أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - بهاءالله - النّفْي والإبْعَاد (3)















المزيد.....

بهاءالله - النّفْي والإبْعَاد (3)


راندا شوقى الحمامصى

الحوار المتمدن-العدد: 5644 - 2017 / 9 / 19 - 16:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أُطْلِقَ سَراحُ بهاء الله في آخر الأمر دون محاكمة أو مراجعة، ونُفِيَ على الفور مبعَداً عن وطنه. وصادرت السّلطات اعتباطاً ثروته وممتلكاته. فما كان من الممثّل الدّبلوماسيّ للحكومة الرّوسيّة الذي كان على معرفة شخصيّة ببهاء الله وتابعَ بأسىً متزايد الاضطهادات التي تعرّض لها أتباع الباب، ما كان منه إلاّ أنْ عرض حماية بهاء الله ووجّه الدّعوة إليه ليلجأ إلى المناطق الواقعة تحت نُفوذ حكومته. ولم يقبل بهاء الله هذا العرض في تلك الظّروف السّياسيّة لئلاّ يُفَسَّر الأمر تفسيراً خاطئاً ويُعْطى صبغة سياسيّة. واختار راضياً النّفي للأراضي المجاورة في العراق والتي كانت تابعة آنذاك للحكومة العثمانيّة. وبدأ بهاء الله بهذا الإِبعاد فترة من النّفي والسّجن والاضطهاد المرير استغرقت أربعين عاماً.

خصَّص بهاء الله أولى اهتماماته في الأعوام التي تلت مباشرة رحيله منفيّاً عن أرض فارس، ليلبّي احتياجات الجامعة البابيّة المجتمعة في بغداد. ووقعت هذه المسؤوليّة على عاتقه لأنّه كان الوحيد الذي سَلمَ من المذابح من بين زعماء البابيّين ذوي النّفوذ. ففي آن معاً استُشْهِد البابُ وفُقِدَ معظَمُ الدّاعين للدّين الجديد والهادين إليه. ونتج عن ذلك تَفَرُّق جماهير المؤمنين وإضعاف معنويّاتهم. ولمّا شعر بهاء الله بأنّ مساعيه لجمع شمل أَتباع الباب الذين لجأوا إلى العراق قد أَثار الحسد والاختلاف، هجر بغداد وتركها قاصداً البرّيّة واعتكف في جبال كردستان العراق. وبخروجه إلى البرّيّة واعتزاله النّاس سَلَك بهاء الله الدّرب نفسه الذي سار عليه كلّ من سبقه من الرّسل والأنبياء. وكما أخبرنا هو في وقت لاحق: "قَسَماً بِاللهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدي نِيَّةُ الرُّجوعِ مِنْ هذِهِ المُهاجَرَةِ وَلا أمَلٌ في العَوْدَةِ مِنْ هذا السَّفَرِ." كان هدفه فقط كما قال: "أنْ لا أكونَ عِلَّةَ اخْتِلافِ الأحْبابِ، وَلا مَصْدَرَ انْقِلابِ الأصْحابِ". ورغم أنَّ فترة العامَيْن التي قضاها بهاء الله في البرّيّة كانت فترة قاسية اتّسمت بالعَوزَ والحرمان والمتاعب الجسديّة، فقد وصفها بأنّها كانت مليئة بالسّعادة الحقيقيّة، تمكّن فيها من التّأمُّل في عمق الرّسالة التي عُهِدَت إليه: "كنتُ مَشْغولاً [بِمُناجاةِ الرّوحِ] نابِذاً وَرائي العالَمَ وَما فيه".

وبعد تردّد طويل، وإيماناً منه بأنّ عليه واجباً يؤدّيه تجاه أمر الباب، وافق بهاء الله أخيراً أن يعود إلى بغداد، استجابة للرّسائل الملحّة التي وردت إليه من جموع المنفيّين اليائسين في بغداد، مِمَّن توسّلوا إليه بعد أن اكتشفوا مكان وجوده ليعود إليهم ويأخذ بزمام قيادتهم.
من أهمّ الآثار التي أنزلها بهاء الله في هذه الفترة الأولى من فترات النّفي في حياته، وقبيل الإِعلان عن بعثته في عام 1863، كتابان. الأوّل كتابٌ قصير أسماه "الكلمات المكنونة"، وهو بمثابة أمثلة من الحِكَمِ والأقوال المأثورة ذات الطّابع الخُلُقيّ، تمثّل في مجملها لُبَّ التّعاليم الخلقيّة التي نزلت في رسالته. وفي آيات ينعتها بهاء الله بأنّها جوهر الهداية الرّوحيّة التي جاءت بها كلّ المظاهر الإِلهيّة السّابقة، نَسمَعُ فيها النّداء الإِلهيّ وهو يخاطب مباشرة بتلك الكلمات روح الإِنسان:

"يا ابْنَ الرّوحِ ـ أحَبُّ الأشْياء عِنْدي الإِنْصافُ، لا تَرْغَبْ عَنْهُ إنْ تَكُنْ إليَّ راغباً، وَلا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكونَ لي أميناً، وَأنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أنْ تُشاهِدَ الأشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ، وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أحَدٍ في البِلادِ. فَكِّرْ في ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغي أنْ تَكونَ، ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتي عَلَيْكَ وَعِنَايَتي لَكَ، فَاجْعَلْهُ أمام عَيْنَيْكَ.

يا ابْنَ الوُجودِ ـ أَحْبِبْني لأُحِبَّكَ. إنْ لَمْ تُحِبَّني لَنْ أُحِبَّكَ أبَداً، فَاعْرِفْ يا عَبْدُ.

يا ابْنَ الإِنْسانِ ـ لا تَحْزَنْ إلاّ في بُعْدِكَ عَنّا، ولا تَفْرَحْ إلاّ في قُربِكَ بِنا وَالرُّجوعِ إلَيْنا.

يا ابْنَ الوُجودِ ـ صَنَعْتُكَ بأيادِيَ القُوَّةِ، وَخَلَقْتُكَ بِأنامِلِ القُدْرَةِ، وَأوْدَعْتُ فيكَ جَوْهَرَ نوري، فاسْتَغْنِ بِهِ عَنْ كُلِّ شَيءٍ، لأنَّ صُنْعِيَ كامِلٌ، وَحُكْمِيَ نافِذٌ، لا تَشُكَّ فيهِ وَلا تَكُنْ فيهِ مُريباً."

أمّا الكتاب الثّاني من هذَيْن الأثرين المهمّين من آثار بهاء الله الكتابيّة إبّان هذه الفترة فهو "كتابُ الإِيقان". يقدّم الكتاب عرضاً مسهباً لجوهر الدّين والأهداف التي يأتي من أجلها. وتستشهد فقراته ليس فقط بآياتٍ من القرآن الكريم، بل أيضاً بآيات من الكتاب المقدّس بعهدَيْه الجديد والقديم. وفي كلا الحالين نجد سلاسة التّعبير وعمق الإِدراك. ويصوّر لنا الكتاب الرُّسُلَ والأنبياء على أنّهم جميعاً واسطة واحدة لتنفيذ تدبير إلهيّ مستمرّ لا انقطاع له، غرضه إيقاظ الجنس البشريّ ليدرك إمكاناته الرّوحيّة والخلقيّة زمناً بعد زمن. ويبيّن أنَّ الإنسانيّة، وقد بلغت سنّ الرّشد، لَمْ تعد بحاجة إلى لغة الأمثال والقصص والحكايات، وأنَّ الإِيمان بالله لم يعد مسألة إيمان أعمى، بل هو عرفان واعٍ وإحساس صادق. وأنّنا لم نعد بحاجة بعد الآن لنخبة من رجال الدّين يَصْطفون أنفسَهم لإِرشاد النّاس وهدايتهم، فنعمة العقل تسبغ على كلّ فرد في هذا العصر الجديد من التّنوّر والعلم القدرةَ على قبول الهداية الإلهيّة. أمّا المحكّ الذي به يُعرف الإِيمان فهو الإِخلاص وصِدْقُ النّيّة:

"البابُ المَذْكورُ في بَيانِ أنَّ العِبادَ لَنْ يَصِلوا إلى شاطئ بَحْرِ العِرْفانِ إلاّ بالانْقِطاعِ الصِّرْفِ عَنْ ُكلِّ مَنْ في السَّمواتِ والأرْضِ... جَوْهَرُ هَذا البابِ هُوَ أنَّهُ يَجِبُ على السّالِكينَ سَبيلَ الإِيْمانِ والطّالِبين كُؤوسَ الإِيْقانِ أنْ يُطَهِّروا أنْفُسَهُمْ وَيُقَدِّسُوها عَنْ جَميعِ الشُّؤوناتِ العَرَضِيَّةِ ـ يَعْني يُنَزِّهونَ السَّمْعَ عَنِ اسْتِماعِ الأقْوال، وَالقَلْبَ عَنِ الظُّنوناتِ المُتَعَلِّقَة بِسُبُحاتِ الجَلالِ، وَالرّوحَ عَنِ التَّعَلُّقِ بالأسْبابِ الدُّنْيَويَّةِ، وَالعَيْنَ عَنْ مُلاحَظَةِ الكَلِماتِ الفانِيَةِ، وَيَسْلُكونَ في هذا السَّبيلِ مُتَوَكِّلينَ عَلى اللهِ، وَمُتَوَسِّلينَ إلَيْهِ حَتّى يُصْبحَنّ قابِلينَ لِتَجَلِّيات إشْراقاتِ شُموسِ العِلْمِ وَالعرْفانِ الإِلهيِّ، وَمَحَلاًّ لظُهوراتِ فُيوضاتِ غَيْبٍ لا يَتَناهى. لأنَّ العَبْدَ لَوْ أرادَ أنْ يَجْعَلَ أَقْوالَ العِبادِ مِنْ عالِمٍ وَجاهِلٍ وَأعْمالَهُمْ وَأفْعَالَهُمْ ميزاناً لِمَعْرفَةِ الحَقِّ وَأوْلِيائِهِ فَإنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أبَداً رِضْوانَ مَعْرفةِ رَبِّ العِزَّةِ، وَلَنْ يَفوزَ بِعُيونِ عِلْمِ سُلْطانِ الأحَدِيَّةِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَنْ يَرِدَ مَنْزِلَ البَقاءِ وَلَنْ يَذوقَ كَأسَ القُرْبِ وَالرِّضا.

انْظُروا إلى الأيّامِ السّالِفَةِ. كَمْ مِنَ العِبادِ مِنْ شَريفٍ ووَضيعٍ كانوا دائِماً يَنْتَظِرونَ ظُهوراتِ الأحَدِيّةِ في الهياكِلِ القُدْسِيَّةِ، عَلى شَأنٍ كانوا في جَميعِ الأوْقاتِ والأزْمِنَةِ يَتَرَصَّدونَ وَيَنْتَظِرونَ، يَدْعونَ وَيَتَضَرّعونَ، لَعَلَّ يَهُبُّ نَسيمُ الرَّحْمَةِ الإِلهيَّةِ، وَيَطْلُعُ جَمالُ المَوْعودِ مِنْ خَلْفِ سُرادِقِ الغَيْبِ إلى عَرْصَةِ الظُّهورِ. وَعِنْدَما كانَتْ تَنْفَتِحُ أبْوابُ العِنايَة، وَيَرْتَفِعُ غَمامُ المَكْرُمَةِ، وَتَظْهَرُ شَمْسُ الغَيْبِ عَنْ أُفُقِ القُدْرَةِ، يَقومُ الجَميعُ عَلى تَكْذيبها وَإنْكارِها وَيَحْتَرِزونَ عَنْ لِقائِها الّذي هُوَ عَيْنُ لِقاءِ الله، كَما هُوَ مَذْكورٌ وَمَسْطورٌ تَفْصيلُهُ في جَميعِ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ...

وَإذا ما أُوْقِدَ في القَلْبِ سِراجُ الطَّلَبِ وَالمُجاهَدَةِ، والذَّوْقِ وَالشَّوْقِ، والعِشْقِ والولَهِ، وَالجَذْبِ وَالحُبِّ، وَهَبَّ نَسيمُ المَحَبَّةِ مِنْ شَطْرِ الأحَدِيَّة، تَزولُ ظُلْمَةُ ضَلالَةِ الشَّكِ وَالرَّيْبِ، وتُحيطُ أنْوارُ العِلْمِ وَاليَقينِ بكُلِّ أرْكانِ الوُجودِ. فَفي ذلِكَ الحينِ يَطْلُعُ البَشيرُ المَعْنَويُّ كَالصُّبْحِ الصّادِقِ، مِنَ المَدينَةِ الإِلهيّة بالبشارَةِ الرّوحَانِيَّةِ، وَيَسْتَيْقِظُ القَلْبُ وَالنَّفْسُ وَالرّوحُ مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ بِصُوَرِ المَعْرِفَةِ، وَيُمْنَحُ حَياةً جَديدَةً بديعَةً بتأييداتٍ وَعِناياتٍ من روحِ القُدْسِ الصَّمَدانيّ، بِحَيْثُ يَرى نَفْسَهُ صَاحِبَ بَصَرٍ جَديدٍ، وَسَمْعٍ بَديعٍ، وَقَلْبٍ وَفُؤادٍ جَديدٍ. وَيَرى الآياتِ الواضحَةَ في الآفاق، وَالحَقائِقَ المَسْتورَةَ في الأنْفُسِ. وَيُشاهِدُ بِعَيْنِ اللهِ البَديعَةِ في كُلِّ ذَرَّةٍ باباً مَفْتوحاً لِلوصولِ إلى مَراتِبِ عَيْنِ اليَقينِ، وَحَقِّ اليَقينِ وَنورِ اليَقينِ. وَيُلاحِظُ في جَميعِ الأشْياءِ أَسْرارَ تَجَلّي الوِحْدانِيَّة، وَآثارَ الظُّهورِ الصَّمَدانِيَّةِ...

وَإذا ما تَطَهَّرَ مَشامُ الرّوحِ مِنْ زُكامِ الكَوْنِ وَالإِمْكانِ، لَوَجَدَ السّالِكُ حَتْماً رائِحَةَ المَحْبوبِ مِنْ مَنازِلَ بَعيدَةٍ، وَلَوَرَدَ مِنْ أثَرِ تِلْكَ الرّائِحةِ إلى مِصْرِ الإِيْقانِ لِحَضْرةِ المَنّانِ وَلَشَاهَدَ بَدائِعَ حِكْمَةِ الحَضْرَةِ السُّبْحانِيَّةِ، في تِلْكَ المَدينَةِ الرّوحانِيَّةِ...

أَما تِلْكَ المَدينَةُ فَهيَ الكُتُبُ الإِلهيَّةُ في كُلِّ عَهْدٍ. فَمَثَلاً في عَهْدِ موسى كانَتِ التَّوْراةُ، وَفي زَمَنِ عيسى كانَ الإِنْجيلُ، وَفي عَهْدِ مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ كانَ الفُرْقانُ. وَفي هذا العَصْرِ البَيانُ. وَفي عَهْدِ مَنْ يَبْعَثُهُ اللهُ كِتابُهُ الذي هُوَ مَرْجِعُ كُلِّ الكُتُبِ والمُهَيمنُ عَلى جَميعِها. وَفي هذِهِ المَدائِنِ أرْزاقٌ مُقَدَّرَةٌ، وَنِعَمٌ باقِيَةٌ مُقَرَّرَةٌ، تَهَبُ الغِذاءَ الرّوحانِيَّ، وَتُطْعِمُ النِّعْمَةَ القِدَميَّةَ، وَتَمْنَحُ نِعْمَةَ التَّوْحيدِ لأهْلِ التَّجْريدِ، وَتَجودُ عَلى مَنْ لا نَصيبَ لَهُمْ بِنَصيبٍ. وَتَبْذُلُ كَأْسَ العِلْمِ لِلهائِمينَ في صَحْراءِ الجَهْل. وَفي هذِهِ المَدائِنِ مَخْزونُ وَمَكْنونُ الهِدايَةِ وَالعِنايَةِ، وَالعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، وَالإِيْمانِ والإِيْقانِ لكُلِّ مَنْ في السَّمواتِ وَالأرْضِ."
(مترجم عن الفارسية)

يخلو "كتاب الإيقان" من أيّة إشارة علنيّة إلى بعثة بهاء الله نفسه، فهو لم يكن قد أعلن عنها بعد. وجدير بالقول إنّ مادّة الكتاب تتناول بعثة الباب الشّهيد بالشّرح والبيان في عرض مفصّل يتّسم بالقوّة والحجّة. كان للكتاب أبلغ التّأثير في أوساط الجامعة البابيّة التي كان ضمن أفرادها عددٌ من العلماء ونفرٌ من الذين أمّوا المعاهد الفقهيّة سابقاً. ولعلّ من الأسباب التي لا يستهان بها للتّأثير القويّ الذي أحدثه الكتاب في هذه الأوساط بالذّات، ما ظهر من امتلاك مؤلّفه لناصية العلوم المتّصلة بالفكر الإسلاميّ والتّعاليم الإِسلاميّة. وخاصّة في مجال شرحه لدعوة الباب وما حقّقته من النّبوءات التي جاء بها الإِسلام. ومن ثمّة حثّ بهاء الله أتباع الباب أن يكونوا أهلاً للثّقة التي وضعها فيهم الباب نفسه، جديرين بالسّير على درب العديد من الشّهداء الأبطال الذين قُتِلوا في سبيله، ووضع نصب أعينهم تحدّياً لم يقتصر فقط على مطالبته إيّاهم بأنْ يصوغوا نمط حياتهم على نسقٍ يتوافق مع التّعاليم الإِلهيّة، بل أهاب بهم أيضاً أن يجعلوا من جامعتهم أنموذجاً مثاليَّاً تحذو حَذْوَه العناصر المتباينة من السّكان في بغداد، العاصمة الإقليميّة للعراق.

حرّكت هذه الرّؤيا مشاعر البابيّين وشحذت قواهم، رغم ما كانوا يقاسونه من شظف العيش في ظروف ماديّة ضيّقة. ووصف أحدهم المعروف باسم النّبيل، الحياة الرّوحيّة العارمة لتلك الأيّام، وترك لنا فيما بعد تاريخاً مفصَّلاً لولايتيّ الباب وبهاء الله. كتب النّبيل واصفاً تلك الأيّام فقال:

"كَمْ مِنْ لَيْلَةٍ لَمْ يَزِدْ فيها طَعامُ العَشَرَةِ مِنْهُمْ عَنْ حُفْنَةٍ مِنَ التَّمْرِ تُشْتَرى بِفِلْسٍ. وَلَمْ يَكُنْ أحَدُهُمْ يَدْري عَلى وَجْهِ التَّحْقِيق شَيْئاً عَمّا يَجِدُهُ في بَيْتِهِ مِنَ الأحْذِيَةِ وَالعَباءاتِ وَالمَلابِسِ أهيَ مِلْكُهُ هُوَ أمْ مِلْكُ غَيْرِهِ. وَلكِنَّ كُلَّ مَنْ ذَهَبَ إلى السّوقِ ادَّعى أنَّ الحِذاءَ الذي يَنْتَعِلُهُ حِذاؤهُ، وَكُلَّ مَنْ يَحْظى بِمَحْضَرِ حَضْرَةِ بهاء الله يُؤَكِّدُ أنَّ الثَّوْبَ الذي يَلْبَسهُ هُوَ ثَوْبُهُ. أمّا أسْماؤهُمْ فَقَدْ نَسَوْها، أمّا قُلوبُهُمْ فَقَدْ فَرَغَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاّ ذِكْرِ مَحْبوبِهِمْ وَتَقْديسِهِ. فَآهٍ آهٍ لِهاتيكَ الأيّامِ الغَوالي وَلِحَلاوَةِ تِلْكَ السُّوَيْعاتِ العَجيبَةِ."
(مترجم عن الفارسية)

تمكّنت جامعة المنفيّين من أتباع الباب من أن تصبح تدريجيّاً عنصراً مؤثِّراً في العاصمة الإِقليميّة والمدن المجاورة لها، وتمتّع أفرادها باحترام النّاس وتقديرهم. فهال ذلك السّلطات القنصليّة الفارسيّة وأزعجها بعد أن كانت قد اقتنعت بأنَّ "القصّة البابيّة" قد شارفت نهايتها. أضِف إلى ذلك أنّ المنطقة التي سكنها البابيّون احتوت عدداً من أهمّ الأضرحة المقدّسة لدى المسلمين الشّيعة. وكان الحجّاج الفارسيّون الزّائرون لتلك الأضرحة عرضة لكي يتأثّروا بالنّهضة البابيّة الجديدة في ظروف جدّ مؤاتية. وكان من بين علّيّة القوم الذين زاروا تلك الدّيار، وقاموا أيضاً بزيارة بهاء الله في المنزل البسيط الذي كان يسكنه في بغداد، أمراء من البيت المالك الفارسيّ. وقد أُخِذَ أحد هؤلاء بما أحسّ به من مشاعر في الغرفة التي استقبله فيها بهاء الله، فجال في خاطره أمرٌ اتّسم بالسّذاجة إذ فكّر في تشييد غرفة مماثلة لتلك الغرفة في حديقة قصره علّه يتمكّن من أنْ يخلق عنده جوّ الطّهارة الرّوحيّة والانقطاع اللّذين عرفهما لبرهة وجيزة في محضر بهاء الله. وأميرٌ آخر بلغ به التّأثّر، إثر زيارته لبهاء الله، مبلغاً عظيماً، فقال يصفُ مشاعرهُ لأحد أصدقائه: "لا أدْري كَيْفَ أصِفُها لَكَ، وَلكِنْ إذا جَثَمَتْ كُلُّ الأحْزانِ على صَدْري شَعَرْتُ بِأنَّها تَبَدَّدَتْ في مَحْضَرِ حَضْرَةِ بهاء الله. فَكَأنَّما دَخَلْتُ الجَنَّةَ."
(مترجم عن الفارسية)

المراجع

12 من المفهوم أنّه كانت لدى السّلطات الفارسيّة شكوك كبرى حول أهداف الحكومتين البريطانيّة والرّوسيّة. فقد دأبت هاتان الحكومتان منذ زمن على التّدخّل في الشّؤون الفارسيّة.

13 كان أساس هذه المشكلات هو الميرزا يحيى، وهو أخو بهاء الله من أبيه ويصغره سنّاً. وقد عيّن الباب الميرزا يحيى وهو لا يزال في سنّ يافعة وتحت رعاية بهاء الله ليكون زعيماً رمزيّاً للجامعة البابيّة حتى مجيء من يظهره الله القريب الحدوث. وحدث أن وقع الميرزا يحيى تحت سيطرة أحد فقهاء المسلمين سابقاً والمعروف بالسّيد محمّد أصفهاني، فأثّر عليه الفقيه وبدأ الميرزا يحيى بمجافاة أخيه. وبدل أن تكون هذه المجافاة علنيّة فضّل الميرزا يحيى أن يعبّر عنها بالنّشاط الخفيّ السّرّيّ لإثارة القلاقل والاضطراب. فكان لذلك تأثيرات هدّامة بالنّسبة للمعنويّات المتدنّية لدى مجموعة المنفيّين. وأخيراً رفض الميرزا يحيى الاعتراف بإعلان بهاء الله عن رسالته ولم يكن له أيّ إسهام في نموّ الدّين البهائيّ الذي كانت بدايته ذلك الإعلان.

14 بهاء الله، "كتاب الإيقان" (ريو دي جانيرو، من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، [1978]، الطّبعة الثّالثة المعرّبة عن الفارسيّة)، ص201.

15 بهاء الله، "كلمات مكنونة" (طهران، مؤسّسه مليّ مطبوعات أمري، 128ب)، قسمت عربي. "الكلمات المكنونة" تنقسم إلى قسمين فارسيّ وعربيّ، المقتطفات من القسم العربيّ تحت الأرقام 2، 5، 35 و12.

16 "كتاب الإيقان" ص2، 3، 156، 157 و159.

17 "كتاب القرن البديع" ص169.

18 المصدر السّابق أعلاه، ص166.



#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بهاءالله- مَوْلِدُ الظّهُورِ الجَدِيد (2)
- بهاءالله-عَلى أعْتَابِ عَصْرٍ جَديدٍ (1)
- رسالة بهاءالله للعالم
- طلوع الشمس من مغربها و خروج الدابة
- من هو بهاءالله؟ .....بهاءالله في الأديان
- الرموز والإستعارات بالكتب السماوية الخامس والأخير
- الرموز والإستعارات بالكتب السماوية (4)
- الرموز والإستعارات بالكتب السماوية (3)
- الرموز والإستعارات بالكتب السماوية (2)
- الرموز والإستعارات بالكتب السماويّة (1)
- الرؤية البهائية لعالم متحد-(3/3)
- الرؤية البهائية لعالم مُتَّحد2-3
- الرؤية البهائية لعالم مُتَّحد 1-3
- متى يتعظ البشر وينزعوا عنهم قميص التعصب الأعمى؟
- تقدّم البشرية نحو السلام
- التحرّي عن الحقيقة
- الطريق للسلام ووحدة العالم
- حاجة البشرية للدين الجديد
- إثبات وجود الله
- تقسيم العالم بواسطة الدين!2-2


المزيد.....




- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟
- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - بهاءالله - النّفْي والإبْعَاد (3)