أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منصور عمايرة - المسرح والهجرة















المزيد.....



المسرح والهجرة


منصور عمايرة

الحوار المتمدن-العدد: 5292 - 2016 / 9 / 22 - 10:04
المحور: الادب والفن
    


المسرح والهجرة * منصور عمايرة
المسرح والهجرة موضوع متشعب. والهجرة قديمة حديثة، فالإنسان كائن اجتماعي يمثل الهجرة الطبيعية، تلك الهجرة التي تبحث عن تجديد الحياة، واكتساب الخبرة، والتلاقي مع المجتمعات الأخرى، وقيام علاقات وئام تمثل الأطر التعاونية من أجل بناء الحياة وإعمار الأرض. والهجرة الطبيعية والقسريّة تتعدد أسبابها، منها ما يكون بسبب الثورات وتغيرات بنى المجتمع، فتدفع الإنسان ليترك مكانا ما في وطنه، وينتقل إلى مكان آخر في وطنه، كالهجرة من الريف إلى المدينة، وينتج عن ذلك تشكل الضواحي الجديدة في أطراف المدن، للبحث عن سبل حياة أفضل. وقد يترك الإنسان وطنه إلى وطن آخر بسبب التطور الصناعي والتقني، والذي يفتح أبوابا جديدة للإنسان، ليعيش في مكان تتوافر فيه سبل المعيشة الفضلى. ومن الهجرات القسرية التي تتمثل بالحرب، أكانت حروبا داخلية أو خارجية، فتدفع جماعة أو جماعات من الناس للهجرة وترك أوطانهم، لأن المكان لم يعد صالحا للحياة. والهجرة نزوع نفسي، وهنا يمكن أن نشير إلى الانعزال كبعد نفسي، فيدفع الإنسان إلى الهجرة الذاتية إلى مكان آخر بعيدا عن الوطن أو إلى مكان مألوف، إذ يصبح الإنسان غير قادر على التماثل/ الانسجام في بيئة معينة.
والهجرة التباعد، وهجر الشيء هجرا وهجرانا: تركه وأعرض عنه. وهاجَر: ترك وطنه. والمهجَر: المكان يهاجر إليه أو منه. الهِجْرة و المهاجَرة: الخروج من أرض إلى أخرى.1 والمعنى المعجمي للهجرة يتطابق مع مفهوم الهجرة والرحيل، وتحدث هذه الهجرة للإنسان وينتقل من مكان إلى آخر " عندما يعبر الفرد حدود الوطن من أجل إجراء تغيير دائم في مكان إقامته"2 وليس الدافع الاقتصادي هو السبب، ولكن هناك سببا رئيسا آخر يتمثل بالكثير من الأشخاص "الذين يتركون بلدانهم للهروب من العنف المحتمل والاضطهاد، وبعض هؤلاء يصبحون لاجئين"3 والاضطهاد يكون عرقيا أو وطينيا أو قوميا أو سياسيا. وكل هذه الأسباب هي التي تدفع الإنسان إلى الرحيل، والذي يتطابق مفهومة مع مفهوم الهجرة، بالبحث عن مكان جديد أكثر أمنا من نواح متعددة، ولذا فإن بعضهم يعرف الرحيل بأنه "عملية انتقال البشر داخل الحدود أو عبرها، لأي مدة كانت ولأي سبب كان"4 إلا أن الهجرة أو الرحيل ليس سمنا وعسلا كما يبدو دائما في مرأى الراغب بالهجرة، فقد ينتج عن ذلك صدمة ثقافية، وهذه الصدمة الثقافية هي التي يتعرض لها المسرح كجزئية مهمة في حياة الإنسان، إنها "حالة التوهان التي تواجه الإنسان عندما يخوض تجربة العيش في أجواء غير مألوفة له، سواء بالانتقال الجغرافي بين الدول أو الاجتماعي في طبقات المجتمع نفسه"5 مفهوم هذا التوهان، ينتج عنه كل السلبيات التي تدخل ثقافة الفرد أو الجماعة، وهي ثقافة الأم أو الوطن. وعلم الاجتماع يهتم بالبناء " الاجتماعي وما يحويه من مكونات، وما يحدث بينها من علاقات وتناقضات، وما يطرأ على هذا البناء من تطورات وتغيرات"6 ولذا، فالإنسان "ليس منعزلا، أو قدرات عضلية أو غرائزية، وإنما المقصود به بشر متفاعلون، بينهم علاقات، ومخرجات لهذه العلاقات"7 وهذا يندرج فيما بين الإنسان والطبيعة. وهي إشارة تبين عن التآلف أو غير ذلك، وهذا بالتالي يبين عن دينامية الحياة، وهذه السيرورة تختلف، فقد تكون بنظر مجموعة ما سلبية، بقدر ما تكون إيجابية في رؤية سلطة أو مجموعة ضاغطة مثلا، وهذا ما قد يحدث في مجتمعات الحروب. فهناك فريقان مهما كانت سطوة الحكم، سيبدو فريق غير قابل، أو هو عرضة لكل ما يريده الآخر، أي الضحية، وبالتالي فالضحية تقترف، أو تفكر بالتنحي والابتعاد "الهجرة".
إن مسألة التكيف الاجتماعي سبب رئيس في الهجرة، فقد تكون هجرات بسبب اضطهاد ديني، وقد حدث ذلك عندما هاجر الصحابة في بداية الدعوة الإسلامية إلى الحبشة، "إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد "كما قال الرسول - عليه السلام - يصف النجاشي. وكانت الهجرة الأهم في تاريخ الإسلام التي تمثلت بهجرة النبي والصحابة إلى المدينة من مكة، وقد قال الرسول عن مكة إنها "أما والله لأخرج منك، وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي، وأكرمه على الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت". ولكن مكة لم تعد الآن مكانا يسمح بإقامة الدين. ولم يكن التاريخ في حالة غفلة عن الهجرة الإنسانية، والأحداث السياسية في التاريخ تسبب الهجرة، وقد نشير بذلك إلى الاستعمار على سبيل المثال. والتاريخ العربي لم يغفل هذه الظاهرة، والتاريخ العربي الشعبي تحدث عن السيرة الهلالية. والرحلات التي قام بها الرحالة العرب وغيرهم نوع من الهجرة الاستكشافية والمثاقفة.
والأدب يصور الهجرات، ونجد الهجرة مبثوثة في الأجناس الأدبية. والكثير من الروايات العربية، وربما جلّها تتحدث عن هجرات متعددة، سواء أكانت هجرة فردية أم جماعية، وكان لها دور بارز في تصحيح مسارات اجتماعية وفكرية وثقافية في المجتمعات العربية، ونجد روايات توسم بالهجرة تحت عنوانها الصريح، كما في رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وهنا لا نريد الدخول في مجمل الرؤية القرائية للرواية، وقد سجل الأدب الروائي العربي الهجرة ومعاناة المهاجر أيضا، فالرواية العربية انشغلت بالهجرة والرحيل، والانتقال والضياع والبحث عن الأفضل، وهنا نشير إلى الهجرة المتخيلة والواقعية. ثم إذا ما رجعنا إلى الشعر العربي القديم، تطالعنا القصيدة بـالبكاء على الأطلال " قفا نبك "، وهو رحيل وهجرة اقتضتها الظروف، ولكن الشعر يسجلها كحالات تجلٍ نفسية وذهنية من خلال أثر واقعي. ثمة مصطلح عربي تم تداوله في معنى الأدب والهجرة، ونشير إلى شعراء المهجر من العرب، والذين تركوا أوطانهم وهاجروا إلى بلاد أخرى، وهنا نستدل مرة أخرى على وعي مفهومي حول الهجرة والأدب.
***
وانشغل الخطاب المسرحي بالهجرة على مستوى النص والفن "العرض". وبالتالي فإن النقد سيهتم بهذه الظاهرة الاجتماعية، والتي أمست بنية فنية ثقافية، تشتغل في بناء المسرحية في النص والعرض. وعليه، فإن ما يقوم به المسرح، وإن اتفقنا أنه ليس نقلا للواقع، وقد يقترب من هذا بالمحاكاة، وهي رؤية قديمة فلسفية انشغلت الفلسفة حولها، وإن كانت رؤية أرسطو تؤكد ذلك، ومهما تكن فإنه من الواجب أن ندرك أن المحاكاة لا تعني نقل ما هو عليه، وإنما مقاربة له، وهذه رؤية فنية مسرحية، فكيف للمسرح أن يعبر عن المجتمع والقضايا المجتمعية إذا لم تكن حدثت؟ وبما أنها حدثت فهي تحاكى، ولكن ليس بالمفهوم السطحي للمحاكاة، وهنا نشير إلى أن المحاكاة هي تصور ذهني، وبهذا قد نغلق مفهوم المحاكاة الذي يتبادر إلى ذهن البعض بأنه نقل الواقع، مع أن هذه الرؤية شغلت الإنسان والأدب والمسرح عبر الزمن. إلا ان الدراما سميت كذلك "لأنها تحاكي أشخاصا يعملون ويفعلون"8 وهذا تقليد بالمعنى الفني للكلمة " يقتضي تحويلا مجازيا أو تصعيدا "9 والتقليد هنا تقليد للفعل. ومهما يكن فإن للمسرح حالة تختلف عن الحياة اليومية، فلغة المسرح" لغة شعرية تميز جذريا لغة المسرح عن الهذر اليومي"10 وهنا نتبيّن أن المسرح مهما صور الواقع سيختلف عن اللغة العملية في الحياة التي يستعملها الناس. وهذا ما نجده عند فيلار وهو يتحدث عن المسرح "الخشبة مكان مادي وملموس يتطلب أن نملأه، وأن نجعله يتكلم لغته الملموسة، هذه اللغة الملموسة المستقلة عن الكلام لا تكون مسرحية إلا بالحدود التي تفلت فيها من اللغة المحكية"11 وبالتالي فإن المسرح ليس تسلية إنه "حاجة ملحة لكل رجل ولكل امرأة"12 إن هذه الحاجة تشير إلى اهتمام المسرح بالناس، وبتلك الفئات الفقيرة والمهمّشة، وإذا ما كان المسرح سلعة سيحرم الفقراء من مشاهدته. ثم إن المسرح يهتم بقضايا الإنسان العادي، والهجرة يعاني منها هذا الإنسان، وغاية المسرح الإنسان.
المسرح يبين عن تعددية ثقافية في المجتمع الإنساني، فالمسرح على صلة كبرى بالمجتمع، ولا يكون المسرح خارج الإطار الاجتماعي. فالمسرح ينشغل بكيفية تشكل الإنسان، وإن هذا التشكل الذي يبدو متعددا، قابل للتغيير، وهذه هي الطبيعة الإنسانية التي تأبى التلبّث في حالة واحدة. ويكون هذا التغير مدفوعا كما أشير سابقا بعوامل وظروف متعددة، منها القهرية ومنها الإرادية. وهذه الرؤى يهتم بها المسرح، وهو يمثل الرؤية التجسيدية ولا يكتفي بالأدب، ليكون التشكل أكثر حضورا من خلال التجسيد، فالجسد يتمظهر كبعد ثقافي متعدد، ليس على مستوى الأطراف - الجسد بمفهوم فيزيائي- فحسب، ولكن على مستوى الفكر، ولذا نقول دائما بأن المسرح فكر وفن. وانطلاقا من الرؤية التي تقول بأن المسرحية كتبت لتمثل، فإن التجسيد يبين عن تشكّل ثقافة الإنسان، ليكون المسرح ممثلا للرؤية الإنسانية فكرة وتجسيدا، وهذه حالة ثقافية قصوى يتمثلها المسرح فقط، وهنا الإشارة إلى المسرح الحي تماما. وبالتالي، فإن المسرح والهجرة هو مسرحة قضايا اجتماعية. قد يكون هذا التعريف المبسط يشي بكل دلالة المفهوم العام للمسرح والهجرة، فهذا المسرح لا يتوقف عند حدود الرحيل، أو الغياب من دون رجوع، لكنه يقف عند قضايا اجتماعية متداخلة كثيرا، تنضوي جميعها تحت الهجرة، ولكن هذه التفصيلات الدقيقة والكثيرة التي تتعلق بالهجرة تتشيّأ؛ لتكون قضايا اجتماعية أيضا.
وإن المسرح يشكل الظاهرة بمعنى يجسدها، وعليه، فإن المسرح يتموضع في إطار الكشف عن الظاهرة ومناقشتها في الخطاب المسرحي، النص والعرض. ويتعدد موضوع الهجرة في المسرح كالاغتراب، كما في انتظار جودو، فلاديمير يخاطب بوزو: التقينا البارحة، ألا تذكر؟ بوزو: لا أذكر أني قابلت أحدا البارحة. لكن غدا لن أذكر أني قابلت أحدا اليوم.13 والهجرة الاجتماعية القسرية، والاقتصادية والعلمية، ومسرح الحرب، والاستبداد أو ما نسميه المسرح السياسي الذي ينتشر في كل مكان ولا يقتصر على مجتمع دون الآخر، وهنا نشير إلى حالة المجتمع تحت نظام الحكم، إذن، ستبرز مقولة المسموح والممنوع.
والمسرح يهتم بالمفارقة الاجتماعية " الاختفاء "، كهجرة القيم كما في مسرحية ابسن بيت الدمية، هيلمر: ماذا تفعلين عندك؟ نورا: أخلع عن نفسي ثوب الدمية.14 وتذهب نورا مغاضبة، وقد تركت بيت الزوجية، وهي بمعنى آخر تركت رؤية اجتماعية متحجرة، إنها تمثل مفارقة اجتماعية لرؤية ما.
وحالة أنتيجون وتحديها تدور في إطار الهجرة، فإلقاء جثة أخيها في العراء حالة ضد الإنسانية، إنها تمثل النفي والتباعد عن إكرام الإنسان. أنتيجون وهي تجيب سؤال كريون الملك عن دفن أخيها: كان واجبا علي، إن من لا يدفنون يظلون أبدا هائمين على وجوههم دون أن يجدوا راحة أبدا.15 وهذه البرية تمثل هجرا ورحيلا لدى أوديب، هجرة كعقاب لفعل تم ارتكابه بطريقة ما سواء أكانت مقصودة أم مجهولة، وهنا يبدو الإنسان ليس بريئا ولو ارتكب الخطأ بفعل الجهل به، لأن ما حدث غير مقبول، ويقرر أوديب الرحيل والتوهان والضياع في البرية: طريق الموت هناك خارج أسوار طيبة، سأهيم على وجهي في البرية، حتى أصادف وحشا يفترسني.16 هنا رفض للحياة وتأنيب ذاتي، لأنه لم يكن قادرا على درء أفعاله، وأوديب يكشف قبح الآخرين وقبح نفسه، حيث لم يستطع أن ينظر في وجوه الآخرين، ليرى صورته منعكسة في وجوههم، فيفقأ عينيه، ولا يكتفي بذلك، فيهجر الحياة إلى البراري وحيدا. لذا فإنه من غير الممكن أن يستمر أوديب بحكم طيبة ولا بحكم " كورنت " التي استدعي ليحكمها، فيرفض هذه الحياة، لأنها أمست بفكره لا تمثل حياة، فهجر كل شيء وهام على وجهه.
وتبدو الهجرة كحالة سلب كما في مسرحية يوربيدس بنات طروادة، إذ يصرّح بذلك يوربيدس على لسان هيكوبا زوجة بريام ملك طروادة، وهي تناجي وطنها طروادة الذي استولى عليه الإغريق، والمهدور إلى حد النهاية، هيكوبا: أبكيك أيها الوطن التعيس، يا من ترى من وجوهنا البائسة، هذه النهاية المحزنة، وبيتي حيث ولد أولادي، أيها الأولاد هل فقدت مدينتي، كما فقدتموني، وا حسرتاه يا مدينتي العزيزة... وا أرض أولادي، وأرض تربيتي.17 تبدو الهجرة تمثل حالة تردي للإنسان، عندما يُقرر محو الوطن بالسلب والسبي، عندئذ يمسي الإنسان في بلاد الآخر يتمثل بحضور جسدي وغياب فكري.
والمسرح الغربي انشغل بالهجرة المتعددة، فالهجرة تمثل حالة اغتراب في الوطن في لحظة ما، عندما يصبح الوطن محتلا من الغرباء. رادا في مسرحية الفرد نويز وهي تخاطب الجنديان اللذين احتلا منزلها: ابنتي الصغيرة في الثانية عشرة من عمرها، لا توقظها، لقد ظلت نائمة منذ أن أرخى الليل سدوله، ساعداني على توفير الحماية لها. سأفعل أي شيء تريدانه. فقط ساعداني كي تنجو، سأصلي من أجلكما ما حييت أبدا.18 إن رادا تقرر هجرة نهائية، إذ يصبح الاغتراب، بل الغياب الأبدي بسبب الآخر هجرة لا بدّ منها، وهي لا تقوى على مصارعة هذه الوحوش التي تفترس كل شيء.
في مسرحية أهداف ضرورية لإيف آنسلر، تقول ميليسا وهي باحثة نفسية تتحدث إلى لاجئات بوسنيات: أنا أكتب كتابا عن قصص اللاجئين في كل أنحاء العالم.
زلاتا لاجئة بوسنية: أوه، إذن نحن فصل في كتاب.
نونا لاجئة بوسنية تجيب ميليسا: أهذا ما تدعوننا؟ ضحايا صدمات الحرب؟ يا له من تعبير مرعب.
يلينا لاجئة بوسنية: إنه حكم مؤبد، نحن غير مرغوب فينا بأي مكان بسبب رائحتنا النتنة.19 واللجوء هنا نفي وهجر قسري لم يكن بإرادة الإنسان.
روبرت ايميت شيروود في مسرحية الطريق إلى روما، إذ يخاطب فاريوس ميتا وهما عبدان في روما: ومعاملة الأجانب في روما تتلخص في هذه العبارة، إذا كان الحال لا يعجبك هنا، فلماذا لا تعود من حيث جئت؟ وهم يعرفون كما نعرف إننا لا نستطيع.20 هذه الجملة تلخص الكثير في حياة البشر "الإنسان"، الذي لم يعد يستطيع البقاء في وطنه، ولم يعد يستطيع الرجوع إلى وطنه، إنها معنى الهجرة التي قد تقيد الإنسان كعبد. ولذا فإن ميتا تجيب فاريوس: لا نستطيع أن نخرج من روما يا فاريوس، فروما في كل مكان. ومهما كانت دوافع الهجرة في كل مكان، تقول فابيا سيدة البيت: من الواضح يا معشر العبيد أنكم تزدادون وقاحة كل يوم، لقد أصبحتم مشكلة... لو أن بلادكما بذلوا المزيد من الوقت في العمل الشاق الأمين الطيب، فإن جيوشنا الرومانية لم تكن تهزمكم بهذه السهولة.21 كلمة فابيا تشير إلى الجميع ولا تستثني أحدا، أولئك الذين وصلوا إلى طريق مسدود، ليكون لهم وطن، ولكنهم وصلوا إلى الرحيل. وعليه ، فإننا نتلمس خطاب باتيست دومون في مسرحية 1789-1793: لا أقول لكم إن الشعب مذنب، لا أقول لكم إن هذه الحركات عدوان. أؤكد أن أول حقوق الإنسان هو حقه في الوجود.22 إنها رؤية ضد الهجر وتهميش الآخر، فالوجود الكلمة الأكثر إزعاجا للإنسان، في ظل تحارب متعدد.
وهذا الإنسان الذي ينظر إلى الرحيل، سواء أكان راغبا أم مدفوعا، يبقى يحلم في شيء ما يؤرقه، إنه الوطن. في مسرحية غارا لعزيز ناسين، صرخوا في وجه غارا: أنت لست غارا؟ وهو يؤكد أنه غارا، ومهما كان غارا وضيعا بنظر الآخرين، فإنه رجع إلى وطنه، ومهما كان هذا الوطن بقايا وطن وآثارا، ومهما تغير وجه المكان، كما يصفه الآخرون غير الراغبين برجوع غارا، الآن يبدو غارا زاهدا في كل الأموال التي أعطيت له، لكيلا يدخل وطنه، وزهد في كل الأوسمة التي ألقى بها أرضا، وأصرّ على الذهاب إلى بيته، وطنه، يبحث عن أي شيء هناك، ورفض طلبه من قبل الآخرين، الذين وضعوا له حدا في تلك الساعة، ومات على ثرى وطنه قريبا من مكان كان يريد أن يراه. إن المكان الحميمي وإن كان يقود الإنسان إلى التهلكة أو النهاية، يمثل رحلة جديدة، هجرة أخرى من بلاد الغربة إلى الوطن.
مسرحية المهاجرون للبولوني سلافومير مروجك، انشغل بها المسرح العربي، وقد عرضت في بلدان عربية عدة، تلك المسرحية التي تتحدث عن الهجرة أو الغربة في بلاد الهجرة، وهذه الغربة تشمل الجميع، فهي ليست لصالح أحد دون الآخر، فالمثقف يعاني أكثر من الشخص غير المتعلم، وربما يكون حظ غير المتعلم أفضل، هذه المسرحية تشير أيضا إلى الاغتراب الثقافي في بلاد الهجرة، لتكون تلك البلاد ضياع وهجرة أيضا. ثم إن الهجرة لا تكون في إطار الغربة والبعد عن الوطن، أو هجرته بمحض الإرادة، ولكنها تبين عن حالة طبقية، لتشكل هجرة أخرى، فالذي يعيش في القاع لا يعلم به الذي يحتفل بعيد الميلاد، وكأن الدنيا كلها في طبقة عليا وروح مخملية وفائض من الشبع، ولكن القاع عكس ذلك تماما.
المشهد الذي يؤطر البيئة يمثل حالة قهرية، فيبدو وصف المكان بحالة مزرية لا تشير إلى حياة، إنه وصف يكشف حالة العذاب النفسي، التي يعانيها المهاجر كواقع. "حيطان رمادية متسخة تنتشر عليها بقع الرطوبة. سقف منخفض، مرآة كبيرة معلقة على مسمار، لكنها مشوشة. على امتداد الجدران، أنابيب المياه، ومواسير البالوعات، وكابلات الكهرباء، يضطجع على السرير الأيسر رجل أهمل حلاقة ذقنه، يجلس رجل على الكرسي الواقع في الجانب الأيمن من المنضدة، يرتدي ملابس سوداء قديمة الموضة، يبدو الرجل الأول (س) مستلقياً يقرأ، فيما يجلس الثاني (ص) ويراقبه بعض الوقت"23 هذا هو الوصف المشهدي العام للمسرحية منذ البداية، وأعطى المؤلف رمزا أو حرفا لكل شخصية، وهذا يشي بحالة من الاغتراب والتهميش، وربما تكون وسما ينطبق على أي إنسان مهمّش. إن الرمز ص يمثل العامل الفقير الذي هجر الوطن للبحث عن الإشباع، وهو يمثل القوة البدنية. والرمز س يمثل المثقف المغترب عن وطنه بالإكراه، ولديه رؤى فكرية ونظامية، وكلاهما في مكان واحد. والوطن يكون في حالة مقارنة مادية، تكشف عن الجانب الحضاري في بلاد الغربة عندما يقول ص وهو يتحدث عن القطار: عندنا يعمل على البخار، هنا على الكهرباء.أليس ذلك تبذيراً بالكهرباء؟ هذا تعبير يدل على البساطة والسذاجة من ناحية، وعلى الحرمان في الوطن من ناحية أخرى. ويختلق ص المحروم قصة مع امرأة كحلم أرعن، ويصفه س عندما يسمع تلك الحكاية: كانت السيجارة استقلاليتك الوحيدة، وعدا ذلك كنتَ مجرد رغبة، حسد، ضياع ومذلة. هذه الحالة التي تبين عمّا يستبطن في نفس المهاجر. ويدخل المهاجران في نقاش متعدد الذي يصفه س بالسخيف. ولهذا، فهما تارة يدخلان في جدال فكري ينقلب إلى عراك، ثم يعودان بحالة جدال وعراك وصداقة. وهما يتحدثان عن الطعام يكتشف أن ص اشترى معلبات هي أصلا طعام للكلاب، وهذا ما يسبب امتعاضا للمثقف الذي يصف العامل بالجهل، وهذا الطعام كما يقول س مخصص للحيوانات الأليفة: مصدر سعادة صديقك ذي الأربع أرجل. هذه الرؤية تكشف عن بعد حضاري آخر، إذ تشير إلى وجوب معرفة لغة الآخر، أو ربما نقول لتجنب شره كما في المقولة العامة، ولذا فإن المثقف يطلب إلى العامل أن يتعلم لغة الآخر كتواصل حضاري معرفي. ولكن هذا البعد الحضاري يرتد إلى حالة السكن في القبو أو تحت السلالم، وهنا تبدو الفجوة كبيرة بين الوطن وبلاد الغربة. لذا فإن س يشبه نفسه وصديقة: ببكتيريتين داخل كائن حي، مثل جسمين غريبين، طفيليين، وأسوأ. أيحتمل أن نكون بكتيريتين معديتين؟ ويكون جواب ص بالتنهد. وعندما يعودان إلى حالة جدلية جديدة يتحدثان عمّا كان في الوطن، وهنا يستحضر المثقف الاستجواب والتحقيق. إنها الرؤية الاستبدادية التي تمثل قمع الآخر والاستحواذ عليه.
وفي ليلة عيد الميلاد، نستبين الفارق بين ساكن القبو وساكن الطوابق العلوية، ويعبر س عن ذلك: سيبدأون الآن. ثماني ساعات من التسلية تنتظرنا على الأقل، هكذا يتسلّون. يحتفلون حتى الصباح، يستقبلون العام الجديد. ويتفاجأ المثقف بسؤال العامل: لماذا هربت من الوطن؟ المثقف: الهروب ليس عادة، وإنما خشية شيء ما؟ إنه الاضطهاد الذي دفع المثقف إلى الهجرة. وعندئذ يخوضان بحديث عن السياسة، ويفضحان الإديولوجيا السائدة في الوطن.
إن موقف العامل من رفضه لتعلم لغة الآخر ، لغة الوطن الغريب ، يبدو قاسيا: لن أهذر بلغة هؤلاء. هؤلاء ليسوا بشراً. هنا تبدو الغربة في أوجها، وتتبدّى النستولوجيا. ويتحدث العامل عن نفسه بقسوة أيضا: ألديك فكرة عن الصورة التي أعيش فيها هنا كالكلب؟ وحتى الكلاب هنا تعيش حياة أفضل، فهي على الأقل لا تكدح. أهذه حياة إذن؟ قل لي، هل هي حياة؟ إنها لحظة القنوط، وهما يفكران بماهية الحياة، والحديث عن الفكر والكتابة، فالمثقف يقول: لدي أفكاري العظيمة، كتابي. العامل: لن تكتب شيئاً على الإطلاق. المثقف: لماذا؟ العامل: لأنك تقضي معظم وقتك نائماً في السرير. ويتجدد حديث الرجوع إلى الوطن، وكل منهما يؤكد للآخر بأنه لن يعود. ولكن العامل يبدو بحالة غضب شديد: سأعود إلى الوطن... يمزق الأوراق النقدية إرباً ويبعثرها على الأرض. المثقف: هذا جنون! ولكن هذه الحالة الغضبى ترتد إلى المثقف، فيمزق كتابه. وتتأزم الحالة النفسية للمثقف، وهو يصف ما سيكون عليه الإنسان في وطنه، ليحصل المواطن على كل حقوقه بالتملك والتعلم والمعرفة: العمل يعطيك الخبز، والقانون يعطيك الحرية، لأن الحرية ستكون هي القانون والقانون هو الحرية. أليس هذا مطلب الجميع؟ ولكن الواقع يبدو بصورة أخرى، إذ " يرتفع غطيط ص. يستدير س نحو الجدار. وبعد لحظات يختلط الشخير بصوت آخر، صوت نحيب شديد يبدأ خافتاً ثم يتصاعد".24 إذ تبدو الصورة الأخيرة في المسرحية قاتمة، والآمال في الوطن أحلام مختلطة بشخير ونحيب. إنه الضياع الذي يستبد بالمثقف وهو في الغربة يعيش غربة أخرى، ولكن الوطن يبقى في حالة توهان وضياع.
في مسرحية "المهاجرون" تصبح الحالة المسرحية عبثية، عندما تصبح الحياة كأنها لا شيء، وهذا يحدث في بلاد الغربة، هناك يبدو الاغتراب أكثر قسوة من الاغتراب في الوطن، تمزق النقود وهي مصدر الحياة المادية، ويمزق الكتاب هو مصدر الحياة المعرفية. ثم تبين المسرحية عن حالة نفسية مضطربة في بلاد الغربة، والوطن هو سبب هذه الغربة، فكلا المهاجرين يبحث عن حياة حلمية، فالعامل يبحث عن حلم مادي، ليمثل الحياة الكريمة والرفاهية في وطنه ويتخلص من الفقر، والمثقف يبحث عن حلم الرحيل بعيدا عن الاضطهاد الفكري في وطنه، ولكنه يؤمل أن يكون في وطنه العمل والقانون والحرية.
***
والمسرح العربي عالج الهجرة، ووقف على أسبابها ودوافعها ومشاكلها، إذ تعتبر الهجرة من المواضيع الكبرى التي أرّقت الإنسان العربي، وفي العصر الحديث أيضا.
يقف علي سالم على الهجرة في مسرحيته أولادنا في لندن، ويتعرض لما يلاقيه المهاجر المصري، وقد يتمثل بحالة من الفرح عندما يبدأ المقارنة بين ما كان عليه في مصر وما يكون عليه الآن، سعيد: سرير.. لوحدي.. يا عيني، حنام على سرير لوحدي. عصمت: هي دي أحلامك؟ سعيد: لو كنت نمت طول عمرك على سرير واحد وأنت وأخواتك الخمسة كنت فهمتني. وعندما يدخل المطبخ يندهش: بوتاجاز، ثلاجة، يا عيني، ويلقي نظرة على الحمام بانيو، مايه سخنة، وماية باردة، ودش متحرك، يا سلام، الواحد ينام طول الليل على السرير لوحده، والصبح يقوم ياخد حمام سخن، وبعدين يفطر. عصمت: معجزة دي كمان، فكرتني عاوز انزل اشتري كام علبة فول. سعيد: على جثتي، سنين وأجيال وأنا أفطر الصبح فول عادي، والظهر فول بتقلية، والمغرب فول بقوطة، في شقتنا دي الفطار حيبقى فطار، توست مدهون بالزبدة، قهوة باللبن، قطعة من اللحم البارد، حته جبنة فلمنك، حته مربة، بيض مقلي.25 في الفقرة مقارنة واضحة بين ما كان وما سيكون، ما كان في الوطن العوز والجوع والضيق والقهر، وما سيكون الشبع والاتساع والأمل. وهذه الفقرة تبين عن البعد المادي، والذي يتعلق بكيفية عيش الإنسان، وهو ما ينطبق بالتالي على الإنسان العربي. وقد تبدو النظرة متعلقة ببعد آخر يبين عن مجتمع محافظ يعيش في الممنوع والمسموح، ومجتمع مادي يرى الحرية الشخصية متمثلة في كل شيء، وتتجاوز دائرة المسموح والممنوع. سعيد: أنا حاغترف لحمة، فراخ، حاغترف بنات ورقص وفسح. وأنت اغترف ثقافة وحضارة. الرؤية المادية هي سبب رئيس كما يبدو في الابتعاد عن الوطن، ويتمثل هذا السبب بفهم الحرية من منظور شخصي مادي. ولكن في أوروبا جانب آخر يتمثل بالثقافة والحضارة والإلهام، وهذا الجانب اغترف منه العربي أيضا، فشتان بين رؤية شخصية سلبية ورؤية حضارية تخدم الوطن والإنسانية، لهذا فالهوة الحضارية بين العرب والغرب تبدو شاسعة، وهنا نشير إلى العلم والمعرفة والفنون، أشياء ضرورية في حياة الإنسان الغربي، ولكنها في الوطن العربي قد تندرج في إطار المسموح والممنوع. وهذه الرؤية كغاية تبدو على لسان عصمت: باروح متاحف، باشوف سينما. بادخل مسرح. باسمع مزيكة. باعمل رحلة في نهاية الاسبوع. أنا عاوز أعيش. أعيش زي الأدميين. وأنا دلوقت عايش زي البني أدمين.
في مسرحية علي سالم بلد الغربة متعدد الثقافة، وهو لم يأت من وجهة نظر ثقافية فقط، بل من وجهة نظر اقتصادية، علما بأن الذين جاءوا إلى الغرب بدأوا طريقهم من خلال الإرساليات والبعثات العلمية والثقافية، وهنا تكون الطريق متعرجة، إذ يعمل هذا المهاجر في عمل يأنفه في وطنه، لكنه في أوروبا يغسل الأطباق وغيرها من الأعمال ليطعم فمه، وتبدأ الجامعة بعيدة المنال، إذن، الأمر يبزغ من رؤية شخصية، ورؤية عملية أحيانا، لكن المهاجر، يعيش في صراع بين ما كان في وطنه وما هو عليه الآن في مجتمع آخر مختلف تماما.
يتوقف على سالم على مسألة الهجرة إلى الغرب، وكيف يعاني المهاجر الأول وهو يستقبل أفواج المهاجرين الذين يقطنون في مكان صغير، وهنا يتم استحضار الوطن بقيمه، وقد تكون في بلاد الغربة سلبية، فالعربي يأتي إلى أوروبا يحمل معه القيم التي في لحظة ما يفترض أن يطيع المهاجر ابن وطنه ويلبي رغبته، ولذا فشقة سعيد وعصمت تفيض بالمصريين ومن الجنسين أيضا. أما مسألة الاشتياق إلى الوطن، فتلك رؤية نستولوجيا أخيرة تمثل خط الرجعة فيما بعد، وهي تتمثل بطريقين إما النجاح وهو يستلهم تراث الآخر ويوظفه لوطنه، وإما الفشل والنكوص إلى الوطن. هذا ما سيكون لعصمت الذي وقع في سلبية كانت بسبب فتاة مصرية سرقت جوربا وأنكرت الواقعة، لتأخذ الشهامة عصمت ويدعي أنه السارق، وتأتي الرياح بما لم يتوقعه عصمت، عندما يقرر طرده من انجلترا، وبقيت السارقة في انجلترا لا يعنيها الأمر.
وهم يتجمعون في شقة سعيد وعصمت، يتساقط الجميع واحدا واحدا، ويعلق عصمت على ضياع سمير الذي يرافق شخصا غريبا وقد استغله: وادي واحد ضاع. كلمة ضاع تبدو الصورة الأنصع في المسرحية، والتي تتحدث عن أحلام ضائعة وفاشلة، وهنا تبدأ رحلة العودة المضمّخة بالحنين، وقد ينجح سعيد الذي بدا يفكر بإكمال دراسة الطب، ووقفت ماجدة إلى جانبه، وكانت محفزة له على الدوام، لينجح. وآخرون فشلوا، وأصيب بعضهم بأمراض خطيرة. لكن عصمت وهو في السجن، يأخذه الحنين إلى وطنه: انا تعبت من الضباب والمطر.26
مسرحية " امرؤ القيس في باريس " تتوقف على كل الجوانب المادية التي يطلبها المهاجر أو الإنسان العربي، وتشير إلى الجوانب الحضارية، فتبدو الفجوة كبيرة بين ما كان عليه العربي في وطنه وما هو عليه في بلاد الغربة. وتبدو الرؤية العامة التي تؤطر رؤية امرئ القيس وهو في باريس تتمثل بقوله: أنا أمرؤ القيس وأنت باريس. حرت كيف أسميك وأناديك محظيتي أو مولاتي؟27 المحظيّة التي تبين عن الجانب المادي الذي يبدو أنه يملك هذا الشيء، أما مولاته فتلك التي تمثل له رؤية فوقية، هذه الرؤية الفوقية تمثل السطوة والقوة وربما الفجوة بين الأنا والآخر، بين امرئ القيس العربي وباريس الغريبة. وهنا قد نجد تلك الفوقية تمثل انهزامية امرئ القيس وهو يشير إلى أبيه: آه لو كان يرى امرأ القيس ابنه وقد أصبح مفتوحا ومنهزما، ذات مشرعة للرياح الأربع. هذه هي حال الأمة العربية الآن. امرؤ القيس المهاجر إلى باريس يكشف جانب الضعف والقوة، الضعف لدى أمة مشرعة النوافذ يدخلها الريح من كل الجهات، والقوة التي تمثل باريس الآن، فيسائلها امرؤ القيس: هل أنت غربة ومنفى؟ مهما ادعيت بأنني أعرفك، فإنني في الواقع لا أعرفك... تلك هي المسألة، قد يكون الإنسان العربي في أتون المكان الغريب، ولكنه لا يدركه لا يعرفه، وهذه رؤية أخرى تبين عن فجوة بين الأنا والآخر. وتبدو الهجرة في حالة مزرية للعربي في باريس، أولئك العرب الذين جاءوا إلى باريس عمال يكنسون الشارع، ويعملون في مرافق عامة، من المغرب والجزائر وتونس ومصر... وتلك الفجوة يشير إليها عامر الأعور وهو في باريس: ترفقي بي ، فهذا عامر الأعور قد جاءك من مؤخرة الأرض. لذا، فإن الجمركي سيكشف عن مظاهر الحضارة، وهو يسأل عامر الأعور: هل لديكم مصانع وطائرات وعربات وقاطرات؟ ولكن الشرق كما يقول الجمركي هو قصص وحكايات؟! وهذه القصص والحكايات فجوة حضارية بين من يقول ويفعل. وفي بلاد العرب غربة مستوطنة أيضا، ميزت الأشياء بمسمياتها التي لا تغادرها: القصر قصر والخيمة خيمة وتبقى بينهما بحور وجبال. وهذا الانفصام قد يكون سببا رئيسا في الهجرة والبحث عن الذات. وعامر الأعور الذي يرى كل النساء في الطرقات: ربي هذا البلد ما أجمله؟ وهذا الجمال سيكون لعنة على عامر الأعور: كل ما كان معي سرق يا امرأة. لقد دخلت الفندق ممتلئا وخرجت منه فارغا. لهذا الجمال الفتان في بلاد الغربة وجه قبيح، ينهب أموال عامر الأعور. وشارلي وروبير فرنسيان وهما لصان يسرقان امرأ القيس دائما. وفي مسرحية امرئ القيس تكون السرقة من عربي وهو يسرق عامر الأعور، فيقول ميمون طامعا به: هذه الساعة، هات الساعة وسآتيك ببدلة لم يلبسها أحد غيرك. فعامر الأعور سيتخلى عن لباسه: الظاهر أن كل مصائبي آتية من هذا الرداء، من يأخذه مني مقابل قميص وسروال وبرنيطة؟ وكأن الغربة تبدو أفضل من الوطن. وعن الحالة القهرية في الوطن يقول امرؤ القيس: فمن هناك يا عامر لا يمكن ان تهب علينا غير الرياح الملتهبة... بماذا يمكن أن تحدثني يا عامر سوى عن الصحراء والضباء وحروب الثأر والنار؟ باريس عرس دائم، هنا يمارس الناس العشق جهرا، فلا شيء محرم أو ممنوع، أما هناك، العشق حرام، الهمس حرام، الخرف حرام، التنفس حرام، كل شيء حرام، خنقنا في الناس لذة الحياة وفرحة العيش... رأيت كل شيء في هذا البلد إلا الجامعات والمعاهد، فما في باريس غير أسواق اللذة. هذه هي شهادتي وعلومي.28 رؤية امرئ القيس تختصر كل الحكاية بين العرب والغرب، وفي كل المظاهر المادية والحضارية. ولذا سيجيب عامر الأعور وهو يخبره بمصير أبيه ومصيره، فهو قد فقد كل شيء. ليكون امرؤ القيس في باريس باحثا عن ضياع الأمة كلها في بلد الآخر، الذي يبدو أنه أخذ كل شيء أو يمتلك كل شيء.
والهجرة في المسرح العربي حديث ذو شجون، والأحداث في البلاد العربية الآن، والتي تسببت بهجرة أعداد كبيرة، حديث على كل لسان، وقد تكشفت عن هذه الأحداث هجرة جديدة إلى أوروبا، وتبدو قاسية عبر مغامرة بحرية تنتهي أحيانا إلى مأساة، فالحدود مسدودة لا بد من اجتيازها بهجرة غير شرعية كما تسمّى في دول أوروبا، وليست الهجرة غير الشرعية العنوان الرئيس، إذ الأمر يتعلق بمفهوم يقع تحت عنوان آخر وهو الإرهاب، وهذه الرؤية تزيد من معاناة المهاجر المضطر، قد تكون مثل هذه الذرائع ليست كافية لبعض دول أوروبا، فالأمر يتعلق ببعد حضاري أو تواصل حضاري، أو ما يعرف بحوار الحضارات، وهذا الموضوع يسبب حالة استنفار ورفض لقدوم هجرات إلى أوروبا، فيبرز حديث آخر هناك يتمثل بالبعد الديني والديموغرافي. ومهما يكن، فإن الهجرة من البلاد العربية الآن إلى أوروبا تكشف عن تباين حضاري، ولا يخلو حديث الهجرة في أوروبا من أفكار مغلوطة ومقصودة لذاتها. وهذه الهجرة بكل ما فيها من تباين بين الأنا والآخر تبقى من اهتمامات المسرح، وهذه الهجرة التي تحدث الآن، تعني المسرح العربي، ليقف على جزئياتها، فالهجرة متعددة وفي المسرح متعددة أيضا.
***
الهوامش:
1 المعجم الوسيط مادة: هجر.
2 فيليب مارتن ، الهجرة الدولية تحد عالمي، ترجمة فوزي سهاونة، الجامعة الأردنية، عمّان، الأردن، 1999،
3 فيليب مارتن، المرجع نفسه،
4 محمد حسن علوان، الرحيل، دار الساقي، ط1، بيروت، لبنان، 2014،
5 محمد حسن علوان، المرجع نفسه،
6عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، الكويت، ع44، 1981،
7عبد الباسط عبد المعطي، المرجع نفسه،
8 أرسطوطاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1953،
9جان دوفينو، سوسيولوجية المسرح، ج1، ترجمة حافظ الجبالي، دمشق، 1976، دوفينو
10جان دوفينو، المرجع نفسه،
11جان فيلار، التقاليد المسرحية، ترجمة سعد الله ونوس ، دمشق، 1976
12جان فيلار، المرجع نفسه،
13صمويل بيكيت، في انتظار جودو، من المسرح العالمي، ع270، الكويت، 1993،
14هنري ابسن بيت الدمية، ترجمة كامل يوسف، دار المدى للثقافة والنشر، 2007،
15جان أنوي، أنتيجون، ترجمة الفريد فرج وأدوارد الخراط، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1959،
16توفيق الحكيم ، الملك أوديب، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت،
17يوربيديس، مسرحيات يوربيديس، ترجمة أمين سلامة، مكتبة مدبولي، مصر القاهرة، د.ت،
18الفرد نويز، رادا، ترجمة محمد عزب، من المسرح العالمي، ع13، الكويت، 2010
19إيف آنسلر، أهداف ضرورية ، ترجمة ابتهال الخطيب، من المسرح العالمي، ع15، الكويت، 2010،
20 روبرت إيميت شيروود، الطريق إلى روما، ترجمة محمد الحديدي، من المسرح العالمي، ع60، الكويت، 1974،
21 روبرت إيميت شيروود، المرجع نفسه،
22 جماعة مسرح الشمس إشراف منوشكين،1789-1793، ترجمة سامية أسعد، المسرح العالمي، ع292، الكويت، 1995،
23 سلافومير مروجك، مهاجرون، ترجمة: عبد الواحد المهدي و ماجد الخطيب، المطبعة والوراقة الوطنية، ط1، مراكش، المغرب، 2013،
24 سلافومير مروجك، المرجع نفسه،
25علي سالم، أولادنا في لندن، مؤسسة دار الشعب،ط1، القاهرة،1975،
26علي سالم، المرجع نفسه،
27عبد الكريم برشيد، امرؤ القيس في باريس، كتاب في جريدة، ع77، 5 كانون الثاني، 2005،
28عبد الكريم برشيد، المرجع نفسه،
***
منصور عمايرة / الأردن
[email protected]



#منصور_عمايرة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجوقة المسرحية
- 1846م تاريخ المسرح العربي؟
- نظرية اشتغال سينوغرافيا المسرح
- المسرح المدرسي
- جمالية الأداء والإخراج في المسرح الطفلي
- من جماليات العرض المسرحي الطفلي
- اللغة المسرحية
- كينونة المقاومة لدى عبد الرحمن الشرقاوي وكاتب ياسين
- القسوة والقسوة مسرحية هاملت3D
- بترا وجود وهوية، مسرحية صدى الصحراء
- مئة عام من المسرح في الأردن
- ترى ما رأيت تشكيل مسرحي تعبيري
- التوثيق المسرحي
- كتاب المسرحية الشعرية في الأدب المغاربي المعاصر للباحث الجزا ...
- تأريخ المسرح الأردني الحديث
- جهود وتجارب مسرحية عربية
- المونودراما/ مسرح الموندراما
- الممثل المسرحي الذات والأداء والمعرفة
- المسرح الأردني ، إثنوسينولوجيا الفرجة الأردنية - التعليلية -
- المسرح والوسائط


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منصور عمايرة - المسرح والهجرة