|
القدر الوضيع
إبراهيم خليفي
الحوار المتمدن-العدد: 5607 - 2017 / 8 / 12 - 03:41
المحور:
الادب والفن
" ورب اخ أصفى لك الدهر وده.. ولا أمة أدلت إليك ولا الأب " . إستيقظ " البروليتاري القذر " - كما كان يسميه أحد أصدقائه المقربين - بعد نوم ثقيل كعادته على صوت أبيه المثقل بالشفقة على حاله من هول الأشغال و أتعابها " بني إستيقظ إنه وقت العمل " . إنتفظ من فراشه لتراه ثابتا مستقيما أشد إستقامة و كأنه لم يغمض له جفن طوال الليل ، نظر إلى هاتفه فإذا بها الساعة السادسة صباحا ، تثاقلت خطاه نزول السلم الخشبي ، إغتسل و ٱستعد للعمل تمام الإستعداد ككل يوم مضى . نظر إلى بدلة العمل ، تأبط شرا و سب البرجوازيين أيما سبا ، راودت قلبه أحاسيس الشفقة على حاله الذي لم يشفق عليه يوما ، على والد شهم أفنى عمره في العمل لأجله و لأجل عائلته ، خسئ و ذاب حياءا من تبذيره اللامتناهي أيام الدراسة دون محاولة في تخيل أوضاع بائسة مرت على قلب أبيه و جسده ليوفر له مالا كافيا من أجل مواصلة مسيرته الدراسية ، من أجل أن لا يحس بتفاضل طبقي بينه و بين أترابه و زملاءه بالجامعة ، من أجل ذكاءه المهدور الذي طالما حلم هذا الوالد المسكين أن يأتي يوما و يطوع ذكائه ليصبح كما أراد له أن يكون . إستفاق من سجن جلد الذات و إرتدى ملابس العمل التي دخل بها واقعه المرير من فرط ما شتمها . كان عليه أن يبكي و ان لم يكن لحاله المؤسف فلحال أبيه على الاقل لكن تخونه ملامحه ككل مرة في إظهار ما بداخله . حمل عشيقته و ولده - مطرقته و مسماره - وراح في سفر ساعات ثمان طوال ، ساعات من التعب و الشقاء مرت بين ضحكاته مع صديقه الذي لاتفوق أوضاعه قساوة هو الآخر ، بين سخرية من باقي العاملين ، وبين سجائر إلتهمها شر إلتهام أملا في الهروب من عالمه المغلق . شرع في العمل كعادته ، لم يكن متقاعسا و لا بالنشيط تمام النشاط لكنه كان يعمل بجد على قدر ما يقدر . راح يقتلع ما تم تركيبه من قطع خشبية يوم أمس ، يدق الأخرى على أخرى و يدندن بصوت خافت ما عشق من أغاني أم كلثوم و جورج وسوف و فيروز خاصة ، يختلس نظرات لأبيه ليزداد نقمة على نقمته . على غير العادة لمح أباه من بعيد يضع الهاتف على أذنه مذعورا فزاد يقينه بأن حدث مكروه لكن أين و متى و لمن !!! من عادة أبيه أنه " قداحة عمل " كما ينعته البعض في الجهة ، ينثني على عمله دون توقف حتى موعد الفطور - الساعة الثانية عشر و صفر دقيقة - لا يستعمل هاتفه أثناء العمل ، لا يعرف عن الخمول سوى ما يراه عن بعض العاملين معه . خبأ ولده في جيبه و إصطحب عشيقته بيده اليمنى و إتجه نحو والده فإذا بأسوء الجمل التي لم يرد سماعها تصعق أذنه . " متى !! وكيف كان ذلك !! هل أن الإصابة بليغة !! " و كثيرا من العبارات التي تحيل عن سوء اليوم و تعاسته . إستدار و فهم أن عليه ان يغير ثيابه و انتظر أمر أبيه . - " بني أنت أشجع أبنائي و أكثرهم قدرة و تعويلا على نفسه " ... قطع كلامه بسؤاله الذي ساقه عارفا نسبيا إجابته . - " ماذا جرى بابا " - " دعني أنهي ، عليك أن تتجه الى المستشفى ، " هم بقطع كلامه ليسئله أي مستشفى لعين عليه أن يقصده ، لكنه واصل خطابه المتقطع . - " مستشفى الرابطة يا بني ، حيث ستجد أخاك هناك و ... " تركه دون الإستماع إلى بقية الخطاب وهرول ليغير ثيابه و ينطلق في رحلة الشؤم تلك . كفر و لعن و سب و شتم ولم يهدأ خاطره بعد . غير ثيابه بسرعة البرق ، أخذ هاتفه المغلق لأول مرة لما أحسه من يوم تعيس قبل الإنطلاق في العمل . إنتظر على الطريق و هو يردد في نفسه " تبا لك يا أخي ، تبا كم أحمق أنت لا تستطيع أن تنتبه لنفسك و لو مرة " . لمح سيارة الأجرة " التاكسي " قادمة و كأنها تأتي من آخر نقطة في البر ، و كأنها " التاكسي " الوحيدة في العالم القذر . وقفت و إنطلقت و سأله السائق عن الإتجاه و هو لا يزال شارد البال يفكر تارة و يتخيل تارة أخرى حالة مزرية سيجد عليها أخيه . رحلة طويلة رغم قصر المسافة إستفاق فيها بعد سبات ألف ليلة و ليلة على صياح سائق سيارة الأجرة . - " خويا وين قاصد ربي يا معلم " - " عذرا محطة الميترو بباردو من فضلك " . ثم عاد الى خيالاته و الصور التي تشغل باله قبل الوصول . تذكر أبياتا لمحمود درويش ، " لا شيئ يعجبني ، يقول مسافر في الباص لا شيئ يعجبني ... لا الراديو ... لا صحف الصباح ... و لا القلاع على التلال ... أريد أن أبكي . أنتهت القصيدة و انتهى السفر و قد وصل الى المحطة و أستعد للنزول . رن هاتفه فإذا بأبيه أن هو المتصل . - بني ! بطاقة العلاج ، الصندوق الوطني للحيطة الإجتماعية ، رقم التسجيل . تلك هي المفردات الثلاث التي سجلتها ذاكرته ، مذعورا يعود أدراجه دون أن يدخل المستشفى حتى و يطمئن على حال أخيه . من أين يبدأ يا ترى ! توجه إلى مقر الصندوق الوطني للحيطة الإجتماعية أولا ، قطع كيلومترات مترجلا و العرق يكاد يغمض عينيه لولا أهداب تفانت في عملها من أجل الأخوة . كم كان نشيطا على غير العادة فقد وصل . دخل المقر و ملأ فراغات كثيرة من أوراق جافة بقلم ضبابي ، طلب ما إبتغى من السيدة لكنها تطلب نسخة من بطاقة هوية صاحب بطاقة العلاج . توسل و توسل أنه أتى من أقصى المدينة لكن دون جدوى ، وكأن السيدة طوال مسيرتها الدراسية لم تتلقى سوى جملة حفظتها عن ظهر قلب . " لا ، آسفة ، القانون هو القانون " كان عليه أن يهمس لها في تلك اللحظة : " القانون يا إبنة القحبة ، قانون في دولة اللاقانون ، وهل تعرفين القانون أصلا " كان عليه أن يسقط عليها كل ما تعلمه من عبارات التمرد عن الدولة و السلطة ، كل ما قرأه لميشيل فوكو و ميخائيل باكونين و فريديريك نيتشه عن السلطة و جور السائس . تماسك و خرج دون أدنى ردود أفعال فإذا به أمام المعهد الذي درس فيه . عجبا !! كيف لم أنتبه إليه ! راح يتأمل جدرانه القديمة وكأنه بناه حجرا بحجر ، أخذ نفسه يصاعد شيئا فشيئا ، و حمله الحنين إلى عالم الذكريات و الأيام الجميلة . أيام الدروس ، أيام الأصدقاء ، أيام الرحلات الإستطلاعية ومقهى " شدلية " رفقة صديقه الجنوبي وطربيات أم كلثوم الصباحية و التغيب عن الدروس ، أيام " العكاري " الذي يصطحبانه كل صبيحة ليضحكا منه ومن خجله وإيقاعه في الإحراج مع عم " الفرجاني " نادل المقهى ، مع الفتيات خاصة من زميلاته و فتيات المعهد عامة . آه كم كانت أياما جميلة ، و الأجمل فيها ذكريات الفتاة التي عشقها . ترك هذا الجزء من المخيلة للأخير لينتشي من جمالها الأسطوري ، ليثمل من جميل بسماتها و حور عيناها . آه لكم تعقب مشياتها و حركاتها و ضحكاتها في المعهد . يتبع ...
#إبراهيم_خليفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حين تكتظ الحانة بالمآسي
المزيد.....
-
يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر
...
-
-مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم
...
-
منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في
...
-
مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري
...
-
شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا
...
-
تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O
...
-
مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم
...
-
تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
-
فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى
...
-
بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|