أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع حمضي - روسو مكتشف قارة الطفولة















المزيد.....


روسو مكتشف قارة الطفولة


وديع حمضي

الحوار المتمدن-العدد: 5809 - 2018 / 3 / 8 - 00:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


التربية الذهنية والدنية والوجدانية ،ودورهما في تشكل الإنسان الطبيعي
يشكل جهد التفكير في التربية ،تفكيرا في الإنسان بالأساس،من حيث أن لكل مجتمع إنساني في أي زمان ومكان،طريقة للعيش، وثقافة تميزه عن غيره من المجتمعات، حينما نتحدث عن تركيباته وبناءه السياسي والاقتصادي،التي تتمثل في الثقافة والتراث وبوتقة القيم .عبرهم ينشأ تفكير الإنسان بماله من عادات وتقاليد،ومثل عليا.أملا في أن تنبثق توجهاته الفكرية وانتماءاته العقائدية.
لذا،تعد التربية من أهم وأعوص المشكلات التي تطرح على الإنسان ،بما في ذلك رجال التربية والتعليم،إذ إن الأنوار تتوقف على التربية،والتربية بدورها تتوقف على الأنوار،وعليه لا يمكن بهذا التعبير للتربية أن تتقدم من خطوة إلى أخرى،أو نرسي مفهوما دقيقا للبنيتها،وأن جيلا قد ورث جيلا سبقه تجاربه ومعارفه،والأخير قد أضاف إليها من جانبه شيئا من التجديد ليرثها الجيل المولي فيعمل على تطويرها وفق هذا النحو.وأي ثقافة مهمة وأي تجربة مهمة،لا تفترضان هذا المفهوم لذلك لم يكن ليظهر إلا متأخرا،ولم نبلغ به مبلغا من الوضوح الكامل بعد.
ها هنا يطرح سؤال حول ما إذا كان على ثقافة الفرد أن تحاكي بحق ثقافة الإنسانية عامة، عبر أجيالها المختلفة كما يذهب كانط في كتابه تأملات في التربية.
ثمة اكتشافان إنسانيان يحق لنا أن نعتبرهما من أهم الاكتشافات،وهما فن سياسة البشر وفن تربيتهم.بهذا يساورني سؤال عريض مفاده من أين تبدأ إذن تنمية استعدادات الإنسان للتربية؟.أينبغي علينا الانطلاق من حالة خالية من الثقافة أم من حالة تكون مثقفة أصلا؟
ما سينصب عليه اهتمامنا في هذه الورقة،هو أننا سنقف عند كل من التربية الذهنية،والدنية فالوجدانية ودورهما في تشكل مفهوم الإنسان الطبيعي.
التربية الذهنية والدينية والوجدانية
إذا كان كانط في مقدمة كتابه"تأملات في التربية" يرى بأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربيته،ونقصد بالتربية الرعاية (التغذية التعهد) والانضباط والتعليم المقترن بالتكوين(Bildung)،ومن هذه الزوايا الثلاث يكون الإنسان رضيعا،وتلميذا وطالبا،فإن جان جاك روسو هو الأخر سوف يقدم لنا تصورا مستحدثا للتربية الذهنية(أو كيف نعلم إميل).إذن فالمقصود يا ترى بالتربية الذهنية عند أبا الرومنطقيين؟
التربية الذهنية
يذهب جان جاك روسو في كتابه أميل وتحديدا،الكتاب الثالث إلى استعراض أهم الطرق والميكانيزمات التي يمكن من خلالها لإميل أن يكتسب العلم والمعرفة.
في البدء يتناول روسو تربية إميل وهو كغلام في سن الثانية عشرة من عمره،هي المرحلة التي يكون فيها إميل مستعدا للتربية الذهنية أو ما يسميه بالتعلم الإيجابي،إذ يتعلم إميل في بادئ الأمر من العالم المحيط به،إي لا يترك لإميل إلا الاحتكاك المباشر بالعالم و بالطبيعة،لتلمس عناصرها. حتى يعرف بأن الجغرافيا الفلكية شيء نافع،مع ضرورة ترك الحرية لإميل حتى لا تتاح له فرصة تناول الكتب قد تكون ضارة له،ذلك أنها لا تعلم إلا في كلام لا نعرفه،والكتاب الذي لا بأس أن نجعله في متناول إميل هو كتاب روبنسون كروزو لأنه صورة رجل عمل بمفرده على حفظ حياته.يقول روسو في هذا الصدد"قد يخطر للمعلم أن ينقل حماسته إلى تلميذه بشروح وتعبيرات وتعليقات،ولكن يا لها من حماقة !فإن جمال الطبيعة لا يمكن أن يحس بالألفاظ،بل بالمشاهدة المباشرة .على اعتبار أن ذكاء الطفل في هذه المرحلة قصير وسرعان ما ينقضي،الشيء الذي يحتم على المربي أو المعلم أن لا يعلمه العلوم،بل عليه أن يهتم بالذوق ،لأن بالذوق نجعل إميل يحب التعلم ويرغب فيه.عطفا على هذا، يتعين على المعلم أيضا بأن لا يجعل من تلميذه ذاكرة يحشوها ويشبعها بالأجوبة متى سئل إميل ،والواقع كان عليه أن يثير فضوله بالأسئلة،حتى إذا وصل إلى سن التعقل،إلا ووجد نفسه على اهتمام واستعداد عقلي. هذا لن يتم إلا بإثارة حفيظة التلميذ ولفت انتباهه إلى ذلك الترابط القائم بين الحقائق وطرق تسلسلها ،لأن من شأن هذا الترابط أن يدفع التلميذ إلى نوع من الفضول المعرفي. الذي من خلاله ينتقل من حقيقة إلى أخرى.حيث ستؤدي به إلى التفرقة بين الأشياء كالزجاج والشمع،وأجسام أخرى قصد معرفة قوانينها.
لا يفوتني هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة التي أوردها روسو،حيث أشار إلى الفيزياء المغنطيسية، نظرا لأنها ستساعد الذهن والذاكرة معا على الانتقال من تجربة إلى أخرى،وذلك وفق نظام منطقي واضح . فما يهم روسو في هذا الباب هو أن يتدرب إميل على استخدام ذهنه وتنمية ذاكرته ،حتى ينتقل من تجربة إلى أخرى ،من خلال منطق معين،وهو منطق التفكير الذي سيصل له إميل في سن التعقل.
هذا،ويلفت نص روسو نظرنا إلى نقطة أساسية، وهي الفكرة التي تنوه بالتعلم الذاتي والاعتماد على الذات،وهذا لن يتم إلا بتشجيع إميل وتعلميه الاعتماد على نفسه في التعليم،انطلاقا من هنا تبدأ مرحلة التفكير والتعقل،لهذا ينبه روسو إلى عدم مقارنة إميل نفسه بأقرانه من الأطفال،فليكن هو معيار نفسه،ما يطلب منه هو أن يدرس العلاقات الاجتماعية،ويقدر الفنون المختلفة على أساس منفعتها الحقيقيةوتجدر الإشارة أنه يمكن اعتبار سبب حرص روسو على ضرورة مرور إميل من الطور الحسي،الذي يقوم على انفتاحه على العالم الذي من حوله،هو أن أميل لم تتشكل لدية ملكة للحكم والتمييز بعد،وهذا هو ما سنسلط له الضوء
تشكل ملكة الحكم والتمييز(طور التعقل)
عندما نريد أن نلج إلى ما أصبح اليوم يسمى في الأدبيات الديادكتيية والبيداغوجية ،بالعملية التعليمية التعلمية،نقول بأن روسو واحد من الوجوه التي طرحت قضية التربية الذهنية أو التعلم،وذلك أن التلميذ كان عليه في البداية أن يتعرف على العالم المحيط به يلامسه يتحسسه،وقتها يكتشف الهضاب، والسهول، والأشجار وغيرها من أشياء العالم الخارجي. بقي له بعدها أن يتعرف على القوانين التي تضبط الطبيعة وما طبيعة العلاقات التي تربط كل عنصر من عناصر الطبيعة بآخر،لن يحصل هذا إلا بتدريب إميل لحواسه ،لأجل هذا قمنا بعدها برياضة فكره،آنذاك يصير تلميذنا كائنا محبا ومعقولا.فمتى تحدثنا انتقلنا بالحديث من الحس قلنا أن أميل غدت له إحساسات،وتقدمنا خطوات إلى المعقول سجلنا بأنه أصبح لديه معاني وأفكار،وكتب روسو يقول "إن تلميذنا لم تكن لديه في البداية إلا إحساسات.أما الآن فلديه معان وأفكار .كان من قبل يحس فحسب،أما الآن فيميز ويحكم.لأنه من المقارنة بين إحساسات معقدة يمكن أن نسميها فكرة أو معنى" يفهم بأن سؤال المعنى من اختصاص الذهن، لأننا لا نستطيع أن نقدم الجواب بشأنه عندما نرى أن المعاني هي عبارة عن علاقة واقعية بين الأشياء أو بشكل سطحي،أو أن نخلق علاقات في الذهن لا وجود لها لا في الحقيقة ولا في الظاهر،والحق أن نرى العلاقات كما هي في ذهن دقيق وذاك هو المعنى.
إذا سلمنا مع روسو بوجود صنفين من الإحساسات،إحساسات بسيطة و أخرى معقدة،فما طبيعة الحكم الذي يتولد عنهما؟إن الحكم الذي ينطوي عليه الإحساس ذو طبيعة سلبية أي حكم سلبي،نابع من مجرد تعبير عن ما نحس به من إحساسات،أما الصنف الثاني هو صنف الحكم المتضمن في التصور ،لأن طبيعته الإيجابية تتحدد انطلاقا من فعل المقارنة وتحديد العلاقات التي لا تُحدد من طرف الحواس،وما الذهن ومقارنته إلا محاولة تصحيح ذلك الحكم الخاطئ الذي يكون متضمنا في الحس،وهنا يظهر تأثير ديكارت الواضح حينما يتحدث عن دور الذهن في تصويب وتصحيح النظر،عسى أن تصبح لتلميذنا معرفة متميزة وواضحة،تساعده كي تصبح لديه ملكة للحكم تقوده إلى طريق تحصيل المعارف بالاعتماد على ذاته(يتعلم مهارة التفكير العلمي).ولكي يصبح إميل فردا قادرا على مواكبة الحياة الاجتماعية وربط العلاقات مع بن جلده الإنسان لزم علينا الاشتغال على جوانب أخرى من حياته ،وهو البعد الروحي والوجداني.
التربية الدنية والوجدانية
تشكل الميول والأهواء وبداية المراهقة
إذا كان للإنسان جانب ذهني ينشأ حينما نتعرف على كم هائل من الإحساسات،ليأتي التصور فيجمع كل ما تم اكتسابه عبر التعلم الطبيعي،فإنه في المقابل له جانب وجداني ،استدعى من روسو الإشارة إليه،حيث يطالعنا الكتاب الرابع بأن أميل ما إن يودع لحظة الطفولة يلج عالم المراهقة ،ولعل ما يميز هذه المرحلة ،هو ظهور الأهواء التي تعبر على أن إميل حدثت له جملة من التغيرات ستنعكس لامحالة على مزاجه وطبعه،فكيف يمكن للمربي أن يتعامل مع هذا الطور الجديد من النمو؟،هل كان على رجال التربية أن يقوموا في وقت مبكر مع أطفالهم بنشاط التنوير في الأمور التي جرت العادة على إخفائها عليهم؟ولماذا؟،يرى روسو في هذا المقام وكجواب عن سؤلنا"من المستحسن أن نؤخر ما استطعنا فضولهم في هذا الخصوص،وإذا وجهوا إلينا أسئلة فمن المستحسن أن نلزمهم الصمت خيرا من أن نكذب عليهم.أما إذا قررنا تنوير الأطفال في هذه المسائل،فليكن كلامنا معهم فيها مصطبغا بطابع الجد.ولا ينبغي إطلاقا أن نتخذ سذاجتهم فيها موضوعا للمزاح.فإن المزاح في هذه الأمور يمهد للتهتك والإباحية فيما بعد. يسجل انطلاقا من هذا القول ،بأنه لا يجب علينا بوجه من الوجوه أن نخوض مع الطفل في حديث لازالوا لم ينضجوا له النضج الكافي ،لأن من الأفضل أن تنمو الانفعالات ببطء ،على أن تنفجر بشكل عنيف فيفقد الطفل طهره مما يحول دون تفتح قلبه على الانفعالات الطيبة كالصداقة مثلا،لتشكل الأخيرة مفتاحا لانفتاح إميل على أغياره ، إما بدافع الحاجة أو النقص.
عندما ينفتح الإنسان(إميل) على غيره يحاول أن يكتشف ذاته وطبيعته من خلال أملاهم وآلامهم ،فالمعاناة مشتركة بين الناس وقيس على ذلك باقي المشاعر الأخرى،وعليه ففي هذا السن أي سن السادسة عشرة يعرف المراهق معنى الألم من وراء كل التجارب التي مر بيها والتي شكلت بحق طبيعته وجوهره رغم معرفته هذه لا تمكنه من أن يعرف أن الآخرين، هم أيضا يتألمون كما هو يتألم.
كما لا يكتفي صاحب كتاب إميل بهذا الجانب من طبيعة البشر،بل يشير إلى أهمية دراسة التاريخ والأساطير ومالهم من تبعات في تشكل الإنسان الطبيعي،وكثيرة هي الانتقادات التي نجد روسو يصوبها للطريقة التي بها يدرس التاريخ عادة ،ووجه النقد هنا نجده في نص روسو ذاته إذ يقول "إن التاريخ على العموم ناقص ومعيب .لأنه لا يسجل إلا الوقائع المحسوسة البارزة.التي يمكن إثباتها بالأسماء والأماكن والتواريخ .أما الأسباب الكامنة لتلك الوقائع تظل مجهولة خافية.إننا قد نجد في معركة رابحة أو خاسرة سبب قيام ثورة.وتكون هذه الثورة في الحقيقة أمرا لامناص من حدوثه حتى قبل تلك الموقعة.إن الحرب ليست إلا مظهرا معبرا عن أحداث قررتها أسباب معنوية يندر أن يفطن إليها المؤرخون" . نظرا للعيوب الكثير ة التي تعتري المعرفة التاريخية وطرق تدريسها،فهي لا تعطي صورة واضحة لقراءة الحياة الخاصة التي لن تقوم لها قائمة ،دون دراسة قلب الإنسان،وهذه هي الدراسة الحقة،دراسة الشخص الفرد أولا لدراسة الناس على وجه عام عوض التركيز على المعارك وتاريخ الأباطرة ،لذلك سيستفيد أميل من جراء هذا بأن يعمل على احتقار الشهوات والمطامع.ونفس الأمر ينبغي على المربين أن يقوموا به إذا أردوا الاستفادة من الأساطير، بجعل التلميذ يستخلص هو ذاته العبرة من تلك الحادثة التي أوردتها الأسطورة لأن "سر التربية كله في أن ندع للتلميذ لذة تعليم نفسه عن طريق الموضوعات والوقائع.فهذا هو ما يربي لديه ملكة التفكير والتمييز والقياس والضمير" .ويكمن سر هذه التربية في كونها تساعد على تشكل الضمير الأخلاقي يكون عملي ليشمل الناس كافة بغض النظر عن فروق الجنس والوطن أو الدين
التربية الدنية
حينما نتحدث عن التعليم الديني يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العمر،واستعدادات إميل ونضجه لهذا النوع من التعليم الروحي،إذ يفضل روسو في هذا الصدد بأن لا تكون ل"إميل" فكرة عن الإلهيات،على أن تكون لديه عنها أفكار مسبقة وخرافية،كما لا يريد أن يترك المعلم إميل عرضة للتأثيرات الدنية،بل ما يصبو له هو أن لا نفرض عليه عقيدة دنية بعينها،حتى تتهيأ له القدرة على اختيار العقيدة المثلى التي يهديه إليها عقله عن اقتناع وتميز
نحد روسو انطلاقا من نص إميل يروي لنا قصة نازح في إيطاليا قرر أن يغير دينه من البروتستانتية إلى الكاثوليكية ،فكيف أن هذا النازح صار من المهتدين للكثلكة ،متخليا عن مبادئه الأصلية،لأنهم زعزعوا إيمانه السابق بعد أن أدخلوه الملجأ،فشاهد الرذائل والشرور فعاقبوه على شكواه،ليصبح حينها فريسة بين أيدهم،متكبدا العناء عناء الجوع والمأوى ،يشار أن ذلك الفتى استفاد الشيء الكثير من هذا الملجأ ،ووقف عند تناقضات ما يبشر به أرباب هذا المذهب ،وما عاشه الفتى داخل الملجأ.
بعد أن ساقنا روسو إلى تتبع هذه القصة لفتى ،إذ به في صفحات لاحقة يفاجئنا بأن تلك القصة هي قصة روسو،كأننا كنا أمام اعترافات روسو،وعلى ذكر الاعترافات يعترف روسو "فما كان ذلك الفتى أحدا سواي.وإني اعتبر أن بعد المدة وفارق السلوك قد جعل مني شخصا آخر،بحيث أجد الجرأة على ذلك الاعتراف،وعلى إسداء الشكر والإجلال لصاحب تلك اليد الطولى في هدايتي" يستفاد من خلال هذه الإحالة إلى نص روسو،بأن الرجل يقدم شهادات تبرز بأنه يكن الاحترام والتقدير للكاهن جويم،وأن الأخير ساعده كي يعود مجددا للطبيعة فلا ينصت إلا إلى صوتها.
نسجل من خلال الاعترافات،اعترافات كاهن سافوا، بأنه ليس بمقدور الفلاسفة تخليصه من شكوكه،بل من شأنها أن تزيد من معاناته ،ليختار لنفسه مرشدا غير الفلاسفة ليقول مخاطبا نفسه،"فلنرجع إلى النور الداخلي،فهذا النور سيضللني ضلالا أهون من ظلالهم،لأن خطئي عندئذ سيكون من نفسي،وضرره هذا أسلم من الانسياق وراء أكاذيب وأخطاء غيري. إن قول العودة إلى الذات هو قول الحداثة والأنوار فمصدر الحكم والاعتقاد يصبح جوانيا،لا برانيا،وعندما نقول نفسي لا غيري، يصبح الإنسان ذاته هو مبتدأ التشريع وخبر الاعتقاد،وعلى طريقة ديكارت نجد روسو ،يرى بأنه رجع إلى نفسه واستعرض ما لصق بها منذ الولادة،ليجد بأن ليس ثمة من شيء يدعو إلى الإقناع والاقتناع ،وأن لاشيء بديهي ،وهذا أيضا يذكرنا باسبينوزا حينما سجل بأنه لن أؤمن بشيء واضح ما لم يتبدى لي بالبداهة العقلية على أنه كذلك.
هذا،وبعد استطرادات مستفيضة حول الدين الطبيعي الذي ينشأ من خلال عودة الذات إلى ذاتها،ومنها إلى الطبيعة،مع التوقف عند القوانين التي تحكم وتفسر الطبيعة ،يتوصل جان جاك روسو بعد طول تأمل لطبيعة الإنسان ،ويحددها في مبدأين متميزين أحدهما يريد أن يرتقي إلى دراسة الحقائق الأبدية وحب العدل والجمال،وأخر يسمو إلى آفاق العالم العقلي،أما الأخر فيتعلق بالإدراك ذاته،حيث يذل النفس لسلطان الحواس،وتوابعها من الأهواء والانفعالات،وبهذا نجد أن وصية قس كاهن السافوا لروسو لمثال بسيط لهذا الدين الطبيعي البسيط الذي ابتغاه روسو لإميل حيث يخاطب الكاهن"وإذا تحدثت إلى الناس فتقيد بوحي ضميرك ولا تكترث لتصفيقهم.وتجنب التطرف في التقوى فإن ذلك يقود إلى العصبية العمياء.وبشر دائما بالإنسانية والتسامح،ولا تنال في الحق لوم اللائمين .بل قل الحق وادع إلى الخير.فذلك هو الواجب الذي يتحراه الإنسان على وخالف هواك ومصلحتك الخاصة.فالمصلحة الخاصة خادعة مضللة.أما حب العدل فلا يخذل ولا يخدع ولا يضل،وتلك وصيتي لك أيها الشاب .هذا ولا يستقيم الحديث عن فعل التربية من دون أن يصبح إميل قادرا ومستعدا لمتطلبات الحياة الاجتماعية،ولكي تتهيأ له هذه القدرة كان على المربي أن ينمي إحساس الحب لدى إميل. كي لا يسقط في فخاخ الغرائز والشهوات والإباحية والفجور وهاته هي التربية الوجدانية الذوقية
التربية الوجدانية والذوقية
إن الأمر الذي يتطرق إليه روسو في نص إميل شبيه وإن لم نقول هو منطلق ما صار يسمى اليوم بالتربية الجنسية،حيث يشير روسو لهذا الغرض بأنه" يجب أن أتخير المناسبة،والزمان والمكان،وأن أحدثه في الموضوع ببساطة ورزانة،ولكن ليس في جفاف ،بل بحيث يدرك أني مشترك معه في الإحساسات التي أحدثه عنها ،وسأحدثه عن الحب والنساء والملذات حديثا صريحا أكسب به قلبه وأكون موضع سره في هذه الأمور بعد ذلك. على ضوء هذا القول نلاحظ بأن ثمة خطة يحترم فيها الزمان والمكان،والطريقة المثلى التي عبرها نبرز لإميل بأن له أحساسات كباقي البشر،وأن الإنسان من خلال طبيعته يميل إلى حب النساء ،وما يتبع ذلل من ملذات،في محاولة منه لتقاسم بعض الأسرار التي يجهلها الطفل عادة،فالمربي عندما يريد حسب روسو أن يعلم الطفل فهو لا يقصد تخويفه من طبيعته،بل في الواقع يهدف من جراء ذلك تأمين الشباب ،وحمايتهم من فخاخ الشهوات والحب،لأن في عصر روسو كانوا ولا زال بعضهم في ثقافتنا العربية يعتبرونه جريمة،كأنما خلق الحب للعجائز فحسب !
وعلية يبدأ الشباب شيئا فشيئا ينفذوا إلى قلب الحياة الاجتماعية ،وخير وسيلة كي يطرق بابها هو قول روسو"أن قلبك أيها الشاب بحاجة إلى رفيقة فهيا بنا ننشد تلك التي تلائمك.وربما لم يكن العثور عليها سهلا،فالفضيلة الحقة نادرة دائما .فلنبحث بأناة .ولا بد أن نعثر على ضالتنا في النهاية،أو على الأقل على أقرب فتاة إليها شبها .من شأن هذا المرونة في التعامل أن تساعد الفتى على يصبح منفتحا على الحياة الاجتماعية،لينتقل من مجرد الوعظ والإرشاد الذي كثيرا ما يتسم بالقسوة والعنف ،إلى الاستقلال الفكري المعبر في الآداب الاجتماعية ،التي تقوم الاحترام ونبد أي إيذاء أو احتقار.
أما فيما يتعلق بالذوق فيشير روسو بأن ثمة عدة تعريفات للذوق وتبقى مضللة من جانبه،والتعريف الذي يكاد يهتدي إليه هو الذي يرى بأنه عبارة عن ملكة الحكم على يعجب الكثيرين أو لا يعجبهم،ويتابع روسو حديثه عن الذوق بالإشارة إلى أهم السمات التي تميزه،ولاسيما عندما نلاحظ بأن قواعد الذوق تبقى محلية من جهة الجو والطباع ،بما في ذلك التقاليد والأعراف والنظم الاجتماعية وطريقة الحكم،كما تدخل اعتبارات السن والجنس وغيرها عاملا في تحديد الأذواق،ولهذا يقال بأنها لا تناقش،وبناء عليه أمكننا أن نقول بأن من سمات الذوق الأساسية أنه متغير ويتأثر بالحساسية والثقافة والبيئية،.
وكل هذا التحديد من أجل أن يصل بنا روسو إلى أنه ينبغي علينا،الاهتداء للتربية الذوق تكون خالية من التفاوت بين الناس،وذلك كي لا "يتفشى الترف والبذخ ويسود الذوق الفاسد وهذا بديهي لأن الذين يقودون الذوق هم الفانون والكبراء والأثرياء. .ونبه أيضا بأن لا تهيمن المرأة على الأذواق كي لا يصبح إميل يعيش في مجتمعات مخنثة،من شأن الترف والبذخ أن يؤدي إلى طمس الجمال الطبيعي على أمل أن نقترب بإميل إلى الخطوة الأخيرة وهي لحظة زواجه بصوفي
خاتمة
حصاد ما جاء في هذا التوقف مع روسو ،نقول إن درس الأنوار هو درس في التربية بالأساس،تكون تربية منسجمة ومتكاملة ،لا إفراط فيها ولا تفريط ،وكي تصير كذلك انطلق روسو من لحظة الطفولة،ليكتشف قارة أخرى أسمها الطفولة،وبما أن مصير الإنسان مرهون بطفولته كان علينا الخروج من الطرق التقليدية للتربية التي يتداخل فيها الدين من جهة والأعراف والتقاليد والخرافات من جهة أخرى،وجعلنا هذا نقول بأن روسو قدم تصورا جديدا ومستحدثا للتربية،تجاوز مجرد تحديد القدماء له في التغذية ،إلى برنامج عمل سيصبح متداولا في مجال التدريس،وسفرا للمربين إذا ما أرادوا ممارسة نشاط التربية
وإذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي بجب تربيته،فإن روسو من خلال عمله إميل، وأعمال أخرى يكون قد قدم تصورا أخرا عن الإنسان ،حيث معه سجلنا بأنه قد سلط الضوء لمختلف تجلياته،إذ تحدثنا عن جانب المعرفة ولحظة انفتاح واحتكاك إميل بالطبيعة،كما تطرقنا معه للجانب الوجداني والذوقي وذلك في إطار مفهوم أشمل هو الإنسان الطبيعي.



#وديع_حمضي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هابرماس وإعادة بناء مشروع الحداثة
- لقد سقطت تلك المساحيق التي تجعل من الباهث لامعا


المزيد.....




- إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟ ...
- الرئيس السابق للاستخبارات القومية الأمريكية يرد على الهجوم ا ...
- وزير خارجية الأردن لنظيره الإيراني: لن نسمح لإيران أو إسرائي ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع أنبا ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع وأنباء عن ضربة إسرائيلية على أ ...
- انفجارات بأصفهان بإيران ووسائل إعلام تتحدث عن ضربة إسرائيلية ...
- في حال نشوب حرب.. ما هي قدرات كل من إسرائيل وإيران العسكرية؟ ...
- دوي انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود على إيران- وسط نفي إيراني- لحظ ...
- -واينت-: صمت في إسرائيل والجيش في حالة تأهب قصوى


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وديع حمضي - روسو مكتشف قارة الطفولة