أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - تدوين لزمن ضائع للشاعر عباس خضر















المزيد.....



تدوين لزمن ضائع للشاعر عباس خضر


عدنان الظاهر

الحوار المتمدن-العدد: 405 - 2003 / 2 / 22 - 03:02
المحور: الادب والفن
    


                              

مقدمة
يضم الديوان - وهو الأول للشاعر عباس خضر - 33 قصيدة من شعرالنثر كتبها خلال الأعوام  1996 - 2002 متنقلا في عواصم ومدن وبلدان شتى بدءا بوطنه العراق ومرورا بالجماهيرية الليبية حتى أختار  أخيرا ألمانيا مقاما دائما له .
ما الذي يميز قصائد أشعار الشاعر عباس خضر ؟
في زحمة الكم المتزايد من شباب شعراء قصيدة النثر وطغيان مدها الجارف والخاطف للأبصار يطلع علينا شاعر آخر يتميز بين معاصريه من مبدعي قصائد النثر. ومن متابعتي لهذا النوع من الشعر ودراساتي لشعر بعض شعرائه (1) وجدت أن لكل واحد منهم خصائصه الفردية التي لا نظير لها في سواه من السابقين أو المعاصرين. وشاعرنا عباس خضر يتميز مثلا بدفقة شعرية بالغة الحيوية وبالغة البراءة كما أشار بحق الباحث الدكتور الأستاذ حسن ناظم في تقديمه لهذا الديوان (2) . كما أني أستطيع أن أضيف بدونما حرج أن براءة هذا التدفق الشعري انما هي براءة عفوية شديدة الثقة بنفسها اذ تفرض نفسها على الشاعر ليقول ما تريد هي منه أن يقول. فالشاعر هنا وببساطة ليس الا واسطة لنقل مشاعر وأخيلة وهواجس ومخاوف مفروضة عليه بحكم ما تعرض له في حياته من مشاكل وتغرب وهجرات ومن مضايقات في بلده ومسقط رأسه ( أنظر بطاقة التعريف بالشاعر في نهاية الديوان ). نعم, أشعار عباس قوية ببرائتها وبريئة في قوة تأثيرها على الفكر والنفس.
ومن يعرف هذا الشاعر عن كثب لا يجد في الأمر أية غرابة . انه شخصيا بلحمه وعصبه ودمه يمثل الفيلم الفوتوغرافي السالب لأشعاره المثبتة صورا ملونة مرئية على اللوح الموجب أو على شاشة التلفزيون . ويكاد التطابق  أن يكون تطابقا مطلقا . وأن جرأته في القول لمما يثير العجب . فالشعر ينطقه ويتكلم فيه ومن خلاله كسهم الشهاب الضارب في الفضاء بأساليب مباشرة حينا  وبأشكال وصياغات سوريالية أو رمزية أحيانا أخرى. وأراه في كل حالاته مسيطرا متمكنا واثقا مما يريد أن يقول أو مما يراد منه أن يقول . وتخدمه لغته العالية الأصيلة وثقافته المنوعة وحسه النقي العميق الأمواج , ثم الخبرات التي قد أكتسبها في منافيه ومنتجعاته الكثيرة وكثرة أصدقائه وتنوع صداقاته. لقد وطن الشاعر النفس البشرية العادية أن تذل لجبروت سلطان الشعر المتدفق بحكمة وأتقان محسوبين بشكل يثير العجب. فالطاقة الشعرية واللغة هما دائما هناك حيث يريد الشاعر في وحدة متينة تذكرني بحقيقة تولد الطاقة الكهربائية جراء دوران ملف نحاسي في مجال مغناطيسي. فالمجالان في الشاعر متحدان : لغته العذبة والمتقنة تولد فيه هذا الفيض من الطاقة الشعرية التي - مثل الكهرباء - تنير الظلام وتفتح كوى العقول على عوالم من البهجة حينا والأحزان في أغلب الأحيان . هذا ما يحسه قاريء ديوان عباس خضر , الشاعر الذي ما زال شابا في مقتبل العمر ( مواليد عام 1973 ) .
رغم كل العفوية والبراءة , لقد وجدت من خلال دراستي المتأنية لأشعاره وأحاديثي المباشرة مع الشاعر أنه يملك قدرة عجيبة على إخفاء بعض شؤونه الخاصة وراء حجب من الرصاص السميك . وبديهي أن من حقنا أن لا نكشف كل أوراقنا للعالمين مهما تمكنت منا البراءة ونقاء العفوية . فالشاعر بلغة الكيمياء - وهو يعرف بعض أولياتها - ليس حامضيا ولا قاعديا في تعامله مع البشر والظواهر والأشياء. ولعل ظروفه القاسية , العائلية منها ثم السياسية خلقت منه هرما من حجر البازلت الصلد وأحالت أديم بشرته الى جدار أصم من الخرسانة المسلحة .
ثم ان الشاعر يبدو في أكثر أشعاره ميالا الى كثرة التدخين وتعاطي كؤوس الراح خاصة في بارات ألمانيا , ينادم الأصدقاء والصديقات والسوي والشاذ من الرجال ( السطر السادس / الصفحة 65 من الديوان ) .
يستطيع قاريء الديوان أن يلمس بسهولة وأن يشم في كل قصيدة من قصائد الديوان خصائص
امارات وعلامات المدن التي حل الشاعر في بعضها مؤقتا وتلك التي أقام فيها ردحا من الزمن قبل أن ينتهي به الحال بشكل دائم في ألمانيا حيث يدرس الترجمة والأدب الألماني ويعمل هنا وهناك بعد ساعات الدراسة ليؤمن متطلبات حياته المعاشية. ثم انه يتصيد الساعات النادرة ليتابع قراءة الكتب والمجلات والصحف الأدبية المتخصصة. جهاد مثلث شاق لا يتحمل تبعاته الا من أحترق بنار الحياة الحامية , وتلكم احدى مزايا وعلامات تفوق شباب التشرد على كهوله ...

بعد هذه المقدمة الطويلة أقول : يقع ديوان " تدوين لزمن ضائع " في 94 صفحة من القياس المتوسط ويضم بين دفتيه 33 قصيدة من شعر النثر ( شعر الطور الثالث , كما أسميته في دراسات سابقة ) مع كلمة أهداء  من الشاعر قصيرة لكنها جد بليغة وجد مؤثرة , وتقديم بقلم صديقه الباحث والناقد الدكتور حسن ناظم . لقد نشر الشاعر الكثير من قصائده في أمهات الصحف والمجلات العربية الصادرة شرقا وغربا .
ماذا قال الشاعر في كلمة الإهداء ؟؟ سأعيد كتابتها حرفيا لأنها تمثل في رأيي مفتاح شخصية الشاعر وباب الدخول الى عالم ديوانه الشعري :

       (( الى وطني... أمي... الحزن الذي يؤطر البقاء)) . 

لنتأمل جيدا هذه الثلاثية أو المعادلة مثلثة الرؤوس : الوطن / الأم / الحزن . فكيف ولماذا جمع الشاعر هذا الثالوث الذي قد لا يدرك عمق مغازيه الا من فقد الأم والوطن معا :
فقد الوطن في الأم وفقد الأم في الوطن . وعند فقدان الأثنين لا يتبقى للإنسان الا الحزن مترشحا من خلال ثقوب الفقد والوجد وفسحات الزمن ومترسبا في قرارة روح الشاعر المهيأة أصلا والمجبولة أصلا للتفاعل مع حس الفجيعة المدوي والشديد التأثير في النفوس .

( الحزن الذي يؤطر البقاء ) . هنا ومنذ البداية وضعنا الشاعر عباس أمام قدره الذي ينضح حزنا وسوداوية ( وذلكم أمر اكتشفته في الغالبية العظمى من شباب العراق الذي هجر وطنه خلال الأعوام العشرة الأخيرة أو أجبر على هجرته ). انه لم يقل : الى وطني وأمي والحزن الذي يؤطر كل شيء . لقد استغنى عن واو العطف التي تكبح زمنيا ولسانيا انسيابية فكره وحسه ووضع حزنه عاريا تحت الشمس . انه يحتج. انه يدين الوجود الذي يقبل التعايش مع المظالم والذي يغض الطرف عما يجري علنا من شنائع وفظائع وخروقات لحرية وحقوق الإنسان المشروعة في القول والحركة والعمل . انه رفع يديه نحو السماء صارخا ... أيها الناس !! اني حزين . أيها الناس... اني مظلوم . أيها الناس... أدين صمتكم. وأن حزني أكبر من البقاء . فالبقاء يمثل مساحة زمنية محدودة ومحصورة بإطار , وما هذا الإطار الا حزني. الحزن إطار حياتي وإطار وجودي خارج وطني . الغربة تفقد المرء إطاره الوطني وسياجه الذي يحميه وتحرمه من حصانة دم أبيه وأمه والجذور النابتة في أديم تأريخه وعظام أسلافه الضاربة في أعماق هذا الأديم منذ ما قبل سومر وأكد وبابل. منذ ما بعد طوفان نوح . احتجاج صارخ واضح وقوي الدلالة , نجد مبرراته في بطاقة التعريف بالشاعر في آخر الديوان.
     
     (( قال رب أشرح لي صدري. ويسر
 لي أمري. واحلل عقدة من لساني. يفقهوا قولي / سورة طه )) .

أجل , يسر لي أمري. فالدخول في قصيدة النثر مغامرة خرقاء في عالم المجهول. الداخل جاهل والفضاء معتم كثير الغموض شديد الظلمة. فما هو السبيل لفك بعض أسرار هذا العالم وتبرير قبول المغامرة ؟؟ الشاعر نفسه. نعم, الشاعر. ولكن حذار !! فالشاعر لا يحسن تفسير الا الأقل من القليل من شعره . لذا نجده شديد الحذر ومقتصدا في اجاباته حين يسأل. فهل هذه حسنة أخرى تميز قصائد النثر الحديثة ؟؟ جوابي نعم . فليتركني الشاعر حائرا مأخوذا أجري وراء سراب وإشارات غامضة تتوهج للحظات في العتمة ثم تغيب . فليجردني الشاعر من عقلي ومن الأطر الفكرية وقوانين المنطق اللغوي وليدعني أسيح كالسديم الفالت بين مجرات الكون.
                                                                       

               محاور أو مفاصل الكتاب الأكثر أهمية  

يستطيع دارس ديوان " تدوين لزمن ضائع " أن يحصر أبرز مفاصل أشعار الديوان فى الأتي :
1- المرأة 2- المكان أو الفضاء 3- الكأس والسيجارة 4- الوطن 5- الحزن 6- ثم الموت .

في قصيدته " خمر لحزن الحمائم " / الصفحات 9 - 12 من الديوان , جمع الشاعر محاور شعره هذه كلها . ففي عنوان القصيدة نجد الخمر والحزن وفي متنها يذكر الموت والمرأة
( الأم ) , ويذكر المكان - الوطن ( بابل / مسقط رأس أم الشاعر ) وبغداد ( مسقط رأسه ) هو . لننظر ما كتب الشاعر في هذه القصيدة التي أفتتح بها مجموعته الشعرية , ولنلاحظ كيف ذكر عامدا أمه وموطنها الأول ( مدينة الحلة / بابل ) ثم عرج على مسقط رأسه ومدينة نشأته بغداد . ثم لنلاحظ هالة القدسية التي أسبغها بخشوع الرهابنة
على ذكرى والدته .

هائل
هائل هو انتظاري
كما ريبة تهفو لنجمة صبح في عشية الرصاص
كما وقوف الوجه حائرا بين بساتين القتل والهزائم
مرغما على وجعي
مكرها على الرقص وحيدا تحت القرابين
أنا يا عربات الانتظار,
موزع على بريد المسافة, حجرا...
تعبره الحمائم من هنا,
وأنا أصفق للموت.
لقد بدأ مقطعه هذا بالانتظار الخائب . خائب لأنه مشوب بالريبة والحيرة والوجع والاكراه . ثم ينهيه بالموت مرحبا به مصفقا له أن يأتي على عجل.
لنمض قليلا مع بعض مقاطع هذه القصيدة حيث نراه يمهد لذكر بغداد على كره منه , فيرمز لها ب ( المدينة )  ثم يذكرها بحروفها. معه حق . فلقد نكبته بغداد مرارا : 

ما عرفت لداء المدينة اسما
ما عرفت لبغداد وجها
وما عرفت قافية لهذه المراثي
وجعي كان على أرصفة الروح يعد مساءات اله
تخلى عن بيوته
أين اذن يا وطني تقام عزاءات الليل ؟
أين ترقص مع صبايا المدارس ؟
أين تكحل عروس الجندي الملثم بالصراخ ؟
أين...؟
مررت ببابل , لم تعرفني حمامات الدار
لم تجهز أمي سطحا لبرج حمام قادم,
لم تغزل فاطمة من ضفائرها أرجوحة لي

ماذا يفعل عاشق الشرفات البعيدة وحيدا
سوى أن يمجد الطريق الى الموت
أيها الموت,
أين آخر قطاراتك الثمينة؟
يا موعدك,
سأعانقه كنجمة صبح
وأشمه كامرأة ليل مقدسة

أيها الموت,
اني أقدسك
فلا آلهة بعدك لي.

هل قصد الشاعر ب " قطاراتك الثمينة " قطار الموت الشهير الذي ضم أكثر من 500  ضابط ومثقف ومناضل عراقي دفع بهم نظام بغداد يومذاك الى موت محقق بعد فشل انتفاضة الثالث من شهر تموز عام 1963  المسماة بحركة " حسن السريع " ؟؟ ( للمزيد من المعلومات يمكن الرجوع الى المصدر الثالث حول هذه الانتفاضة وحول قطار الموت ).

لنتابع سمفونية الحزن والخمر في هذه القصيدة :

أيها العاشق, أخبرك:
بأن الحزن خمر...
لثمالة الطرقات الهاربة نحو شرفات المدن السالفة
هناك, لبقايا امرأة جعلت من قامتها مخبأ سريا
لأغاني الإياب ,
في كأس أبي نؤاس
الحزن خمرة أيضا
أشرب أيها العاشق,
أقسم لك بكل كؤوس الأرض
ما أتعبني الرحيل
كنت سكران
وكان الجلادون يعدون لصمتي
وجبة عشاء أخرى
يقسمون لحمي على عربات الوطن المصدر للهاوية
أشرب أيها العاشق
أشرب أيها الموت,
الليلة
الحزن خمر عراقي
ع
ر
ا
ق
ي .

 

ماذا نقرأ في هذه الأبيات الرائعة فضلا عن الموت والحزن والخمر ؟ نرى أم الشاعر متجلية كنقطة نور في الديجور المزدوج : ليل العراق وأهله ثم ليل تغرب الشاعر الشاب , وبعده عن صدر من حملته وهنا على وهن , وأرضعته وأنشأته انسانا يعرف من هو الانسان, ويعرف أكثر متطلبات  هذا الانسان وشروط انسانيتة ... وقد دفع ثمن ذلك سجنا وتعذيبا ( وكان الجلادون يعدون لصمتي وجبة عشاء أخرى )  ثم طردا من الجامعة, وأخيرا التشرد في شتى بقاع العالم منفيا. لقد قال الشاعر في هذه القصيدة كل ما يريد أن يقوله قرابة ثلاثة ملايين عراقي بين مهجر ومهاجر وهارب من الجحيم قسرا أو طوعا . أجل , قال ما قال عباس نثرا فنيا رائعا ما يعتلج حقا  في قلوب أجيال كثيرة ممن أكتووا بنار جهنم التي ما زال زفيرها مستعرا على أرض الرافدين, ولا سيما جيله من الشباب .   

أعود لسمفونية حزن وخمر عباس خضر . لقد ذكر أبا نؤاس ... سيد الكؤوس والخندريس وسامر ليالي دجلة في بغداد يوم أن كان لدجلة كرامة ولون ورونق وبهاء . لقد اعتدت حين كنت في أهلي وفي وطني أن أرى أبا نؤاس على شاطيء دجلة واقفا شامخ القامة رافعا بكفه كأسه منشدا

   
                         ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
   ولا  تسقني  سرا  اذا أمكن  الجهر

 على أن الحسن بن هانيء لم يقرن الخمر يوما بالحزن أبدا . كانت أباريق القهوة والراح
والصهباء رفيقة لهوه وطربه . وليس في الأمر من عجب : لم يعذب أحد أبا نؤاس بسبب اباحيته ولهوه ومجونه وشعر الغلمنة وبذيء الكلام . لم يطرده أحد من البصرة أو بغداد ولم تهجره أجهزة السلطة الى ايران مسقط رأس أمه . لم يعرف التشرد والمنافي , فمن أين تأتيه الأحزان السود , من أين تأتيه السوداوية والكآبة والنزعة الى الانطواء والانكفاء على الذات ؟؟
على أن الشاعر عباس - وقد عرفنا من هو - يختلف مع الشاعر نزار قباني في الموقف من موضوعة الخمر . فاذا كان ( الحزن خمر ) في فلسفة عباس فان ( الحب سكر ) بالنسبة لنزار قباني ( 4 ) . نزار يسكر بالحب وعباس يسكر بالحزن . والفرق جد شاسع بين من يسكر حبا ومن يحزن سكرا أو يسكر حزنا .
قد نفهم أن المحب كما يراه نزار كالسكران , وأن الحب هو خمرة هذا السكران ولكن ... رب معترض يقول أن الخمرة تنسينا همومنا وأحزاننا فكيف جمع عباس الضدين , كيف تسنى له أن يقول أن ( الحزن خمر ) ؟؟ للوهلة الأولى قد يبدو في الاعتراض شيء من الوجاهة . لكن تفسير هذا الكلام بسيط , أن الشاعر يجد أحزانه تتراكم أمامه ساعة تناوله كؤوس الخمر. فالخمرة تجلب له معها كل متاعبه وذكرياته المؤلمة في بغداد عاصمة الرشيد !!. وأنا أعرف أن بعض أصدقائي يحزن فعلا وقد يبكي ساعة السكر ولا يعرف وقتها دعابة أومرحا. الناس أمزجة مختلف ألوانها وتراكيب معقدة لا يشبه بعضها بعضا.

         

          قصيدة " لا توار جثة اللهو تحت الوسادة ,أخرجها كي              تتعفن تحت الشمس ..."

هذه هي احدى قصائد الديوان الطوال التي يذكرني عنوانها بما قاله " شكسبير " على لسان "هاملت " في المسرحية التي تحمل أسمه حين أراد هذا أن يسخر سخرية مريرة من الصبية البريئة " أوفيليا "  ومن أبيها مستشار ملك الدنمارك " بولونيوس " . دار الحوار بين  " هاملت "  والمستشار  " بولونيوس " كما يلي :
 
POLONIUS: Do you know me, my lord?
Hamlet : Excellent well. You are a fishmonger.
POLONIUS : Not I, my Lord.
HAMLET: Then I would you were so honest a man.
POLONIUS: Honest, my Lord?
HAMLET: Ay, sir. To be honest, as this world goes, is to         be one man picked out of ten thousand.
POLONIUS: That is very true, my Lord.
HAMLET: For if the sun breed maggots in a dead dog,
being a good kissing carrion- have you a daughter?
POLONIUS: I have, my Lord.
HAMLET: Let her not walk in the sun. Conception is a blessing . But as your daughter may conceive, friend, look to it.

خلاصة هذا الحوار المشحون بالتوتر والترقب والحذر  بين الرجلين أن " هاملت " ينعت المستشار ببائع سمك ( سماك). يقول له أنت سماك ردا على سؤاله ( هل تعرفني سيدي ؟ )  ثم يضيف " هاملت " ( وددت لو كنت رجلا شريفا ) . ثم , وهذا هو بيت القصيد . يقول " هاملت "  ( الشمس تفرخ الديدان في كلب ميت ) . ثم يسأل على الفور  ( هل لك أبنة ؟ ) , يجيبه المستشار ( نعم سيدي ) . فيعلق الأمير هاملت ( لا تدعها تمشي تحت الشمس . الحمل بركة, لكن وبما أن كريمتك قد تحمل - تحبل - راقبها ) . " أوفيليا " اذن كلب ميت , فطيس يجيد التقبيل وأبناؤها ديدان تتغذى على لحم أم ميتة . الموت والحياة معا تحت شمس واحدة.  
( الشمس تفرخ الديدان في كلب ميت ) . هذا ما قاله شكسبير.
وهذا ما قال عباس خضر ( لا توار جثة اللهو تحت الوسادة, أخرجها كي تتعفن تحت الشمس ) . تتعفن تحت الشمس . جثة اللهو تتعفن تحت الشمس .
ما يثير اهتمامي حقا هو أن الشاعر عباس خضر قد قرأ معظم آثار شكسبير مترجمة الى العربية - كما أخبرني هو - , لكن ظروفه القاسية لم تسمح له أن يدرس هذه الآثار دراسة منهجية منتظمة . فكيف نفسر هذا الشبه المتواضع بين هذين التعبيرين ؟؟  انه توارد الخواطر الذي يحدث دائما بين الشعراء . انه  Telepathy    حيث يقرأ الشاعر خواطر ونامات شاعر آخر يعرفه وقد لا يعرفه بل ويبعد عنه مسافات أو قرونا .

وماذا عسانا واجدين بعد في هذه القصيدة ؟؟ استعارات من كتب الأديان من مثل        ( أضرب بعصاك / لن ينشق لنا نهر / لا جسر لعبورك أبدا ) . هنا يشير الشاعر الى عصاة النبي موسى التي ضرب بها البحر فأنشق البحر أمامه وقومه ( 5 ) , ثم سرعان ما ألتأم البحر ليطبق على فرعون مصر وجنده الذين كانوا يلاحقون موسى وقومه . ورد في القرآن الكريم ذكر لعصاة موسى التي شق بها البحر ( سورة الشعراء الآية 63 ) . كما ورد في بعض الآيات ( وجاوزنا ببني اسرائيل البحر.../ سورة الأعراف 138 ) , ثم عن فرعون الذي كان يلاحق موسى وقومه ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين / سورة القصص 40 ) . ثم ( ولقد أوحينا الى موسى أن أسر بعبادي فأضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى. فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم. وأضل فرعون قومه وما هدى / سورة طه 77 - 79 ) .
( أضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) لا تعني بالضرورة أن الضرب قد تم بعصاة . انها قد تعني من بين ما قد تعني : جد لهم في البحر طريقا يابسا , طريقا جزر منه الماء أثناء دورات المد والجزر البحرية المألوفة .

وفي هذه القصيدة نجد الشاعر يخاطب نفسه بضميرين : أحدهما ضمير المتكلم والآخر ضمير المخاطب. فلماذا شق الشاعر نفسه وتوزع ما بين شخصين ؟؟ نصف روح في الغربة ونصف آخر تركه مع أمه في العراق . فلنستمع اليه متكلما مع نفسه بضميرين :

                    يمكنك أن لا تكون معي 
على الأقل سأكون وحدي
   كي ألعب مع الوقت
   وربما
   لن أخرج من الرقاص
           - ...
   لكني أعرفك جيدا ...
   لا تطيق الصهيل وحيدا !
   - أغفر لي
   لأني خرجت يوما مني,
   لقد كانت امرأة .

يخاطب الشاعر نفسه في مونولوج دافيء خافت شديد الحزن ( لكني أعرفك جيدا ) ثم يطلب الغفران من نصفه الآخر ( أغفر لي ) .      
ثم اذا انفتح أمل الخلاص أمام موسى مع انفتاح ماء البحر, فان باب الأمل ظل منغلقا أمام شاعرنا الشاب . فلا نهر ينشق ولا جسر يمتد للعبور المرتجى . يأس مطبق مطلق. فمن ذا يلوم هذا الشاعر ان كفر أو جحد بكل القيم ؟؟ من يلومه على حزنه وسرفه في التدخين والخمرة ؟؟  لا أمل أمام الشاعر بالأوبة الى وطنه العراق . لا جسر ممتد الى هذا الوطن الممزق والمحاصر والمهدد والمستلب . اذن (( ففي عمان ملتقانا يا أماه )) .

كما نلمس في هذه القصيدة هيمنة التوق الى أجواء الحرية ثم ذكريات الشرق حيث الشمس والنور والدفء وحر شهور صيف العراق ( الصيف أيضا أراه يمر سريعا . يغادرنا هو الآخر نحو ضفة أخرى ) . فأية لوعة يتضمنها هذا الكلام المباشر البسيط , وأية ذكريات يثيرها بشكل خاص في نفوس العراقيين . الصيف والنوم ليلا فوق سطوح الدور  ثم فاكهة الصيف وليالي الصيف الطويلة نقضيها في المقاهي المكشوفة مع أصدقاء الدراسة والعمر من أترابنا .

وليست ببعيدة عن هذه الأجواء قصيدة " كائن " / الصفحة 40 من الديوان . اذ يصور الشاعر فيها حالة نفسية محددة بزمانها ومكانها. أنه يعبر عن حالاته هذه بأسلوب مركب رمزي - سوريالي - غير خال من بعض الوضوح , مفعم باللوعة والألم المبطن والتوق للحرية المطلقة والأنعتاق من عالم الغرف - المنافي ساعيا لضمان عالم جديد لا يعرف ماهيته ولا يعرف أبعاد حدوده ولا شكله وباقي دقائق مكوناته . يتهيأ لي كأني أرى الشاعر هنا مارقا تحت ضوء النهار أمامي بقامته المديدة سهما أسود شديد الاندفاع , ولا يهمه أين سيقع هذا السهم. يذكرني هذا الأمر ببعض شعر الجواهري :

   بماذا  يخوفني  الأرذلون
   ومم تخاف صلال الفلا

فثنائية أل " أين "  وأل  " متى " واحدة من مشاكل الشاعر النفسية الحادة التي تشحنه بالقلق وربما تلجئه الى الأسراف في التدخين ومعاقرة كؤوس الراح وتفرض نفسها عليه حين يجلس وحيدا في غرفته لكتابة قصيدة اذ يرى نفسه وجها لوجه أمام الحزن وأمام الذكريات المفعمة بالحزن المركب يأتي على رأسها حزنه على فراق والدته - الوطن
والوطن - الأم . لقد ركز الشاعر في قصيدته القصيرة هذه على :
غرفة + طاولة + سماء + شمس + الطريق . الطاولة والغرفة المغلقة الأبواب يفرضان عليه نشدان الانعتاق والتحرر بالتوسل بالسماء والنور وفسحة الطريق :

   وكطاولة
   أتناول اللهفة بطريقة فذة
   كأن أختلق سماء
   وأطيل الجلوس في شمسها
   وبعد أن أكتب شريعة جديدة
   أبحث في اليوم الآخر
   عن نافذة أخرى
   لاعتناق الطريق .

  لا قيامة لأحد على الطاولة " هوامش "

 تتكون هذه القصيدة من ستة مقاطع, يسترعي الانتباه منها مقطعان : الأول تحت عنوان " أمجدك وأستجير " والثاني " ربما يكون غيابا ". في الأول صلاة غريبة مقلوبة تخالف المألوف والمعروف من الصلوات. الشاعر هنا لا يمجد كما يفعل المصلون رب العباد, بل يمجد الها - صنما - بشرا - امرأة جبله وأصطنعه على هواه بحيث يصطحبه معه الى حانات السكر ويشركه في أحاديث شتى :

    أمجدك
    أمجد كل خطاياك
    سيرة مدائنك القادمة
    قامة النبوءة الحنونة على الطاولة
    ....
ثم يقدم لصنمه هذا بعض طقوس الصلاة التي نعرف بكلمات جد مختصرة وجد بليغة :

    أمجد أيها اللا أحد سواك
    وأستجير بلا أحد منك .

الشاعر قلب المعنى , فبدل أن يقول " أنك واحد أحد / قل هو الله أحد " قال لا أحد سواك بعد أن عرف النكرة " لا أحد " فجعلها " أللا أحد " . هذا النوع من التلاعب باللغة هو بالضبط بعض ما نريد وما يقوم به فعلا شباب شعراء طور قصيدة النثر بجسارة وكفاءة . انهم يفتحون أبدا آفاقا في فنون الشعر جديدة تثير الدهشة وتعمق المشاعر وتفتح القلوب والعيون .
أما في المقطع الآخر " ربما يكون غيابا " فلقد حشد الشاعر كعادته ( أركان حرب ) حالاته الشعرية والوجدانية الأثيرة : الرماد والسجائر والدخان وكأس الكحول.

    أيها المجبول على رماد المنفضة
    أنثر رحيق ما تبقى هنا
    وتدثر بطاولة حنونة
    وأصطف أعقاب سجائر الحكاية كلها
    ربما وهبتك الدخانات
    لون الغياب
    ربما يكون غيابا
    حجرا يمر دون حركة
    عمرا يمجد الطريق الى الكأس
    كأسا يمجد اللا أحد
    ....
لنتأمل قول الشاعر : 
        ربما يكون غيابا
حجرا يمر دون حركة .
هذا التعبير جديد وغريب معا . والا كيف يكون مرور حجر بدون حركة ؟ المرور حركة والغياب ظاهرة زمنية . نقول " طال الغياب " اذا مر عليه زمن طويل : شهر... عام... عامان..., يخيل لي أن الشاعر قصد بهذا التعبير الرائع أن طول الغياب أضحى ثقيلا على الروح ثقل حجر كبير لا يتحرك بفعل ما تسميه الفيزياء ( عزم القصور الذاتي). حجر يجثم فوق الصدور . نقبل برحابة صدر مثل هذه الابداعات ما دام شعر عصر العولمة والقطب الأوحد والانترنت هو شعر اللامنطق وشعر اللاعقل ( السوريالية ضد المنطق وضد العقل كما قال منظروها الأوائل ) . 
في السطر الأخير قرن الشاعر عباس خضر كأس خمرته باللا أحد ... بصنمه الذي يعبد كما عبد أجدادنا الأناث من الأوثان اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . يعود الشاعر بنا الى أزمان الجاهلية الأولى .

     لوحة

قد لا أكون مغاليا اذا قررت أن قصيدة " لوحة " تمثل قمة النجاح في ديوان " تدوين لزمن ضائع " . لقد وضع الشاعر نفسه هنا وجها لوجه أمام أمه الغائبة عنه , وحقق فيها أقصى درجات النجاح الفني اذ ربط بأحكام بين رؤوس المثلث المتحكم فيه : السواد والبكاء والحزن . السواد لا يكاد يفارق جسده , وهو ردف وصنو ورفيق الحزن , اللوح السالب للحزن. 
لقد أشار الشاعر الى نفسه بكلمة " النجم " ... أختفى النجم , اذ غادر بلده العراق . ومع مغادرة الوطن والأم بدأت الأحزان تتراءى على شرفات الغربة ومسطحات التشرد والنفي . تغرب وأحزان لا بد وأن يستتبعها سقوط زخات الدمع . الشاعر هو النجم اذن وليست أمه التي أشار اليها نصا بالقول ( حين اختفى النجم , لم يكن في عباءة النسوة غير رائحة البكاء ... ) . عباءة أمهاتنا العراقيات كريمات جلجامش سومر وحمورابي بابل وآشور نينوى . ولطرافتها سأكتبها مكثفة لا حسب ورود أسطرها في الديوان . ولم أجد في ذلك اساءة لمنطق أو تسلسل افكار القصيدة :

    حين اختفى النجم
    تراءت على الشرفات أحزان كثيرة,
    المطر كان يترك قطراته تتحدر بعزاء...
    أعمدة المدينة نثرت - هي الأخرى - ضوءا خافتا
    وحزينا على الأبواب ...
    حين اختفى النجم
                                لم يكن في عباءة النسوة غير رائحة البكاء , 
           كان شاحبا لما عاد
           ولم تكن للرجال حكمة كي تواري حزن الشوارع.
 
حين أطرق مفكرا طويلا أرى في هذه القصيدة احدى لوحات الرسام الفرنسي " رينوار " الأنطباعية . كما أنها تعيد الى ذاكرتي وبالحاح أغنية المرحوم " ناظم الغزالي " التي يقول فيها

    ودعتها والدمع  منها  يسيل
    والجسم مثل الغصن لمن يميل
    قالت الله وياك يا نعم الخليل
    أذكر الماضي لا تنس عهودنا .

نعم , تذكرني هذه القصيدة بأجواء مماثلة مرت علي اذ قابلت والدتي مرة في بيروت وأخرى في دمشق يوم أن لم يكن السبيل الى الوطن سالكا آمنا .
        
    
     جداريات

تتكون جداريات الشاعر عباس خضر من ست مقطوعات , وددت أن أقارن بين المقطع الأول منها المسمى " صورة " مع جداريات وردت في ديوان الشاعر المحاصر " موفق محمد أبو خمرة "  المسمى " عبديئيل " ( 6 ) . وموفق هذا هو شاعر قصيدة " الكوميديا العراقية " التي ذاع صيتها في العراق بعد أن قرأها في أحد مهرجانات المربد الأدبية ( كما أخبرني بعض أصدقائه ) . وصاحب قصيدة " زائر الليل " الرائعة التي أهداها الى صديقه  " علي النداف أولا والى نصف عرق عراقي ثانيا " ... ثم صاحب قصيدة " الجب والعقرب " التي كرسها لرثاء صديقه الكاتب والناقد العراقي ابن مدينتنا الحلة المرحوم     " عبد الجبار عباس " . علما أن للشاعر أبنا مفقودا منذ ما بعد انتفاضة آذار 1991.
تتألف قصيدة موفق محمد التي أسماها " صور مؤطرة " كذلك من ستة أقسام . قال في القسم الثاني :

    من صورته المؤطرة
    بالموت والفضة والسواد
    قبل والديه
    أزاح عن عينيهما الرماد
    فجن مما قد رأى
    حطب من البشر المكدس في صناديق العتاد
    سيل من اللعنات يقتص العباد
    ويستقر على جحيم .
    من صورته المؤطرة
    بالموت والفضة والرماد
    شيع والديه
    رتل بعض الدمع في عينيه
    آيا من الذكر الحكيم
    ولف صورته وعاد .

وقال في القسم الخامس من هذه القصيدة :

    من صورته في منتصف المحنة
    قام به الجدار
    حين رأى أخوته
    يعلقون مثله بلا أطار
    في آخر ساعات الليل
    قال وداعا يا أهل الدار .

هذا ما قال موفق محمد في جدارية " صور مؤطرة " , فماذا قال الشاعر عباس خضر في بعض جدارياته ؟ قال في مقطوعة " صورة " ما يلي :

    فتحت عيني
    ولم يكن في الجدار
    سواي
    ومسمار...
    أغلقت عيني
    ووجدتني
    مصلوبا
    والمسمار
    يحملني .

صورة عباس خضر صورة كاريكاتورية ساخرة مؤطرة بالحزن وبالموت . صورة تسخر من الموت وتسوقه عاريا شاخصا شخوص جثة قتيل علقها الطغاة البغاة على أعواد مشنقة. صورة تذكر الناس بالكيفية التي تم بها تعذيب وصلب " الحلاج " في بغداد عام
309 للهجرة أيام الخليفة العباسي " المقتدر " . لقد قال الحلاج يوما (( ركعتان في العشق لا يصح وضؤوهما الا بالدم )) / ( 7 ) كان يتوضأ الرجل الثائر المفكر بدمائه اذ كان  يعرف جيدا أنها ستهدر في سبيل الله ثمنا لمنهجه ونهجه في التقرب منه والحلول فيه . كان يدعو ويتقرب الى خالقه بدمه لا بالماء كما يفعل باقي البشر . دمه سراطه والوسيط بين شهادة الموت والحلول في ذات بارئه.
(( ... أنزل عن ظهر البغلة وضربه الجلاد نحو ألف سوط دون أن يتأوه أو يستعفي. ثم قطعت يداه ورجلاه وعلق على الصليب وهو في حالة من الغيبوبة أشبه بالثمل ... عندئذ أنزله الجلاد عن الصليب فضرب عنقه ولف جذعه في بارية وصب عليه النفط / المصدر السابع )) .
حاملو العقائد أكبر من موتهم .
أما عباس فانه يسخر من الموت ويستهين به بحيث يتحول هذا الموت في نظره الى مجرد مسمار معلق على حائط . وما قيمة مسمار معلق على حائط ! الحامل مسمار معدني يصدأ فيسقط ( الحاكم الظالم ) عاجلا أو آجلا . أما المحمول ( المناضل , ضحية الجلاد) على الموت وبالموت الى الموت فانه يبقى شاخصا معلقا على كبرياء الزمن وحيا في ذاكرة الناس والتأريخ . الطغاة مسامير حديد يتآكل بالزمن ويصدأ بممارسة الطغيان والجبروت.
بكلمات قليلة بسيطة قال عباس خضر أشياء كثيرة وجليلة .

أما الشاعر موفق محمد أبو خمرة فشأن قصيدته مختلف أسلوبا ومضمونا . ففي شعره قواف يختارها بعناية وصبر. لكن بعضها أراه مفروضا عليه اما بقوة قافية سطر سابق أو بحكم منطق مضمون القصيدة أو بعض مقاطعها . كما أن الشاعر يلتزم في قصيده تفعيلة
واحدة أو مزيجا من تفعيلات يفتقر البعض منها الى التجانس العروضي, أي أنها نشاز. أتمنى أن يجد الأخ الدكتور حسن ناظم الوقت الكافي كيما ينصرف الى دراسة ديوان
" عبديئيل " دراسة منهجية كما فعل في كتابه القيم (( البنى الأسلوبية / دراسة في أنشودة المطر للسياب )) / ( 8 ) . فلموفق محمد أسلوب خاص في كتابة أشعاره .
أما من حيث المضمون , فقصيدة " صور مؤطرة " ذكريات ورثاء لأحد أبنائه المفقودين اثر أنتفاضة آذار عام 1991 . واضح أن العائلة تعلق صورة الفقيد على أحد جدران دارهم في مدينة الحلة . الفقيد يفارق اطار صورته المعلقة , يقبل والديه , يصيبه الذهول مما يرى من خراب أصاب العائلة . يبكي , الدمع يرتل " آيا من الذكر الحكيم " , ثم يلف صورته ويعود الى اطارها . خيال غريب مدهش . كيف يقوم الموتى من موتهم أحياء ليسامروا أهليهم . ثم كيف يعودون الى حالة موتهم السابقة . لا . انهم ليسوا أمواتا ( بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . الأبن ليس ميتا ميؤوسا منه . انه مجرد ولد مفقود, حياته مؤجلة لسبب طاريء . قد يكون هاربا الى بلد مجاور . قد يكون مختبئا في  دار صديق أو قريب أو في أحد بساتين مقام النبي أيوب أو مقام جعفر الصادق المكتظة بأشجار النخيل في أطراف الحلة على شاطيء نهر الفرات . انه سيعود , لا بد سيعود الى ذويه يوما , سيفارق  صورته التي يؤطرها الموت والفضة والرماد والسواد , سيعود حيا كما كان . الوالد لا يصدق أن أبنه قد فارق الحياة . لا يريد أن يصدق .
لقد أبدع الوالد المفجوع أيما أبداع اذ قارن ما بين صورة ولده الفقيد معلقة في أطار على أحد جدران بيته وبين جثث الشهداء الأبرار معلقة في الشوارع على أعواد المشانق دون أطر !! صورة معلقة هناك وجثث طاهرة معلقة هنا في الشوارع . هناك تعليق وهنا تعليق وسبب التعليق ومسببه واحد : جنون الطغيان وجبروت السلطة وسعار الحروب .
اذا تراءى لنا الحلاج في صورة عباس خضر معلقا في مسمار, ففي صورة موفق محمد نرى  المسيح أمامنا يقوم من الجدار هلعا واحتجاجا حين يرى أخوته وأبناء وطنه مشنوقين حتى الموت معلقين في العراء (( صورا بدون أطر )) .
هل هناك فرق بين موت مؤطر وآخر بلا أطار ؟؟

 


     خاتمة

" خاتمة " هو عنوان المقطع السادس من  قصيدة " جداريات " . ولقد رأيت أن هذا المقطع بالذات  هو خير خاتمة لهذه الدراسة التي بين أيدينا. قال الشاعر في " خاتمة " :

    الليلة
    لا كأس على نافذة الروح
    الورد يهجر الطاولة
    كل قوافلي تعاد
    وأصدقاء ممرات البداية
    يرشون هنا
    جنب الزجاجات الفارغة
    أسف أنكساري .

خلافا لشعر بعض شعراء قصيدة النثر, تتميز قصائد عباس خضر بأستحالة اعادة ترتيب سطورها دون أن يختل زخم الدفقة الانطباعية التي تفرضها القصيدة على القاريء . كما أن تسلسل الأفكار في السطور تسلسل منطقي , وكل فكرة ترتبط بما سبقها وبما يليها من أفكار. وكل سطر يمهد للسطر الذي يليه. والقصيدة هذه مرة أخرى تؤكد استنتاجي من أن سوريالية الشاعر واضحة على صعيد الكل وان بقيت غامضة أو تخالف منطق الأشياء المألوف على مستوى السطر الواحد . مثلا :

    لا كأس على نافذة الروح

ففي هذا السطر غرابة سببها خرق أو تجاوز المألوف والمعروف . فليس للروح نافذة كما نعلم سوى في عالم المجاز والأستعارة. واذا ما قبلنا الصورة  - المجاز ( نافذة الروح ) فكيف سنقبل أو نتصور أن هذه النافذة تستخدم لوضع كؤوس الخمر عليها . فالنافذة هنا هي طاولة , والنوافذ والموائد أمور مادية , تصنع من مواد معروفة كالخشب والحديد والبلاستيك وسواها . في حين أن الروح أمر غير مادي وغير مرئي وغير ملموس وليس هناك أتفاق عام حول ماهيتها ( قل هي من أمر ربي ) . فلماذا آلف الشاعر بين ما هو مادي وما هو غير مادي ؟؟ السؤال هنا (( لماذا )) وليس (( كيف )) . والجواب يقول أن السوريالية كنظرية وأسلوب في كتابة الشعر لا تعترف بالحدود بين ما هو فيزيقي وما هو ميتافيزيقي. لا تعرف المتناقضات بل تعرف (( النقطة العليا )) التي يختفي فيها  التناقض وتزول المتناقضات حسب رأي " بريتون " وجماعتة من أوائل السورياليين ( 9 ) .

جو القصيدة :
لجو القصيدة أستثناء خاص, فأنها كتبت في مدينة ميونيخ الألمانية  ليلة رأس السنة الميلادية       ( 31 كانون الأول عام 2001 ) . لذا فأنها تسترعي الأهتمام بكونها لا تعكس أجواء أعياد رأس السنة المألوفة في الغرب من لهو ورقص ومرح وطعام وشراب وما يأتي عادة بعد الشراب . خلاف ذلك , عكست القصيدة وبقوة حالة الشاعر الكئيب والوحيد
( كل قوافلي تعاد ) ويهجر الورد طاولته ويرش أصدقاؤه الجدد جنب الزجاجات الفارغة أسف أنكساره . لا غموض اذن في قصيدة منثورة من هذا النوع . انها تفسر نفسها بنفسها ولكن بأسلوب جديد . فيها أستسلام أمام القوى الخارجة عن أرادة الشاعر , لكأن أقداره مفروضة عليه ولا مشيئة له في ردها أو تجنبها. قوافله ( تعاد ) ... يوظف صيغة المبني للمجهول ( تعاد ) . من الذي يعيد هذه القوافل التي قد تعني آمال الشاعر وطموحاته التي لم تتحقق, البشر أم القدر ؟؟ ثم من يرش أسف أنكساره أنما هم أصدقاؤه الجدد وليس هو المحاط بزجاجات الخمور التي أفرغها في جوفه. يذكرني هذا الجو بما قال الشاعر اللبناني المرحوم " الأخطل الصغير بشارة الخوري " :
    يشرب الكأس ذو الحجى ويبقي
    لغد   في   قرارة   الكأس   شيئا
     
    لم يكن  لي غد  فأفرغت كأسي
    ثم   حطمتها     على      شفتيا      
ببضعة أسطر من كلمات بسيطة لا وزن ولا قافية لها أستطاع عباس خضر أن يقول ما قال الأخطل الصغير ببيتين من الشعر منظومين وزنا وقافية .
نواجه هنا ثلاثية أخرى من ثلاثيات الشاعر : الأسف - الأنكسار - الزجاجات الفارغة.
( يرشون أسف الأنكسار جنب الزجاجات الفارغة ) .
يخيل لي كأننا هنا أمام لوحة سوريالية تعبر عن خيبة الشاعر وكآبته خلال الدقائق الأخيرة وهو يودع عاما سيمضي بعد قليل وسيستقبل عاما آخر عما قريب مع هيبة رنين أجراس الكنائس وصلوات المصلين على أضواء الشموع حيث تنطفأ مصابيح الكهرباء وتبدأ قبل أماني وتهاني مقدم عام جديد . في هذا الجو الأحتفالي الكرنفالي الطافح بالبشر والفرحة والهيبة , يجد الشاعر نفسه منكسرا تحت وطأة ثقل الأسف . ولكي يضاعف من شدة تأثير الأسف والأنكسار النفسي وضع نفسه أمامنا محاطا بزجاجات خالية أنتهت محتوياتها مع مرور عام قديم . نهاية شرابه جاءت مع نهاية آخر ليلة من السنة . فجيعة مزدوجة.
مثلث حزين آخر : الشراب ينضب والليلة تنقضي والعام يمر محسوبا من أعمارنا على أعمارنا . أفلم يقل شاعر قبله :

    أتدري لماذا يصبح الديك صائحا
    يردد لحن  النوح  في غرة  الفجر

    يقول  لقد  مرت من  العمر ليلة
    وها  أنت لم  تشعر بذاك ولم تدر

 


المصادر /

1- أولا - عدنان الظاهر /كتاب نقد وشعر وقص . الناشر : مركز الحضارة العربية في القاهرة. الطبعة الأولى 2001 .
ثانيا - عدنان الظاهر / مقالة نشرت في جريدة " الصحراء " الصادرة في المغرب . العدد 3959 بتأريخ  22 نوفمبر 1999 .
ثالثا - عدنان الظاهر / دراسة بحلقتين نشرتها جريدة " الزمان " الصادرة في لندن في العددين 964  و 965  بتأريخ العاشر والحادي عشر من شهر تموز 2001 .

2- مقدمة بقلم الدكتور حسن ناظم لديوان الشاعر عباس خضر" تدوين لزمن ضائع ".   الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت . الطبعة الأولى 2002 .
3- الدكتور علي كريم سعيد / كتاب " العراق, البيريه المسلحة , حركة حسن سريع وقطار الموت 1963 " . الناشر : الفرات للنشر والتوزيع . بيروت . لبنان . الطبعة الأولى 2002 .
4- نزار قباني / الأعمال الشعرية الكاملة , الجزء الثاني . منشورات نزار قباني . بيروت, الطبعة الثانية 1980. الصفحة 732 . قال نزار (( وحدها أمي/ أحبتني وهي سكرى/ فالحب الحقيقي هو أن تسكر / ولا تعرف لماذا تسكر )) .
5- التوراة / خروج , الأصحاح رقم 14 .
6- موفق محمد / ديوان شعر " عبديئيل " . الناشر : قوس للطباعة . كوبنهاكن , الدنمارك . الطبعة الأولى 2000 .
7- ميشال فريد غريب / كتاب " الحلاج , أو وضوء الدم " . منشورات مكتبة الحياة,
بيروت , الطبعة الأولى , بدون تأريخ .
8- الدكتور حسن ناظم / كتاب " البنى الأسلوبية , دراسة في أنشودة المطر للسياب "
الناشر : المركز الثقافي العربي , بيروت والدار البيضاء , الطبعة الأولى 2002 .
9- أدونيس / كتاب " الصوفية والسوريالية " . الناشر : دار الساقي , بيروت , لبنان .
الطبعة الأولى 1992 . الصفحات 49 - 50 والصفحات 267 - 268 .



#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف يحصل التلوث في الكون؟ - البيئة والكيمياء والسموم.. زواج ...


المزيد.....




- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...
- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان الظاهر - تدوين لزمن ضائع للشاعر عباس خضر