أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جميل حسين عبدالله - وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-















المزيد.....

وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 5360 - 2016 / 12 / 3 - 22:40
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-
يتبع
في زمن غير قصي، وهو ليس إلا لحظة تدنو بأمل دوي، ثم تذوب بين غائلة عراك دني، زارني خلان من ‏عشاق الروح، وراقني ما تجاذبت معهم من معاني الدوح، وغاضني ما التوت عليه الأعطاف من سؤر ‏السوح، فلم أرني بعد جلوة المبنى، وصحوة المعنى، إلا مطلوبا بحكاية صمت الصدى، لعله يملأ بزفيره المدى، ‏فأكون قد وفقت في إسماع الكلمة، لمن التوى عنده المعنى على نفحة، وانطوى فيه العشق على نسمة. ولهذا ‏سأقف وقفات مع مقولات من كلام الصوفية، لكي أبين بعض المفاهيم التي تراءت لي صياغتها في حقيقتها ‏الجامعة. وهي قولهم: الصوفي ابن وقته. وقولهم: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. وقولهم: من عرف نفسه، ‏فقد عرف ربه.‏
الوقفة الأولى: الصوفي ابن وقته.‏
في غمرة الوجع الذي يبدو مريبا لكل من نظر إليه بنظرة حادة، وهو يـحدس فيه كيف يربو على عواتقنا المثقلة ‏بأرزاء زمن رديء الكسوة، يفجع من رأى في عمقه سموا بين المناكب، ويفزع من تفرس في سبله صفاء ‏المجالب، ويرزي كل من ابتغى فيه ما يغذي حريته، ويزكي عتقه، وارتجى فيه ما يرشفه من خمره، وما يناله ‏من سكره، لا أراني إلا مستثقلا بما يهجرنا من معان عشقنا خلودها، وورغبنا في بقاءها، ومستلبا لما ينأى ‏عنا، وهو منا، ونحن حيارى في تقفي آثاره، وتتبع خطواته، وكأننا لا نملك شيئا سواه، ولا نعرف أحدا غيره، ‏وهو بالقدر الذي يرانا مشدودين إليه، ومغرمين به، يفر منا، ويهرع إلى الأمام في مجاري أقدامنا، ثم يتوفق ‏فجأة، فيجرنا وراءه بقسوة، ويجذبنا نحوه بغرة، ونحن أحوج ما نحتاج إلى رحمته، وأقرب ما نقترب إلى شفقته، ‏فقد تعبنا من ألاعيبه، وضجرنا من أكاذيبه، فلا هو قد وفى بالوعد، واحتفظ على العهد، ولا نحن قبلنا منه عقد ‏الذمة، وارتضينا منه ولاء البراءة، لأننا ومهما اغتررنا به، فإننا قد أدركنا خداعه، وشممنا خباثته، فكيف ‏سنصدقه، وهو لم يف بحق أحد، ولو وفى بما يدبره من كبد، لما جار علينا بالبدد. فهل نحن في لعبة يجر مركز ‏دائرتها مارد طائش.؟ ‏
‏ أجل، هكذا تبدو لعبة الحياة التي نعيش اختلال موازينها بألم، وخيبة، ونحيى بين مواجيدها الملتبسة بالحزن، ‏والحسرة، ونذوب بين أوضاعها التي لم توجد بنا، وإنما صنعت لنا، ووضعت لئلا يكون لنا في مجاراتها خيار في ‏التفكير، ولا رأي في التقدير، ولا قرار في التدبير. شيء مفجع في الحقيقة، وهو أن تكون بالشيء طبيعة، لا أن ‏تفقد ذاتك فيه إرادة، وقدرة، لأن إحداث الفعل في صيرورتنا، هو الذي يميزنا، وهو الذي يحددنا، وإذا فقدنا ‏تمام هذا التعريف، فلن يفي أي معنى باسمنا الذي فجره الآباء بين المعنى اللطيف، لأننا سنكون بلا أسماء تدل ‏علينا، ولا أفعال تنتهي إلينا. ومن الغرابة أن تموت الأسماء الكلية التي تجمعنا، وتبقى حسرات هذه الأسماء التي ‏تفرقنا، لكي تبني عالما متنافرا، وكونا متناحرا. كلا، لقد أمات الغدر لفظ الإنسان، وأجهز على آدم في ضريحه ‏الشاحب البنيان، وهدم كل المعابد التي تمنحنا آية، وسمة، ومزق كل الريات التي نرفعها علامة، وشية، ثم ‏أهال التراب على التاريخ، والحضارة، لكي نبقى بلا أسماء تعرفها الأجيال القادمة. فهل سينفعنا اسم يعرفنا بلا ‏حدود.؟ وما قيمة كون فقدنا فيه الإنسان، وحزنا في حضيضه وسم الدمار، والخراب.؟
هكذا يبنى الألم في أذواقنا، ويصاغ في أحكامنا، لأننا ومهما اغتلنا حس الوجدان، واغتصبنا شعور القلب ‏بالكتمان، ووثقنا بمقالب العقل في الخداع، وخنعنا لحيل التفكير في الضياع، واستسلمنا لنزوح الأنظار نحو ‏المساحات البعيدة، وانتظرنا شروق الأحلام بما يتراءى لنا من وميض الأمداء الرحيبة، فإن ما نسرح فيه من ‏خيال طازج بالمعاني اليائسة،وما نغوص بين أمدائه من الجراح الدامعة، ما هو إلا تلك الصورة المهذبة للواقع ‏الذي بنيناه بفنوننا، ورفعناه بعلومنا، أو ما هو إلا تلك النسخة التي كتبنا عليها حياتنا، ورسمنا فوقها غايتنا، لأن ‏أقبح وضع ننتقل إليه حين نكفر بالواقع، ونؤمن بالمتوقع، أننا لا نصنع من مجرد جحودنا كمال المثال المتخيل، ولا ‏نبدع من مطلق نفورنا جمال صورة الغد بالأمل المتوسل، بل نتوه فيما نحن عليه من مغبة أوضاع تتوالى بالمحن، ‏وأوضار تتعاقب بالفتن، لكي نخرج منها حقيقة معدلة للفكرة البسيطة التي نشأت في أذهاننا منذ طفولتنا البريئة، ‏وما زالت في وجومنا هي اللحظة الهاربة، والحلقة الغائبة. ‏
ومن هنا، فإن المثال لا يستجلى إلا من حقيقتنا التي نعيش بين ضروب غموضها حيارى، ونقف حيالها غرثى، ‏ولا يستظهر إلا من تلك النهاية التي وضعناها لكليات لا نملك فيها حق الصياغة، ولا تركيب الغاية، ولا الغنم ‏بالنتيجة. وقليل منها في القدرة، وبعض منها في الإرادة، هو الذي نهذبه، وهو الذي نشذبه، وربما نتعارك من ‏أجله، ونتقاتل في سبيله، وكأنه في غربة الأشواق، وانكسار الأتواق، هو لب الوجود، وإكسير الخلود. إذن ‏هكذا نكون ضحايا لفعل لم نخبُره، ولأمر لم نسبره، بل لم نستشر في حقيقته، ولم نستهد إلى دليل دامغ في ‏إدراكه، ولم نستند إلى برهان قوي في إحرازه. ولو كنا نمتلك حق أن نختار معه، لابتغينا في شدة جهدنا أن ‏نفارقه، ولأحبنا في رغبة الوصل أن نصارمه، لعل الوجع يسكن غوره، والجرح يندمل عمقه، والأنين يخف ‏صوته. لكن هي أقدارنا التي تحبك في لعبة الحوادث مؤامرة افتتاننا، أو مكيدة اغترابنا، وتنسج في متعة الذوات ‏غصة تسجن أنفاسنا، وتحبس أرواحنا. وما دمنا لا نمتلك لها رسما يستوفي معناها، وهي جزء من صريح ‏متاعبنا فيها، فإن ما نستوثقه في أعماقنا، ونستيقنه في أذواقنا، أن واقعنا الذي نترنح فيه سعداء، أو نتعاوى ‏عليه أشقياء، ما هو إلا الحد الأعلى الذي نخطط به لتمام الحاجة في حياتنا المرغوبة، وكمال الضرورة في لذاتنا ‏المحبوبة. ‏
كثيرا ما أتذكر هذا الوجع المقرور فينا ألمه، والمزموم فيها أوده، وأقبض عليه، وأعصر بعضه، لعلي أدرك من ‏عنب خمرته غمرة نشوته، وغِب غايته، لكنه سرعان ما ينفلت من يدي، فيضج ساخرا بي، وربما يبدو لي ‏معاندا، وأحيانا مناديا، وكأني به يقول: يا أحمق، أليس من البله فيك أن تواجهني، وأنا الأشرس فتكا في ‏حقيقتي. وأحيانا يبدو لي، وكأنه يقول: يا غافل، أليس من العيب أن تركن إلى منازلتي، وأنا هو أنت في ‏تلهفي، فلو اتفقنا لتعانقنا، ولو توفقنا لتآلفنا، ولو اقتربنا في الآمال، لكنا أكسب لحظنا في الوصال. وهنا يبدو لي ‏الوجع متألما، ويصير الوضر متبرما، لأنه أنف أن يكون مغرينا، وأن يغدو معذبنا، بل صار من شدة حرارة ‏شقاوة الذوات ألين عودا في الهمسات، وألطف جنابا في الكلمات، لأنه ما أن صاحبنا زمنا حتى شربنا حميا ‏معناه، وسكرنا بدبيب مأتاه. وحينئذ تمازجنا، ثم خبت الغفلة فتصاهرنا، وسار بسيره، لا بسيرنا. إذ سيره، هو ‏ما أفت العضد، وأهان الهمة في الورد، وأرغم الأنف على الانحناء، وأحجم العقول عن النقاء. وأي انحناء ‏أعظم من أن تشعر بالغربة في غربتك.؟ ‏
أجل هو مجهل في مجهولات الإنسان، ومهمه مغبر بين الأكنان. فأين سياتي الضوء من بين الأمداء الحسيرة.؟ ‏قد يكون كلام الوجع ناصحا في بعض الأفكار، أو عاذلا في بعض الأسرار، لكن لا يجوز لنا أن نعقد معه صك ‏المعاهدة، ونرضى فيه بالمحاصصة، ونحن في جلية الأمر لا نبرم عقد الحياة إلا على طرق الموت، ولا نبني بيتا إلا ‏على خراب. إذ ما يستطيع الفجع أن يفعله بنا، ويرغمنا عليه في أخبارنا، هو ما نراه من صدور تنتحب، ‏وعواطف تنتكب، وديار تخرب، وآفاق تبدد، ووأعنة تلبد. فهل هذا شيء غريب في طبعه.؟ ربما لم يبك ‏الناي إلا ببكاء عاشقه، وما ناح إلا بنوح عازفه، إذ لو صفا المصدر، والمورد، لكان صوته لحنا يرتشف من ‏الآفاق، والآماد، لكن قدره في منبته، وغبنه في محتده، لم يصرفه إلا إلى أيد متألمة، وشفاه متغضنة. فلا غرابة ‏إذا نزف بالأنين، أو مزقه الحنين، وهو لا ينتظر إلا نقاء المعنى، وهيام المنى، لكي يكون صوت الحقيقة، لا ‏حدو الطبيعة. هذا الانتظار، وهذا الانحسار، هو اللحن الأصم، كلا بل هو فاتر الألم، ألم الاشتياق إلى زمن ‏توضع فيه الأحمال، وتزول منه الأثقال، فيكون نحس الأنواء سعدا، وحباء، وشقاء الديار أملا، ووقاء، ‏وكدورة الآفاق عونا، وصفاء.‏
هكذا نعيش مأدبة الحياة القاسية، وسواء فينا من ينوح بالأتراح الجائرة، أو من يبكي على الأطلال الشاحبة، ‏أو من يتأمل الأشجار الخانعة، أو من يتذكر الأيام الخالية، أو من يعظ بالقواطع الزاجرة، أو من يضحك ‏بالأحاجي الفارغة، أو من يمرح بالأحلام الباسمة، أو من يغني بالأنغام الصاخبة، أو من يسخر بالهمم العالية، ‏أو من تاه به الحلم الجانح، فلم يدر هل يعيش معنا بمكتوم الجوارح، أو يعيش خارجنا بالألم البارح. فنحن سواء ‏في وصف الحياة التي لا تقضى فيها حاجة إلا بترك حاجات، ولا تنال فيها رغبة إلا بزوال رغبات. ومهما حاولنا ‏أن ننسى الأواصر التي تربطنا بالمعاناة التي تغلنا بأوجاعها، لكي نحدث في الواقع فواصل تحجبنا عن بعضها، ‏وتمنعنا من أن نشترك فيما يكمن وراء الستار الحاجب لنا، فإن الألم كامن فينا، ومقرور بنا، ولو قلنا بأن ‏اللذات لا ألم لها معنا، وزعمنا أننا لا نفتر عنها إلا بكسبنا لها، فنحن لا نملك إلا ذوقا محدودا لا نحيد عنه في ‏نسج صيغ الأحكام على الأشياء، ولا يتوافر عندنا إلا ما شربناه من أحلامنا الكأداء، ولا نعرف إلا طريقا ‏واحدا يجمعنا في النهايات، ولو اختلفت البدايات، وتعددت أسباب الغايات. وما لم نأكل من موفور المرارة، ‏فإننا لن نحس بممنون الحلاوة. فالأمر مركب من ضديه، وممتزج في فصيه، ولا استغناء لأحد منهما عن الآخر، ‏بل كلاهما قائمان فينا بالأمر، وواقفان عند الباب التي نستفحه بيد شلاء، وعين عمياء. وهل نحن إلا مجموعة ‏رسوم سرقت بهجتها بين بحار المعاناة، وبراري المقاساة.؟ إذ لا يمر علينا زمن إلا وأدركنا عجزنا عن المعرفة ‏الكاملة بالماضي، وجهلها بالحاضر المتداني، وأحسسنا بالندم على مافات من عمر انجدل وقده بلا قيمة، وزمن ‏يمر تافها بلا فائدة، وأيقنا بالهزيمة بين الوقائع التي تدهمنا بلا إشعار، وتدهسنا بلا إنذار.‏
إذا أيقنا بأن الحياة مقام لمن اصطاد الوجود على صهوة العناء، ومتن الفناء، ومحل لمن رام السعادة في ذهول ‏الشقاء، ودهشة البلاء، فإننا سندرك في الأشياء المفارقة لنا معنى غير الذي ينبني عليه حلم من اعتقد الخلد ‏مع بقاء أعيان الحاجات بين يديه، وتلهف بنوال ما تعرى ساقه من أشجار الرغبات الممزوجة به، لأننا ومهما كنا ‏متميزين في تركيب الصور المخضرة معانيها بين أذهاننا، وترتيب كثير من أفعالنا على بساط غاياتنا، فإن ما يخطر ‏علينا بين الديار من أفكار حسيرة، ولحاظ كئيبة، يتعب أبداننا، ويربك أنظارنا، فنغدو سائرين بين الدروب ‏بلا نسق يهبنا هدوئنا، ولا سياق يجمع آراءنا، ولا مآلات تجرنا إلى سعادتنا، ولا غايات تحكم أفعالنا، وربما ‏من شدة وهَننا تبدو لنا صور ضعفنا، أو معالم انهيارنا، فنرِد من الأقوال ما لا معنى له في ناموسنا، ونلغ من ‏الأفعال ما يصرفنا عن حقيقتنا. إذ ما نحن قائمون به من تأليف جشع في طبيعته الكاشحة، وما نحن واقعون فيه ‏من أدوار قاسية، لا يمنحنا تلك القدرة التي نمتلك فيها الأشياء بحيازة مفاتيح أبوابها، ولا يمتعنا بتلك السعادة ‏التي تبني عروش آمالنا بين براح أفنيتها، بل نحن في كثير من عماء الرؤى أوهام غير محررة، وأحلام غير ‏محددة. ‏
وهنا نشعر بالعدمية التي تقتلنا، وبالعبثية التي تدفننا، ونحس بصروف الزمن الذي يمر علينا بلا أمل في البناء، ‏ولا رجاء في الجزاء، لأن فقدان المعنى بين الذوات المتألمة بكدر ديارها، لا يأتي إلا من تحريف نظرها إلى ما ‏يقوم بها كيانها في الواقع من أخلاق فاضلة، ومثل خالدة. ومن هنا، فإذا احتمل الصدق جريمة الكذب في ‏الخليقة، وتخلت الأمانة عن محالها لخبث الخيانة الوضيعة، واتبع الحق دهاء الباطل بين دواهي الخديعة، فما ‏الذي سيتطاب عطره بين الأكوار، ونحن لسنا إلا رميم عظام تسري فيها دماء الأسرار.؟ ومن الذي سينقذنا ‏في هذا المحيط الهادر بمعاني الشهوة، ومباني اللهفة.؟ أجل، نحن لا نملك فضل زمن لنفتت صخرة الألم في ‏الأعماق، ونمزق جبة الحزن بين الأذواق، ولا مزيد جهد لنستدرك ما فات مما بقي من عمر قصير في صحيفة ‏الأرزاق، ونستهدي بمصباح العشق إلى دوحة الأشواق، ولا كبير أمل لننفض عنا غبار حياة مثخنة بالجراح، ‏وننهض بهمم تسمو عن الذوات المتعبة الجوانح، ولا عظيم رجاء ننال به لحظة تذوب فيها المعاني بين حياض ‏البقاء، وتسوح فيه الآمال الرابضة بين حدائق الوفاء. ‏
‏ شيء يفسد النظر إلى الحقائق التي ترغمنا بصعقتها على الاستيحاش من المقام، ويبعدنا عن تلك اللحظة التي ‏نسرح من ورائها متولهين بطيفها السائم، وهي تبتعد عن الدرب، وتنأى عن الطلب، وتنحني بين المهاد، ‏وتنزوي بين الوهاد، ثم تبدو لنا صوتا عميقا بين أطلال الرغبات المستحرة بالصبوة، والمستعرة بالغلمة، ‏فنلامسها غفلة، وتلمسنا خدعة، ثم تهرب من باب غير الذي تعانقنا عليه، وتواعدنا عنده، وكأنها ما واصلتنا إلا ‏لتأليمنا، وما وافتنا إلا لتعذيبنا، وما فارقتنا إلا لإغرائنا، وما شاكستنا إلا لإغوائنا، لأنها ما كانت وفية لما ‏تغتصبه من فطرتنا، وما كانت أملا لما نهدمه من صروح خصالنا، بل من شدة شؤمها أننا لا ندرك فيها شيئا ‏من المتعة، ولا نحصل فيها على لحظة المنة، إلا وتخلفت فينا بالفجع، وتمددت فيها بالفزع. والأغرب أننا نحس بها ‏طيفا يفتن قلوبنا، أو سرابا يسخر من عقولنا، إذ لا نكاد نحدق فيه حتى يعرض عنا، ويختفي فينا، لكي يودعنا ‏بين مهمه غائر الأكدار، ويتركنا أشلاء يعوي فيها غراب الأوضار.‏
‏ تلك العدمية التي أنتجت إحجام الأنظار عن الآفاق المبحوثة أغوارها بوهج الانتظار، وعشق الانتشار، لا تأتي ‏في صوغ محدد البداية، ولا في نسج مطرز النهاية، بل هي كل حياة الإنسان الذي نزف منه الجلد، ورشح منه ‏الفقد، ولم يدر كيف يداوي علته، ولا كيف يداري كمده، ولا كيف يخاطب الأشياء المحسوسة له، ولا كيف ‏يتوسل إليها بأعباء ذاته، فتحادثه بما كمن فيها من نعم، أو ما غاض فيها من نقم. فهل استقل بهذا أحد دون ‏الآخر.؟ لو قلنا بهذا، فقد وضعنا الحدود غير المتآلفة بين حقائقنا، وصغنا مركبا غير متناسب في طبائعنا، لأن ‏وجود التعاسة على الجدران الكاشحة، وظهور الأحزان على مرآي الدروب الحالكة، ما هي إلا كلام الجاثمين ‏ورائها، وزفير المتألمين بينها، فلو انكشفوا لنا بما هو موجود في قاعهم من جفوة، وبرزوا أمامنا بما يخفون من ‏وحشة، لكانوا صورا لشعور منكوشة، ولحى مجرورة، وعيون ذابلة، ووجوه كالحة، وأجسام نحيفة، وثياب ‏رثية. لكن قدر الوجود في حياة لا تعطي سؤرها إلا لتمنع شرابها، ولا تهدي رديئها إلا لتبخل بجيدها، لم يسمح ‏بنشر المعايب، وكشف المثالب، لأن ظهور المعنى الأصغر مانع لسمو الأكبر، وسموق الغصن الأدنى حاجب ‏لعلو الأظهر، إذ الإنسان في غوره، ليس إلا نسخة محرفة لواقعه، أو مزيفة لحياته. ‏



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مع أبي حيان التوحيدي في محنته -5- الأخير
- مع أبي حيان التوحيدي في محنته -4-
- مع أبي حيان التوحيدي في محنته -3-
- تنبيهات وتعليقات -2-
- مع أبي حيان التوحيدي في محنته -2-
- تنبيهات وتعليقات -1-
- مع أبي حيان التوحيدي في محنته -1-
- مبهمات الذاكرة
- العلم حين يصير صناعة (الأخير)
- العلم حين يصير صناعة -الأخير-
- العلم حين يصير صناعة -5- الأخير
- العلم حين يصير صناعة -4-
- العلم حين يصير صناعة -3-
- العلم حين يصير صناعة -2-
- العلم حين يصير صناعة -1-
- الشخصية برأي آخر -4-
- الشخصية برأي آخر -3-
- الشخصية برأي آخر -2-
- الشخصية برأي آخر -1-
- رسالة إلى الأديبة فاطمة ناعوت


المزيد.....




- معركة بين 100 رجل وغوريلا واحدة.. من سيفوز بالنزال؟
- ثعبان أسود عملاق يزحف على الشاطئ.. ما كانت ردة فعل الزوار وا ...
- الكويت: زواج -الخاطف- من الضحية لن يعفيه من العقاب
- واشنطن توافق على صفقة صواريخ للسعودية بقيمة 3,5 مليار دولار ...
- مصدر: الجيش الروسي قصف مصنعا عسكريا أوكرانيا في زابوروجيه
- الأردن.. إغلاق -خمارة- بعد افتتاحها بزفة تراثية (فيديو)
- تقرير: هكذا فاجأ ترامب نتنياهو -بمقامرته النووية- مع إيران! ...
- الهند تحظر واردات كافة السلع من باكستان
- لم يتبق خيام ولا طعام وسيموت الآلاف.. منظمات إغاثية تقرع ناق ...
- خبير عسكري: الاحتلال يتجه لـ-خنق- غزة بعد فشله في تقطيعها


المزيد.....

- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جميل حسين عبدالله - وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -1-