أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - تيار الكفاح العمالى - مصر - تاريخ الثورة الروسية .. ازدواجية السلطات















المزيد.....


تاريخ الثورة الروسية .. ازدواجية السلطات


تيار الكفاح العمالى - مصر

الحوار المتمدن-العدد: 5680 - 2017 / 10 / 26 - 04:05
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
    


..على ماذا تشتمل ازدواجية السلطات؟ ليس بوسعنا إلا أن نتوقف عند هذه المسألة التي لم نجد إيضاحًا لها في الكتابات التاريخية. ومع ذلك، فإن ازدواجية السلطة حالة خاصة لأزمة اجتماعية. وهي خاصية مميزة لا تتسم بها الثورة الروسية في عام 1917 فقط، وإن كانت هذه الخاصية بارزة وواضحة فيها أكثر من غيرها من الثورات.

فالطبقات المتعادية موجودة في المجتمع دومًا. وتحاول الطبقة المحرومة من السلطة دفع مسار الدولة كيما يميل نحوها إلى درجة معينة. ومع ذلك فإن هذا لا يعني وجود ازدواجية أو تعدد سلطات في المجتمع. ويتحدد طابع النظام السياسي بصورة مباشرة عن طريق علاقة الطبقات المضطهدة مع الطبقات الحاكمة. وتبقى وحدة السلطة، التي تعتبر شرطًا مطلقًا لاستقرار نظام من الأنظمة، ما دامت الطبقة الحاكمة ناجحة في فرض أشكالها الاقتصادية والسياسية على المجتمع، كما لو أنها الأشكال الوحيدة التي يمكن تطبيقها.

إن تحكم اليونكرز والبرجوازية معًا -سواء تبعًا لصيغة الهوهنزولرن أو صيغة الجمهورية- لا يشكل ازدواجية في السلطات، مهما بدت النزاعات عنيفة في بعض الأحيان بين المستلمين للسلطة، إن لهم قاعدة اجتماعية مشتركة، وليس هناك خوف من وقوع انشطار في الجهاز الحكومي من جراء خلافاتهم. إن نظام السلطة المزدوجة لا ينبعث إلا من نزاع طبقي لا يمكن التغلب عليه، وهو بالتالي نظام لا يمكن إقامته إلا في فترة ثورية، ويشكل أحد العناصر الأساسية لهذه الفترة.

وتشتمل الآلية السياسية للثورة على الانتقال من سلطة طبقة إلى أخرى. وتتم الانتفاضة العنيفة في حد ذاتها بصورة اعتيادية خلال فترة قصيرة. ولكن من الناحية التاريخية لا ترتفع أية طبقة من وضع التبعية إلى السيطرة فجأة، وفي ليلة واحدة، حتى ولو كانت هذه الليلة ليلة الثورة. فلا بُدَّ من أن تحتل في عشية الثورة موقعًا مستقلاً تمام الاستقلال إزاء الطبقة المسيطرة رسميًّا. وبالإضافة إلى هذا، ينبغي أن تتركز في هذه الطبقة آمال الطبقات والشرائح الوسطى المستاءة من الوضع القائم، والعاجزة عن القيام بدور مستقل. ويؤدي الإعداد التاريخي لانتفاضة ما، في فترة تسبق الفترة الثورية إلى أن تركز الطبقة المخصصة لتحقيق النظام الاجتماعي الجديد في يديها بالفعل جزءًا هامًا من سلطة الدولة، دون أن تصبح سيدة للبلاد بشكل كامل، في حين يكون الجهاز الرسمي بين يدي المالكين القدماء للسلطة. هذه هي نقطة انطلاق ازدواجية السلطة في كل ثورة.

ولكن ليس هذا الطابع هو طابعها الوحيد. فإذا كانت الطبقة الجديدة التي حملتها ثورة من الثورات إلى السلطة، لا تريد هذه الثورة أبدًا، وكانت في حقيقة أمرها طبقة شاخت، وتخلًّفت تاريخيًا، واهترأت قبل أن تتوج رسميًًّا، ووقعت عند وصولها إلى السلطة على خصم ناضج بما فيه الكفاية ويحاول الاستيلاء على مقود الدولة. يستبدل التوازن المزعزع للسلطة المزدوجة، في الثورة السياسية، بتوازن آخر قد يكون أحيانًا أقل ثباتًا. ويشكل الانتصار على “فوضى” السلطة المزدوجة في كل مرحلة جديدة، مهمة الثورة، أو… مهمة الثورة المضادة أحيانًا.

إن ازدواجية السلطة لا تفترض فقط، بل إنها تستبعد أيضًا بصورة عامة تقسيم السلطة على حصص متساوية، وتستبعد إجمالاً كل توازن قطعي للسلطات. وليست هذه الحقيقة حقيقة دستورية، بل إنها حقيقة ثورية. وهي تبرهن على أن خرق التوازن الاجتماعي قد خرَّب البنية الفوقية للدولة. وتبرز ازدواجية السلطة حيثما تعتمد الطبقات المتصارعة على تنظيمات دولة متنافرة للغاية -بعضها عفَى عليه الزمن، وبعضها الآخر يتشكل- تتدافع فيما بينها في مجال إدارة البلاد في كل خطوة. ويتحدد الجزء من السلطة الذي تحصل عليه كل طبقة من الطبقات المتصارعة في هذه الظروف بميزان القوى، ومراحل المعركة نفسها.

ولا يمكن أن يكون مثل هذا الوضع مستقرًا بطبيعته ذاتها. ويحتاج المجتمع إلى تركيز السلطة، سواء في الطبقة المسيطرة، أو في الحالة الحاضرة، في الطبقتين اللتين تتقاسمان القوة. ويفتش المجتمع عن هذا التركيز بصورة لا تقاوم. ولا تعلن تجزئة السلطة عن شيء آخر غير الحرب الأهلية. ومع ذلك قد تجد الطبقات والأحزاب المتصارعة نفسها مضطرة إلى الصبر فترة طويلة قبل أن تقرر خوض هذه الحرب، وخاصة إذا كانت تخشى تدخل قوة ثالثة. وتضطر إلى الموافقة على أسلوب السلطة المزدوجة. ومع ذلك لا بُدَّ من أن تنفجر هذه السلطة. وتعطي الحرب الأهلية للسلطة المزدوجة أوضح تعبير عنها وخاصة من الناحية الإقليمية، وتقاتل كل سلطة من السلطات -بعد إنشاء موقعها المحصن- لغزو ما تبقى من الأراضي، هذه الأراضي التي تتحمل في الغالب ازدواج السلطة بشكل غزوات متناوبة تقوم بها القوتان المتصارعتان ما دامت قوة إحداهما لم تتفوق على القوة الأخرى بصورة نهائيًّة.

لقد كانت الثورة الإنكليزية التي تمت في القرن السابع عشر، ثورة كبرى قلبت الأمة من الرأس حتى أخمص القدمين، وهي تمثل بوضوح تناوب ازدواجية السلطات مع انتقالات عنيفة من سلطة إلى أخرى، تحت طابع الحرب الأهلية.

ففي بداية الأمر عارضت البرجوازية والطبقات القريبة منها، والمؤلفة من نبلاء الريف السلطة الملكية المدعومة بالطبقات المتميزة أو بقمم الطبقات، من أرستوقراطيين وأساقفة. وكانت حكومة البرجوازية هي البرلمان الكالفاني الذي يعتمد على القوى اللندنية. وانتهى الصراع الطويل بين هذين النظامين بحرب أهلية مكشوفة. وخلق المركزان الحكوميان: لندن وأوكسفورد جيوشهما، واتخذت ازدواجية السلطات شكلاً إقليميًّا، مع أن الحدود الإقليمية كانت مزعزعة إلى حد كبير، كما هي الحال في كل حرب أهلية. وانتصر البرلمان وأسِر الملك، وانتظر مصيره.

وبدا أن شروط وجود سلطة موحدة للبرجوازية الكالفانية قد وجدت وتشكلت. ولكن قبل أن تتحطم السلطة الملكية، تحول جيش البرلمان إلى قوة سياسية مستقلة. وجمع في صفوفه المستقلين، والبورجوازيين الصغار، والصنَّاع، والزُرَّاع، والأتقياء، والمناضلين المتشددين. وتدخَّل الجيش ومارس سلطته في الحياة الاجتماعية لا كقوة مسلحة ولا كحرس “ديكتاتوري” فحسب، بل مارسها أيضًا كتمثيل سياسي لطبقة جديدة تعارض البرجوازية الغنية الميسورة. وأنشأ الجيش جهازًا جديدًا للدولة انتصب فوق القادة العسكريين؛ هو مجلس مندوبي الجنود والضباط (“المحرضون”). عندها جاءت فترة جديدة من ازدواجية السلطة، فهنا سلطة البرلمان الكالفاني، وهناك سلطة الجيش المستقل. وأدَّت ازدواجية السلطة إلى نزاع صريح وواضح. ووجدت البرجوازية نفسها عاجزة عن الوقوف في وجه “الجيش النموذجي” لكرومويل -أي الدهماء المسلحين- بقطعاتها الخاصة. وانتهى الصراع بتطهير البرلمان الكالفاني بمساعدة سيف الاستقلال. وبقي من البرلمان أثر بسيط، وتوطدت ديكتاتورية كرومويل. وحاولت الشرائح الدُنيا في الجيش، بقيادة “الممهدين” “LEVELLERS” الذين يشكلون الجناح اليساري المتطرف للثورة، مواجهة سيطرة الدوائر العسكرية العليا، وكبار ضباط الجيش، بنظامهم الخاص الشعبي. ولكن السلطة المزدوجة الجديدة لم تتمكن من النمو والامتداد؛ إذ لم يكن “الممهدون”، وأفراد الشرائح الدنيا من البرجوازية الصغيرة يملكون آنذاك، ولا يستطيعون أن يملكوا، طريقًا مستقلاً في التاريخ. وقد تعجل كرومويل فصفَّي حساب خصومه. وظهر نظام سياسي جديد غير مستقر، وبقي قائمًا خلال عدة سنين.

وفي زمن الثورة الفرنسية الكبرى، كان العمود الفقري للمجلس التأسيسي مؤلفًا من نخبة الطبقة الثالثة Tires-Etat. ولقد ركز هذا المجلس السلطة بين يديه دون أن يُلغي مع ذلك كل امتيازات الملك. وكانت فترة المجلس التأسيسي فترة ازدواجية خطيرة في السلطات انتهت بفرار الملك إلى فارين، ولم يُقضَ عليها بصورة حاسمة إلا بإعلان الجمهورية.

وكان أول دستور فرنسي (دستور عام 1791) المبني على وهم الاستقلال المطلق للسلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، يُخفي في الواقع أو يحاول أن يخفي عن الشعب ازدواجية حقيقية في السلطات؛ سلطة البرجوازية التي تخندقت بصورة نهائية في المجلس الوطني بعد استيلاء الشعب على الباستيل، وسلطة الملكية القديمة، التي ما زالت مدعومة بالطبقة النبيلة الرفيعة، ورجال الكنيسة، والبيروقراطية، والطغمة العسكرية، دون أن نتحدث عن الآمال المعتمدة على التدخل الأجنبي. وكان انهيار هذا النظام الحتمي يعد ويتهيأ من خلال تناقضاته. ولم يكن هناك أي مخرج ممكن إلا في القضاء على تمثيل الرجعية الأوروبية للبرجوازية أو في إحالة الملك والملكية إلى المقصلة. وكان على باريس وكوبلانس أن تتجابها.

ولكن كومونة باريس التي اعتمدت على الشرائح الدنيا للطبقة الثالثة Tiers-Etat في العاصمة والتي دافعت عن السلطة، بمزيد من الإقدام والجسارة ضد الممثلين الرسميين للشعب البورجوازي، دخلت إلى الساحة قبل أن يصل الوضع إلى الحرب والمقصلة. وقامت ازدواجية جديدة للسلطات، سجلنا مظاهرها الأولى منذ عام 1790 عندما كانت البرجوازية الكبيرة والمتوسطة متمركزة بقوة في الإدارة والبلديات. فكم كانت اللوحة مدهشة رائعة -ومعرضة مع ذلك للنقد والتجريح الشنيعين- لجهود الشرائح العامية للصعود من الأسفل، ومن الأقبية الاجتماعية، ومن سراديب الموت، والدخول في الساحة الممنوعة؛ حيث كان رجال يرتدون الشعر المستعار والسروال الضيق يحددون مصائر الأمة. وأصبح واضحًا أن نفس الأسس التي داستها البرجوازية المتعلمة، قد بُعثت إلى الحياة وبدأت بالحركة. وانبثقت من الكتلة المتماسكة رءوس بشرية، وامتدت أيد خشنة، وانبعثت أصوات صالحة، ولكنها لم تتسم بالرجولة. وعاشت ضواحي باريس، التي تُعتبر قلاع الثورة، حياتها الخاصة. وتم الاعتراف بها -فقد كان من المستحيل عدم الاعتراف بها!- وتحولت إلى دوائر. ولكنها كانت تحطم دومًا فواصل الشرعية، وتكتسب مدًا دمويًّا جديدًا قادمًا من الأسفل، ضد الشرعية البرجوازية التي تحمي الملكية الإقطاعية. وهكذا ارتفعت أمة ثالثة في ظل أمة ثانية.

ووقفت الأقسام الباريسية في أول الأمر تعارض الكومونة التي كانت تتصرف بها البرجوازية المبجلة. واستولت الأقسام باندفاعة 10 أغسطس (آب) 1792 الجريئة، على الكومونة. وقاومت الكومونة الثورية بعد ذلك المجلس التشريعي، ثم قاومت المجلس الثوري (الكونفانسيون)، اللذين تخلفا عن المسيرة، وأخرا إنجاز مهام الثورة، وسجلا الأحداث لكنهما لم يحدثانها، لأنهما لا يملكان القوة والجرأة، والإجماع الذي تملكه هذه الطبقة الجديدة التي أتيح لها الوقت للانبعاث من أعمال النواحي الباريسية ووجدت الدعم في أكثر القرى تخلفًا. وكما أن الأقسام استولت على الكومونة، استولت الكومونة بانتفاضة جديدة على المجلس الثوري (الكونفانسيون). وتميزت كل من هذه المراحل بازدواجية واضحة في السلطات كان جناحاها يسعيان إلى إقامة سلطة موحدة وقوية، وكان الجناح اليميني يلجأ إلى الدفاع، على حين يلجأ الجناح اليساري إلى الهجوم.

وتنبعث الحاجة إلى الديكتاتورية -هذه الحاجة التي تميز الثورات والثورات المضادة- عن التناقضات التي لا تحتمل للسلطة المزدوجة. ويتم الانتقال من أحد هذين الشكلين إلى الآخر بطريق الحرب الأهلية. ولكن المراحل الكبرى للثورة، أي انتقال السلطة إلى طبقات جديدة أو شرائح اجتماعية، لا تتطابق والحالة هذه أبدًا مع دورات المؤسسات البرلمانية التي تسير وراء ديناميكية الثورة وكأنها ظلها المتخلف. وفي نهاية المطاف اندمجت الديكتاتورية الثورية لعامة الشعب الكادح مع ديكتاتورية المجلس الثوري (الكونفانسيون)، ولكن مع أي مجلس ثوري؟ مع مجلس تخلَّص بالإرهاب من الذين كانوا يسيطرون عليه بالأمس، مجلس قل عدد أعضائه، وأصبح متطابقًا مع سيادة قوة اجتماعية جديدة. وهكذا ارتفعت الثورة الفرنسية خلال أربع سنوات إلى نقطتها الحرجة، بواسطة درجات سلطة مزدوجة. وبدأت بالنزول اعتبارًا من 9 ترميدور، ومن جديد بدرجات سلطة مزدوجة. ومرة أخرى أيضًا، سبقت الحرب الأهلية كل نزول، كما رافقت كل عملية صعود. وبهذا الشكل يفتش المجتمع الجديد عن توازن جديد للقوى.

وقد حصنت البرجوازية الروسية -التي قاتلت مع البيروقراطية الراسبوتينية وتعاونت معها- مواقعها السياسية خلال الحرب بصورة غريبة. وحشدت بين يديها قوة كبرى بواسطة اتحادات الزيمستفو والبلديات ولجان الصناعات الحربية، مستغلة هزائم القيصرية. وكانت تتصرف حسب أهوائها بأموال الدولة وميزانياتها الضخمة. وكانت تمثل في الوقت ذاته حكومة موازية. وكان وزراء القيصر يشتكون في فترة الحرب من رؤية الأمير لفوف يُمَوّن الجيش، ويغذِّي الجنود ويعتني بهم، وينشئ لهم مؤسسات الحلاقين. وكان الوزير كريفوشيئين يقول منذ عام 1915: “ينبغي أن ننتهي من لفوف أو نسلمه كل السلطة”. ولم يكن يتصور آنذاك أن لفوف سيستلم “كل السلطة” بعد ثمانية عشر شهرًا، لا من يد القيصر، ولكن من أيدي كرنسكي وتشخيدزه وسوخانوف. ومع ذلك فقد برزت في اليوم التالي لانتقال السلطة إليه، ازدواجية جديدة للسلطة، فإلى جانب نصف – الحكومة الليبرالية التي كانت سائدة بالأمس، والتي صبغت بعد ذلك الوقت بالطابع الشرعي، انبعثت حكومة غير رسمية ولكنها حكومة فعلية أكثر، هي حكومة الجماهير الكادحة، المشابهة للسوفييتات. واعتبارًا من هذا الوقت، بدأت الثورة الروسية بالارتفاع إلى مستوى حدث له دلالة تاريخية عالمية.

وفي هذا تكمن مع ذلك طرافة ازدواجية سلطات ثورية فبراير (شباط)؟ لقد شكلت ازدواجية السلطة في أحداث القرنين السابع عشر والثامن عشر، مرحلة طبيعية للصراع، مفروضة على أطراف الصراع بميزان مؤقت للقوى. وحاول كل طرف منهما عندئذ استبدال الازدواجية بسلطته الموحدة. وها نحن نرى في ثورة عام 1917 كيف شكلت الديمقراطية الرسمية، بوعي، وتبصر سابق، سلطة مزدوجة تدافع عن نفسها بكل قواها بغية الاستئثار بالسلطة لها وحدها. وتأسست الازدواجية، لأول وهلة، لا بعد صراع طبقي على السلطة بل نتيجة “لتنازل” بلا مقابل من طبقة إلى الأخرى. وعندما حاولت “الديمقراطية” الروسية الخروج من الازدواجية، لم تجد مخرجًا سوى الامتناع عن استلام السلطة. وهذا هو بالضبط ما سميناه “مفارقة ثورة فبراير (شباط)”.

وربما كان بوسعنا أن نجد بعض التماثل في سلوك البرجوازية الألمانية في عام 1848 إزاء الملكية، ولكن التماثل ليس كاملاً. صحيح أن البرجوازية الألمانية كانت تحاول بأي ثمن اقتسام السلطة مع الملكية على أسس اتفاق يتم بينهما. ولكن البرجوازية لم تكن تملك كامل السلطة بين يديها، لم تكن راغبة بالتنازل عنها كلية للملكية. “كانت البرجوازية البروسية تملك السلطة اسميًّا، ولم تشك لدقيقة واحدة أن قوى النظام القديم ستضع نفسها تحت تصرفها بدون أفكار سابقة، أو ستتحول إلى أنصار مخلصين لقوتها الخاصة” (ماركس وأنجلس) ولم تحاول الديمقراطية الروسية لعام 1917، التي كانت تملك السلطة بكاملها منذ وقوع الانتفاضة، اقتسام السلطة مع البرجوازية فحسب، بل حاولت أيضًا أن تتنازل لها بصورة كاملة عن الشئون العامة. وربما يعني هذا أن الديمقراطية الرسمية الروسية قد وصلت في الربع الأول من القرن العشرين إلى تفكك سياسي أكبر من تفكك البرجوازية الليبرالية الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر. وإن هذا لمن طبيعة الأشياء لأنه هو الوجه السيئ للصعود الذي قامت به البروليتاريا في خلال هذه الحقبة الزمنية، واحتلت مكان حرفيي كرومويل وجماهير روبسبيير الشعبية.

فإذا ما درسنا الواقع بعمق أكبر، وجدنا أنه كان للسلطة المزدوجة للحكومة المؤقتة واللجنة التنفيذية طابع واضح. وكان المدعي بالسلطة الجديدة لا يمكن أن يكون بلا ريب سوى البروليتاريا. وكان التوفيقيون المعتمدون على العمال والجنود دون أية ضمانة مضطرين إلى الحفاظ على المحاسبة ذات القيد المزدوج للقياصرة والأنبياء، وكانت سلطة الليبراليين والديموقراطيين المزدوجة تعكس فقط اقتسامًا للسلطة غير ظاهر بين البرجوازية والبروليتاريا. وعندما استعبد البلاشفة فيما بعد التوفيقيين من قمة السوفييتات -وقد حدث هذا بعد بضعة شهور- برزت الازدواجية الخفية للسلطات، وتم هذا في عشية ثورة أكتوبر (تشرين الأول) وقد عاشت الثورة حتى هذا التاريخ في عالم من الانحرافات السياسية. وتحولت ازدواجية السلطات، التي هي مرحلة من الصراع الطبقي، إلى فكرة منظمة. وأخذت تنحرف عبر مماحكات المثقفين الاشتراكيين. وهنا أخذت مكانها في المناقشة النظرية. لا شيء يضيع. وقد سمح لنا طابع بريق سلطة فبراير (شباط) المزدوجة بفهم مراحل التاريخ التي ظهرت فيه هذه الازدواجية كفترة فيض وسط صراع نظامين. وهكذا فإن ضوء القمر الضعيف يسمح لنا بالوصول إلى استنتاجات هامة حول ضوء الشمس.

وتكمن الخاصية الأساسية للثورة الروسية، التي قادت في أول الأمر إلى مفارقة ازدواجية السلطات نصف – الطيفية، في النضوج الكبير للبروليتاريا الروسية، بالمقارنة مع الجماهير الحضرية للثورات السابقة، ثم منعت فيما بعد الازدواجية الحقيقية من التحول لصالح البرجوازية؛ لأن المسألة كانت مطروحة على الشكل التالي: إما أن تستولي البرجوازية فعلاً على جهاز الدولة القديم، بعد أن جددته ليخدم مخططاتها، وعندها يصبح على السوفييتات أن تزول. أو تشكل السوفييتات قاعدة الدولة الجديدة، بعد أن تقضي، لا على جهاز الدولة القديم فحسب، بل على تفوق الطبقات التي كانت تستخدمه أيضًا. وقد توجه المناشفة والاشتراكيون – الثوريون نحو الحل الأول. وتوجه البلاشفة إلى الحل الثاني. ووجدت الطبقات المضطهدة نفسها، هذه الطبقات التي لم تكن تملك في الماضي حسب تعبير (مارات) معارف كافية، وتجربة، وقيادة لقيادة عملها حتى النهاية، وجدت هذه الطبقات نفسها، في ثورة القرن العشرين، مسلحة بهذه الصفات الثلاثة وانتصر البلاشفة.

وبعد عام من انتصار هذه الطبقات، طرحت المسألة ذاتها من جديد أمام ميزان آخر للقوى في ألمانيا. فقد كان الحزب الاشتراكي – الديموقراطي يتوجه نحو إقامة سلطة ديمقراطية للبرجوازية والقضاء على السوفييتات. وكانت روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت يتماسكان بديكتاتورية السوفييتات. وقد انتصر الاشتراكيون – الديموقراطيون. واقترح هيلفردينغ وكاوتسكي في ألمانيا، وماكس آلدر في النمسا “مزج” الديمقراطية بالأسلوب السوفييتي، وذلك عن طريق إدخال السوفييتات العمالية في الدستور. وكان هذا يعني تحويل الحرب الأهلية، الكامنة أو المعلنة إلى مركبة لنظام الدولة. ولا يمكن تصور مثل هذه الأفلاطونية الغريبة. وربما يكون تبريرها الوحيد فوق الأراضي الألمانية تقليد قديم؛ فلقد كان ديموقراطيو فرتمبرغ يريدون في عام 1848 جمهورية يرأسها الدوق شقيق الإمبراطور.

فهل تتناقض ظاهرة ازدواجية السلطة، التي لم تقدر بصورة كافية حتى الآن، مع النظرية الماركسية للدولة التي تعتبر الحكومة كاللجنة التنفيذية للطبقة السائدة؟ أي يعني: هل يناقض تذبذب الأسعار، تحت تأثير العرض والطلب، نظرية القيمة المستندة إلى العمل؟ وهل تدحض تضحية الأنثى التي تدافع عن صغيرها نظرية الصراع من أجل البقاء؟ كلا، إننا نجد في هذه الظواهر فقط، مزجًا أكثر تعقيدًا للقوانين ذاتها. فإذا كانت الدولة هي منظمة التفوق الطبقي، وكانت الثورة هي بديل الطبقة السائدة، فإن انتقال السلطة من أيدي الأولى إلى أيدي الأخرى، يخلق بالضرورة صراعًا في وضع الدولة، يظهر في بادئ الأمر على شكل ازدواجية في السلطة. وليس الميزان الطبقي للقوى عددًا حسابيًّا صالحًا لحساب مسبق. فعندما خسر النظام القديم توازنه، لم يكن من الممكن إقامة ميزان جديد للقوى إلا نتيجة لتحقق القوى المتبادلة في المعركة. وهذه هي الثورة.

وقد يبدو أن هذا الاستطراد النظري قد شغلنا عن أحداث عام 1917. والحقيقة، إن هذا الاستطراد يدخلنا في قلب الموضوع. فقد كان الصراع المأساوي للأحزاب والطبقات يتطور حول مسألة ازدواجية السلطة. ومن قمة هذه النظرية فقط يمكننا أن نحتضن بأنظارنا هذا الصراع، وأن نفهمه بصورة صحيحة.



#تيار_الكفاح_العمالى_-_مصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تاريخ الثورة الروسية .. اللجنة التنفيذية
- حراك طلابي .مصر . دمنهور . وقفه احتجاجية لطلاب الدراسات العل ...
- ..من القاهره لن ننسى شهداء الطبقه العامله .المغربيه.( 19 اكت ...
- نضال أممى.المغرب الكبير.اضراب 1000 عامل بمنجم سكساوه يدخل اس ...
- كراسات اشتراكيه .اسرائيل – فلسطين : كيف جعلت الإمبريالية شعب ...
- متابعه نضاليه .مصر. لأعتقال ممثلى العمال (النقابيين بالضرائب ...
- حراك تضامنى.مصر. 22 حزبًا وحركة سياسية ومنظمة حقوقية وأكثر م ...
- .مواقف امميه صديقه.العراق. بيان -البديل الاشتراكى -بصدد اقتت ...
- حراك تضامنى .مصر.22حزبًا وحركة سياسية ومنظمة حقوقية وأكثر من ...
- حراك عمالى .مصر.قوات الشرطه تمنع اعضاء النقابه المستقلة للضر ...
- نضال اممى .اليمن.الذكرى54لأنتصار ثورة14 اكتوبر 1967رغم نكسه ...
- نضال أممى.تونس.دعوة للوحدة والتنظيم يطلقها الرفاق اليساريين ...
- .الارشيف النضالى لعمال الغزل والنسيج.مصر.الذكرى ال23 لأول أض ...
- خبرات ثوريه .الجزائر (الذكرى ال27 لانتفاضة الخبز 5أكتوبر1988 ...
- .في الذكرى المئويه الاولى لثورة أكتوبر 1917 المجيدة، ننشر نص ...
- خبرات ثوريه (210عامًا على الثورة الفرنسية)
- .مقالات تحليليه ماركسيه ثوريه .مصر(عشر سنوات على إضراب المحل ...
- .نضال اممى.المغرب الكبير .بيانات صديقه .بيان ( إن السبيل الو ...
- .انتصار عمالى .مصر . عمال طنطا للكتان يحصلون امس على مستحقات ...
- نضال عمالى .مصر(تحت حكم الفاشيه .اعتقال 11 نقابى) من الضرائب ...


المزيد.....




- تحويل الرحلات القادمة إلى مطار دبي مؤقتًا بعد تعليق العمليات ...
- مجلة فورين بوليسي تستعرض ثلاث طرق يمكن لإسرائيل من خلالها ال ...
- محققون أمميون يتهمون إسرائيل -بعرقلة- الوصول إلى ضحايا هجوم ...
- الرئيس الإيراني: أقل عمل ضد مصالح إيران سيقابل برد هائل وواس ...
- RT ترصد الدمار في جامعة الأقصى بغزة
- زيلنسكي: أوكرانيا لم تعد تملك صواريخ للدفاع عن محطة أساسية ل ...
- زخاروفا تعليقا على قانون التعبئة الأوكراني: زيلينسكي سيبيد ا ...
- -حزب الله- يشن عمليات بمسيرات انقضاضية وصواريخ مختلفة وأسلحة ...
- تحذير هام من ظاهرة تضرب مصر خلال ساعات وتهدد الصحة
- الدنمارك تعلن أنها ستغلق سفارتها في العراق


المزيد.....

- الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي / أنطونيو جرامشي
- هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات ... / عبد الرحمان النوضة
- بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا / مرتضى العبيدي
- الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر / عبد السلام أديب
- سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية / سفيان البالي
- اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية / سامح سعيد عبود
- أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول) / علاء سند بريك هنيدي
- شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز ... / ابراهيم العثماني
- نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال ... / وسام سعادة
- النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب / سنثيا كريشاتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - تيار الكفاح العمالى - مصر - تاريخ الثورة الروسية .. ازدواجية السلطات