أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مدحت ربيع دردونة - قصة قصيرة بعنوان ( النفاق الأبيض )















المزيد.....

قصة قصيرة بعنوان ( النفاق الأبيض )


مدحت ربيع دردونة

الحوار المتمدن-العدد: 5578 - 2017 / 7 / 11 - 12:52
المحور: الادب والفن
    





لأول مرة منذ خمسين عاماً أدرك الحلّاق أبو أيوب أنه لم ينظر في وجهه ملياً في المرآة التي يقف أمامها أكثر من ثماني ساعات يومياً أثناء عمله ، فلماذا الآن ؟ ... إنه تنبه إلى ضرورة أن يبدو مظهره لائقاً قبل أن يذهب كعادته صباح كل جمعة ليحلق للشيخ فيروز في منزله ، ولكن ما الجديد في هذه الجمعة ؟.... الجديد أن الشيخ فيروز قد أصبح وكيلاً للوزارة بعد أن أكل الدهر عليه وشرب ، ولكنه – على كل حال – أصبح من الذين أنعم عليهم السلطان فتميزوا عن باقي الأنام ، أما أنا فقد عشت حياتي كلها بين المقص والمرآة ، ويعلم الله وحدة كم طن من الشعر حلقت من رؤوس أجيال متعاقبة حتى التصق باسمي لفظ الحلاق دون عائلتي ، ولأنني من جيل الشيخ فيروز فقد كان يأنس لي ويستدعيني إلى بيته لحلاقة رأسه وتزيين وجهه كل أسبوع قبل صلاة الجمعة، ولطالما كان يسعد بقصصي التي أرويها له أثناء الحلاقة ، ثم ألاحظ تعابير وجهة فأكتشف فيه أشياء لا يعرفها كثير من الناس ، ثم أسأل نفسي لماذا لا يختلط الشيخ فيروز بالناس كثيراً ويكتفي بالظهور في المناسبات الاجتماعية فيدلق كلماته المعهودة كأنه آلة تسجيل ثم يختفي كلمح البصر ؟ لماذا لا يرتبط بصداقات حميمة مع أحد ؟ لماذا يعتزل الناس ويقضي أغلب وقته بين جدران منزله ؟ ولكن سرعان ما تتبدد هذه التساؤلات عندما يسألني أن أقص عليه حكايات عن أيام الطفولة بيننا فتصدر مني ضحكات عالية تنفرج لها أسارير الشيخ ، وتبدأ الحكاية , يتلوها نكتة ، تعقبها حالة من السرور ... هكذا كانت علاقتي بالشيخ منذ عقود ، أما اليوم فقد أصبح الشيخ من ذوي المكانة السياسية في البلد ، ولا بد أن أبدو في مظهر يليق بمكانته، فهذا مظهري يمكن أن أجمّله بقدر ما أستطيع أما أقوالي وحكاياتي معه فربنا يستر!! ... جهز أبو أيوب أدواته اللازمة، وتأكد من لياقة مظهرة ، ونزل من بيته في الساعة الموعودة قبل صلاة الجمعة ماراً بجدار المسجد فلمح حكيم القرية ( أبو العُرّيف ) متكأ بمرفقه على حجر وظهره إلى سور المسجد، بينما أليته اليمنى تحط على الأرض وساقه اليسرى في زاوية قائمة مع فخذه ، فيدخل الهواء من تحت الجلباب إلى المنطقة المحظورة بكل أريحية ... تردد الحلاق أبو أيوب في طلب النصيحة من ( أبو العرّيف ) هنيهة ، ولكن حاجته دفعته إلى التوقف ، فسأله أبو العريف : هل أنت ذاهب إلى الشيخ فيروز ؟ فقال : نعم . قال : الله يسهل أمرك ، سلّم لي عليه . هنا تشجع أبو أيوب وقال : والله يا حكيم قريتنا أنا محتار ! فرد علية : خير إن شاء الله ؟ ! فقال : طول عمري أحلق للشيخ فيروز وهو مبسوط ، وكنت أقص عليه الحكايات وأخبار البلد فيسعد بذلك ، ولكن اليوم الشيخ غير ، فماذا أقول له ؟ وماذا أحكي ؟ وأي الحكايات المضحكة تروق له ؟ انصحني يا ( أبو العُرّيف ) ... ضحك أبو العريف ضحكة عريضة وعدل من جلسته قائلاً : يا عبيط! مثل هؤلاء إنما يضحكون على النكت ( التافهة ) !
- النكت التافهة !!
- نعم
- هل تهزأ بي ؟
- معاذ الله !!
- طيب ، كيف تريد مني أن أقول له نكتاً تافهة ؟! ومثل ماذا هذه النكت التافهة ؟!
- ألا تعرف أمثال هذه النكت ؟ خذ هذه النكتة : قال أحدهم : في بيتنا قطة كلما رأتني أتناول طعام الغداء تنظر إلى شاخصة وتقول : ميو .... ميو ..... ميوووو........
عندها نفض أبو أيوب نفسه وانسحب ساخطاً، وكانت ضحكات ( أبو العُرّيف ) تصدح في المكان ...
وصل أبو أيوب إلى باب الشيخ فيروز وطرق كعادته ، فلم يرد أحد ، فكرر الطرقات ولا من مجيب ، فبدأ الهم يتسلل إلى قلبه ، فعهده بالشيخ أنه كان ينتظره كل جمعة بالقرب من الباب فيستجيب لأول طرقة ، فقال في نفسه : يا ساتر يا رب ! .... ولكنه طرد الشكوك واستجمع قواه وطرق للمرة الثالثة طرقات متتابعة ، فجاء الصوت من الداخل مزمجراً : مييييين ؟ !
- أنا
- ( والباب يفتح نعنف ) مين أنت ؟!
- ( تلتقي الأعين ) أنا يا شيخ !
- ( بغضب ) ولماذا تطرق الباب هكذا ؟! أزعجتنا وفضحتنا ! ..... ادخل .
كان الشيخ يرتدي ملابس داخلية بيضاء ويسير أمام الحلاق في مدخل البيت ، والحلاق ينظر إلية وقد انخلع قلبه حتى وصلا إلى الغرفة المقصودة ، فأشار الشيخ إلى الحلاق أن ينتظر ، وذهب هو إلى الحمّام لإكمال وجبة الإخراج المستعصية . أخذ الحلاق يحدق في جدران الغرفة ويجول ببصره بين مقتنياتها التي عرفها منذ زمن ويتوقف عند أخرى دعت إليها متطلبات المنصب الجديد ، محاولاً أن يطرد إحساساً غريباً قد تمكن من قلبه ، وهو أن الشيخ لم يعد كما كان ، وأن أمراً ما سيحدث في علاقتها هذا اليوم . وبينما هو كذلك دخل الشيخ وطرح السلام بصوت منخفض لكأنه لا يريد للرجل أن يسمعه فيرد عليه أو أن يشعر بالطمأنينة ، وبسرعة ودون مقدمات أمر الحلاق بالبدء بالعمل ، فتمّت التجهيزات، وقبل أن يبدأ بقص الشعر حاول الحلاق أن يكسر الصمت المخيف بالتلطف مع الشيخ وإبداء الأسف عن الإزعاج : أنا آسف يا مولانا ! سمع الشيخ كلمة مولانا فأخذ نفساً عميقاً وطرب لهذه الكلمة التي لم يسمعها إلا بعد المنصب الجديد، وربما كان يخشى من هذا الحلاق أن يخاطبه بكلمة شيخ ! لكنه تظاهر الجدية وقال : خلاص ، خلاص ، شوف شغلك .
تحركت أسنان المشط في شعر الشيخ وعلت طقطقات المقص ، فاستجمع الحلاق ما بقي لديه من كرامه وبدأ يقص علي الشيخ القصة الأولى ويختلس النظر إلى تعابير وجهة فلم يلحظ الرضا الذي عهده ، ولم يعلق الشيخ بكلمة استحسان كما كان يفعل، فانتقل إلى القصة الثانية ولا استجابة ، فأتبعها نكتة لم يعرها الشيخ أدنى اهتمام ، ولما حاول أن يجعل الشيخ يتكلم صدرت من الشيخ زجرة غير متوقعة تنهاه عن الحديث وتحثه على الإسراع في إنهاء العمل، عندها تيقن الحلاق من صدق حدسه فأتم عمله صامتاً . وعندما شرع في فك الملاءة البيضاء من حول الرقبة تذكر ما قاله له أبو العريف ، فقال في نفسه لنجرب النكت التافهة، علها تجدي نفعاً في هذه الحال السيئة ! فقص عليه نكتة القطة إياها . عندها انتفض الشيخ من مجلسه وشد الملاءة البيضاء عن صدره بقوه وقد انتفخت أوداجه وجحظت عيناه واحمر وجه واصفر في وقت واحد وتحركت أرنبة أنفه وأخذ يزبد ويرعد : أتهزأ بي يا ناقص يا قليل الحياء ؟!!! اخرج من هنا !!! انصرف !!! لا أريد أن أراك مرة ثانية !! ارتبك الحلاق وأخذ يجمع أدواته بسرعة فتتساقط منه إلى أن تمكن من جمعها وانطلق هارباً يغذ الخطى وينهب الأرض بخطوانه وهو في حالة من الضياع والذهول، فلم يكن يتصور في الأحلام أن تصل به الأمور مع الشيخ إلى هذا الحد من السوء ، فكيف وصلت ؟!! ...
ما كاد الحلاق يقترب من بيته حتى سمع صوتاً من زاوية بعيدة مطلة على الشارع ، إنه صوت ( أبو العُرّيف ) : لماذا عدت مبكراً يا ( أبو أيوب ) على غير عادتك ؟ التفت أبو أيوب إلى الرجل مغاضباً ، وسار نحوه خطوات حتى وقف أمامه وانفجر بعبارات اللوم والتقريع والتعنيف ، فانتظره أبو العُرّيف حتى هدأ ، وسأله عما حصل ، فقص عليه قصته ، فابتسم أبو العرّيف ابتسامة حزينة على الحال التي وصل إليها أبو أيوب وقال : يا مغفّل لقد سألت عن مزاج مثل هؤلاء القوم فأجبتك ، وأؤكد لك بأن هذه النكتة لو قالها رئيس الشيخ وادعى أن القطة تهوهو لضحك الشيخ ومن حوله ضحكاً يشق الأشداق ، أما أنت أيها المسكين فكان عليك أن تدرك أنك لم تعد صالحاً لأن تكون حلاقاً للشيخ بعد المنصب الجديد حتى لو شققت صدرك وقدمت له قلبك !!!








#مدحت_ربيع_دردونة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هكذا نحن في غزة !!!
- قصة قصيرة بعنوان ( مختار بلا ختم )
- قصة قصيرة بعنوان ( عمّال البطالة )


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مدحت ربيع دردونة - قصة قصيرة بعنوان ( النفاق الأبيض )