أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - اابراهيم خليل العلاف - وداعا نينوى رواية الدكتور زهدي الداؤودي















المزيد.....


وداعا نينوى رواية الدكتور زهدي الداؤودي


اابراهيم خليل العلاف

الحوار المتمدن-العدد: 5402 - 2017 / 1 / 14 - 00:20
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


وداعا نينوى رواية الدكتور زهدي الداؤودي
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل
والدكتور زهدي الداؤودي (رحمه الله ) ، أستاذ فلسفة التاريخ الاسبق قي قسم التاريخ بكلية التربية – جامعة الموصل .. كاتب ، وقاص، وروائي يحمل افكارا يسارية وهو عضو سابق في الحزب الشيوعي وروايته (وداعا نينوى ) صدرت عن (مؤسسة الشفق الثقافية ) بكركوك سنة 2004 رواية تندرج ضمن الروايات الواقعية ؛ فهي تؤرخ جانبا من ذكرياته عن عمله في جامعة الموصل ، ومحاولة زملائه اقناعه لأن ينتم الى حزب البعث العربي الاشتراكي بإعتبار ان كليات التربية عدت في اواخر السبعينات من القرن الماضي ، كليات مغلفة للبعثيين . والرواية تحكي ما جرى للاساتذة غير البعثيين وانقسامهم الى قلة رفضت الانتماء ، وكثرة إرتضت الانتماء ، وتقدمت في صفوف ، ودرجات الحزب حتى وصلت الى مستويات قيادية .
الدكتور صالح بطل الرواية الرئيسي ، والدكتور خليل والدكتور عبد الرزاق والدكتور مجيد والاستاذ ناظم والاستاذ سالم والاستاذ جبار وغيرهم أسماء مستعارة لاساتذة وموظفين يعرفهم كاتب هذه السطور قسم منهم شغل مناصب ادارية في جامعة الموصل منها منصبي رئيس قسم وعميد ومساعد لرئيس الجامعة .
وفي الرواية التي كتبها ، وهو في مدينة لايبزك –ماركليبيرك 1979-1980 ، مغالطات وقل احداث غير صحيحة ؛ فالدكتور خليل وهو بطل الرواية الرئيس الثاني الذي صار بعد حادثة هجوم خطباء الجمعة في الموصل عليه بسبب ما كان يردده من افكار بشأن خلق الانسان في محاضراته ودعوتهم الى هدر دمه ، كان بعثيا سابقا ، لكنه انقطع عن العمل الحزبي بعد ان ذهب الى الولايات المتحدة الاميركية للحصول على الدكتوراه في التاريخ الاقتصادي الاسلامي من جامعة بنسلفانيا وكاتب هذه السطور يؤكد ذلك ، ويؤكد أيضا انه أي الدكتور خليل الذي تولى عمادة كلية التربية في جامعة الموصل قدم تقريرا ذكر فيه انتماءه السابق عندما كان في بغداد حيث مسكنه ومسكن أهله قبل ان يأتي الى جامعة الموصل ، وقد اضيفت خدماته الحزبية الاولى ووصل الى عضو قيادة شعبة ومن ثم صار رئيسا لجهاز التفتيش في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قبل مقتله في حادث سرقة سيارته امام داره ببغداد حين عاد من عمله في الوزارة .
اما كاتب الرواية ، والدكتور عبد الرزاق الاستاذ في كلية الزراعة بجامعة الموصل فلم يخفيا انتماءاتهما للحزب الشيوعي [على الاقل من خلال طروحاتهما ومناقشاتهما خلال وجودهما في الجامعة ] مع انهما تركا الحزب كما يتضح من الرواية ، لكنهما مع غيرهما قدموا مذكرة الى مجلس قيادة الثورة من خلال رئاسة جامعة الموصل يطالبون فيها –كما جاء في الرواية –" بإلغاء الاوضاع الاستثنائية وإشاعة الدمقطراطية في القطر ، وفسح المجال أمام القوى الوطنية الاخرى للعمل . كما استنكرت المذكرة بشدة ما أسمياه بالاساليب اللادمقراطية والاغتيالات التي كانت تجري ضد عناصر المعارضة " .
كان الدكتور خليل يعتقد بأن الحزب الشيوعي هو المحرك لاولئك كي يقدموا المذكرة، لكن الدكتور عبد الرزاق اكد بأنه ليست له أي علاقة حزبية وقال للدكتور خليل وهما جالسين في كافتريا رئاسة الجامعة :
- ألم تسمع بأساليب الاغتيالات والتعذيب ؟
قال الدكتور خليل بحذر :
ومحتوى المذكرة ؟ ألا تشكل لهجته خطرا علينا ؟
أجاب الدكتور عبد الرزاق بلهجة الواثق من كلامه :
- إنهم يعرفون جيدا بأننا مستقلون ،وأقصى ما يمكن أن يتخذوه بحقنا هو النقل الى جامعة اخرى ..دعهم لايقصرون في ذلك .
علق الدكتور خليل ساهما :
- صحيح ،إننا يجب ان نفعل شيئا
وراح الدكتور خليل يدمدم مع نفسه مرة اخرى ،حيوان ....حمار ...خروف ،قليل التجربة .طالب ساذج يوقعك في مثل هذه الورطة [يقصد حديثه في المحاضرة عن اصل الانسان وتطور المجتمعات ] .كان يجب ان تحذو حذو الدكتور عبد الرزاق ، وليس ان تقوم بثرثرة لاجدوى نها .شعر بصداع حاد يكاد يفجر رأسه .
هكذا يمضي الدكتور زهدي في سرد احداث روايته (وداعا نينوى ) لكن كاتب هذه السطور – وبحكم معرفته ب(الدكتور خليل ) ينكر على كاتب الرواية ما قاله ؛ فالدكتور خليل لايمكن ان يردد مثل هذا الكلام ؛ فهو معروف بصلابته ، وحدته ، وانضباطه ، وإعتزازه بنفسه ، وتمتعه بإحترام من معه من الاساتذة .. وقد ظل على هذا الحال حتى مقتله .
كاتب الرواية يريد ان يقول ان البعثيين استغلوا حادثة المحاضرة ليكسبوا الدكتور خليل الى صفوف حزبهم ، وكان لهم ذلك اذ قال انهم أوهموه بأنهم سيقفون معه ، وسيحمونه إن انتمى الى الحزب حتى وان اضطروا الى هدم الجوامع على رؤوس خطباء الجمعة الذين اتهموه بالالحاد والكفر وهدر دمه !
فيما يتعلق بالمذكرة ، فقد اجبر موقعوها على سحب تواقيعهم وآخرهم الدكتور خليل ، ولم يبق سوى الدكتور عبد الرزاق الذي التقاه مساعد رئيس الجامعة الموظف المسلكي الانتهازي الذي قضى عمره وراء كل انواع المكاتب ومع كل الرؤساء ، وكان يقرأ الصفحة الاخيرة من جريدة (الجمهورية ) البغدادية .قال للدكتور عبد الرزاق وبهدوء :
-العفو دكتور ،ثق بالله العظيم إني ليست لي أية مصلحة في الموضوع ،إني اكبر منك عمرا ، وتجاربي اكثر .عشت منذ عهود دون ان يمسني أحد بسوء أو ينتزع مني كرسيي .في سنة 1959 صفقتُ مع الشيوعيين حتى تورمت يداي .وعندما انقلب عليهم قاسم هتفت ضدهم حتى التهبت حنجرتي .وفي شباط 1963 هلهلت للبعثيين وعندما انقلب عليهم عبد السلام محمد عارف في تشرين هتفت ضدهم وفي تموز 1968 اشتركت في مظاهرات البعثيين ، وقبل ان يطلبوا مني الانتماء الى حزبهم اسرعت الى تقديم طلب بعرض هذه الجريدة شرحت لهم فيه نضالاتي وتضحياتي في سبيل البعث منذ ثورة تموز 1958 وتم قبولي فورا في صفوفهم ولكن ...حقيقة واحدة أحب أن اقولها لك يا دكتور هي اني لم اؤذ احدا ولم اقتل حتى فأرة حين حملت السلاح مع الحرس القومي .ثق أن الناس كلهم هكذا .تفضل سأريك الان وثيقة تشهد على ذلك .
واخرج بزهو من بين أوراقه ثلاث اوراق مثبتة ببعضها بدبوس ،عرف الدكتور عبد الرزاق أنها مذكرته ،قال ملوحا بالاوراق :
- تفضل ،هذه هي مذكرتك ،هل تدري كم توقيعا تحمل ؟ توقيعا واحدا فقط وهو توقيعك .
قال الدكتور عبد الرزاق بصورة لا ارادية :
- لا يادكتور ،هناك اكثر من توقيع .
- آخر من سحب توقيعه يا عزيزي الدكتور عبد الرزاق هو صديقك المخلص الدكتور خليل .كان هنا قبل اقل من ساعة .ولم يكتف بذلك بل كحله بتقديم طلب للانتماء الى حزب البعث .
قال عبد الرزاق بلهجة قاطعة :
- مستحيل .
- هل تحب ان ترى طلبه ؟
- دكتور عبد الرزاق فكر بعائلتك ، بأهلك ، بنفسك وثق إني تهمني مصلحتك لا غير .
- دكتور ماذا تريدني ان افعل بعد هذه المقدمات التي أشم من بعضها رائحة التهديد ؟
- دكتور عبد الرزاق ليس انا الذي يهدد الا ترى الاشياء بعينيك ؟ انت صاحب عقيدة المفروض ان تحس بالاشياء بسهولة ..انا اتحدث معك بصراحة لاني اعرف انك لاتثرثر ولاتورطني .
- اين هي إذن الاهداف التي جاءت في بيان تموز 1968 ؟هل المطالبة بالدمقراطية والحريات العامة جريمة ؟
قام مساعد رئيس الجامعة [ طبعا كاتب هذه السطور يعرف من هو وما إسمه وما تاريخه وما انتماءه الحقيقي ] من مكانه وجلس لصق الدكتور عبد الرزاق [ وكاتب هذه السطور ايضا يعرف من هو الدكتور عبد الرزاق ] وراح يهمس في إذنه :
- هل تعتقد أنهم [ يقصد البعثيين ] يثقون بي أنا ؟ هل ترى جهاز التلفون ،إنه يسجل كل شيء .. كن عاقلا يا دكتور ،هل تصدق بالبيانات والتصريحات والشعارات .كلها كذب وكلاوات يا دكتور .هل نسيت شباط 1963 ؟ إنهم نفس الزمرة ، ولكن مع تغيير بسيط في الاسلوب .هل سمعت بالتصفيات الجسدية ؟ لاشك انك تتصور إني أريد التجسس عليك بطريقتي هذه ولكن ثق اقول لك كل ذلك خوفا عليك .
- دكتور سبق ان جمعنا الخبز والملح اكثر من مرة قل لي بحق النعمة هل طلبوا منك ان تتحدث معي بهذا الاسلوب ام انه من عندك ؟
- ثق أنه من عندي .
- والان ...النتيجة ؟
- النتيجة ، النتيجة عندك
ماذا يريدون ؟
- طلبوا مني ان اتحدث معك بإسلوب لطيف جدا بإتجاه سحب المذكرة وترك هذا الموضوع نهائيا والمذكرة على حد تعبيرهم لن تعد مذكرة بل عريضة أو رسالة تحمل توقيعا واحدا فرجائي الاخوي منك هو ان تسحب المذكرة فترتاح انت ، ونرتاح نحن ايضا فلا قيل ولاقال .
- دكتور ،أنا اشكرك جدا لكل ملاحظاتك وقل لهم أني لن اسحب المذكرة واتحمل اي مسؤولية تترتب عليها .
قال المساعد بذهول كما لو انه أصيب بصدمة :
- دكتور ،هل هذا هو قرارك الاخير ؟
- نعم .
- ولكن الا تريد ان تعيد صياغتها لاتنس انها موجهة الى مجلس قيادة الثورة ..فيها عبارات خطيرة جدا ستحاسب عليها .
- كل كلمة كتبت فيها درست دراسة تامة وانا مستعد لمناقشة كل عبارة .
-دكتور فكر جيدا انظر انت الوحيد الذي بقي في الميدان
- لا يادكتور لست الوحيد في الميدان المذكرة يجب ان تقدم .
- حسنا طالما انك مُصر على تقديمها فلا يمكن تقديم المذكرة بشكلها الحالي
- هذه مشكلة فنية بسيطة ..غدا سأعيد اليك النسخة الجديدة
- هل تفكر في الامر ؟ ام ابلغعم بقرارك النهائي ؟
- بلغهم بقراري النهائي مع تحياتي ولاداع للتأكيد على سحب المذكرة رجاء .
طوى الاوراق ووضعها في حقيبته وودع المساعد مصافحا اياه .وقف المساعد ذاهلا في مكانه وقد استغرق في تفكير عميق لم يستيقظ منه إلا بعد دخول السكرتيرة . ص ص 29-32 .
في الروية أن الدكتور عبد الرزاق اغتيل امام داره اغتاله احدهم [ الدكتور عبد الرزاق لم يغتال حسب معلوماتي وهو موجود كأستاذ في كلية الزراعة والغابات قبل 2014 حسب معلوماتي ] وان خياله كان يتراءى للدكتور خليل صديقه وانه وهو يتقلب في فراشه ذات ليلة كان يتذكر ما كان يقوله الدكتور عبد الرزاق له حين زاره مرة في بيته :" المشكلة يا خليل هي ليست مشكلتك .المشكلة هي مشكلة الدمقراطية ..إن سلاحنا الوحيد ...هو الصمود أمام هؤلاء ..كلا انك الان انسان آخر لست خليل الامس لست خليل الامس ..لقد نزعت جلدك وارتديت جلدا آخر ... انت اذن انتهيت ياخليل ولكن على اي حال إنك تجاوزت الموت والجنون ..فليكن ما يكون " .
للدكتور صالح ، وهو احد ابطال الرواية الرئيسيين - كما سبق ان قدمت - هموم يقف عندها الكاتب ويقول أن الدكتور خليل صديقه وقد تولى منصب مساعد رئيس الجامعة للشؤون العلمية لابد وان يفاتحه ثانية بضرورة الانتماء للبعث وهو لايعرف اثنين من اصدقاءه الشيوعيين الذين القي القبض عليهما وهما (مهدي ) و( جبار ) .ياترى هل اعترفا عليه وذكرا اسمه ؟ واذا كان ذلك كذلك فلماذا لم يلق القبض عليه ؟ والاستاذ عز الدين الذي اعتقله الامن وكان يرفض الانتماء وكان مستقلا فعلا هو الان انسان آخر انه قد انتمى رغما عنه .وعاد الدكتور صالح ليقول عن الدكتور خليل انه اي الدكتور خليل هو " العلامة الهادية على مفترق طريقين ؛ انه يريك الطريق حسب .بفي ان تختار انت احد الطريقين اللذين لاثالث لهما واما الطريق الوطني الثالث الذي كنت تتصوره في ذهنك وتخدع به الاخرين فقد تلاشى عند مفترق الطريقين والان آن الاوان كي نفكر جديا في أمرك .لاتكن غبيا وساذجا ..إنهم يعرفون كل شيء عنك ..هذه المرة يجب أن تحسم الاشياء بشكل آخر " .
اعطى الدكتور زهدي الداؤودي لروايته (وداعا نينوى ) بعدا محليا ظريفا من خلال التعرض لشخصية (رشودي ) ذلك المجنون الذي كان يجوب شوارع وأزقة ومطاعم الموصل وهو يتحدث عن الافلاك والنجوم والكواكب ببلاهة واضحة تضحك الاخرين لكنه اي الدكتور زهدي سرعان ما يضعنا في صورة اخرى عندما يتحدث عن الاستاذ مهدي صديقه وكيف انه عرف رشودي وخاطبه بالقول :
صاح مهدي وهو يجلس الى جانب الدكتور صالح عندما رأى رشودي وهما يجلسان في مقهى اطلس في الدواسة بالموصل .
- رشودي ؟
انتبه رشودي الى مصدر الصوت وراح يتقدم منه بحركاته الالية قال صالح متسائلا وهو يحدق في ملامح المجنون الذي كان لايزال بعيدا عنهما :
- رشودي ،هذا الاسم ليس بغريب علي
وكلما اقترب حدق صالح في ملامحه اكثر فأكثر قال بإستغراب وقد اكتست الدهشة ملامحه
- يا الهي انه هو ..هو بلحمه ودمه .
علق مهدي مداعبا :
- لاشك انك كنت معه في مستشفى المجانين .
وقف رشودي امام مهدي دون ان يلتفت الى صالح .قال مهدي بعد ان ناوله سيكارة وقطعة من فئة الخمسين فلسا :
ماهي اخبار المريخ يارشودي ؟
اجاب رشودي بصوت خافت خجول :
- بخير يا استاذ .احسن من الارض .لقد تم حل آخر التشكيلات العسكرية وانتهى زمن الحروب .
صاح صالح وكأنه استيقظ من حلم عميق :
- رشاد !
التفت رشودي بهدوء وراح يتأمل ملامح صالح الذي سأل بعد لحظات صمت :
- رشاد ،هل نسيتني ؟
قال وقد ارتسمت على ملامحه ابتسامة جامدة :
- صالح هل تعتبرني مجنونا ؟ماذا جاء بك الى هنا ؟ هل جننت ؟
وانصرف بسرعة تاركا المقهى .تساءل مهدي :
- من اين تعرف هذا المجنون ؟
- وانت من اين تعرفه ؟
- انه مشهور في المدينة .كل المقاهي والمطاعم والشوارع تعرفه .اانه مجنون مسالم ولكن له قابلية عجيبة في الكلام وقول الحكمة .انه يصاب احيانا بحالات صرع مؤلمة .
قال صالح بشيء من الحدة :
مولاي ..ان هذا المجنون من ضحايا انقلاب شباط 1963 من ضحايا الحزب الحليف [ يقصد حزب البعث والحزب الشيوعي ايام الجبهة 1974 ]...واضاف :
- اعرفه قبل ان اتعرف عليك بأكثر من عشر سنوات ..كنا معا في سجن الرمادي
غادرا المقهى وراحا يتمشيان في الشوارع بلا هدف .كان صالح أسير شعور غريب ..شعور غامض ، جعله يتصور نفسه كما لو انه في حلم ..كل شيء يشده الى الماضي قال لمهدي : هل تعتقد ان التخلص من الماضي مسألة سهلة ؟ ان الماضي يشدك اليه ..يطبع على مسيرة حياتك بصماته التي لاتمحى .
وجاءت ( ساعة الحسم ) كما يسميها كاتب الرواية حين قرر الدكتر صالح ترك العمل في جامعة الموصل ، وراح يحدث نفسه :" سأرسل زوجتي الى اهلها في المانيا ..وقريبا سأتخلص من الاثاث والسيارة ..الاثاث الجديد الذي جلبه مع السيارة المرسيدس من الخارج بعد ان شمله ( قانون رعاية الكفاءات ) الذي شرعه واصدره مجلس قيادة الثورة سنة 1975 بقصد تشجيع الكفاءات العراقية العاملة في خارج العراق للعودة الى الوطن والاسهام في بناءه .
وفي الصفحات الست الاخيرة من الرواية ، وهي بعنوان الرواية نفسها (وداعا نينوى ) ..أبهرنا الكاتب حقا ، عندما راح يسرد في هذه الصفحات تعلقه بالموصل وجامعتها ، وبما تأسس له فيها من علاقات وصداقات وثيقة مع الجيران والزملاء ..الجيران قالوا له وهم باتوا يشعرون بقرب تركه حيهم ومدينتهم :"لقد خسرناك ...سوف لن ننساك يادكتور صالح " .
قال صالح لجارته ام سعاد :
- الجبال لاتلتقي يا أم سعاد ، واما نحن فلا بد ان نلتقي ..سلمي على ابي سعاد .
- الله يسمع من فمك يا دكتور .
كان الدكتور صالح يخشى ان لايعرف البعثيون بأنه لايزال يعمل في الحزب الشيوعي ، وان له نشاطا وعندئذ فإنهم عرضوا عليه الانتماء الى الحزب بدعوى انه مستقل ، واذا ما ظهرت الحقيقة فإن انتماءه للبعث مع كونه شيوعيا سوف يضع في رقبته حبل المشنقة وحسب قانون كان قد صدر عن مجلس قيادة الثورة يمنع اخقاء الارتباطات الحزبية الماضية .كان عليه ان يصرح بإنتماءه للحزب الشيوعي ويعلن توقفه عن النشاط فيقبله البعث ضمن صفوف ما عرف في حينه (الصف الوطني ) .. وبعد فترة اختبار يتحول الى مؤيد ، وصديق ، ومن ثم عضو متدرب وبعدها عضو عامل في الحزب .هكذا كانت تجري الامور في جامعة الموصل كما عرفناها وخبرناها قبل عقود .
في لقاءه الاخير مع الدكتور خليل قال له الدكتور خليل بدهشة وهو يسمع قراره الاخير بعدم الانتماء :
-ولكن يا دكتور كيف تغير رأيك ؟انني يجب أن أسلم الاوراق هذا اليوم للجماعة .انه مجرد توقيع ..هيا نتمشى قليلا في الحديقة .
هبطا السلم والصمت يطبق عليهما .استغرق الدكتور خليل في تفكير عميق ، ولاحظ الدكتور صالح ان شحوبا قد كسا وجهه، وعندما بلغا الحديقة قال الدكتور خليل بشرود :
- دكتور صالح ..انك لا تستطيع ان تتصور مدى خطورة قرارك .
قال صالح بإبتسامة وهو يتذكر صاحبه الهر الذي طالما كان يصيد الفئران ويلعب معها قبل ان يفترسها والغراب العجوز ينظر اليه بحسد وغيرة :
- دكتور خليل ،انا أعرف جيدا ، بأن قراري خطير للغاية ولذلك جئت ُ اليك كما اتفقنا حتى تؤجل موضوع الانتماء الى البعث الى ما بعد العطلة الربيعية ..لو كانت نيتي سيئة لما جئت للموعد .
إحتار الدكتور خليل ، وراح يضرب اخماسا بأسداس .قال بصوت متوتر :
-انا لا أفهمك ..أنا لا أفهمك يادكتور صالح أنتَ تضحكُ علينا ..أنا لا أعرف ماذا تريد .
اتخذ الدكتور صالح بسرعة مكانه أمام مقود السيارة قائلا من خلال النافذة المفتوحة :
والآن يجب ان اذهب يادكتور خليل .
انحنى الدكتور خليل مادا رأسه الى داخل السيارة ..قائلا بإنفعال :
ولكن الى اين يا دكتور صالح ؟ ما هذا التصرف ؟ هل جننت ؟ ألا تعرف أنك ستحاسب محاسبة عسيرة لهذا التصرف ؟
قال صالح بهدوء :
- جئت فقط كي اقول لك بأن هناك من يستطيع ان يقول لكم : لا .
وضغط على دواسة البنزين بقوة ، فإنطلقت السيارة محدثة صريرا عاليا ، وتركت وراءها سحابة من التراب .
عندما اصبحت بوابة الجامعة وراءه ، شعر الدكتور صالح بعبء ثقيل ينزاح عن كاهله ، ووجد نفسه خفيفا مثل بالون عائم ، وعاد بسرعة الى شارع الزهور ليعرج من هناك وبمحاذاة السور –سور نينوى – الى طريق بغداد – كركوك اقصر طريق الى هدفه .كان يسوق بسرعة فائقة ..بعد دقائق ترك وراءه أسوار نينوى ، وبوابة شمش التي كانت تلمع تحت أشعة الشمس الوهاجة وتبدو من بعيد كما لو انها مدينة من مدن الاساطير والحكايات الخيالية .كأن شيئا ما يُقتلع من قلبه بقوة وعنف ليتركَ وراءه فراغا مليئا بالحزن العميق .ضغط َعلى جهاز التسجيل ليسمع موسيقاه المفضلة وها هي أنغام شهرزاد لجايكوفسكي تلف كل شيء كما لو انها تهبط من أعماق السماء الزرقاء ، فيبدو كل شيء جميلا ناعما وحالما يتدفق بسعادة أزلية .
ومن بعيد كانت أسوار نينوى البيضاء تبدو من خلال مرآة السيارة كخيط ابيض يتلاشى وراء سلسلة التلال الملتوية المتعرجة المتداخلة ، وتهرب بسرعة فائقة بإتجاه مضاد للسيارة .
كان بود الدكتور صالح –الدكتور زهدي – ان يحلق بالسيارة ويطير بها بسرعة خارقة للوصول الى هدفه ..الى قرية الاجداد الراقدة بصمت على سفح الجبل الشاهق ، والمليء بالاسرار والتحدي ..هناك حيث سيتلاشى الى ذرات لتتسرب الى نسوغ الجذور المتشعبة في أعماق التربة وشقوق الصخور ..وخدرته رائحة الارض الندية والمشبعة بأريج الربيع القادم من وراء الجبال ودمدم متنهدا :
- وداعا نينوى



#اابراهيم_خليل_العلاف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- اختيار أعضاء هيئة المحلفين في محاكمة ترامب في نيويورك
- الاتحاد الأوروبي يعاقب برشلونة بسبب تصرفات -عنصرية- من جماهي ...
- الهند وانتخابات المليار: مودي يعزز مكانه بدعمه المطلق للقومي ...
- حداد وطني في كينيا إثر مقتل قائد جيش البلاد في حادث تحطم مرو ...
- جهود لا تنضب من أجل مساعدة أوكرانيا داخل حلف الأطلسي
- تأهل ليفركوزن وأتالانتا وروما ومارسيليا لنصف نهائي يوروبا لي ...
- الولايات المتحدة تفرض قيودا على تنقل وزير الخارجية الإيراني ...
- محتال يشتري بيتزا للجنود الإسرائيليين ويجمع تبرعات مالية بنص ...
- نيبينزيا: باستخدامها للفيتو واشنطن أظهرت موقفها الحقيقي تجاه ...
- نتنياهو لكبار مسؤولي الموساد والشاباك: الخلاف الداخلي يجب يخ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - اابراهيم خليل العلاف - وداعا نينوى رواية الدكتور زهدي الداؤودي