جديع دواره
الحوار المتمدن-العدد: 1442 - 2006 / 1 / 26 - 09:53
المحور:
الادارة و الاقتصاد
أصبح واضحا و بعد مرور أكثر خمس سنوات على رفع شعارات الإصلاح، ان القضية تتعدى الأشخاص والنوايا، تتعدى الشعارات، فالإصلاح بكل حقوله من اقتصادي وإداري وتشريعي وصولا الى السياسي، من جهة يمثل عملية متشابكة ومتكاملة لا تتجزأ ولا تنفك عراها الا بمستواها النظري المعرفي فقط.. ومن جهة اخرى هو عملية لها مقتضياتها وبيئتها واشتراطاتها وتجاوز تلك العوامل والمقتضيات يؤدي الى قفزة في الفراغ....حيث لا تشكل عمليات إقالة الفاسدين(كما جرى لشريحة دنيا من الموظفين ببعض الوزارات..!) وتعيين أصحاب الكفاءات والنُزهاء الا حلقة صغيرة ضمن سلسلة من الحلقات السابقة واللاحقة، وبمناخ عام من الشفافية والحرية، ودون ذلك سنظل ندور في حلقة مفرغة من الإقالات والتعيينات..!
على اية حوامل يقوم الاصلاح..؟
لكل عملية تغيير حوامل اجتماعية، تتبنى عملية التغيير وتدافع عنها و تعمل على تحقيقها ضمن رؤية استراتيجية متكاملة، والإصلاح خاصة في حقله الاقتصادي بحاجة ماسة الى هذه الحوامل لكي يمشي على قدميه وتسري الدماء في عروقه، القول إن الإصلاح مصلحة وطنية تخدم الوطن والمواطن بقدر ما هو صحيح، بقدر ما هو عام ومجرد، لهذا إن تحديد الشرائح والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية بإجراء الإصلاح المنشود يكتسب أهمية و أولوية، بل يمكن الذهاب ابعد من ذلك في تحديد مصلحة كل فئة، وتمكين كل القطاعات المختلفة من امتلاك أدوات التغيير لتحقيق مشروع الإصلاح حسب دورها وموقعها..
و بالمقابل ان معرفة مَنْ سيدفع ثمن ذلك الإصلاح وسيتضرر منه، هو مؤشر لا يقل أهمية عن المؤشر السابق الذكر (المستفيدين)..حيث يمكن هنا الكلام أيضا عن شرائح محددة متواجدة داخل مؤسسات الدولة و خارجها... فعملية الإصلاح لا تتم دون ألم و استئصال ودون متضررين. هذا يقودنا بالمحصلة للتساؤل عمن سيدفع ذلك الثمن..؟
جُلّ ما نخشاه أن يُحمّل هذا الثمن إلى الشرائح الدنيا من الموظفين والعمال، عبر حصر مشكلة المؤسسات في الأعداد الزائدة التي تمثلها البطالة المقنعة، ان مثل هذه الرؤية تظل قاصرة، وتحمل كثيرا من المخاطر المتعلقة بالاستقرار الاجتماعي، فأساس التخمة التي وصلت إليها المؤسسات العامة مرتبط بالإدارات والمواقع العليا فيها، مرتبط بمن أَتخَمَ تلك المؤسسات،وأساء إدارتها بحسن او بسوء نية.. فالنتيجة واحدة. وبالتالي فان إصلاح حال تلك المواقع, وبطرق موضوعية و مؤسساتية من شأنه أن يضع الأمور في نصابها، ومن شانه ان يجد السُبل الكفيلة بتفعيل تلك المؤسسات وتطوير عملها، بحيث تهضم ما لديها من عمالة زائدة، دون أن تقذف بهم الى الخارج، وربما يكون من الأجدى طرح الأمر على تلك المؤسسات وعلى أصحاب العلاقة المباشرين وتحفيزهم لتقديم الحلول والاقتراحات، من داخل مواقع العمل ذاتها،بما يؤدي من جهة إلى إيجاد المخارج الممكنة، ومن جهة أخرى وهي الأهم الى إشراك تلك القطاعات بعملية الإصلاح، ويعمل على إيجاد اتجاهات جديدة للتطوير، تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، وتتلاقى مع توجهات الإصلاحية للمستويات القيادية العليا، ويؤدي من حيث النتيجة النهائية إلى التخفيف من التكلفة الاجتماعية للإصلاح.
ما هي آليات عمل الإصلاح..؟
فإذا كان من السهل إعفاء شخص من مسؤولية إدارة مؤسسة ما، بصرف النظر عن كفاءته وأهليته لذلك الموقع، فإن الأصعب والاهم هو معالجة وإصلاح الطرق والآليات التي قادت وتقود الأشخاص إلى مواقع فضفاضة عليهم،لا تتناسب وكفاءاتهم او بالعكس قد تقود الى عزلهم رغم كفاءتهم وجدارة إنجازاتهم...! ففي الحالة الأولى يلجئون إلى سد تلك فراغات والاختلالات بطرق عديدة تقود في معظمها إلى الفساد..وفي الحالة الثانية يكشف نجاحهم عجز الآخرين و انتهازيتهم وبالتالي يعملون على تفشيلهم ومحاربتهم ..!!
لقد غدا واضحا ان تغليب اعتبارات معينة(الولاء والقرابة والمحسوبيات بكل أنواعها..الخ) على مبدأ وضع الشخص المناسب بالمكان المناسب هو احد الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، لذلك فالإصلاح يكون بإعادة الاعتبار لذلك المبدأ قولا وفعلا ..لكن السؤال كيف ؟ ما الآلية؟ مَنْ يضع هذا الشخص في هذا الموقع؟ ومَن يعزله ؟ووفق أية معايير؟
أولا:مدخل التناسب: قبل وضع الأشخاص في مواقعهم الصحيحة، علينا ان نوصف تلك المواقع، لنعرف بالضبط ما هي المواصفات الدقيقة لكل موقع مهما علا او قل شأنه، لتوصيف المؤهلات و الكفاءات المطلوبة بأكبر قدر من الدقة، من ثم تُجرى المفاضلة بين من يملكون المؤهلات وفق معايير وأسس معروفة وعامة، أسس تتحول الى ما يشبه الدساتير والتقاليد المؤسساتية، بحيث يتم التخلي عن مبدأ التعيين و الندب و التكليف والتزكية و نبذ كل الاعتبارات لتي لا تمت لطبيعة العمل المرتبط بذلك الموقع.. الخ بالمقابل يجب تغليب مبدأ الانتخاب والكفاءة والمفاضلة ومناسبة التخصص لطبيعة العمل والموقع ..الخ وبهذا نكون قد أبعدنا الاعتبارات الشخصية(الولاءات و المعارف و صلة القربة..) وتلك الخارجة عن مقتضيات العمل( الانتماءات الحزبية او العشائرية...) وغلّبنا الموضوعية ومصلحة العمل العام على أي شيء آخر.
ثانياً: مدخل الشفافية: لا يمكن دائما المراهنة على الأشخاص حتى مع وجود التحصينات السابقة، بل يجب المراهنة على المؤسسات و نواظم العمل, فالنفس أمارة بالسوء، لذلك لا بدّ من استكمال ذلك المبدأ، بإيجاد المناخ الكفيل برفع الغطاء عن عمل الإدارات، أولا أمام أفراد المؤسسة ذاتها، عبر إعطاء العاملين فيها دور المراقبة والمحاسبة، ثم أمام الإعلام والمجتمع، وتحصين كل ذلك قضائياً، بحث تهدم الأسوار بين قيادة تلك المؤسسات وإداراتها المختلفة والجمهور الداخلي والخارجي، وبحيث يصبح بمقدور المؤسسات الأهلية والإعلام بشكل خاص القيام بدور فعّال في هذا التحصين الرقابي على عمل المؤسسات العامة، دور فعال في الرقابة على الأداء، ومحاسبة الفاسدين ومواجهتهم دون خوف أو تساهل.
ثالثا : مدخل الاجور: بالتأكيد ان اصلاح الاجور التي تضمن للعاملين بكل المستويات، حياة كريمة، يعتبر تحصين مهم لمحاربة الفساد، وحافز فعال لدفعهم لتطوير واصلاح المؤسسات التي ينتمون اليها، لكن من المهم وضع طريقة، الية اقتصادية لاصلاح الاجور، حيث لا يمكن زيادتها الى ما نهاية بالطرق السائدة..! لا بد من ايجاد طريقة تربط بين الاجور و انتاج المؤسسة أو القطاع الذي تتبع له المؤسسة، ان المرونة في الاجور واستخدام اليات التحفيز المرتبطه بالانجاز، مع وجود ضوابط عامة، وشفافية في منح تلك الحوافز، كل هذا يدخلنا الى الاصلاح من بابه المادي المرتبط بالعائد المادي...
أي اصلاح نريد وفي ظل أي نظام اقتصادي..؟
ان الملاحظة الاولى لأي متتبع لطروحات الإصلاح يرصد واقع الضبابية وغياب الرؤية المتكاملة، فمرة تنحصر المشكلة كلها بالجانب الإداري، ومرة يتصدر الإصلاح التشريعي الواجهة، وحين تصدر التشريعات لا تجد طريقها إلى التنفيذ...!! ومرة يغيب مصطلح الإصلاح الاقتصادي ليحل محله مفهوم التطوير والتحديث..كل هذا يشير إلى أمرين الأول عدم وجود رؤية متكاملة، رؤية استراتيجية تنطلق من توصيف الواقع و تتلمس حاجاته وإمكانيات تطويره، وفق استراتيجية عمل محددة المعالم والأهداف.. فحين نريد التحدث عن إصلاح اقتصادي يجب ان يكون هناك وضوح كامل عن طبيعة السوق والتوجه المعمول به وطبيعة العلاقات التي تحكم العملية الاقتصادية..!؟رغم انه يجري الحديث عن الانتقال من الاقتصاد (ذا التوجه الاشتراكي) الى ( اقتصاد السوق الاجتماعي) وكل منهما يدور في فلك ..إلا ان الاختلافات على الأرض لم تتجاوز كثيرا حدود التسمية فقط، لم نلمس تغيرات هيكلية بالحجم الذي يشير إليه هذا الانتقال من تبني نهج ومنهجية اقتصادية إلى نهج ومنهجية اخرى، وبصرف النظر عن مدى مقاربة المفاهيم المستخدمة للواقع العياني، إلا أن الإصلاح الاقتصادي بشكل خاص لا يمكن له ان ينجز دون تلك المقاربة...فهل نحن بصدد إصلاح نظام اقتصادي مركزي اشتراكي ..لنحوله إلى لامركزي مع المحافظة على طبيعته (الاشتراكية)..!؟ ام بصدد إعادة هيكلة وبناء ذلك النظام لكي نحوله الى اقتصاد سوق رأسمالي ذو طبيعة اجتماعية..؟..ام ماذا ؟
الأمر الآخر الجدير بالملاحظة هو غياب ثقافة الإصلاح، حيث للعامل الثقافي أهمية كبرى في نشر وإشاعة ثقافة الإصلاح على المستوى العام، فما هو سائد الآن ثقافة شعارتية تفتقر الى وجود ركائز وميكانزمات خاصة بها، لذلك نجد من السهل تبنيها من قبل كل الأطراف تلك لها مصلحة والتي ليس لها مصلحة بالإصلاح، لا بل ان الفئة الأخيرة تحمل لواء هذه الشعارات كدرع واقي لتمييع عملية الإصلاح و تفريغها من مضمونها..
نعتقد أن حجم العمل المطلوب هو كبير،وهذه الملاحظات الاولية هي مساهمة متواضعة بهذا الاتجاه، لتحفيز النقاش عبر هذا المنبر الإعلامي، وخاصة في جانبه الاقتصادي، فالتنظير لعملية الإصلاح يحتاج إلى جهد جمعي عام ومن كافة المواقع ، بقدر ما يحتاج إلى معرفة تخصصية تقنية..ولا يقتصر الأمر على جبهة واحدة بل يشمل كل الميادين و كل الجبهات، وانجاز الرؤية المتكاملة يشكل حجر الزاوية لوضع استراتيجية بالمهام المطلوبة، بانسجام وتناغم وفاعلية خاصة في ظل ما نواجه من ظروف وتحديات.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟