أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي حسن الفواز - جمانة حداد الكتابة عند احتمال الحرية















المزيد.....


جمانة حداد الكتابة عند احتمال الحرية


علي حسن الفواز

الحوار المتمدن-العدد: 1452 - 2006 / 2 / 5 - 07:15
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


لاشك ان تجربة الشاعرة جمانة حداد تملك خصوصية استثنائية في الذهاب بعيدا نحو توهجات لا شك ان الجسد و البحث عن دلالات اخر لانوثة الكتابة ،،وسيولة المعنى التي تقترن عادة باشكالية هذه الكتابة ،ليس لانها تجد في الفضاء الانثوي اغواءات باهية على تغذية ما هو مسكوت عنه في الذات اوفي تاريخ النص ،،قدر ما تجد فيه لحظتها الحاسمة في التحرر من خطيئة الوعي الجسداني !! لان الجسد الانثوي في تاريخ تدويننا هو مقابل لكل تاريخ التابوات ،،وبهذا تكون الكتابة عند جمانة هي احتمال مضاد لهذا التدوين، وربما هي لحظة تجاوز ولحظة انحياز للحرية .. اذ انها تجد في مغامرتها الشعرية نوعا من الانفتاح على كيمياء الجسد باعتباره نصا توليديا ، مثلما هو فضاء تتشكل عند بياضه الكثير من الطقوس والمراثي والهجرات وذلك عبرمحاولة استحضار سرانية وعيها الاستثنائي في صناعة الرمز والرؤيا والشحنات اللغوية الدافقة بكل افتراسات الانثى للرمزية الذكورية في الجسد والفكرة والمقدس ،، ، تجوس جمانة حداد عبر هذه المغامرةعوالم خبيئة بحثا عن قوة الخصب والحرية والانوثة في فيزياء الجسدالانثوي ،تقترح له طقوسا ونداءات واخطاء نبيلة ، وتحمل من اجل طقوسها تلك روحا باسلة في احتمال كتابة هذه الفيزياء الشعرية، ليس باعتبارها كتابة ذاتوية خالصة، أو محاولة في تدوين خطاب الطبيعة، قدر ما تجعل كتابتها / مغامرتها وعداً وسعياً باتجاه نوع متعال من الاخصاب الروحي / الشعري الذي تكتمل عنده شؤونها / متعتها، وربما تجعل لعبتها في هذه الكتابة نصا شعريا قيد التمرد أو قيد القلق النبيل! انوثتها في الكتابة / المغامرة مزيج من اللذة والاشتعال وكل ما يجعل الداخل الانثوي ضاجا بالاصوات والنداءات والتفاصيل المتوهجة، ووعيها العميق بهذه الانوثة هو خلاصة روح لجوجة استعارت اشتعالاتها من تاريخ نساء متوهجات واستثنائيات، وربما اصبح هو مسبارها الداخلي في اكتشاف الاشياء وتلمس روحها(الجوانية) وجوهرها في الانوثة/ القلق/ اللذة المريبة، مثلما جعلت هذه الكتابة بمثابة موقفها من الخارج / الطبيعة / الرجل/ اللغة دون مواربة.
تعنى جمانة حداد بعلاقاتها البصرية داخل النص بنوع من الحرفة التشكيلية، تنجز له نظاما تعبيريا وتصويريا يختلط فيه الحسي والايروسي، وكأن كتابتها تلك تشبه تهيئة الجسد لطقس لذّوي او ما توحي به عبر تتبع عميق لانثيالات الجسد في ندائه وتوحشه، والتي هي مقابل ايحائي لخطاب تطهيري هو خطاب ذاتها / انوثتها، خطابها الحلولي/ الاعترافي في لحظة ذروتها الجسدانية. نصها المفتوح ينكشف بطاقته التفجيرية على عوالم وتفاصيل فيها المشتهى والمباح والمكشوف والمشغول بلعبة صناعة الاشباع / الاعتراف ازاء اثم ما، يتراكب فيها المحمول الصوتي مع التشكيل التصويري بما يبدو قريبا الى صياغة الخرق / لحظة الذوبان/ التي تجد في اللغة الحلمية (لعبا اكثر اغواء ) كما تقول، و اكثر اثارة في التعاطي مع كتابة نص الجسد وخلق عرفانية موازية لقرائته.
جمانة حداد تمارس احتواء داخليا لصوتها الانثوي الذي يبرهن على قوته وتصريحه من خلال استعارة قناع ( المرأة الاسطورية والمرأة اليومية) التي تعي حريتها وخطيئتها وكانها جوهر تمردها وجموحها أو سرها الانطولوجي، اذ تمثل هذه المرأة كائنها الاثير الذي يمارس لعبته في التبادل المدهش بين الجسد واللذة وبين الجسد والحرية وبين الجسد واللغة في اقصاها. وهي تستجيب لندائها الداخلي بوحا ولذة واحتواء وتمردا وغضبا، وتجعل من شعريتها هي الشفرة السرية التي تحمل هذا التوهج والقوة واللعنة، وقد وجدت في الانثى (ليليت) تلك الروح الباسلة واللجوجة والقلقة لكي تستعير جسدها وصوتها في صياغة معادلة يسع طرفاها للحلول والاستنفار والاحتجاج والبوح، ولعل قصائد في مجموعة ( عودة ليليت ) كانت تتلبس هذه الذات الخالصة/ الذات القوية/ الخالقة التي تنحاز اليها، الى مشروعها في الانوثة، الى لعبتها في صناعة التمرد على ( الخطيئة والنقصان ) اذ تمثل فيها ( المرأة الغابة ) و( حارسة البئر وملتقى الاضداد ). وهذا التوظيف لايستعير البنية الاسطورية المجردة قدر ما يجعلها قوة سرية دافقة بالحياة/ الخصب، لها القدرة على الخراب مثلما لها القدرة على المراودة والاغواء والافتراس، تتألق فيها روح الانوثة لتكون هي ذاتها الخالقة وهي خطاب تحققها وهي الصاعنة الماهرة لشروط لذتها الخالصة و(الفالتة) من أسر عقال الوهم والوطأة والاحساس بـ(الكلوستروفوبيا).
ان قصائد (عودة ليليت) تملك شرطا مركبا للتمرد يمزج بين اللغة باعتبارها نصا في اللذة ونصا في التصريح، وبين الوعي الذي يمنح هذه اللغة روحها وسحرها وانكشافها، بما يجعل هذه القصائد كتابة في المزاج. كما انها تملك ايقاعا داخليا له قوة ان يكون متماهيا مع سيولة الجسد وجريانا لذروته في البوح والكشف والحلول والفناء، وهذا ما يجعلها حقا امام لعبة في الفيزياء، حيث الجسد / النص يتبادلان لذتهما وكينونتهما وعاداتهما. ان هذه القصائد في اطار هذه القراءة موجودة في اطار نفسي تعويضي وتحت مؤثر هو اقرب الى النزوع المازوشي الذي يجعل اللذة توحشا وصراخا وتخريبا، ليكون تمثلا ذاتويا يؤنسن لذته بمستوى الصدمة التي تقابل الشهوة. ولايمكن اخراجها بعيدا عن دائرة ( الذات النافرة المتوحدة ) التي تجد في النموذج ( الليليتي ) تعويضا عاليا، لذا هي تستحضره كشأن خالص من شؤونها في النص وفي النداء، وكذلك في استحضار اللذة عبر تواليات لغوية /صورية هي اشبه بتحريك الكمون في الباطن الاستيهامي لكيمياء الجسد الاشكالي عبر مقاربة حريته ووحدته ووحشته ونداءاته الداخلية، وهذا ما يجعله امام فضاء من الشفرات التي تواجه عوالمه وتفاصيله واسراره ومناجمه العميقة، والتي لم يقف ازاءها نسيج لغوي أو بنية اسلوبية او استعارية حتى وان كانت على تنميق عال. ان قصائدها تحوز على لذة المريد كما يقول الصوفيون، وتنداح في نوع من النشوة الضاجة بالاصوات وقوة العناصر التي تجعل اللذة الصائتة هي احتمال الخلق وصيرورة الوجود.
انوثتها كانت في البدء، لذا جاء بوحها احتجاجيا، وقد انحازت الى جوهر ذاتها مقابل ارتكابها كل الخطايا الارضية، انحازت الى حريتها في تكون صوتا وحضورا وجسدا يملك خصوصية في اللذة الضاجة والالتحام المدوي، مقابل تخليها عن اوهام السكون واللذة الصامتة، لتؤكد نوعها وفرادتها وارتواءها، مثلما تمثل جنتها بـ(المنفى) مقابل ان تصنع لها غابة لها سحر التوغل ومعجزة ما يصنعه الجسد من جنات ارضية في لذاته وافتراساته وجنوحه الدائب للقبض على الفكرة والمعنى. انها تضع جسدها امام كيمياء الفردوس، وتصنع عبر اوهامه تيها ومقاما للهجرة مثلما تصنع عبره بيتا لايفضي الى نافذة او نافذة لا تفضي الا الى وهمها!

"انا ليليت آية التفاح. كتبتني الكتب وان لم تقرأوني. اللذة الفالتة الزوجة العاقة اكتمال الشبق الذي يصنع الدمار العظيم. قميصي نافذة على الجنون. كل من يسمعني يستحق القتل وكل من لا يسمعني يقتله تبكيت ندمه.
أنا قمر الداخل
التيه بوصلتي ومقامي الهجرة
ليس من ساع يقرع بابي
ليس من بيت يفضي الى نافذتي
ليس من نافذة الآ وهم نافذة."
لا يخيل إلي ان توظيف اسطورة ليليت الانثوية هو نوع من التباهي في استخدام هذه التقنية التي تجعل البنية الاسطورة امام معطى البحث عن مقابل وظائفي/ ثيمي يتمم مشروعه بالقراءة والتعريف والكشف عما تحوزه هذه الاسطورة من انزياحات في تفسير أصل الخلق والتعرف على اصل الحرية، قدر ما كان هذا التوظيف شعريا اضفى على المغامرة سمات منحتها توهجا واغواء. وأجد ان استخدام النص المفتوح كتقنية اسلوبية قد منح هذا الانزياح عن بنية الاسطورة فاعلية اخرى في قدرة الشعري على ان يكون تعويضا عن الاسطوري والثيمي وان يجترح له عوالم يستحضر من خلالها ما يؤنسن روح المغامرة عبر تداخل البنيات والاصوات وتعددها، باعتبارها اصوات خالقة للرؤيا الاولى مثلما هي خالقة للانثى الاولى، اذ ينزاح النص الجديد تحت كثافة التوالي التصويري الحاذق الى باطنة شعرية تتجاوز ماهو تعبيري استدلالي في النص الاسطوري الى ما هو ايهامي ومتعوي، بما يجعلنا امام تشكلات متوالية لايمكن السيطرة عليها، انها باختصار تكتب تحت هاجس طاغ لهذيان اللذة.
"اجمعني
فالمطلوب واحد
تعال في سيول عينيك اجمعني
مسمر قممك في هاويتي
احفر تقاطيعك على ذاكرة راجتي
وتنشّق النمرة الكامنة عند مسقط الكتفين"
إنه إيقاع متوتر مشحون بنوع من ( سايكولوجيا البوح ) بكل اعترافها وحشرجتها، وذات الشاعرة الانثوية لا تنفصل عن هذا الطقس التعبيري، اذ هي المجس الخفي الذي يلامس ويكشف عما في سرية النص من توهجات تجعله عند اقصى احتماله الانساني المنسجم مع خصوصيات البوح والاعتراف والتطهير خارج ايهامات النص المرآوي الذي يفقد صدقيته عند اي نوبة عاتية للحرية التي تنكشف عليها الشاعرة بامتياز.
ان قصائد ليليت تدعونا الى وعي التمرد، الى وعي الذات العاطلة عن الوهم والخطيئة، الى قوة الشعر في ان يصطنع ملاذا للتزاوج الكينوني بين الذوات العرفانية التي تنشد اللذة والذوبان في سكرتها، وعن اصلها غير المشذب بالاكاذيب، وتدعونا عبر جرأتها الى مراجعة ما كرسته اللغة اليومية من مفاهيم هي اشبه بالتهم والاحكام والقنانة التي تشرعن موت الاخر الانثوي في لذتنا، اذ هي لذة الخارج والسلطة والهتاف والخداع.
أما في قصائد ( دعوة الى عشاء سري / يدان الى الهاوية/ لم ارتكب مايكفي )، مجموعات الشاعرة السابقة، فنجد هناك أيضا نموذج المرأة المخربة النافرة التي تبحث عن زمنها الشخصي لتمارس فيه طقوسها الخاصة والحميمة دون مراقبة او تلصص او أوهام. فهي تبدأ بالجملة الفعلية الذي يمتزج فيه الامر بالنداء لتصنع جملة ناقصة لكنها تكتمل باستحضار تواليات تعويضية تأخذ من ( كي ) كلازمة، بنية صوتية لاحدود لها. هذه البنية تشبه بنية اللذة ذاتها، واظن ان جمانة حداد هي اكثر الشعراء العرب اهتماما بالتفاصيل الدقيقة للذرة الجسدانية المحتشدة بالاستعارات الحسية التي تسميها الشاعرة "لعبا مع اللغة" اذ تقول:"هذا اللعب القائم على الاغواء المتبادل بيني وبين العربية، هو جزء لاتيجزأ من كياني الشعري. انه من الثوابت، نعم، لكنه لايأتي عفويا، اعني انه لا يولد منحوتا من تلقاء ذاته، بل اشتغله. واشتغله لاني اتقصده واتقصده لاني راغبة فيه وارغب فيه لانه متعة اجنيها من الكتابة وتجنيها هي مني".
وفي قصائد (دعوة الى عشاء سري) و(يدان الى الهاوية ) ثمة ما يجعلنا امام دعوة غرائبية وعوالم استيهامية لرجل ما، هو ما يمثل الحضور والاكتمال والاشباع. الدعوة لوحدها نص في ( النقصان ) لانها نداء تجريدي ومجزوء، لكن (عشاءسري) هي نص آخر في انسنة الوصول والوصال، وربما هي اشبه بمن( يتجه الى جزيرة الكنز) كما يقول الناقد عهد فاضل. لغتها الهاذية غبر المحايدة تكشف عن جريان ما ( يولد نهر بيني وبينك فتفيض كل الانهار ) هو ذاته ايقاعها النفسي، هندستها اللازمة والانيقة في دعوتها لحضور الآخر الذي تريد ان تعيه وتكرر معه الاندفاع والاكتمال دون فتور، وهذا ما يجعلها اكثر انتماء لانوثتها في المعنى والحضور واللذة واستحضار كل ما يجعل هذه اللعبة تملك شروطها، اذ توظف دالة النداء الامري( ضمني) مقابل اشارة تعويضية عالية وعميقة تمثل دلالة مضادة لـ (النقصان)، تبدأ من استهلال الجملة بـ(كي ) لتكون حركة الفعل (خسرت) و(ذهبت) و(اهدرت)، رغم استباقها باداة شرط غير جازمة، دافعا لاستحضار جملة فعلية مقابلة لها شرط الجزم (تزودني) (اكون) (ازداد) كدلالة نفسية تفسر فعل الاندفاع الذي يفقد جزءه اللاشرطي من مقاطع قصيدة (اثنان)، وكأنه يوحي لنا بتزواج اللغة/ النص مع الجسد وتحولهما الى نص مفتوح قابل للسيولة والتشكلن في عشرات الرموز بدءا من الفعل (ضمني) الى استحضار توالي الفعل بـ(ظللنا اثنين عاطلين عن القدر )، أي ان الشاعرة هنا تنتج نسقا لروح الانثى الباحثة عن لانهائية لذتها حيث تكرر وجودها الخالد عبر استحضار توالي فعل اللذة. وأحسب ان حركية الفعل في جملتها الشعرية هي الدالة الفاعلة على قوة هذه الشعرية اولا وكذلك هي الشفرة البلاغية الحاملة لوعي انوثتها في الحرية وانسنة علاقتها مع الاخير عبر الاختيار باعتباره اقصى درجات الحرية كما يقول الوجوديون:
"تعال نصنع قمرا جديدا يهرع الينا من النافذة
فنعريه من فضة الخجل
ونلبسه دغشة المساء وسيولة الشبق"
ان هذا الوعي الوجودي الذي تؤنسنه الشاعرة ليس وعيا سلبيا ازاء لذتها المصنوعة عبر الكيمياء الايروسية، قدر ماهو انزياح متعال نحو الوعي العميق والخالص بالذات، تلك الذات الحافظة لنوعها والمندفعة للدفاع عنه، اذ يمنح هذا الوعي لغتها وطقوسها لتكون امام نزوع نحو التخقق في الاشباع الرمزي عبر شفرات الجسد، اذ يصير هذا الجسد هو الوقت والارض والغيمة والاسلحة وربما يصير الاخر ذاته. وبهذا التحقق تجعل من لحظتها الايروسية تلك لحظة خالدة لانها تؤرخ للجسد / الذات في كثافة وجوده وحريته وسيولته وتماهيات خلقه/ اخصابه. ان الشاعرة هنا تضع انثاها /نوعها امام خلاصها اذ تقترح الانثى غير المدنسة بالوهم والاحتواء، الانثى التي لا تريد خداع الرجل، تريد شراكته عبر الاكتفاء بحريتها ولذتها، تكسوه بطقوسها، لانها لا تحلم ان تكون شهيدة كما البطلات في موروث الرومانس قدر ما تحلم ان تكون هي الموجة التي تكرر انكسارها عند الحجر دون فتور.
قصائد( يدان الى الهاوية ) تجعل ذاتها الانسية القلقة امام لعبة وجودية تتقابل فيها الانوثة ازاء الحرية والجسد ازاء الحضور الاشباعي، اذ تستعير عبر هذه الثنائية الآخر كمجاز مفتوح في استحضار الذات المقابلة لتركيب سايكولوجيا الاتصال والاكتمال، وهذا الاتصال يجعلها تقف كثيرا امام خطاب انوثتها عبر التوافر على حيازة دلالية جازمة تتجلى من خلال نسيج لغوي يجعل فعل الشرط ازاء جوابه بواسطة اداة النهي التي تعمل كاداة للجزم الموازي لفعل الاغواء ، في قصيدة (وصايا) تأخذ ال( لا) الناهية الاستهلالية طابعا اكثر اثارة مما استخدمه انسي الحاج في استخدام هذه الـ(لا) في (كلمات) اذ يقول: ( لا تعتبريها تدنيسا لجسدك، بل خذيها كمسارة، لاتكوني شهيدة بل مكتشفة ) لكنها وضعت هذه الشرطية في صياغة اكثر حدّه واكثر تحريضا على فعل اللذة واستجلاب الآخر:
"لا تبخل على اعصار اهده شجرة
لا تغر من نسر انزل مثله
لا تهمل عصفورا كن صياده
لا تشهر غلمتك فوق هاوية اغمدها"
ان ما تصنعه الشاعرة في خطاب انوثتها المتعالي ليس غائيا في الاشارة الى الظاهرة الايروسية التي تجعلها وكأنها اشبه بالمرآة العاكسة لرغباتها وقلقها، وانما هي (في تقديري) انحياز لوعي اشكالي للانوثة ولكيمياء هذه الانوثة في الحرية وعند طقس الاخر، اذ هي تصطنع لها مجسات حسية خالقة وخلافية فهي توظف البنيات اللغوية كمؤونة لصناعة طقسها في استحضار اللذة وفي التعويض الصوتي عبر الاشاري، اللذين يشترطان صناعة ايقونة الجسد كايحاء لشرط التعبد والتبادل والاحتواء! مقابل الفم الذي يمارس عطالتها ازاء لعبة المراودة والافتراس والتوحش ( الشبق الذي يخترق ذاته ليصنع ذاته) كما تقول الشاعرة. انها قصائد في ( الهذيان الحركي ) حيث صفات الجسد وتجلياته ( العشبة / جبالي/ جسرا/ تفاحة / ثمرة ناضجة / شجرة بشهوة انوثتها / نجمة ) تصير اشارات مقابل قوة هذا الجسد في استقصاء حريته التي تحمله نحو احتمال السحر والدهشة والانكشاف على رؤيا هي بمثابة الصدمة والبرهان: ( ليل واحد يكفي لأكون امرأة ). هذا التوحد بين المرأة وذاتها وانكشافها وحريتها في ان يكون نصها الانثوي الجسداني نصا موازيا لشعريتها، هو جوهر خطابها الشعري الذي تتجاوز به وهم الاخر في افتراسه وفي صناعته، أي انها تصنع عبره فردوسها:
"لي جسد لا أعرفه
قد يكون حبة رمل
أو سمكة حمراء
أو لؤلؤة في محارة
لكني سأكتشف طعمه
في شفتين ستحرقان
ولسان سيأخذ
وحمم لها صوت ولوج الجنة"
وفي قصيدة ( دعوة الى عشاء سري ) تستعير النموذج الشهرزادي الحسي الذي لايقف عند حدود طقسه الحكواتي الاستلابي وانما تستحضر طقسا تعويضيا فيه لذة الاحتواء، والنداء و(ضجيج الشهوة )، وكأن البنية السكولوجية لشهريار تفقده خطابه في المثيولوجيا وتضعه امام نوبة من الانوثة العاتية التي تتكشف له عبر لغة توصيفية مغرقة في تفاصيلها تبدأ من وصف العاشقة التي ( لا يفتك بها الانتظار) وصولا الى ( العاشقة متأهبة ولا تريد ان تننظر ) وهذه المسافة ما بين فعل الانتظار وعدمه يمثل زمنا شخصيا مزاجيا استحضاريا للشاعرة التي تضع ذاتها امام الاخر القلق وتضع حريتها امام احتوائه وتضع خطابها امام نوع من التناص الجسدي حيث يتسع للحركة واللون والمعنى وكأنه يسيح ليستعيد نداء الانثى كاملا بنوع من الانشداد الصوفي (العاشقة اليك ولن يتعبها المسير) ( العاشقة لك، فيك، اليك). الاخر في هذا التناص الجسدي هو الحكاية وهو الصانع لاشاراتها واكتمالها وفوضاها الشهية عبر استحضاره، وهو النموذج المضاد الذي يجعل من نصه المفتوح، نصا في احتمال الوصال ومحاولة في احتمال الحضور دون توريات والخروج عن سرية الدعوة الى فضائحية الحرية والانكشاف على وجودهلذة وقوة ونداء، واجتراح طقوس تضع النص امام تعدده وكأنه يماثل الذات الانثوية لشهرزاد المضاد التي تعي وتكشف وتبطل مفعول الانتظار في داخل الرجل/ شهريار، لانها تقفز في عينيه وتخضّب وحدتها في استحضار ما يجعل الغياب حضورا والجسد فردوسا والفراغ انتظار لاحتمال العاشقة. ان هذه القصيدة رغم استباقها لقصائد جديدة عند الشاعرة في مجاميعها التالية، الآ انها تكشف عن لحظتها الباسلة في التعاطي مع الشعري والانثوي في دأب جعلها تتقدم نحو حريتها دون خيانات او اكاذيب باهضة:
"العاشقة لايفتك بها الانتظار، لا تقدر ان تخاف، وان كانت تجهل بقية الحكاية. فالحكاية انت، والبقية حتما ستأتي. هي تحزن لانك لم تقفز من عينيها بعد، لم تنزل في يديها، لم تدهشك شعوبها. هي تحزن من اجلك، لانك لا تعلم كم سوف يكون لك قمر على ثغرها، وذهب على خدها، وامرأة جديدة في كل ركن من ارضها"
ان الشاعرة جمانة حداد تؤسس لصوتها الشعري خصوصية غير متداولة في شعريتنا العربية ، فهي تنحاز لحريتها اولا ولمشروعها الشعري في ان تكون هذه الحرية خطابا وطقسا ثانيا وتحاز لانوثتها ثالثا باعتبارها الجوهر المنكشف على الاخر والطبيعة والموروث والعائلة والمقدس. تملك جرأة في تعرية لغتها من اوهام التداول باتجاه لغة خالصة تتمثل ذاتها بكل عريها وصحوها وروحها الغابية مثلما تمثل وعيها بالاخر الذي تتعدد من اجله وتستعير لوصاله واكتماله واشباعه مثيولوجيا الارقام ، اذ هي روح لسبع نساء يعشن في جسدها يحزنّ الرقية واللغات وروح الغابة وملل المرآة والمرأة المطوقة. انها تكتب نص انحيازها لانوثتها وذاتها، تشعل له وفيه قناديلها، تكشف عن موقفها وحدوسها، تمارس لذة غريبة في التعريف بكل تفاصيل حيازة الانثى ليومياتها ورعشاتها وانتظارها وقلقها ولا اشباعها وتدفق روحها وسيولتها ازاء فعل اللذة في ذاتها او عبر استحضار الاخر، وكأنها تقول لنا انا خلاصة جسدي وحريتي، انا انثاي!
"أحضن غضبي
اصلبه على خصري
اغذي به ناري
تسيل من جلدي على الارض دعوة للاستسلام
لكني لا استسلم"
ان ما قدمته جمانة حداد في مغامرتها الشعرية يعكس وعيا اشكاليا في تنامي نصها الشعري عبر استخدام تقنيات متراكبة ومتقاربة للصوت / بنية النداء والاستحضار وللصورة / بنية التشكيل في التداخل ما بين البنيات لايفترض بنية ايقاعية ثالثة، لان هذه البنية ستكون حاضرة من خلال البناء الهندسي الذي اعتمدته الشاعرة كتشكيل داخلي للبنية الشعرية العامة عبر توتر جملتها الشعرية ونظامها الحسي الهارموني الذي جعلنا امام قصيدة جسدية تمارس التظاهر والنداء والاحتجاج دونما ثمة مسكوت عنه، انها حقا كتابة عند احتمال الحرية.



#علي_حسن_الفواز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعرية الكوردية الجديدة انكشافات الجسد والمعنى الشاعر ئاوات ...
- ثقافة الاستبداد اوهام الدولة وخواء النخب السياسية
- الشاعرة رنا جعفر ياسين/ محاولة في الكتابة الحية
- هل انتهى عصر اليسار الثقافي
- صدمة الثقافة..اسئلة في صناعة الخيميائي
- عقيق مصري_مجموعة جديدة للشاعر شاكر لعيبي
- خزعل الماجدي_ الشعر الشرقي او الكتابة عند احتمال الجسد


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - علي حسن الفواز - جمانة حداد الكتابة عند احتمال الحرية