساس عنصري أو وجود عصابات تعمل على قتل النازحين كما نراه في أكثر الدول ديموقراطيةً وتقدماً كبعض الدول الأوروبية، رغم ما تعرضوا له من تصفية عرقية لا بل أصبحت مدنهم مسكن لملايين اللاجئين أعداء الأمس، أما تجربة غرب كُردستان هي شاهد حي آخر على العقل الكُردي البعيد عن النزوع العنصرية.
أثّر صفاء الطبيعة وهدوئها في الكُردي فكان أكثر طيبةً ونوعاً ساذجاً لذلك خُدع العقل السياسي الكُردي دائما، وذهبت أحلامه وآماله في مهب الريح نتيجة غدر الآخرين وقلة حنكته السياسية، كما أكسبته الطبيعة الشجاعة والقوة، فكان فذاً منتصراً في الحرب التي خاضها، واستغل الكُردي كوقود للحرب في المنطقة وجنود في جيوش الآخرين، والتاريخ يشهد انتصار الكُردي في أغلب معاركه العسكرية كانت ثمارها ونتائجها لصالح الغير فكان الخاسر رغم أنه المنتصر.
سببت الحروب المستمرة التي جرت على أرض كُردستان ابتداءاً من الحروب الفارسية الإغريقية، ثم تلتها الحروب الساسانية البيزنطية، والصفوية العثمانية، حالةً تشتت عسكري وسياسي بين الكُرد، لم تمنحه فرصة لبلورة موقف واضح وموحد اتجاه أنفسهم وكانوا للأسف جنود في جيوش الآخرين الذين وعدوهم بعد النصر ودائما أخلفوا ونكثوا العهود رغم أن الكُرد كانوا العنصر الفاعل في حسم تلك الحروب ويكفي أن تعرف الجانب المنتصر من خلال مشاركة الكُرد إلى جانب أي من الطرفين.
ويمكن القول إن العقل السياسي الكُردي لم يكن مهيئاً من الناحية الفكرية لقيادة المجتمع الكُردي تاريخياً وسبب الكوارث لهم لما يشغله من أهمية في تحديد مصير الشعوب حاضراً ومستقبلاٌ، وهنا لن نخوض أكثر في العقول التي حاولنا تفكيكها وتحليلها وفق التصنيفات السابقة، لنتناول ما فاتنا من تفاصيل في بنية العقل الكُردي الحالي.
العقل الحالي
كان القرن الماضي مؤثرا جدا في تكوين ملامح العقل الكُردي الحالي، وخصوصاً عملية التقسيم التي تعرض لها في أربع دول لكل منها ثقافة، ولغة مختلفة، مما ساهم بتكوين العقل الكُردي الحالي في كل جزء بمعزل عن الآخر، وأكثر مَن يلاحظ هذه الفوارق التي نتجت عن ذلك هو الكُردي نفسه عندما ينتقل من جزء إلى آخر عبر حدود تلك الدول.
لا يخفى على أحد أن تلك الدول اتبعت سياسيات عديدة كمحاولة لصهر العقل الحالي في بوتقة قومياتها، فتعرض الأخير إلى حرب تصفية وجودية ومعرفية بواسطة آلة الحرب النفسية من خلال الدعاية الموجهة ضده، ومن خلال المؤسسات التعليمية التي زيفت كل شيء في التاريخ الكُردي لصالحها، فكان هذا بالإضافة إلى الخوف من التهميش والضياع أن يكون العقل الحالي قومياً في محيط وعالم إثنولوجي، ويمكن ملاحظة ذلك في جوانب حياته المختلفة كصفحات التواصل الاجتماعي التي تعج بالرموز القومية بغرض التعريف عن النفس مما دعا البعض من القوميات الأخرى لاعتبار العقل الحالي (عنصرياً) دون فهم المعادلة بشكلها الصحيح وأن انتشار الرموز القومية بكثرة وفي كل مكان من حياة الكُردي رد فعل طبيعية لمحاولة الانكار المستميتة التي يتعرض لها العقل الحالي.
وفي حين تسعى بعض الأنظمة السياسية التي تحكم دولا من خلال الترويج الإعلامي والتعليمي لإثبات وجود قومية لا وجود لها حقيقة وتملأ الآفاق صورا وأعلاما فشتان ما بين هذا وذاك.
أثرت الحروب التي جرت في العقود الأخيرة على العقل الحالي الذي تم تصفيته أو نفيه إلى الخارج، كما سببت حالة من عدم الاستقرار المتعمد اريد منها ضرب بينة العقل الكُردي الحالي من خلال تدمير مدنه، وبناه التحتية، وارغام الكُرد للنزوح نحو المدن ليفقد الكُردي حبه لأرضه وثقافته ولغته، ويُرغم على العمل والعيش في عواصم تلك الدول التي لم توفر جهداً في تفقير وتجويع الكُرد في مناطقهم، ليكون العقل الحالي بين نارين إما العيش في مدن يُعتبرون فيها بأفضل الأحوال كلاجئين أو التعرض لكل أنواع الضغوط والانتهاكات في مناطقهم.
وسبّبت حالة القحط، وقلة التنمية المتقصدة من قبل السلطات الحاكمة إلى هجرة الكُرد من مناطقهم في الشمال السوري نحو العمق العربي وخصوصا إلى دمشق في فترة نهاية التسعينيات، وتم افراغ المناطق الكُردية بهدف صهر المجتمع الكُردي على جميع الأصعدة، لدرجة ظهر جيل جديد من العقل الكُردي فاقد للغته وثقافته، فإن كانت سلطات البعث الفاشية نجحت في تهجير العقل الكُردي، لم تنجح المجتمعات العربية السورية في الداخل بصهر العقل الكُردي نتيجة العقلية الإقصائية، ليعود الكُرد أفواجا بعشرات الآلاف إلى مناطقهم مع اندلاع الحرب الأهلية في سورية.
ولا نرى ما هو معتمد أو مدروس في العقل الجمعي الحالي كونه يستطيع عيش جميع أنواع العواطف وينتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة هائلة في أنٍ واحد مدفوعاً بالمحرض السائد في تلك اللحظة التي يمر فيها، مما يولد تفكيراً متذبذباً يقود إلى عجز في الإدارة والتفكير الدائم والمستقر، وسرعة تأثر العقل الجمعي وسذاجته وتصديقه لأي شيء يعرض أمامه، فلقد شكلت سهولة وسرعة وصول الأخبار والمعلومات بفضل التطور التكنولوجي حالة دائمة من عدم الاكتمال للعقل الحالي، وتعتبر صفحات التواصل الاجتماعي الفيس بوك مكاناً للجمهور الكُردي الذي مهما اختلف أفراده فيما بينهم فإن تحولهم إلى جمهور يجعلهم يحسون ويفكرون ويعملون على نحو مغاير تماماً لذلك الذي كان سيشعر به ويتصرف على أساسه كل منهم على حدة، فجمهور صفحات التواصل الاجتماعي كائن مؤقت يجتمع من عناصر متنافرة، وربما الشعور بالقوة بفضل التجمع أو دوافع أخرى، تجعل أفراد الجمهور أكثر غرائزية وعاطفية، وبالتالي تنعدم المسؤولية والشخصية الواعية في تجمّع لا واعي، فترى على سبيل المثال الترويج للأخبار الكاذبة ربما تكون الغاية منها إيجابية لكن على أرض الواقع تكون سلبية ومدمرة، فهل انخراط العقل الحالي في صفحات التواصل الاجتماعي ذات الأعداد الضخمة يجعله يهبط عدة درجات من سلم الحضارة؟
ومن ناحية أخرى ما مدى المنطقية في التفكير اليومي لدى الكُردي؟ وما حجم المغالطات اليومية التي تتراكم؟ إن التمييز بين التفكير التوسيعي والحدسي يعطي الإجابة الشافية، فالأول يرى العملية المعرفية باعتبارها عملية تحليلية تستند إلى مخزون معرفي متراكم محصل بشكل علمي، أما الثاني فعملية تستند إلى تراكم يُظن أنه تراكم معرفي علمي، وغالباً ما تكون معلومات وأقيسة شخصية تفتقر إلى الكلية التي يتجاهل معها كثير من الاعتبارات، للأسف المعرفة الكُردية ليست منطقية، إنما خِبْرِيَّة أي ناتجة عن خبرة الكُردي في حياته اليومية، حيث تترابط فيها المعلومات بشكل تلقائي ولا تحتاج إلى بذل الجهد بل مدفوعة بالعاطفة، لتكون الاحكام المطلقة عرضة للأخطاء الفادحة، ألا يشكل عزوف العقل الكُردي الحالي عن القراءة السبب الأساسي لفقدان المعرفة المنطقية والتفكير التوسيعي؟
وشكل تكلم الكُردي بلغته والكتاب والقراءة بلغة أخرى خلل في بناء وعيه وطريقة فهمه للعالم، فاللغة والفكر هما ثنائيتان متلازمتان لا تنجح إحداهما بغياب الثانية، لذلك عانى الكُردي الصعوبة في التعبير عن الفكر الذي يُعتبر أكثر فاعلية باللغة الأم، فهل ضاق أفق العقل الكُردي لصالح أفق الآخر نتيجة القراءة والكتابة بلغة أخرى تختلف عن روح وبيئة وطبيعة العيش الكُردي؟ فاللغة مرآة العقل.
والذي شكل جزءاً من العقل الكردي الحالي في القرن الماضي كانت المدارس في الدولة التي تقاسمت فيما بينها جغرافية كردستان، فتأثر كل قسم بشكل مباشر بتلك الدولة، وبنظامها التعليمي، ومارست تلك الدول نوعاً من المعرفة الموجهة ضد شعبها، ناهيك عن توجيهها ضد الشعب الكُردي، فتوارث العقل الكُردي الموروث المشوه لتلك الدول، ويُضاف إليه ما عند الكُردي من ثقافة متشابهة في بعض تفاصيلها، كتقديس الرموز السياسية والحزبية، بالإضافة إلى حالة التشتت السياسي والحزبي عند العقل الحالي نتيجة التفكير العاطفي الساذج للقيادات والقاعدة.
ويتميز العقل الحالي بأنه منفعل، ورد فعل لفعل مقابل، ويتحرك بواسطة غيره، ولا يمتلك المبادرة والخطوة الأولى لذلك ترى العقل الحالي يصل دائما متأخراً وأحياناً لا يصل أبداً، ينطبق هذا الوصف على الجانب السياسي، وعقل الطبقات الحاكمة المتناحرة التي ولدت للأسف حالة من الاستقطاب الحاد بين أحزاب وتيارات المجتمع الكُردي، وزاد الطين بلة صفحات التواصل الاجتماعي التي صب روادها بنشاطهم الهدام الوقود على النار ليتحول أبناء الشعب الواحد إلى أعداء وتزيد حالة التنافر والتشرذم في العقل الكُردي المنهك عبر التاريخ.
ولم ينتج العقل الكُردي الحالي زعامات سياسية بمحض إرادته، إنما فرضت عليه بشكل أو بآخر، ولعبت سلطة القبلة والعائلة دوراً بارزاً في انتاج القيادة السياسية، كما ساهم الصراع بين الدول المتقاسمة لأرض كُردستان عبر دعمها لحركات (تمرد) كُردية في البلدان المجاورة، لتظهر قيادات محسوبة ومدعومة من طرفها يُراد منها خدمة لمصالح الدولة الداعمة، ولا يهمها مطلقاً الحقوق الكُردية، فهل القيادات السياسية التي ظهرت كانت مؤهلة لقيادة العقل الكُردي سياسياً؟
ولم تكن حالة المثقف الكُردي أفضل حالا من التشرذم القائم في الواقع السياسي، كون المثقف الكردي يعاني هو الآخر من حالة تشتت معرفي وفكري، ولم تنجح النخب المثقفة مجتمعة في انتاج معرفة كُردية، وتوعية ثقافية للعقل الكُردي، ولم تتمكن أصلاً من تشخيص الحالة ناهيك عن إيجاد الحلول لها، ويتحول المثقف الكُردي إلى متفرج، وبأحسن الأحوال مشجع ومصفق للقيادات السياسية، أو مرتزق على شاشات الإعلام لصالح جهة سياسية كُردية ضد أخرى.
وشكلت الظروف الراهنة في المجتمع الكُردي حالة استقطاب كبيرة، ليتحول العقل الكُردي إلى عسكري حامل للسلاح لصالح طرف سياسي كُردي، أو سياسي مُنظر لطرف سياسي كُردي آخر على صفحات التواصل الاجتماعي في شبكة المعلومات.
وتكمن المأساة الحقيقة في المناطق الحالية التي تدار من قبل العقل الكُردي السياسي، وذلك عندما ترى حالة الفشل في المنظومة التعليمية، والإعلامية، والاقتصادية، والخدمية، فالتعليم يخضع للأيديولوجيا الحزبية التي تهتم بإنتاج أفراد حزبيين لا عقول كُردية متعلمة، ناهيك عن فشل إدارة المراحل التعليمية، كأن ترى المدارس تُدرس الابتدائية بلغة، والثانوية بلغة، والجامعية بلغة أخرى، لتشعر أنك لست في مراحل تعليم أساسية بل في معهد للغات الشرقية، أو تقوم بطرد معلم القرية الوحيد في إحدى القرى النائية الكُردية بحجة عدم التعليم بلغة الأم دون إيجاد البديل، فهل الغاية مثلاً إنتاج عقل كُردي متخلف لا يعرف القراءة والكتابة؟
أما مأساة الإعلام الكُردي وخصوصا المحطات التلفزيونية التي انحرفت عن كونها أحد منابر التوعية ووسيلة لمراقبة السلطة السياسية الحاكمة إلى إحدى الأدوات الفتاكة بيد الأحزاب السياسية ضد بعضها البعض، وتحولت هذه القنوات مع كوادرها المستوردة من خلف الكواليس إلى منابر لهدم الوعي في العقل الكُردي ليتوجه الأخير إلى الأعلام الأجنبي.
هجرة العقل الحالي إلى أوروبا يضعه أمام تحديات صعبة، منها اللغة، واختلاف أسلوب العيش، والحنين للوطن، يترتب عليها مشاكل نفسية طويلة الأمد، وربما الأهم ماذا عن منظومة الأخلاق والثقافة الكُردية في دول تقدم إمكانيات ضخمة بهدف صهر المهاجرين في مجتمعاتها تحت مسمى برامج "دمج المهاجرين" فهل العقل الكُردي مدرك لما هو فيه؟ أو إننا دخلنا فعليا بمرحلة جديدة من تاريخنا لن تتكشف نتائجها إلا بعد عقود من الزمن؟
الخاتمة (العقل المستقبلي)
كانت هذه محاولة لتقفي أثار مسيرة العقل الكُردي منذ بدايته إلى يومنا هذا، والأبحاث في هذا الإطار تندرج في خانة العلوم الإنسانية والاجتماعية التي لا يمكن معها إعطاء أجوبة رياضية حاسمة، إنما الأجوبة تكون نسبية تحمل جزءاً من الحقيقة وليست الحقيقة المطلقة.
إن تسليط الضوء على بنية العقل الكُردي بجوانبها الإيجابية والسلبية تمكننا من فهم واقعنا، وتعطينا أجوبة لكثير من تساؤلاتنا اليومية، وتجعل بناء الشخصية الكُردية بشكلها النموذجي أكثر قابلية للتطبيق من خلال تحسين الإيجابيات وتحديد السلبيات ومن ثم تشخيصها ليتمكن العقل الكُردي من معالجتها وبالتالي نكون فاعلين منتجين في بناء ذاتنا وأمتنا ونأخذ مكاننا في بناء الحضارة الإنسانية مثل غيرنا من الشعوب الأخرى.
لا يُفهم من كلامنا أن الغاية هي إنتاج شخصية كُردية بصفات إيجابية مطلقة لتضمن البقاء والاستمرار، لأن بقاء الشخصية الكُردية واستمرارها كأمة يتحقق من خلال ديالكتيكية تعتمد الخسارة والنصر، والاعتماد والاستقلال، والحزن والسعادة، فالأول سبب للثاني، ولا وجود لأحدهما دون وجود الآخر.
عندما يعي الكُردي ذاته بما فيها من إيجابيات وسلبيات سيبدأ التغيير المنشود، منطلقا بشكل تصاعدي يبدأ من القاعدة وينتهي في أعلى الهرم، فإذا تغيرنا نحو الأفضل كأفراد سنكون قد مهدنا الطريق أمام تغير المؤسسات الكبرى السياسية والتعليمية والإعلامية الكُردية التي فقدنا الأمل منها في إحداث التغيير منطلقة من نفسها، فالكُردي دائماً هو الذي يفكر ويعمل ويحلم ويثور حقاً.
المراجع
القرآن الكريم.
داروين، تشارلس، أصل الأنواع – نشأة الأنواع الحية عن طريق الانتقاء الطبيعي أو الاحتفاظ بالأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل البقاء، (ترجمة مجدي محمود المليجي)، المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 2004.
Yuval Noah Harari, Hayvanlardan Tanrılara Sapiens, (İnsan türünün Kısa bir tarihi), 1.Baskı, Berdan, İstanbul 2015. S.27.
شالين، جان، الإنسان نشوؤه وارتقاؤه، (ترجمة صادق قسومة)، ط1، بترا، دمشق 2005.
ساجان، كارل، تأملات عن تطور ذكاء الإنسان، (ترجمة سمير حنا صادق)، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة 2005.
دالبوداك، مسعود، التهميش الممنهج للوجود الكردي تاريخيا في جغرافية شعوب آريا ي ظل هيمنة العنصر الفارسي على القوميات الأخرى، مقالة منشورة على شبكة المعلومات في موقع مدارات كرد، والموقع الكردي السويدي للدراسات، 2018.
دالبوداك، مسعود، الكُردي مسلماً القومية في مهب رياح الدين، مقالة منشورة على شبكة المعلومات في الموقع الكردي السويدي للدراسات، 2018.



#مسعود_دالبوداك (هاشتاغ)       #          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الجزائر تقدم مساهمة مالية استثنائية لوكالة -الأونروا- بقيمة ...
- حماس: لن نسلم الأسرى الإسرائيليين إلا بصفقة حقيقية
- بن غفير يدعو لإعدام المعتقلين الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ ال ...
- حماس: لن نسلم الأسرى الإسرائيليين إلا بصفقة حقيقية
- المواجهات تعود لمدينة الفاشر رغم اكتظاظها بالنازحين
- شهادات مروّعة عن عمليات التنكيل بالأسرى داخل سجون الاحتلال
- دهسه متعمدا.. حكم بالإعدام على قاتل الشاب بدر في المغرب
- التعاون الإسلامي تؤكد ضرورة تكثيف الجهود لوقف جرائم الحرب بح ...
- -العفو الدولية- تتهم السلطات الكردية بارتكاب جرائم حرب في سو ...
- فرنسا تطرد مئات المهاجرين من باريس قبل انطلاق الألعاب الأولم ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - مسعود دالبوداك - رحلة العقل الكُردي