أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد ليثي - إرنستو ساباتو: العالم يعيش أزمة حضارة.















المزيد.....

إرنستو ساباتو: العالم يعيش أزمة حضارة.


أحمد ليثي

الحوار المتمدن-العدد: 5781 - 2018 / 2 / 8 - 11:14
المحور: الادب والفن
    


مقدمة المترجم:
أجري هذا الحوار لمجلة "يونسكو كوريير" في عام 1990، ورغم مرور 27 عامًا على الحوار، إلا أنه لم يفقد راهنيته، لا يزال العالم يعاني من الأسلحة النووية، ولم يتعاف من الكارثة الروحية التي ألمت به، والتي كان ساباتو يدركها، منذ دخول أوروبا عصر الثورة الصناعية.
وُلد ارنستو ساباتو في بوينس أيرس بالأرجنتين عام 1911، والتحق بكلية العلوم الفيزيائية والرياضيات بجامعة لا بلا تا، وحصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء. ورغم عمله جزء كبير من حياته في الأبحاث الفيزيائية إلا أنه لم يجد فيها شغفه الخاص الذي وجده في الأدب، ذلك أن الأدب – كما يقول ساباتو – يستطيع التعبير عن شكوك الإنسان تجاه الله والقدر والحياة.

ترجمة: أحمد ليثي

لقد كتبت العديد من المقالات، لكن الأكثر أهمية كانت مجموعة مقالات عنونتها بـ "الإنسان والآلة"، حول الآثار غير الإنسانية للعلم والتكنولوجيا. كيف تأتّى لعالِم مثلك أن يرى الأمور بهذا الوضوح؟
رغم دراستي لتخصصات الفيزياء والرياضيات، التي قدمت لي نوع من النظرة التجريدية والملاذ المثالي في "جنة أفلاطونية"، بعيدًا عن فوضى ذلك العالم، لكني سرعان ما أدركت أن الإيمان الأعمى بالفكر الخالص، والعدل، والتقدم، الذي يتحلى به بعض العلماء، جعلهم يتغاضوا، وفي بعض الأحيان يحتقروا الجوانب الأساسية في حياة الإنسان، كاللاوعي والأساطير التي ترقد تحت أصول التعبير الفني. وباختصار، لقد وجدت الجانب الخفي في حياة الإنسان، والذي كنت أفتقده تمامًا في عملي العلمي البحت – أي أني وجدت مستر هايد الذي يحتاجه كل دكتور جيكل كي يغدو فرد كامل – في الرومانسية الألمانية، وفوق كل ذلك، في الوجودية، والسوريالية. وهكذا، ولّيت نظري عن الللوغاريتمات والأوعية الدموية، لأنظر صوب وجه الإنسان، ومنذئذ، لم أستطع أن أولى وجهـي عنه.

لقد تمكّن بعض الكتاب المعاصرين العظام من إقامة تصالح بين العلم والإبداع
يبدو ذلك، غير أن هذا لا يقلل من اعتقادي أن عصرنا يتسم بتناقض ملحوظ بقوة بين العلم والدراسات الإنسانية، والذي بات غير قابل للمساومة اليوم. لقد انحسر العلم وتراجع تراجعًا أولمبيًا، عازلًا الإنسانية، منذ عصر التنوير وأيام الموسوعات، وفوق كل ذلك، منذ نشأة الوضعية. كما أن السيادة المطلقة للعلم والتقدم على معظم سنوات القرنين التاسع عشر والعشرون قد قللا كثيرًا من قيمة الفرد، لدرجة أن جعلاه ترس في آلة ضخمة. ولا سيما أن النظريتين الرأسمالية والماركسية – على حد سواء – قد ساهما في نشر هذه النسخة المحرفة، والتي مفادها أن الإنسان الفرد ينصهر في المجموع، وأن سرّ الروح يقل لأنها باتت قابلة للقياس الكمـي بالانبعاثات الإشعاعية.

لقد نشأ في القرن التاسع عشر تيار فلسفي قوي يشكك في الصرح العقلاني الضخم الذي أسسه هيجل، وادّعى ان فلسفته تسحق الفرد، لقد كنا نفكر في كيركجارد، عن أي فيلسوف قد كتبت على نحو واسع؟
كيركجارد هو أول مفكر تساءل ما إذا كان يجب على العلم أن يكون له الأولوية على الحياة، لكن الإجابة التي جاءت بحزم، هي أن الحياة يجب أن تأتي أولًا. ومنذئذ، زُحزحت الذات التي أُلهت من قبل العلم كمركز للكون، واستُبدلت بالموضوع، موضوع الإنسان الذي هو من لحم ودم. وهذا ما قاد كارل ياسبرز ومارتن هيدجر، خلال القرن العشرين أن يتبنا الفلسفة الوجودية، التي تقول ان الإنسان لم يعد مراقب علمي نزيه، لكنه ذات مكسوة لحم، وهو المقدر له أن يموت، وهو مصدر التراجيديا والميتافيزيقا، اللتان تعدا أعلى أشكال التعبير الأدبي.

لكنهما ليسا الوحيدان اللذان كتبت عنهم؟
بالطبع لا، لكنهما في رأيي الأكثر أهمية بسبب البعد المأساوي والمتعالي في كتاباتهما، لكن للمرء أن يعتقد أيضًا أن رواية "مذكرات قبو" لدوستويفسكي كانت خطبة لاذعة مكسوة بكراهية كبيرة. لقد استنكر دوستويفسكي العصر الحديث، وعبادة التقدم.

لقد ولجنا إلى الأدب الآن.
نعم، لأن الرواية تستطيع التعبير عن أشياء أوسع من نطاق الفلسفة أو البحث، كشكوكنا المظلمة تجاه الإله، والقدر، ومعنى الحياة، والأمل. الرواية تجيب على كل تلك الأسئلة، ليس بالتعبير عن الأفكار ببساطة، لكن من خلال الأسطورة والرمز أيضًا، أي من خلال الاعتماد على الخصائص السحرية للفكر. رغم ذلك، كثيرًا من الشخصيات في الروايات هي حقيقة واقعية تمامًا. هل يبدو أن دون كيشوت غير واقعي؟، ثم إذا كان الواقع له أي علاقة بالثبات، إذن فإن هذه الشخصية التي وُلدت في مخيلة سيربانتس تغدو حقيقية أكثر من الأشخاص الذين يحاوطونا، ذلك أنها شخصية خالدة.

وهكذا، الأدب يفسر الواقع؟
لحسن الحظ، أن الشعر والفن لم يدعيا مطلقًا الفصل بين العقلاني وغير العقلاني، بين الإدراك والحكمة، بين الحلم والحقيقة. والحال أن الحلم والفن والأسطورة لديهم مصدر مشترك في اللاوعي، ذلك أنهم يكشفون عن عالم لا يمكن أن يتم التعبير عنه بأي شكل آخر. وهكذا، سيكون من السخيف جدًا أن يُطلب من أي فنان أن يفسر عمله، هل تتخيل بيتهوفن يحلل أي سيمفونية من سيمفونياته، أو أن كافكـا يفسر ما الذي كان يقصده فعلًا براويته "المحاكمة"؟ فكرة أن كل شيء يمكن أن يُفسر بطريقة عقلانية هو السمة الرئيسية للعقلية النموذجية للوضعية الغربية في العصر الحديث، عصر يبالغ في قيمة العلم والعقل والمنطق، ولكن هذا الشكل من الثقافة لا يمثل إلا لحظة قصير في التاريخ البشري.

يبدو أنك تعتبر أن عصرنا هو المرحلة النهائية للفكر الحديث الذي يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر وينتهـي بعصرنا الحالي؟
لا يجب أن نخلط الموضات الأدبية مع الاتجاهات العامة للفكر، ذلك أن حركة الأفكار الشاسعة والمأساوية تتسم بالتقدم والتقهقر، بالانحراف والتيارات المضادة. مع ذلك، يبدو واضحًا أننا نشهد نهاية عصر، أو أننا نعيش أزمة حضارة، حيث يوجد نوع من المواجهة بين القوى الأبدية من العاطفة والنظام، أو بين الأخلاق والعاطفة او بين أبولونيوس وديونيسيوس.

هل يمكن أن نجد حلًا لهذه الأزمة؟
الطريقة الوحيدة التي يمكننا الهرب بها من هذه الأزمة المرّوعة، التي يعاني فيها الإنسان من الآلة الضخمة، المتورط فيها والتي تسحقه سحقًا هي بانتزاع الحياة. لكن في الوقت نفسه علينا ان لا ننسى – في فجر ألفية جديدة، أن العصر لا ينتهـي في اللحظة نفسها لكل شخص، ذلك أنه عندما كان التقدم في أوج ازدهاره في القرن التاسع عشر، كان كتاب ومفكرون مثل دوستويفسكي ونيتشة وكيركجارد، سبقوا عصرهم بالفعل، وأبدوا نظرة تشاؤمية من الكارثة التي كانت مدخرة لنا، والتي كان كافكا وسارتر وكامو يعبرون عنها، هذا على الرغم من نظرة العلماء المتفائلة.

ألهذا ترفض مفهوم "التقدم" في الفن؟
الفن لا يحرز أي تقدم أكثر مما يفعل الحلم، وللأسباب نفسها، هل كوابيسنا اليوم تعد متقدمة عن تلك التي كان أنبياء العهد الجديد يرونها؟، نستطيع أن نقول ان رياضيات أينشتاين متقدمة بشكل كبير عن رياضيات أرخميدس، لكن لا يمكن أن نقول عن عوليس – جيمس جويس أنها متقدمة بشكل كبير عن أسطورة الأوديسة لهوميروس. أتذكر أن إحدى شخصيات بروست كان مقتنعًا أن كلود ديبوسي أفضل من بيتهوفن لمجرد أنه قد وُلد بعده، لكن لا يحتاج المرء أن يغدو عالم موسيقى ليقدّر تهكم بروست الساخر في تلك الفقرة. صحيح أن كل فنان يطمح تجاه ما يمكن أن نسميه الكمال، أو تجاه قطعة من الكمال، سواء كان نحّات مصري في عصر رمسيس الثاني، أو فنان يوناني في العصر الكلاسيكي، أو دوناتيللو. لهذا السبب لا يوجد تقدم في الفن. هناك فقط تغير وانطلاقات جديدة، لا تتوقف فقط على أحاسيس هذا الفنان أو ذاك، لكنها تتوقف أيضًا على رؤية كل عصر أو ثقافة، هناك شيء واحد فقط مؤكد، وهو أنه لا يوجد فنان في وضع أفضل من الآخر أو بإمكانه تحقيق تلك القيم المطلقة لأنه ببساطة قد وُلد متأخرًا.

لذا، ألا تعتقد أن هناك جماليات كونية؟
دائمًا ما تكون الجماليات منعكسة في نسبية التاريخ، ذلك أن كل فترة تاريخية تهيمن عليها قيم دينية واقتصادية وميتافيزيقية معينة، وبالتالي تصبغها بألوانها. سنجد أن الكهنوت والتماثيل الضخمة في عصر رمسيس الثاني مثلًا، تمثل الحقيقة أكثر مما يمثلها تمثال واقعي ما، وذلك في نظر الناس الذين يعيشون في ثقافة دينية، تنشغل بشكل أساسي بالحياة الأبدية. وهكذا، يعلّمنا التاريخ دائمًا أن قيم مثل الحق والجمال تتغير من فترة لأخرى، وأن الثقافة البيضاء والثقافة السوداء تتأسسا على معايير مختلفة، وأن سمعة الكتاب والفنانين والموسيقيين دائمًا ما تكون مادة مرهونة بتقلبات البندول.

إذن، لن يكون ثمة مبررًا للحديث عن تفوق ثقافة على أخرى؟
لقد قطعنا شوطًا طويلًا من اليقين المتغطرس للنظرية الوضعية، ومن فكر الأنوار عمومًا. لكني عندما تابعت عمل عالم الاجتماع ليفي بريل، الذي أكّد بكل أمانة بعد 40 عامًا من البحث، أن ليس ثمة تقدم في حركة الفكر من فكر أسطوري إلى فكر منطقي، وإنما كان لابد من التعايش بينهما في نفس الإنسان، وأنه يجب علينا النظر إلى جميع الثقافات على أنها تستحق الاحترام، والحق أننا قد أنصفنا مؤخرًا الثقافات التي كنا نسميها سابقًا ثقافات بدائية.

أنت غير راض عن التعليم المتاح حاليًا في الجامعات والمدارس، ما الذي يفتقر إليه في اعتقادك؟
اعتدت – حينما كنت طفلًا – أن أبتلع جبل من الحقائق، التي كان علي أن أتخلص منها بسرعة كلما استطعت إلى ذلك سبيلًا، ولأضرب لك مثلًا، كنت بالكاد أتذكر رأس الرجاء الصالح، ورأس هورن في مادة الجغرافيا، وربما كان ذلك لأن الصحف عادة ما كانت تذكرهما. قال شخص ذات مرة أن الثقافة هي ما يتبقى حينما تنسى كل شيء آخر، لذا، فإن التعلم يعني أن تأخذ القليل، أن تكتشف، وتبتدع، إن كان على الناس أن تمضي قدمًا، فإنها يجب أن تشكل رؤاها الخاصة بها، حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب الأخطاء والتقهقر للبداية مرة أخرى، الأمر هو أن الناس يجب أن تكتشف طرق وتجارب بوسائل أخرى، وإلا سنظل ننتج أعداد هائلة من العلماء في أحسن الأحوال، أو مثقفون ببغاوات يجترون الجمل الجاهزة من الكتب في أسوأ الأحوال. صحيح أن الكتب أداة رائعة للمعرفة، بشرط ألا تكون عائقًا يمنعنا من متابعة بحوثنا.

كيف ترى دور المعلّم؟
أن يولّد الكلام. ذلك أنه كـي تتعلم يعني أن تتطور، أن تُخرِج ما هو موجود في شكله البدائي، أن تدرك الاحتمالات. بيد أن هذا العمل نادرًا ما يتم من خلال المعلّم، وربما هذا هو الأصل في كل أخطاء نظامنا التعليمي. والحق أن التلاميذ يجب أن يعتادوا أن يسألوا أنفسهم، وأن يقتنعوا بجهلهم وجهلنا، وبالتالي سيكونون مستعدين، ليس فقط لطرح الأسئلة وإنما أن يفكروا لأنفسهم، حتى وإن كانوا غير متفقين معنا، كما أنه من المهم جدًا لهم أن يكونوا قادرون على ارتكاب الأخطاء، ويجب علينا أن نتقبل منهم تلك الأسئلة والطروحات التي تبدو غريبة في بعض الأحيان. نظرًا لهذه الحالة الذهنية، سيتفهم الطلاب حينها أن الحقيقة معقدة بشكل لا نهائي وأكثر غموضًا من تلك المنطقة الصغيرة التي تشملها معرفتنا، وكل شيء سيأتي بالتتابع بعد ذلك، وهذا هو ما يثير الأسئلة واليقين، ذلك أن المزج بين التقاليد والابتكار هو الذي يؤسس لديناميكية الثقافة. وكما قال كانط ذات مرة، ليس على الناس أن تتعلم الفلسفة، لكن عليهم أن يتعلموا كيف يتفلسفوا، وهذا ما أدركه أفلاطون أيضًا في محاوراته، التي كانت تعتمد منهج التهكم والتوليد، عندما كانت الأسئلة تُثار بسبب وعينا الأساسـي بجهلنا.

أيمكن أن تضرب لنا مثلًا؟
عندما كنت أسافر عبر غابات باتاغونيا، منذ وقت طويل جدًا، أرتاد سيارة جيب مع مأمور الغابات، الذي أخبرني كيف أن الغابات تتناقص تدريجيًا بفعل حرائق الغابات المتعاقبة، لكنه لفت نظري إلى الدور الدفاعي التي تقوم به أشجار السرو، والتي تحوّل نفسها لجيش دفاعي يضحي بنفسه لتأخير انتشار النار في الغابة ويحمي بذلك الأشجار الأخرى، ما جعل الرجل يقارن تلك الأشجار بالأبطال الخارقين. بيد أن هذا جعلني أتساءل ماذا لو أننا اعتمدنا تلك الطريقة في تعليم مادة الجغرافيا، لو أننا ربطنا الصراعات بين الفصائل، وغزو المحيطات والقارات، بتاريخ الإنسان الذي يعتمد بطبيعة الحال على البيئة الأرضية. أظن أن هذه هي الطريقة التي ستجعل التلاميذ تلتقط فكرة المغامرة الحقيقية، بتصوير تلك المعركة المثيرة ضد القوة المعادية للطبيعة والتاريخ، وسيبتعدون بذلك عن الحمل الثقيل للمعارف الموسوعية، والأفكار المعبأة مسبقًا. وهكذا، ستتجدد المعرفة بشكل دائم، عندما نمنح كل تلميذ شعور الاكتشاف والمشاركة في مغامرات العصور القديمة. ولأضرب لك مثلًا، لو أنك تريد أن تحفر في عقول الأطفال نقش لا يمحى عن الجغرافيا المعقدة للقارة الأمريكية، كتجربة معيشة، لن تكون الطريقة المثلى أن تعلمهم إياها عن طريق سرد مغامرات المستكشفين العظام مثل فرناندو ماجلان أو فاتحين مثل إرنان كورتيس. الأمر هو أنك يجب أن تشكّل لا أن تتشكّل، كما قال ميشي دي مونتين " التعلم بالقلب لا يكون تعلمًا". ما التأثير الذي سيتركه كتاب ثمانين يومًا حول العالم لجول فيرن على المراهقين في مادتي الجغرافيا والإثنولوجي؟، يجب علينا بدلًا من ذلك أن نثير الدهشة بشأن الأسرار الغامضة للكون، وأني أعتقد أن كل شيء في الكون مدهش لو أنك تأملته، لكن الألفة تجعلنا غير مبالين ولم يعد شيئًا يبهرنا بعد الآن، لذا، علينا ان نعيد اكتشاف حس التساؤل لدينا.

لقد اقترحت طريقة التعلم من الأحدث إلى الأقدم، بداية من الحاضر، وصولًا إلى الماضي؟
أؤمن أن الطريقة المثلى لإثارة اهتمام المراهقين بالأدب هو أن تبدأ بالكتاب المعاصرين، فعادة ما تكون لغتهم واهتماماتهم قريبة من آمال التلاميذ ومخاوفهم، بعد ذلك سينتقل اهتمام التلاميذ تلقائيًا إلى ما كتبه هومر وسيربانتس عن الحب والموت، وعن الأمل واليأس، وعن العزلة والشجاعة، وهذا هو ما ينطبق على دراسة التاريخ أيضًا، بقراءة المشاكل الحالية على ضوء جذور الماضي.
كما أني أؤمن أيضًا أنه من الخطأ محاولة تعليم كل شيء. فقط يجب تعليم بعض المشاكل الرئيسية التي تكون كافية لتأسيس هيكل أساسي، وسيكون من المفيد أن يقرأ التلاميذ بعض الكتب القليلة، لكن عليهم أن يقرأوها بشغف، هذه هي الطريقة الوحيدة لتجنب السير في مقبرة من الكلمات الميتة، لأن القراءة ستكون مفيدة لو أنها لمست وتر في عقل القارئ، لكنها لن تكون كذلك إذا كانت نوع من التعلم شبه الموسوعي، المرتبطة دائمًا بالتعلم الكتابي، ما يجعل الأمر شكل من أشكال الموت، كما لو أنه لم يكن هناك ثقافة قبل أن يخترع جوتنبرج المطبعة.

لسنوات، كنت تشير إلى الخطر المتأصل في الأسلحة النووية، وإلى سباق التسلح والمواجهات الأيديلوجية، ألم تنزع الاضطرابات التي نشهدها هذه السنوات، وتحديدًا في الشهور الحالية شيء من قوة هذه الرسالة؟
لست متأكدًا من هذا. وقبل كل شيء، يجب ان نعترف بحقيقة تكاثر أعداد الأسلحة النووية، الكثير من الدول تمتلك بالفعل قنابلها الذرية، بالإضافة إلى سلسلة من ردود الأفعال التي تبدأ ببعض الأعمال الإرهابية غير المسؤولة والتي لا يمكن حصرها، لكن هذا فقط قمة جبل الجليد، والذي يبدو وحشيًا على أي حال. غير أن ما يقلقني حقًا هو الكارثة الروحية التي تواجه عصرنا، والتي هي نتيجة حزينة لقمع قوى اللاوعي في المجتمع المعاصر. وأني أرى دليل ذلك في تكاثر كل أنواع الأقليات الاحتجاجية، كما أني أراها في تاريخنا الجماعي. للأسف نحن نعيش في عصر مكروب وعصابي وغير مستقر، ومن ثم تواتر الاضطرابات النفسية وتصاعد العنف واستخدام المخدرات. بيد أن هذه مشكلة فلسفية وليست أمنية. لكن على الناحية الأخرى، وحتى وقت قريب جدًا لم تكن المناطق الهامشية من العالم مصابة بهذه الظاهرة، ذلك أنه في الشرق على سبيل المثال، كما في إفريقيا وأوقيانوسيا، ظلت التقاليد الفلسفية والأسطورية تحافظ على نوع من التوائم بين الإنسان والعالم.
إن الفوضى المفاجئة، والتي لم يسبق لها مثيل في القيم والتكنولوجيا، قد ألحقت الدمار بأوروبا، كما حدث خلال الثورة الصناعية، عندما أغرق الملاك السوق ببضائعهم من القطن الرخيص، وقد عرف الناس وقتها كيف ينسجون المنسوجات الرائعة. هذه الكارثة العقلية ستقودنا إلى انفجار نفسي وروحي، الأمر الذي سيؤدي إلى موجات من الانتحار ومشاهد الهيستيريا والجنون الجماعي، لكن لحسن الحظ، التقاليد العريقة لا يمكن أن تستبدل بقيم صناعة الترنزستور.

ألا ترى شيئًا إيجابيَا في المحصلة النهائية؟
نعم، ربما، لكني صراحة، أشك في أني أنتمـي إلى عرق في طريقة إلى الانقراض، أنا أؤمن بالفن، والحوار، والحرية وكرامة الإنسان الفرد، لكن من الذي يؤمن بهذا الهراء اليوم؟، هذا وقد أفسح الحوار المجال للإهانة، وأفسحت الحرية المجال للسجون السياسية. ترى ما الفرق بين الجناح اليميني والجناح اليساري في دولة بوليسية؟، كما لو أن هناك جلادون جيدون أو جلادون سيئون. على أني يجب ان أكون رجعيًا لأني لا أزال أؤمن بالديمقراطية العادية والمملة، لأن هذا هو النظام الذي يسمح للمرء أن يفكر بحرية ويمهد السبيل لتحقيق واقع أفضل.



#أحمد_ليثي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد ليثي - إرنستو ساباتو: العالم يعيش أزمة حضارة.