|
لم أنته من حضن أمي
عبد العاطي الكحلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 5835 - 2018 / 4 / 4 - 20:30
المحور:
الادب والفن
... لم يكن الأمر سهلا .. جئت إلى هذا الكون ، وليس بأيدي خلقت مع الحزن ، ربما تجمعنا أقدار . لكنني عندما خلقت ، خلقت وسط عائلة مزدهرة . مزدهرة بالورود والأزهار .. نعم خلقت وسط عائلة كانت مثل الأرض الفلاحية . والأسرة بطبيعتها أرض فلاحية . جاء بي رحم أمي إلى أسرة كان أبي فيها مثل الأرض الفلاحية ، وكنت أنا وإخوتي مثل الورود والأزهار فيها ، بينما كانت أمي هي تلك الأمطار التي تتساقط من السماء لتحيي الأرض وتسقي الورود والأزهار . لكن حينما رحلت أمي أصبحت تلك الأرض ميتة ثم ذبلت تلك الورود والأزهار . أيعقل إذن أن الأراضي تزدهر بالورود والأزهار بدون أمطار ؟ . كنا عائلة . كنت فيها مع أبي وإخوتي مثل القلم مع الورقة ، لا نخلو من الأخطاء ، بينما أمي كانت فينا مثل الممحاة مع الورقة والقلم ، الأم هي من تمحو أخطاءنا ومشاكلنا .. وماذا الآن ؟ ها أنذا أحكي وأبكي . لم أكن أبكي دائما . لكنني أصبحت أبكي وأنشج مثل طفل صغير .. لم أنته في حضن أمي . انتهيت في أسرة حزينة وسط مجتمع حقير ، مجتمع سكير لا يرحم . نعم ذاك المجتمع الذي يرغمني على فعل أشياء ليست بإرادتي . أصبحت أنتفض في هذا المجتمع كمن لسعته عقرب . أصبحت أهرول من هذا المجتمع مثل هارب من كلب مسعور . فكرت في فعل أشياء لا يرضاها الرب لكني عزمت على الصمود . كان القلب قويا . من قال أنا سأعيش بدون أمي ؟ . ألا تدري بأن من جاء بي إلى الوجود رحيم بإمرأة . جاءت بي أمي إلى الحياة وأعادتني إليها أمي حينما سقطت عدة مرات . لكن السقوط أنواع : فهناك السقوط في الامتحان والسقوط في الحمام بسبب قطعة صابون مهملة وهناك وهناك .. لكن هل السقوط في الحياة هو حقا سقوط أم موت ؟ خانني وطلقني السقوط من الحياة . لكن لا بأس ، هي تجربة . لكنها مريرة جدا . لا طعم للحياة . الحياة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب . أصبت بالدوار والقهر والسؤال يكبر أمامي : " أحقا سأعيش سعيدا وأجنحتي إنكسرت وسجنت " أمي ؟" . لا أشاء العيش بدون أمي ... طالما لعنت الضجيج والناس ، وتمنيت لو يأتي يوم لا أجد فيه أحد يخطر أمامي . كرهت الزحام . نتزاحم على كل شيء، وفي كل مكان ، حتى في السجون . فرحت هل تحققت أمنيتي فعلا ؟ هل استجاب الله دعائي ؟ كم من الأشياء تمنيت لكنها لم تتحقق . أنظر إلى صورة أمي في البيت . في الشارع . في المدرسة .. أو ربما في الفراش وأقول : هذه الأم وهذه المرأة التي نبتت في حقل الإسلام لا تستحق ذاك المكان . طرقت معظم الأبواب متأبطا أوراقي التي تختصر حياة كاملة من الدراسة والتفوق . طويت أحلامي ورميتها في القمامة . انتهيت في دائرة الحزن . لم أنته في حضن أمي . وجهي كأنما قد من حديد لا يجد مثيرا للضحك . لماذا يضحك هؤلاء التافهون ؟ لماذا يضحك زملائي في المدرسة ، في الدرب ﻷتفه الأسباب والكلمات ؟ يقف أمامك صديق ويبادرك بابتسامة كي تلين . تؤدي ثمن مشروبك فيضحك النادل . الأغبياء .. لو لم يكن الضحك لكان العالم أجمل . على الأقل لن يكون هناك بكاء . الأشياء تستدعي ضدها . أذهب الى بائع السجائر بالتقسيط المرابض دائما في طرف الدرب . أضع ساقا على ساق ولا أكلمه . أدور بعيني في كل جهات الدرب . أنظر إلى أخي الصغبر الذي يسخر منه الأطفال الذين يلعبون . ثم أنكمش . أحني رأسي ووجهي يقطر حمرة قانية وأغادر المكان والقهقهات تضج وتملأ كل ثقب حولي . أفتح باب المنزل . أدخل إلى بيتي وأغلق بابي وأدفن وجهي وأبكي . أبكي وأنتحب مثلما انتحبت يوم فارقت ابنة عمي الحياة . رأسي يحلف لي بأن كل شيء ضاع . كل شيء ضاع مثلما حدث لي من قبل وضاعت مني حبيبتي بل خطيبتي التي سميت عليها ابنة خالتي . كيف لي أن أعيش ؟ لا أريد العيش بدون أمي ﻷن أمي تساعدني على فعل أشياء كثيرة علي إنجازها . والأدهى أنني ما أزال في ريعان شبابي . فاجأني صوت كأنما ذلك الكائن يقرأ أفكاري : " أنت لا تستطيع أن تعيش بدون أمك " . ﻷن أمي هي التوأم الوسيم لي . ليست أمي هي على أي حال في السجن . هكذا أقنعتني نفسي ومنعت الدم من أن يفيض عن عروقي . كانت أمي هي أجنحتي التي تحلق بي بعيدا وترفع لي رأسي .. لكن انكسرت أجنحتي حينما سجنت أمي . لماذا يا الله ؟ امنح ﻷمي حريتها . لماذا يا الله ؟ امنحني أجنحتي . تنفلت صورتها من ذاكرتي المثقوبة . عندما انفرد إلى نفسي في الظلام . نأخذ من تلافيف رأسي الغارق في الفراغ صورتها . وأعيدها إلى مكانها في الذاكرة وأنام سعيدا . أنا سعيد فقط في الظلام ، وعندما يطلع نهاري تعود سيرتي الأولى ويعبس وجهي . ألعن من قال : " علاقتنا بالغير علاقة صراع وغرابة .. ". كان شاعرا . الوغد . من المؤكد أنه عاش بعيدا عن أمه وإلا ما قال ذلك . فكيف سأعيش بدون أمي ؟ فإذا كان الطير يعيش سعيدا بدون أجنحة . فأنا أيضا سأعيش بدون أمي . انتهيت في دائرة الحزن .. لم أنته في حضن أمي . كل المآسي تنبع من الظلم . الظلم صناعة إنسانية يتقنها البشر بأهوائهم ومطامعهم وجشعهم . الظلم ليس صفة حيوانية ، وإنما هو أيضا صفة إنسانية بامتياز ، إذ الحيوان يظلم وفقا لقانون الطبيعة ، وأما الإنسان يظلم بحسب مقتضيات الثقافة . نعم هو موجود . موجود في كل مكان . والإيمان به ليس صعبا . فحتى الآن لن يفشل فيه الآخرون . نعم هو موجود ، يعرفه الجميع واختبروا وجوده جيدا ووجدوه موجودا. كلامي ليس عن الله بل عن الظلم . لا يهمني المال ، فكل ما يدب على الأرض على الله رزقه بل تهمني حرية أمي . أين حريتها يا الله ؟ من يتكفل بها ؟ هل أنت يا الله أم الآخرون ؟ . يحيط بي أصدقائي في كل مكان .. أبتسم . لا أتعب لا أنام . لا يطلع نهاري ولا يغشاني ليل . يضيء المكان . لا شمس تضيئه . يضيء وكفى . أجد نفسي في ساحة كبيرة مضاءة . أجيل بصري باحثا عن مصدر الضوء فلا أجد شيئا . ساحة مضاءة وكفى . و جهي صارا دخانا . وجهي غارق وسط ضباب لا أعرف من أين أتى . لا أدري بأي منطق أقنع به الناس . أليس الناس هم من ظلموا أمي ؟ عذرا لا أقبل منك هذا أيها الإنسان لا لا .. كفى أن أذرف الدموع لا على كرامتي المصونة. كفى أيتها الأقدار المولعة كفى . ألا تحزنك حياتي ، حياتي التي تنمو بسر .
#عبد_العاطي_الكحلاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال
...
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان
...
-
الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل
...
-
فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل
...
-
-سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال
...
-
مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م
...
-
NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
-
لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
-
فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|