بهيج وردة
الحوار المتمدن-العدد: 1415 - 2005 / 12 / 30 - 09:01
المحور:
الادب والفن
لم تكن رغبتي بالكتابة عن " الاسكندر " الفيلم الملحمي التاريخي , انبهارا ً بهوليودية الفيلم الواضحة , و التي انعكست من خلال الميزانية الضخمة ( 150 مليون دولار ) , أو بشديد تركيزها على المعارك التي تتقن هوليوود صناعتها محتلة حيزا ً لا بأس به من الفيلم , و هذا مهم برأيي لإظهار الفنون العسكرية لهذا القائد الذي حكم العالم , لكن تناسي الأثر الحضاري الذي بنى الاسكندر على هذه الصورة , و المرور مرور الكرام على منجزاته الحضارية و التفاعل الإنساني الذي لم يظهر إلا في جيشه , وصولاً إلى ما وجه من انتقاد للفيلم خصوصا ً بعد مرور فترة زمنية لا بأس بها على بدء عرض الفيلم , جعلني أعيد بناء و قراءة مشاهد هذا الفيلم .
فاختيار أوليفر ستون لموضوع فيلمه " الاسكندر " يبدو جدليا ً من حيث إسقاطاته , فهو ينحدر من عائلة قاسية (1) مما يجعله متشابهاً - في إسقاط شخصي - مع الاسكندر و عائلته القاسية أيضا ً فوالد الاسكندر هو فيليب الحاد الطباع و أمه أولمبيا المتقدة شهوة للملك , و أوليفر هو العائد من حرب فيتنام بكل الجروح و الآلام و التشوهات التي خلفتها من آثار في نفسه و التي جسدها في فيلم "بلاتون" , هذا مع الانتباه إلى تاريخه الشخصي في صناعة الأفلام و الانجازات التي قدمها في أفلامه من خلال تناوله لمواضيع تمس صلب الحياة الاجتماعية و الاقتصادية "سفاحون طبيعيون" و "وول ستريت" , , دون نسيان الأعمال السياسية التي نتذكر منها " نيكسون " و "ج ف ك" الفيلمين الروائيين الطويلين , و الفيلمين الوثائقيين المختلفين ( البحث عن فيديل 2004 ) و ( شخص غير مرغوب فيه 2003 ) , و اللذين يتناولان شخصيتي كل من فيديل كاسترو و ياسر عرفات على الترتيب غير المرغوبين أمريكيا ً , هذا الاستعراض يظهر لنا اوليفر ستون مخرجا ً متميزا ً قادرا ً على تقديم مادة قوية عن شخصية تاريخية مؤثرة كالاسكندر , إلا أن عظمة الإخراج و الإنتاج الهوليودي تفرض علينا أن ننظر بحيادية أكبر بعيدا ً عن قوة المؤثرات و جمال الأداء , حتى نرى كيف يستطيع القوي إعادة كتابة التاريخ و فرضه مع عنف رمزي على الشاشة , يطبع في ذاكرة كل من يتعرض لهذا التاريخ المستعاد بذهنية هذا القوي .
الفلسفة اليونانية والشرق
بالنظر إلى شخصية الاسكندر و معلمه الحكيم أرسطو الذي حلم بالوصول إلى مناطق لم يصلها أي من أبطال الميثولوجيا الأسطوريين , و التي كانت مغذيا ً خصبا ً للإسكندر و خياله الوثاب و هو المتأثر بشدة بقصص و بطولات الأساطير كهرقل و أخيل أبطاله المفضلين , و ما منعة الشرق في وجه أبطاله إلا حافز له على المغامرة و السعي نحو الأعمق في الشرق الذي هزم كل من سبقه , و يظهر تأثير أرسطو في احترام الاسكندر للشرق و امتعاضه من قادته العسكريين الذين رافقوه كفاتحين لم يحترموا الشرق , ففي حديث أرسطو عن الاعتدال و تفوق الإغريق على الفرس الحاكمين لمعظم الشرق القديم , فكرة منقولة عن نظرية الفيثاغورثيين في الأضداد , حيث كان صراع الأضداد عند فيثاغورث يهدف في النهاية إلى حدوث وحدة أو ائتلاف (2) , و هو ما ذكره أرسطو عن الاعتدال في التحكم بالحواس , لكن الإشكالي هو تعرض أرسطو للفرس بانتقاص معتبرا ً إياهم شعوبا ً أدنى مستوى ً من الإغريق , رغم اتساع نطاق حكمهم الذي وصل إلى مشارف اليونان و دورهم الكبير في تغذية فرقة المدن اليونانية , إلى ضلوعهم في اغتيال فيليب موحد اليونان كما يتحدث الفيلم , و المفارقة تظهر هنا عبر احترام الاسكندر للشرق و معاملته المدن المفتوحة بحضارية تليق بفاتح مثله , و عدم تأثره بمقولة أرسطو أبدا ً , فهو الذي ضم إلى جيشه المقدوني عددا ً ضخما ً من أبناء الشرق المفتوح , و الذي تفاعلت فيه الحضارات و ازدادت غنى ً بفضل إستراتيجيته المنفتحة على قبول الآخر و العطاء حيث لم يبخل بما حوته حضارة اليونان , لكن مع إهمال كبير لجوانب الحضارة الشرقية العامرة , و بابل العظيمة التي لم يرها أرسطو , لكنها كانت حلم التوسع اليوناني شرقا ً , و هنا يظهر إبخاس مكانة الشعوب المتحضرة التي فتحها الاسكندر فيستغرب تذوقهم للشعر رغم أميتهم , و هذا اتهام خطير يمرره الفيلم تحت غطاء من الملحمية و النعم التي أغدقها فاتح عظيم كالاسكندر , ففي هذه القراءة الانتقائية للتاريخ ( تزوير) , من خلال الحديث في فيلم ضخم التكاليف و الإنتاج و الأهم التوزيع لأنحاء العالم , أي أخذه كمرجعية من قبل كثيرين غير راغبين في البحث و الاكتفاء بما يقدم لهم من مادة جاهزة مشوهة فمن المعروف تاريخياً أن اليونان أخذوا أبجديتهم من الكنعانيين و التي كانت إحدى تطورات الكتابة الموجودة في أوغاريت الفينيقية , و هنا لا بد من لفت النظر إلى ابتعاد مخرج الفيلم عن ذكر فتوحات الاسكندر على الساحل السوري و بخاصة معركة صور التي يذكرها الفيلم على لسان الاسكندر في إطار رفعه لحماسة جنوده و تذكيرهم بانتصاراتهم قبل معركة الفاصلة مع داريوس في غوغاميلا , فما القصد من القفز عن منطقة حضارية مهمة جدا ً في إشعاعها الحضاري و تأثيراتها المباشرة على فلسفة اليونان خاصة من زينون الرواقي الذي كان الأثينيون يطلقون عليه اسم الفينيقي , ً (3) إلى فيثاغورث الذي ولد على الشاطئ السوري في صور (4) و تتلمذ في سوريا مدة عشرين سنة كاملة (5) , و اللذين أثرا بمن جاء بعدهما من فلاسفة .
التباسات الشغف الذكوري
لا بد لمتابع الفيلم أن يخرج بانطباع عن مثلية الاسكندر الجنسية من خلال مشاهد موحية , نجحت الكاميرا في تصويرها من خلال باغوس و هيفايسشن صديق طفولته , هذا الانطباع الذي أثار غضب الكثيرين من اليونانيين لدى بداية عرض الفيلم , لكن قبل الدخول في التفاصيل لا بد من قراءة تاريخية أكثر عمقا ً من تأثير إيحاءات الكاميرا .
فبالعودة إلى القرن الخامس قبل الميلاد نجد تحول الفن اليوناني إلى نزعة طبيعية مثالية مقارنة مع التجريد و استخدام الأسلوب الهندسي و القواعد الثابتة التي لا تسمح للفنان أن يحيد عنها , و سبب هذه النشأة تحول أثينا إلى النظام الديمقراطي الذي يتضاد مع نظام قيم الارستقراطية القديمة التي كان لها الحكم قبلا ً , فظهرت نزعة حسية و اتجاه إلى الواقع المادي مخالفان لما كان يسود الفن من تقاليد مثالية , لكن كان لهذا الفن القديم الذي ألهم المحافظين من الفلاسفة كفيثاغورث و سقراط و أفلاطون اتجاهات عديدة مختلفة , و هنا لا بد من التركيز على أفلاطون الفيلسوف الذي لا يستمد عبقريته من ملكته العقلية وحدها إنما من عاطفة ووجدان و الهام إلهي لا ينعم بها سوى الصفوة المختارة من الفلاسفة الذين تدرجوا في مراتب الحب , حيث ذكر أفلاطون الحب كثيرا ً و صور سقراط في صورة الحبيب المثالي الذي ينأى عن شوائب الحب , فسقراط كان يحب في الفتية نفوسهم و يتسامى بحبه منشدا ً تحقيق الفضيلة و الخير موجها ً إياهم للمعرفة الفلسفية (6)فكان أفلاطون داعيا ً لهذا النظام الذي اعترفت به اسبرطة , و الفرقة الطيبية في جيش فيليب مثال على أهمية هذا النظام من وجهة النظر السياسية (7) , فينسب هذا الحب إلى أفروديت السماوية ابنة السماء التي هي من صلب الجنس المذكر وحده و أتباعها يتجهون إلى حب الرجال حبا ً فلسفيا ً يتجه إلى النفس فقط , و قصص اليونان تذخر بمثل هذا الحب , كحب سقراط و ألقبياديس , و حب أخيل و بتروكليس , هذا المثال الذي يتردد على لسان الاسكندر و صديقه هيفايسشن , و هنا يظل الحكم على مثلية الاسكندر و عدمها من خلال ما قدمت من قراءة تاريخية تاركا ً التقييم لكل قارئ مستعينا ً بعبارة لبروتاجوراس أحد أعظم سفسطائيي عصره : " الإنسان مقياس كل شيء " , التي أظهرت كيف يمكن أن تختلف الحقيقة باختلاف ما يبدو للإنسان منها .
شرق أُمّي ؟!
يأخذ الفيلم أبصار المشاهد بفخامة بابل و عظمتها , و جمالها و بذخها و معماريتها التي أثارت إعجاب الاسكندر و جنوده , إلا انه بعد أن يرتاح فيها , يعجب لشعبها المتذوق للشعر و الأمي في آن معا ً , و هنا وقفة تستدعي تأملا ً , إلا أن انتقال المشهد إلى آخر , يأخذنا كمشاهدين لإكمال فعل التلقي , و تمر اللقطة مرور الكرام .
لو نظرنا إلى معنى الشرق الذي يتحدث عنه الاسكندر لوجدنا أنه يمثل بلاد الشام و العراق ممتدا ً إلى فارس , لأنه أتى على ذكر بلاد العرب لاحقا ً و المقصود بها الإقليم الجغرافي الطبيعي للجزيرة العربية , و هنا يلفت النظر رد فعل الجمهور عندما تحدث إلى صديقه هيفايسشن و هو يحتضر عن حلمه بغزو بلاد العرب و الالتفاف جنوبا ً و من ثم عبور النيل للوصول إلى البحر المتوسط - يكفينا ما يقوم به جورج بوش من احتلال و تهديد بالاحتلال - و هنا تلفت دلالة الفترة الزمنية التي يعرض بها هكذا فيلم , أي أن الاتهام بالأمية يشمل مناطق الأبجدية الأولى (الأوغاريتية الفينيقية) و ما نتج من تطورات في تاريخ الأبجدية في هذه المنطقة من كنعانية و آرامية و التي يلفت التقارب الأبجدي بينهما جدا مع الانتباه للفارق الزمني فأولف –بيث – غومل – دولث - ....... يقابلها ألفا – بيتا – غاما – دلتا - ...... في الأبجدية اليونانية .
و بالرجوع أكثر إلى الكتابة التصويرية و الكتابة المسمارية التي انتشرت على يد الأكاديين الذين تسلموا الحكم زمن ملكهم سرغون عام 2350 قبل الميلاد في جميع مناطق العراق وانتقل إلى عيلام ( جنوبي غربي إيران) و إلى سوريا فكتب به الحوريون و الحيثيون في آسيا الصغرى (8) , يتكشف لنا غنى ً تاريخي أعمق , ينتقل مع الكتابة الآرامية التي لعبت دورا ً مهما ً منذ نهاية العصر الآشوري وريث الأكاديين , و في زمن الإمبراطورية الفارسية غدت اللغة الآرامية لغة الإدارة و الدبلوماسية الرسمية في الشرق القديم اعتبارا ً من القرن الخامس قبل الميلاد , و استمرت فعاليتها و أهميتها في العصر الهيليني و الروماني و لم يطرأ عليها أي تأثير يذكر (9) , إلا أن انتقال اللغة إلى اليونان كان بواسطة الفينيقيين البحارة اللذين جابوا المتوسط و أسسوا مستعمرات تجارية لهم , حيث قادتهم التجارة إلى التعامل مع الإغريق في موطنهم , و إلى إهدائهم أثمن ما اخترعوا من إنجازات الحضارة و هي الكتابة (10) .
إن الأصل الفينيقي القديم للأبجدية الإغريقية أمر ثابت و لا أحد يشكك , كما يصرح المؤرخ اليوناني هيرودوت , و الروماني بلينوس , و يظهر ذلك جليا ً في أقدم أثر كتابي إغريقي يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد و هو ما يعرف بإبريق دبلن الأثيني , و كذلك على قبر عثر عليه في يترا ( اليونانية ) و يعود تاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد و حيث يبدو تشابه الحروف كبيرا ً , حتى ليكاد المرء يظن أنهما خط واحد , أو أن الكتابتان الإغريقيتان المذكورتان فينيقيتان لولا اللغة التي كتبت بها , ولم يفلح كل من حاول التفكير في أصل قديم غير معروف للأبجدية الإغريقية , اشتقت منه , ثم نقل إلى اليونان من الفينيقيين في إثبات ذلك (11) أي عكس الحقيقة وفق غايات القصد منها التقليل من شعوب الشرق و الطعن في قدراتهم الفكرية و الحضارية , و لكن أوليفر ستون نجح هنا في مسح كل هذا التاريخ بجملة لفظها بطله الهوليودي , رغم شديد إنكاره في مقالاته الصحفية أنه فيلم يبين الدور الحضاري للإسكندر , و أنه لو أراد فيلما ً هوليوديا ً لاكتفى بتناول حياة الأب ( فيليب ) و حادثة اغتياله و من ثم توجه ابنه الاسكندر للأخذ بثأر أبيه و نجاحه في مسعاه (12) , فهل نجح في مسعاه , سؤال برسم المشاهد ؟؟؟ .
(1)ملحق الثورة الثقافي 132005 فيلم الاسكندر الكبير دلالات التاريخ .
(2) صـــ 27 فلسفة الجمال د.أميرة حلمي مطر مكتبة الأسرة 2003 الطبعة الأولى .
(3) صــ 1 زينون الرواقي جورج عبد المسيح الطبعة الثانية 1972 .
(4) صــ 65 نفس المرجع السابق .
(5) صــ 71 نفس المرجع السابق .
(6) صـــ 20 فلسفة الجمال د.أميرة حلمي مطر مكتبة الأسرة 2003 الطبعة الأولى .
(7) صــ 44 نفس المرجع السابق .
(8) صــ 39 الأبجدية نشأة الكتابة و أشكالها عند الشعوب د.أحمد هبو دار الحوار 1984 الطبعة الأولى .
(9) صــ 82 نفس المرجع السابق .
(10) صــ 98 نفس المرجع السابق .
(11) صــ 59 نفس المرجع السابق .
(12) ملحق الثورة الثقافي 132005 فيلم الاسكندر الكبير دلالات التاريخ
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟