أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قصي حسن الخفاجي - الجرة السومرية















المزيد.....



الجرة السومرية


قصي حسن الخفاجي

الحوار المتمدن-العدد: 5213 - 2016 / 7 / 4 - 16:51
المحور: الادب والفن
    





الجرّة السومرية
قصص
قصي الخفاجي































خارج الثكنة
خارج الثكنة، قرب تلة ٍ ونهر، في شتاء ٍ مقرف ٍ، شديد البرد/ حملتُ البندقية على كتفي وأشعلت سيجارتي فأطلّ شبحٌ أول، تلاه شبح ثاني، وثالث، ورابع/ أشكالٌ ظليّة متعاقبة، فيما القمر البعيد لا يسكب عبر الضباب الخفيف إلاّ ضوءاً خفيفاً.. ثمة شعور بالاضطراب/ أحسست إنّ المكان غاصٌّ بالسكون،... ، ... جمحَ جنديٌّ إلى النهر ليغتسل، تلاه جنديّ آخر ليغتسل، وثالث، ورابع، ووو... إنهم جنود ثكنتنا وأعرفهم، رأيتهم يزرّرون بناطيلهم/ وقبل أن أنسحب لكي أجعلهم لا يحسّون بوجودي هبط آمر الثكنة عارياً إلى النهر ليغسل مؤخرته بالماء ،،، / الهواء يمرّ سريعاً، بارداً جداً، وجافاً إلى حدّ ما، وأصوات الكلاب بنباحها المتناثر في الفضاء / مثل الأحجار الصغيرة الحادة الناعمة/ عُدتُ من دوريتي إلى الثكنة، وفي ظهيرة اليوم التالي أرسل آمر الثكنة بيد جنديه المراسل إجازة طويلة لي، مغرية / ومعها أمرٌ بنقلي إلى أبعد وحدة ٍ من وحدات الجيش، في أبعد مدينة من مدن البلاد.





وردة الجوري الحمراء
زقاق ضيّقٌ، تصطفُ على جانبيه مبان ٍ عالية مكوّنة من شقق سكنية متلاصقة/ وخلف الزقاق حدائق مستطيلة/ كان الفصلُ ربيعاً/ جاء (نسيم) بوردة جوري حمراء ضخمة.. /(نسيم) فتىً في التاسعة عشرة، باسقاً، مفتولاً، ذو جبهة عالية، وشعره غزير أحمر/ غرفة (نسيم) تواجه شقة (بدرية) المرأة المغرية، قمحيّة البشرة ذات الصدر الفسيح الناهض/ شمّ (نسيم) الوردة بقوّة ٍ ففاحَ العطر طاغياً/ وأباح لنفسهِ أن يستدير إلى المرآة فتجلّت صورته صاخبة / ثمة صخرة تمثلت له في الخيال/ ضخرة وجرّة ماء/ سقطت الصخرة فوق الجرّة فانكسرت وخرّ منها الماء/ الآن يحسّ (نسيم) إنه مخلوق من الأشواك القاسية، وهذه الجورية تركها فوق المائدة ذات الشرشف الأزرق مضمومة طافحة بالجمال والإغراء/ فوثب على أوراقها الصارخة بالحمرة الدبقة، وشرع يلحس أوراقها بلسانه ، ثمّ غرز أسنانه بها ليقفز بجنون ويطلق صرخة وحشية عارمة / واندفع يجلب سكيناً طويلة / وراح يمزق أحشائها بعنفٍ ساديّ/ هنا، أطلقت (بدرية) فحّة أنثوية خضراء، تنبه إلى ذاك الفحيح متلفتاً فإذا به يراها (بدرية) تواجهه كلبؤة عارية عبر النافذة المشرّعة، الواسعة / اندفع صوب شقتها موتوراً، خلسة ً / فخلعت ثيابه بل مزقتها ودفنت شفتيها القرمزيتين بصدره المشعر الصادم (الآن مزّقني يا نسيم بزبّك القوي مثلما مزّقت الوردة الحمراء/ لكن دون استخدام السكين).
شمسة
بعد أعوام بعيدة جداً رأيتُ (شمسة) جارتنا الطيبة، وصديقة أمي (خالدية) فتذكرتها يوم كانت تطوفُ مع أمي في الأسواق والبلدات البعيدة والقريبة/ كان أبي ميتاً، و(شمسة) تكبرُ أمي بثلاثة أعوام، وكنت وحيداً لأمي/ بعد أعوام ماتت أمي بسنّ مبكر وبقيتُ عند (شمسة) التي عهدتْ بي إلى امرأة عجوز طيبة وتنفق عليّ وعليها ما تجود به، وبعد أعوام قليلة أدخلتني المدرسة الابتدائية، وحين مرضت العجوز وماتت تعهد بي أحد الأقرباء يعيش في الكويت/ هناك أكملت دراستي وسافرت إلى لبنان لأدخل الجامعة الأمريكية في بيروت، صرتُ أستاذا في القانون.. وها أنذا أرى (شمسة) بعد كل الأعوام البعيدة، الغابرة، واستعيدها بذاكرتي، كان بها عوق في الأطراف بينما كانت أمي بارعة الجمال/ قلت لنفسي لا أظنها هي، ولا أظن إنها لا زالت باقية على قيد الحياة / مشت بتثاقل، في ذلك السوق العتيق وراحت تجلس قرب حائط من حوائط بناية قديمة / سألت رجلاً، حوذياً عجوزاً، باسما، يقف قرب حصانه المربوط بالعربة (أيّها الحوذي الطيب من تكون تلك المرأة العجوز الجالسة قرب الحائط؟)
صوّب نظرته عليها وأطلق قهقهة ً مشرقة: لا أحد في البصرة العتيقة لا يعرف (شمسة) القوّادة / اتجهت إليها ووقفت على رأسها لأجيبها (خالة شمسة أنا عدنان ابن المرحومة خالديّة)... لقد أجهشتْ هي في البكاء، ونهضت تقبّلني، أعطيتها مبلغاً كبيراً من المال، وودعتها/ فعلمتُ تماماً، /الآن/ إنها كانت قوّادة (أمّي خالديّة) بامتياز.



















همٌّ ثقيل
ذلك الجرو الوحيد، الذي رأيناه أعزلاً مكوّماً فوق أوراق الشجر المتساقطة الميتة/ كان وجوده هنا مجهولاً، تغمر عينيه الأتربة ، وهو عاجز، هشٌّ في الشمس، سكب له صبي ماءً في وعاء ورحل، تطلعتُ إليه غاطساً بين الأوراق القديمة، المغمورة بالتراب/ حملته معي إلى البيت وتركته في العليّة تحت أنسجة العناكب والغبار حيث السكون قوياً وطاغيا بينما الأغبرة يفوحُ منها الماضي الوحشي/ في الصباح رأيتهُ ينظر إلى السقف بخمول/ قبيل المساء دخلتْ العليّة سنونوة سوداء، أطلقت زعيقها الخيطي الحاد فرفرف لها بذيله الرمادي القصير/ عدتُ في الصباح ولم أجد للسنونوة أثراً، فعاد إلى عزلته الكابية /
ظللتُ أياماً أرقب الجرو، في ذلك المكان القديم المنسي/ عيناه تذبلان، وأطرافه وجسده تتيبسان/ أحسستُ أنه سيموت.. وإنني تماهيت تماماً مع وحشة المكان القاتلة...
عزمتُ في الصباح أن أأخذه إلى أطراف البرّ البعيد حيث أشجار الصنوبر المتباعدة تعنف أغصانها الريح/ جاء رجلٌ يرعى أغنامه فحياني وحكيت له قصة ذلك الجرو الأعزل المجهول، وعرضت عليه مبلغاً من المال ليأخذه معه ويرعاه /
وافق على ذلك ورفض أخذ المال/ حين اختفى الراعي عدتُ إلى البيت وألقيت نظرة على المكان المهجور وأغلقت العليّة فانزاح عنّي همٌ ثقيل.
امرأة عجوز في أعلى البناية
امرأة عجوز، رأيت صدفة شكلها الشاحب، وهيبتها، وغرابة وجودها في مكان قصيٍّ وعتيق/ كانت تلتصق بالسياج فأثارني ذلك الشبح الغريب في أعلى بناية عتيقة جداً / وفي شقة معلقة في أعلى السطوح تحتوي على حمام ومطبخ وصالة صغيرة، والتواليت/ لكنها شاهقة ووحيدة بينما الطوابق المتتالية بالنـزول تحوي شققاً ومخازن وعيادات أطباء/ وهذه العجوز النصرانية مات أهلها ورحل بعضهم، فلم توافق على مغادرة البصرة، لذا أسكنها قسّ الكنيسة في هذا المكان المنعزل، النائي، المقفر، وتأتي على زيارتها فتاة نصرانية مرة بين يوم ويوم/ تعد لها طعامها واغتسال ثيابها وتحميمها وترتيب أشيائها /
لفتت انتباهي وهي تضع كفيها على السياج وتنظر إلى العالم بحزن / يبدو إنها معمّرة / كانت شبحاً لامرأة عجوز/ كلما مررت بالشارع الخلفي الهادئ أتطلّع إلى أعلى البناية وأراها كالمعتاد تتشمس وهي تتطلع إلى العالم، وإلى السماء البعيدة.. حدثني عنها صاحب المقهى، إنها لم تهبط إلى الأرض وتطأ قدمها أرض المدينة منذ قرابة خمس عشرة عاماً/ لكنه لا يعلم شيئاً عن بدايات حياتها وتاريخها العائلي.. ذات يوم سافرت إلى العاصمة عمّان، غبتُ عن البصرة عامين وحين عدتُ لم أعد أراها تقف على حافة السياج/ كبر فضولي، لأسال عن مصيرها فسارعتُ إلى صاحب المقهى (صلاح) فقال لي، قبل عام عثروا عليها، ميتة ومتيبسّة في الحمام/ إذ لم تزرها الفتاة النصرانية قرابة عشرين يوما، ولم يعرفوا شيئاً عن مصير الفتاة/ هل تركت المدينة بصمت؟ أم خطفت وقتلت؟ لقد ترك السياج الشاهق، والمبنى القديم أثراً حزيناً في نفسي لم يُمحَ إلى الأبد.

















في عربة القطار
محطة في منتصف الطريق وقف ينتظر عندما جاء القطار/ وجد نفسه في عربة ٍ يجلس فيها مسافرون قلائل: رجال، نساء، صبية ، وأطفال/ في أول محطة قادمة وصل إليها وتوقف نزلَ نصف الركاب/ في المحطة التالية نزل الثلث الأخير، وفي المحطة الأخرى التي تلت نزل الجميع إلا امرأة ظلت جالسة مع ابنتها الشابة... سار القطار والصوت القوي المتلاحق عبر قرقعة العجلات وهي تهبط بثقلها الحديدي فوق السكة / نهضت الفتاة واتجهت إليه، كان الوقت يشارف على الفجر: من فضلك قالت له ونهض لتتجه معه إلى أمها.. جلس قرب الأم فهمست بأذنه: ابنتي مريضة، حالتها النفسيّة ميئوس منها.. حين قام ومشى في ممر العربة بين المقاعد المصطفة على الجانبين،اتجه إلى النافذة، وأطلّ على البراري الفسيحة الخالية حيث الخريف بارد/ ثم سارع ليغيب، مستطلعاً الركاب في العربات الأخرى، وجد كلّ المسافرين نائمين، فعاد إلى عربته الخالية إلاّ من المرأتين والضوء الخافت الشحيح/ وقف ثانية قرب النافذة يطلّ على الفضاء الأغبر الحزين/ تقدمت منه الفتاة، كانت ممتلئة بيضاء، تميل إلى الطول المتناسق، سحبته من كفه ِ ، أزاحته قليلاً واندفعت تقف أمامه، وصار هو وراءها، وقد تركت قوامها الخلفي كلهُ ملتصقاً بقوامه الأمامي/ وشرعت ترصّ نفسها به، تحشر مؤخرتها بين فخذيه المتصالبين وأطبق هو بقوة عليها/ نهضت الأمّ تقف كالحارس الحذر ترقب المكان.. وأنزلت الفتاة سروالها من الخلف، بينما سحب آلته المنتصبة بخفة... كانا لاهثين محتدمين، والعجلات تقرقع بقوة وجهامة / سارع باندفاعات وارتهازات حاسمة بينما الفتاة شرعت بقرع جبهتها على النافذة بقسوة/ طفقت الأم تعاجل للفصل ما بين الجسدين اللاحمين وتفرق ما بينهما: فجأة صات القطار معلناً الوصول إلى المحطة التي سيقف فيها.. قالت الأم ( ابني النبيل ناشدتك بالله أن تنزل معنا، ستصحو ابنتي وسنعود إلى البيت، كنـّا مزمعين أخذها إلى مستشفى الأمراض العقلية / أنت مبعوث إلينا من السماء/ ابنتي ستصحو/ وصانع صحوها هو أنت، بل أنت صحوها الرباني)
هبط الثلاثة من القطار، وغابوا في ذلك الفجر البارد ..
ولا أحد يعلم أين انتهت مصائرهم..










الجارة الجديدة
كان الليل عاصفاً، ممطراً، والبرد يخرق مسامات الجدران، والنوافذ، وفتحات الأبواب/ وقفت سيارة حمل وأنزل بعض الشبان أثاثاً وأشياء/ يبدو أنّ عائلة جديدة جاءت لتسكن جوارنا/ مرت ثلاثة شهور، حين أطلّ الربيع صعدتُ فوق الدار ورأيت أخي الكبير يحادث المرأة ساكنة البيت الجديد يفصلهما السياج الحجري الواطئ /
بعد أيام رأيته يعبر السياج ويدخل بيتها/ وذات يوم كان أخي يوسف قد ارتحل إلى بغداد (كنتُ فوق السطح حين سمعت كلامها موجهاً لي، وقد أرسلت لي سلاماً حاراً، حميماً، وسألتني عن يوسف، قلتُ لها سيغيب قرابة أسبوع)
في اليوم التالي كانت تقف باسقة قرب السياج وهي امرأة تقارب الأربعين، متوسطة القوام، ممتلئة، حمراء البشرة ، مفلولة الشعر( شعرٌ فاحم السواد، ورموشها مغرية، لها حدقتان سوداوان، هائلتان، ذاتا بريق يصهر أعصاب الرجال) وسّعت ابتسامتها لي، وأشرقت. تقدمت منها غير مصدق، قالت لي ( أنا غازية جارتكم الجديدة بودي أن أتعارف عليكم كلكم، واستضافتني بتُّ معها ليلتين/ حين عاد يوسف مثلتُ دوراً كأنّ شيئاً لم يكن/ مضى شهران لم أرها / وذات ليلة تعرّض أخي يوسف لقضيّة جنائية حُكِم عليه بموجبها عاماً ونصفا/ في نفس الليلة التي ذهب فيها يوسف إلى السجن كنتُ أنا في فراشها)
غازية امرأة فراش بارعة، أستطعتُ أن أستضيف صديقي المجايل لي، ألمحب للسينما، وطموحه أن يمارس الإخراج/ كان عدنان خجولاً جداً فكسّرت غازية نوافذ الخجل ودربته على مهنة الجسد/ وبعدها استضاف عدنان صديقنا الشاعر الرقيق هاشم، واستمرت الليالي العاصفة / ليالي أعراس لم نحلم بها ولم نسمع بها ولم نرها أو نقرأ عنها في الكتب/ وجاء الشتاء الثاني، دخلت علينا الصالة في ليلة شديدة البرد/ قالت لنا: غداً لا أريد أحداً منكم يطرق عليّ الباب لأن زوجي وأخي عائدان من سفرٍ في الخارج / بنفس الليلة خرجنا جميعاً ولم نبت/ مرّ يوم، يومان، أسبوع، شهر والباب مقفل تماماً، لكنني، تذكرت أنني حين رجعت إلى البيت في الليلة التي لم نبت فيها، أن حركة وأصواتاً خافتة صداها طرق سمعي/ وكانت ليلة عاصفة هطل فيها مطرٌ غزير ( ومثلما جاءت غازية في ليلة عاصفة رحلت في ليلة أكثر عصفاً.. ولم نعد نسمع لغازية ذكراً ).








خمس قملات
شتاءٌ وحشي/ في أواخر تسعينات القرن الماضي/ كانت السماء مضيئة والنجوم تخفي حافاتها المسننة ونحن في شقة عتيقة جداً تقع في شارع فسيح، من شوارع (العشار)الوقت جاوز منتصف الليل، والمائدة عامرة بشتى أصناف الخمور/ حين ترك عدنان المائدة واتجه إلى المرحاض، وفي زحمة حماسنا للنقاش نسيناه تماماً وقبيل انبثاق الفجر عاد إلينا ممزق الثياب ومدمّى/
هتف بهوس في الشقة، وراح يصخب ويعربد، فلم نفهم منه شيئاً، ثم شرع يخلع الثياب الدامية فانبعثت رائحة الدم؛ إنها رائحة زنخة كثيفة متخثرة/ فاستدرجتنا الأفكار والصور إلى كونه يعيش عزلة قاتلة فقد ماتت الأم التي كانت ترعاه، فأصبح منعزلاً، مهملاً، إضافة إلى عدم توازنه النفسي/ وحين كوّم الثياب تساقطت خمس قملات فاستكان وهدأ/ ظل يتابع مشيها ودورتها حول الثياب ثم التقطها واحدة واحدة ووضعها في باطن كفه اليمنى وشرع يبكي، يتأمل حركاتها في الكفّ، وفجأة تمدّد، وكفه مفتوحة، انسلّت منها القملات ودفنت نفسها في ثيابه وغفا ...
وانبثق خيط الفجر فتركنا الشقة ورحلنا.



تترك سراويلها وترحل
في الفيصلية، تقع المزابل، في البراري البعيدة المحاذية لمعسكرات الجيش..
كانت قبيحة الشكل، قميئة، وسخة الثياب والجسد، لكنها تثير العطف عند الناس/ وفي أوقات الغروب عندما تتجمع الكلاب السائبة قبل أن تغادر المزبلة تخلع سروالها الداخلي وتغيب..
اعتادت عمتي (رحيمة) أن تشتري أطوالاً من قماش البازة الرخيص وتخيط قرابة عشرين سروالاً لـ(نوشة) وتجبرها بالقوة على الاستحمام، ثم تطعمها، وترحل/ هي حزينة، شاحبة ، تهيم على وجهها في البراري البعيدة، وراء البيوت/ كانت الخرائب ملاذها، وتنام في بناية مهدّمة قرب مركز الشرطة / ففي كل غروب تقتحم الكلاب المزابل، تترك (نوشة) سروالها وترحل/ كل إنسان في (الفيصلية) يرثي لحالها، فهي لا تعرف قيمة النقود إذا أعطاها لها أحدٌ ما، ولا تحب الطعام/ إنها مخلوقة ليست لهذا الزمن ولا لتلك الحياة / ولا أحد يعرف أصولها، ومن أين جاءت، فتح الناس عيونهم ذات يوم، فرأوا مخلوقة غريبة تجوب الشوارع، والبراري، والمزابل/ في الصباح ترمي سيارات البلدية الأوساخ، ويشاهد العمال (نوشة) شاخصة في المزبلة/ تفيض الشمس على جنباتها، وتزعق فوقها الغربان، ثم يعمّ في المزبلة صمت مخيف/ ذات صباح صيفي عثر عليها عمال البلدية ميتة، عارية، مفتوحة الساقين، والدماء متخثرة، على طول جسدها الصغير/ كانت مغتصبة ونقلت إلى الطب العدلي ثم دفنت في مقبرة الأطفال/ يبدو أنّ جمعاً من الجنود تناوبوا عليها/ حين دفنت عمّ الفيصلية حزنٌ كبير/ وأنا المهاجر إلى بلاد الغرب ظلت صورتها وأشباحها تطارد ذاكرتي طالما حييت.

















غوستاف فلوبير
كنتُ شاباً، مثابراً، أعيش عزلتي مُجبراً، وأتمرن على كتابة السرد/ أعيش ظرفاً سياسيّاً صعباً/ وفي حمّى مراني على الكتابة، والقراءة الجادة أذهلتني رواية فلوبير (سالامبو). أذهلتني بجمالها الفني وشعريتها، وبنائها الرفيع / بدأتُ بقراءة الصفحات الأولى بلهفة لم أحسّ بها مع أي كاتب آخر في هذا العالم / لقد تدفقت شحنات الرؤى، وبواعث الصنعة الفنية الهائلة / وقبل أن أنهي الربع الأول منها طرق رفاق الدرب باب بيتي وقالوا لي( الآن أنهض، جهز نفسك للمغادرة، اخرج معنا ولا تحمل أي شيء). تمت صفقة ترحيلي خارج الوطن/ وفي بلغاريا لم أحصل على الرواية إلا بعد سبعة شهور، جاءوني بها ن بيروت،،، كنتُ ضائعاً غاطساً بمستنقع الاغتراب/ مشوشاً، حزيناً/ أعدت قراءة الرواية فوجدتها باهتة تماماً، ونفسي شحيحة خالية من عزم الروح/ لقد غادرني فلوبير، بل غادرت روحي منطقة السرد، ونأيت صوب التأمل الخافت، وصعقت من خوار عزمي، ومن يومها لم أستطع كتابة أقصوصة ناجحة، فقد هدّت كياني الغربة ، وغاب عني مشهد الوطن.






عجوز منكوبة
دون حماقة، ودون شكوى مشت المرأة العجوز صوب مستوصف (الفيصلية) المسائي فأعطاها الطبيب دواءً تقليدياً، عادت به إلى البيت/ كانت منهكة، مجهدة، فقد قتل ثلاثة من أبنائها في الحرب، والرابع هرب صوب حدود الكويت وألقي عليه القبض ونُفذ به حكم الإعدام/ هذه العجوز كل فجر ٍ تتعرّى تماماً مثلما خُلقت، قبيل الأذان وترفع يديها إلى الله تدعوه أن يستجيب لدعائها/ السماء بقيت كما هي خرساء في عليائها، ذات يوم أقفلت باب السطح ولم تعد تصعد وتتعرى لتواجه الربّ/ لقد لاذت بغرفتها الداخلية، الكابية ، المظلمة / وقبل موتها بيوم واحد استدعت أخي (مؤيد) المغرم بقراءة (سلامة موسى) وأوصته بكلمات نطقت بها بلهجتها الشعبية أن يكتبها ويضعها تحت رأسها، فوق الوسادة / عندما ماتت قرأ الناس الورقة وهي وصيتها التي صاغها أخي (مؤيد)
(ليس لله مطلقاً شأنٌ بالناس المظلومين)





الروائي الذي مات
أقصوصة واحدة كتبها وسارع إلى نشر رواية، ثم فاجأ الوسط الثقافي بنشر رواية ثانية/ وبعد المبالغ الكبيرة التي أعطيت له من أرثٍ باعته العائلة، سارع بنشر رواية ثالثة، ثم جابه البصرة بنشر مجموعة قصصية ضخمة/ قال لي إنّ النقود تنفد، لكن الإبداع هو الباقي، وأقدم على كتابة رواية رابعة، وتمّ نشرها/ قلت له كم أنت متسارع في الكتابة والنشر، فأباح لي بكلام هابط (الوقت، الوقت يا عزيزي، الوقت يمضي سريعاً، فسارع مثلي، لتترك بصمتك على هذا العالم)..
بعد عامين وجدناه يدخلُ مقهانا حزيناً، منتكساً، ثم أصيب بجلطة دماغية/ زرناه في بيته الأثري، وهو رجلٌ عازب، فرأينا عشرات الصفوف من رواياته ومجموعته القصصية تتكدس في الغرفة يغمرها التراب/ في نهاية الأسبوع مات الروائي، الذي سارع الورثة على بيع البيت ورُميتْ كتبهُ في المزبلة.







نسيان
قال لي بحزن ٍ عصيٍّ على النسيان وكُنا نواجه بحر الفاو/ وكرّر عليّ القول: ها هو البحر التعيس تمتص زفراته الأرواح الشريرة.. تطلعتُ إلى عينيه الفضيتين ورحتُ أهمسُ له بنداوة عشبٍ ناعم (هذا النهار يا مؤيّد قد يُحرّر أرواحنا الجانحة إلى الموت) ظلّت جمرة الحزن تتقد أكثر/ وخطوتُ متراجعاً إلى الوراء، بينما راح هو يخطو مسرعاً صوب الأعماق/ غصت بخطاي المتعبة في أسواق المدينة/ وغاص هو بعيداً، بعيداً في اللجج / لقد ضيعتني الأيام، بينما هو ابتلعته الأمواج، ودفنته في دفاتر النسيان.












جوع
جوعٌ لن أنساه في ستينيات القرن الماضي، أنا وأخوتي الصغار/ كنا نواجه الدرب والحجر/ أحسستُ بيقظتي وأنا صغير إنّ الأرض والحديد والصخر ستسحق رؤوسنا الصغيرة/ وها نحن نقفُ قريباً من بيت (الحاج صالح) رأينا العائلة تخرج وتقفل الباب/
انطلقت من نفسي صرخة ٌ مكتومة واندفنت في قلبي/ صحتُ يا أخوتي فلنتقافز مثل الذئاب الشرسة فوق الحصى الملعون/ وانطشت على وجوهنا أغبرة الخريف/ وتناثرت أوراق الشجر على السطوح ( سارعوا بدخول بيتنا الحزين وأمنا ترقد في المستشفى ونحن خمسة أخوة أيتام: انتظروني، وشرعتُ أتسلق السُلّم المهجور/ وقفزتُ على الجدران/ لم يكن بحسبي إن الجوع سحق حضارات شامخة/ وجدتُ نفسي فوق سطح (الحاج صالح) ذلك الرجل الثري الطيب/ وكم أذهلتني المفاجأة عندما رأيتُ باب السلّم مفتوحاً / نزلتُ إلى صحن الحوش/ وفي المطبخ شلعتُ حزمة الخبز كلها/ ومثل قطّ وحشي، لا مرعوب/ هبطتُ على دارنا/ فلم أرَ منظراً مرئياً لن أنساه/ إنّ أخوتي كانوا يلتهمون الخبز مثل ضباع ٍ أفريقية جارت عليهم الحياة.




زنابق
كم هي عذبة ٌ تلك السماء/ لمستُ وعي الجمال بقوّة شاعر متوحش فاخترتُ الضفاف لأجلس على نهرٍ يمتدُّ مثل الأفعى العمياء بين أحراش وغابات السيبة الخضراء/ رأيتُ ثلاث زنابق حليبية اللون تتوسط قلوبها بقعٌ أرجوانية / لقد فاح عطر الأرض المكتظة بالصمت/ عطرٌ يسلبُ العين احتماءً بها من نظرات الأخرين/ كانت في كفي قصائد الإيرانية (فروغ) تيقظت حماقاتي مع تلك الدفقة من الجمال العارم/ ومثل الغائب عن هذا العالم، أنا (عدنان) المراهق الصاخب والتعيس/ أحسستُ بنشوة لم أألفها في حياتي/ تطلعتُ بقوّة مجهرية إلى تلك الزنابق الناهضة فتدفق الدبق الساخن بسروالي/ فكم كان الاستمناء قوياً ورائعاً وعذباً.










قادمون
كم كانت تعاستهم مظلمة عندما تخثر الليلُ، وكنتُ أكثر منهم تعاسة، أعيش وحيداً، أعزبَ، في شقة من شقق الأوقاف العتيقة/ جاءوا من بغداد/ شعراء صعاليك سحقتهم عجلات الحياة / الخمرة القوية جداً، الرخيصة، تهدّ أجسادهم المنهكة من الجوع/ رحتُ أضع قدراً تبصق عليه النار، وبينما الماء يفور هبطتُ لأعاجل كي أجدها مثلما رأيتها في المزبلة قبل أن تلتهمها القطط والكلاب. رأيتها مدفونة تحت العيدان وأوراق الجرائد وأكياس النايلون/ أمسكتُ جناحها (كانت دجاجة سمينة، وثقيلة، زكمتني رائحتها العفنة/ نفشت الريش، وارتقيتُ السلم، غطسّتها كلها / بجناحيها ورأسها ورجليها في القدر المغلي)... لا أدري كيف مضى الوقت/ في ضحى اليوم التالي أفقتُ من النوم ولم أجدهم/ كانت على الطاولة الصغيرة عظام الدجاجة التي نهشها أولئك الجياع التعساء.







في قلب الطبيعة
في آيار صممتُ على مجابهة القمح/ كانت الحقول شاسعة، والسنابل تعانق بعضها في التحام شبقي حميم/ ظلت الريحُ تزعق في جسدي، فارتفع نسغ الشبق في شراييني، وأنا غاطس بين الممرات المكتظة بالرائحة اليابسة الخرساء/ سمعتُ أصواتاً غنجة/ وهمهمات/ أدركتُ أن جمعاً من الفلاحات يجلسن بين المروج الكثيفة/ وإذا برائحة عبقة عنيفة ، غريبة، وصوت ينود بين العيدان/ توقعتُ أن يكون خنزيراً برياً، أو ثعلباً، فتدفق الصوت قربي/ كانت فلاحة لم ألمح من ملامحها شيئاً ، بينما ارتميت على ربلة الساق أنقض عليها متكوّماً، كتمتُ أنفاسها/ كانت حارّة مثل الخبز اللذيذ / إنها سمحة، ريّانة، استجابت لنداء الجسد/ أحسستُ بالخزي والعار أن اغتصب امرأة تكدح لتوفر القمح خبزاً للناس/ تركتُ جسدي ينهض عن جسدها لأقبل كفيها معتذراً / لكنها فرشت فخذيها لي، بل عرتهما تماماً/ فكانا هائلين، قمحيين، شقراوين، ضمتني إليها). لانغرز فيها مثل سيف مسحوب توّا من غمده القديم" ظلت الريح تدوّي والسنابل تتكسر بين جسدينا/ لبثتُ معها حتى هبوط الظلام عندما سطع علينا أجمل قمر صنعه الخالق العظيم.




مشوار
ابتدأنا مشوار الكتابة معاً: كنا ثلاثة حيث ارتبطنا بالحزب الشيوعي/ الصوت الذي في داخلي كان صافياً: إنّ الكتابة قضية ومعركة بحد ذاتها / أما الصديقان الآخران فقد كانت قضية الثورة، والانتصار السياسي، واستلام السلطة هو مقامهما الأول ثمّ تأتي الكتابة في الدرجة الثانية/ لقد ارتفعت رايات البربرية وشنت هجوماً ساحقاً، فقد انسحق كثير من الرفاق وفرّ الآخرون/ كنتُ أنا أقبع أعواماً في السجون، ونجح صديقاي بالهروب من العراق/ مرّت الأعوام وسقط القلم من بين أصابعي وخارت عزيمتي وقواي وماتت الثورة بداخلي بعد أن انهزمت معركة الكتابة / ومن هناك، في الغرب البعيد ترك صديقاي قضية الحزب ولاذا احتماءاً بالكتابة/ جاءتنا مؤلفاتهما مثل الفطائس المدفونة بالورق/ فقد خسرنا كلنا المعركتين: الفن والقضية.








بهيجة
كم كان الوقت أبلهاً، والناس، وأنا واحد منهم، كلنا بُلهاء/ لقد كان الحُلم أن أتشرّف بمعرفة السيدة (بهيجة) الأمرأة الفاتنة ذات الجاه والرصانة والشرف/ كانت جارتنا، لا أدري إني أمتلك المؤهلات الجاذبة للناس/ وسامتي، وثقافتي، ودماثة خلقي/ أنا جار قريب لبيت السيدة (بهيجة) التي انفصل عنها زوجها الثري تاجر التحف ويعيش في أسطنبول/ كان بيتها ضخماً ورائعاً، بل تحفة معمارية نادرة تحيطه حديقتان.. فهي المرأة الحصيفة/ كانت تعرف أشياء كثيرة عني كإنسان وقارئ كبير أميل إلى التأمل والعزلة البيضاء وحب الجمال/ كنت في الجيش جندياً، ولازمني جندي ضئيل الحجم ومطيع، وفقير الحال، قمحي البشرة، قصير القوام، رقيقا جداً، وخدوماً، حتى صار يكاد يعبد شخصي، ويضع مقامي فوق قمة الدنيا/ بعد أربعة أعوام صار يزورني في البيت، فأقدّم له ما تجودُ به النفس، لأنه فقير الحال/ ذات ظهيرة كانت بهيجة تقف في الباب شامخة مشغولة بغسل مدخل البيت. قلتُ لها: سلمان يغسل لك البيت، كان في بيتنا فاستدعيته وشرع يعمل ببساطته وطيبة قلبه فاعتزمت أن تعطيه مالاً فرفض وقال لها أستاذي (لا يوافق) طلبت بهيجة لقائي فشرحت لها وضعه الحياتي وطيبة قلبه وفقره (بهيجة لها بنتان جامعيتان) رجتني أن يعمل في بيتها مقابل أجور تعطيها إيّاه/ وصار لها ما أرادت/ ولم أعد أرى "سلمان" إلا نادراً.. بهيجة امرأة ارستقراطية تأخذ زينتها في البيت وترتدي أجمل الموضات على الطريقة الأوربية، فهي مغرية جداً وتمتثل للصرعات الباذخة ذات العري الفاخر و(سلمان) بسذاجته وبلاهته موضع ثقتها فهو أحياناً يدخل غرفتها ويصفف فراشها ووسائدها وقناني عطرها/ سافرتُ يوماً وعدتُ.. طلبت (بهيجة) لقائي قالت لي سأريك صوراً لأنواع الوحوش: أبرزت لي صورة لذئب مخيف، يبرز أسنانه بحدة، ثم أبرزت صورة لدب قطبي، ثم صورة لنمر...ووو/ قالت ما رأيك بهذه الوحوش؟ ومن هو أشرسها؟ قلت: الذئب؟ لا.لا. لا. إن أقذر وحش هو الإنسان/
(علمتُ بالقصة كاملة؛ صار سلمان يضع في (قدحها) حبوباً منوّمة وحين تنام ينطفئ وعيها عن العالم/ وهذا القزم الضئيل يعريها وينحكها حتى خيوط الفجر/ علِمتْ بهيجة بالحقيقة من إحدى بناتها التي اكتشفت الموقف صدفة ً/ خرجتُ خائباً لأتمتم مع نفسي: فعلاً إنّ أقذر الوحوش هو الإنسان.








سليم السرّاج
لم نر (سليم السرّاج) لعدة شهور ثم وصلنا الخبر بأنه يرقد في مستشفى الأمراض العقلية ببغداد/ ذهبتُ مع صديق لنزوره هناك/ واجهنا طبيبه المباشر وقال لنا إنّ حالة (السرّاج) ليست معقدة إنما يحمل (شيزوفرينيا خفيفة) لكن أهله لا يرغبون بخروجه من المستشفى/ رحنا نسأل الطبيب: هل هناك علاج أو حلّ يشفيه من ذلك المرض (علّة المرض فيه هو استخدامه العادة السريّة بإفراط)..
فكرنا أن نخرجه من المستشفى ونجمع له مبالغ من المال ونرسله إلى بلغاريا أو أسطنبول/ لكن المشكلة القائمة: أنّ العراق يعيش حالة حرب والسفر ممنوع/ آخر زيارة لنا رأيناه يقول (سأصبح عصفوراً في قفص لأحد ربابنة السفن المبحرة إلى اليونان وأشار إلى ردهة مجانين الدرجة الأولى القتلة؟) / ففي منتصف ليلة باردة هجم عليه ثلاثة من المجانين وخنقوه في تواليت الردهة /
هكذا تناهى إلينا خبر موته المفجع







إسحق
مات إسحق/ كان وجوده حيّاً أو ميّتاً سيكشف عن تورط العائلة سياسياً ضد نظام الحكم القائم/ كان في التاسعة عشرة من عمره / في الوقت الذي دفن في الحديقة مؤقتاً، بعد أسبوع هطل مطرٌ غزير وضباب كثيف/ عندما كانت الشوارع خالية انتزع الجثمان ونقل بسيارة نجدة الشرطة يقودها أحد الأقرباء/ دفنت الجثة سرّاً في حفرة ٍ أسفل الصخور/ المنطقة التي ورّي فيها الجثمان صخرية قاحلة/ عادت العائلة وانكتم السرّ/ بقي الجثمان تحت الصخور قرابة ربع قرن/ وعند احتلال الأمريكان للعراق وسقط نظام الحكم/ اتجه الأهل والأقارب إلى الحفرة لاتي لم يجدوا فيها سوى مزهرية تعود إلى العصر الآشوري، فلا أثر للجثمان، واعتقد البعض أنهم ضيّعوا المكان الحقيقي، إنما المزهرية العجيبة التي هرّبها أخ الفقيد وبيعت في اسطنبول بمئة ألف دولار/ تلك الحكاية وقعت في قرية تحاذي جبال حمرين.







الخلاص
تلك اللحظة القاسية نوّرت لي طريق الخلاص/ كان الوقت غروباً فدهمتني فكرة الدخول إلى (جامع الخضيري) العتيق في مدينة العشار/ كنتُ مطارداً، ومطلوباً للسلطات، غير قادر على المبيت في البيت أو عند الأقرباء أو في الفنادق حيث لوائح الأسماء يمر عليها جهاز الأمن ليلياً / حشرت نفسي مع المتوضئين لأصلي معهم/ مرّ الوقت وخرج المصلّون تباعاً/ نهضتُ لأمسك المكنسة ورحت أرش الماء وأغسل الساحة ومقدمة المسجد/ تقدم مني القيّم على المسجد: رجل وقور، ضئيل منهوك، وهو شيخٌ هالك قال لي بارك الله فيك يا ابني/ قلتُ له أنا منذور لخدمة بيوت الله/ هل توافق على خدمتي لهذا المسجد؟ سأظل حتى الصباح بالمكان، قبّلني وقال سأقفل عليك باب المسجد، هل تطلب شيئاً أجلبه لك للعشاء؟ كلا يا مولاي/ قضّيت ليلتي محتمياً بمسجد الخضيري/ وجاء الشيخ فجراً ، صلينا سوّياً وفي الظهيرة جلبتُ خبزاً وبطيخاً / في المساء قلتُ للشيخ سأكمل نذري ودّعني وأعطاني مفاتيح المسجد قال سأغيب عشرة أيام أنا لديّ مشوار أنجزه في بغداد، وسأزور وزارة الأوقاف أنت تقوم مكاني/ تسللتُ خفية بعد رحيل الشيخ لأذهب إلى رجل ثقة ليوصي رفيقاً مطارداً بالقدوم إلى المسجد/ وفعلاً جاء الرفيق، خفية ً، وكان على قلق وارتباك/ أبلغته بجذب الرفاق الهاربين والمطلوبين/ صرنا عشرين مطلوباً نؤدي الصلوات مع الناس وفي الليل نخطط لعملية هروبنا من العراق/ في نهاية الأسبوع قبيل عودة الشيخ بثلاثة أيام جاءت سيّارة سريّة إلى المسجد قبل آذان الفجر نقلتنا إلى قارب في شط العرب حيث يكون بانتظارنا الكابتن (صلاح) يعمل على باخرة روسية/ تخفينا في ممرات السفينة وأبحرت بنا إلى بلاد لينين.

















صورة
وهي الشامخة المتعالية/ جارفة في جمالها وكبريائها نظرات العيون الملتهبة حين تتوقف هنيهة يظل الجميع في اهتياج محيّر ( حان الوقت للتخرج من الجامعة، ولا أحد يخمّن أيهما أسبق وردة الحياة أم وردة الموت؟ فقد كان فتى ً وسيماً وحزيناً ومريضاَ، ونظراته القلقة تخبو أمام ذلك الشموخ والاعتداد.. اقترب منها شبه محطّم فأباح لها بسرّه خطفاً: إني أحبك ِ وسأموت.. لقد بحتُ لك ِ بحبّي لأنني سوف أرحل).
أخذت صورة رائعة كبّرها لها المصوّر، تركتها في الأستوديو للعرض ( إنها تركتها له، فهو ابن هذه المدينة، وهي ستأخذ شهادة التخرج وتذهب إلى مدينتها كركوك، فهي لن ترى البصرة ثانية ً، بعد حفلة التخرج كلٌّ سار في درب ٍ/ وطوى الجميع النسيان).
مرّت أعوام ثلاثة فتموت الفتاة بحادث سير مروّع / قبيل العيد السعيد قيل للأم عبر طالبة كانت معها في جامعة البصرة وهي أيضا من أهالي كركوك: إن ابنتك تركت صورة بل أجمل صورة في شارع الوطني بالبصرة/ وتأتي الأم الثكلى، حزينة في ثاني أيام العيد مهيضة الجناح، ترى شابا واقفاً قبالة الأستوديو يتطلع بحزن إلى الصورة عبر الزجاج. وضعت كفها على كتفه وقالت: من إذنك يا ولدي / وطبعت قبلة طويلة على الصورة فبادرها: هذه الفتاة من كركوك.. إنها صورة (هيفاء) فمن تكونين، وكيف حالها؟ فأنا زميلها في الجامعة.
خرّت المرأة، على الأرض، وماتت.




















الجرّة السومرية
كان بيتنا في (الفيصلية) أعلى البيوت، وفي الصيف حيث تكون شمس الصباح المتألقة الباهرة، تطش رموشها على كل السطوح/ وبمراهقتي ولهفتي، ولهاثي، كنتُ أتلصص على البيوت فما أن تشرق حتى يسارع الناس للنزول داخل البيوت: وذات يوم كانت الشمس ساطعة وقد جاوز الوقت الثامنة صباحاً رأيت مصادفة ً (أنيسة) بثوب النوم/ وهي الفتاة الفارعة ، العالقة بجسد ممتلئ قمحي يميل إلى الاحمرار، ذلك الجسد الذي يهدّم خلايا الرجال/ فلم تكن أنيسة متزوجة وإنما هي طالبة في الثانوية/ تسللتُ على عجل وذهبتُ لصديق أخوه الكبير يمتلك مجهراً وهو يعمل في (المساحة). استعرته وعدتُ. ناديتُ: يا سماء ارحميني علّي أراها ولم تنزل إلى الحوش/ كنتُ أسمع دقات قلبي: رأيتها محلولة الشعر والثوب الداخلي مرفوعا فوق (صرّتها) وبين فخذيها الضخمين العاريين وضعت سجادة سمائية اللون، طويلة، ضخمة، وكانت عيناها مغمضتين، دبقتين ، ناعستين/ سلطتُ المجهر فرأيتُ غابة ً من العاج والبلور/ كبرّت الصورة فيا لها من شعلة محتدمة تضيؤها الشمس والطبيعة في هذا الوجود/ وعلى غير إرادة مني انطلقت من فمي صرخة الدم فقد سفحتُ عبرها شظايا الجسد المقموع/ رأيتُ أنيسة تصعق وتتوثب بقفزة هائلة تطال حبل الغسيل الممتد فوق سريرها الوثير.. تلوّت فوق الأرض بمؤخرة مفلوقة، وعنيفة مثل جرّة كرويّة من كنوز العصر السومري.
الأمير
طَموحٌ وجَموحٌ، وعنف الصبا والشباب، كلها أرهقت نفسي/ تأملتُ وجهي في المرآة فوجدتُ فيها ملامح قائد عظيم/ قائد عسكري يستولي على السلطة ويبني صرح دولة عظيمة/ رأيت العالم لانهائياً والطموحُ لا يحدّه حدود/ اجتزتُ الدراسة الثانوية، وقدمتُ أوراقي إلى الكلية العسكرية / كل أقراني تم قبولهم/ كنتُ أحمل معدلاً عالياً جداً، ونجحتُ بكل الاختبارات النظرية والجسدية/ عندما طلعت لائحة القبول لم يكن اسمي موجوداً/ عدتُ إلى البيت: قالت لي نفسي، هناك خبراء وعلماء في علم النفس أثناء الاختبار قرأوا روحك العالية.. كنتُ أتمنى عندما أقبل في الكلية العسكرية أن تحدث الحروب لكي أتسلق إلى أعلى المراتب ووقعتْ الحرب فعلاً، وعليّ أن التحق مجندي مكلف/ فلم التحق، وتخلفتُ عن الالتحاق بالجيش، لأنّ روحي تشمئز من كلمة جندي.. لذا عبرتُ حدود الكويت وهنالك مارستُ مهنة تجارة المخدرات، وصرتُ مليونيراً، بل قائداً، وأميراً عظيماً يحكم العالم بلا مناصب.





تصفية
جاءني في منتصف الليل وقال لي لا تترك أثراً ترفضه السلطة منذ الساعة اهرب، ولا تعد إلى البيت.. في حدود نصف ساعة غادرت المكان وتمّت عملية تهريبي إلى إيران بمبلغ كبير من المال دفعته أمي، وبعد سنتين فقط دخلتْ أميركا العراق/ حين عدتُ سألتُ عن (الرفيق نافع الذي أنقذ حياتي) فلم أجد جواباً شافياً/ وذات يوم رأيتُ مصادفة جريدة فيها مقال عنوانه (أعداء الشعب العراقي) مرفقة بصور، وفوجئتُ بصورة (الرفيق نافع معهم) فسألتُ مجاميع من القوى السياسية المعارضة والعائدة من المنافي قالوا لي: لقد حطّم وأرسل مئات الشباب إلى سجون الإعدام/ راجعتُ نفسي، وتبين لي أني كاتب قصص غير موال ٍ للسلطة، لكنني لم أكن سياسياً/ قد يكون (نافع) ذئباً حصيفاً، فوجدني لستُ أهلاً للتصفية فأنقذ حياتي، وأنا في حيرة ٍ من أمري... مرّ بي أصدقاء مثقفون معارضون للنظام السابق: أريتهم الصحيفة وصورة الرفيق نافع.. قلتُ لهم: هل حقاً ما قاله العائدون من المنافي عنه مجرماً.. تطلعوا إلى عينيّ بحميمية وحزن: لقد أنقذ مئات الشباب من الموت المحقق (الرفيق نافع احترق مع الأخضر واليابس).




الشبح
ذلك الرجل الكهل، مثل شبح غريب، كل يوم يدخل بيته في (الفيصلية) حذراً/ كان نصرانياً قصيراً، وهزيلاً، وودوداً/ خجولاً جداً، تقفز الابتسامة المبتسرة من بين شفتيه، يحيينا ويغيب/ نادراً ما يخرج من البيت.. كان يعيش مع أمه طيبة الذكر وحين ماتت بقي يداري حيواناتها: معزاتها، ودجاجها/ مرّت الأعوام ما بعد الخامس من حزيران يوم انهزم (جمال عبد الناصر) هزيمة نكراء وخلّف جرحاً لا يندمل في ضمائر العرب تسلّق فجأة حزب البعث في العراق إلى السلطة.. فوجئنا بذلك الشبح تقف قبالة بيته سيارة مغبرة.. لم ندرك المسألة وما الذي جرى؟ لكننا بعد شهور، في ربيع دافئ رأينا جثته معلقة مع المشنوقين في ساحة (أم البروم) وقرأنا لافتة تحت الجثث المعلقة مكتوب عليها كلمات مشكوك بها: أولئك الجواسيس هم خونة الوطن.








الأب الروحي
من خلالي عرف العوالم، كنتُ في التاسعة والعشرين، وهو في السابعة عشرة/ كان مسكوناً بالشعر والتشكيل، وهو ابن لشرطي طلق والدته وتزوج امرأة أخرى، وارتحل من البصرة إلى بغداد/ كانت والدته قوية الشكيمة ذات شخصية قوية وقاسية، لكنها تكاد تعبد ابنها الوحيد/ حين أدركتني ملهماً لابنها، عبّدت لي الدرب أن أكون قدوة لابنها/ لقد عزّزت الثقة بي وبنفسها، فقد قطع ابنها (رغدان) شوطاً بعيداً ومتقدماً في كتابة القصيدة الحديثة / كنتُ دائماً ما أزوره في الليل ونقتسم أطاريح الشعر والرسم/ ظلت روحي حارسة لروحه لكنه تمادى مع مجايليه في التمرد، والاغتراب/ أحسستُ نفسي مثل أبيه، وأحسستُ أنها أمٌ حقيقية/ وفي ليلة عاصفة شديدة البرد كان الظلام مدلهماً. زرته، فلم أجده/ كان مرتحلاً إلى بغداد/ وحين وجدتني واقف في الباب يلفني الظلام، وحولنا غابة غارقة في الليل، تجاسرتُ واحتضنتُ كتفيها ودفنتُ وجهي في شعرها/ بكت هي وأنا أيضاً بكيتُ/ كانت قلقة على (رغدان) قلت لها: أنتِ أمّه وأنا أبيه، سحبتني إلى البيت وأدخلتني فراشها، وقضينا الليل عاريين، نحتدم بالبكاء وأعنف القبلات.



شُرفة
شرفة لم أكن أتوقع رؤيتها، وكيف اهتديت إلى هذه الشرفة العالية في القصر القديم/ إنها شُرفة تظلّ على نهر ٍ يتفرع من (شط العرب) في جزيرة (الداكير).. أتذكر أنه قادني من يدي، وأخذني رجل عجوز، من دكانه الصغير/ وضع في جيبه مفتاحاً كبيراً كان معلقاً في مسمار على الحائط/ سُرنا في نزهة ٍ حيث تسللت إلى روحي موسيقى عذراء/ كان الوقت من شهر آيار فتضمخت روحي بلون الشرق/ فتح باب القصر وكان مظلماً رغم الظهيرة المشمسة والدافئة جداً / كنتُ مثل طفلٍ يحبو على ظهور الخيول وكنتُ مسكوناً بتضاريس ومنحدرات الشعر الرهيف والموسيقى الخافتة.
هناك في الطابق العالي، الأخير أدخلني جناحاً فسيحاً يعج بالمزهريات، والثريات، والتحف الخزفية، والفضية النادرة، ومجلدات الكتب المهمة/ وعلى عمود أسطواني يمتد شامخاً من السقف إلى أرض الجناح الوثير بعض الخطوط والرسوم النادرة محفورة بدقة حروفية رائعة / لقد قرأتُ قصيدة ألهمتني غربتي في بصرة الجاحظ الكبير/ سرحت رؤاي تجوب التلال البعيدة والوديان والمنخفضات وأراضي الملح، اللاصف، المشتعل/ جفلتُ فجأة ً حينما أطللت من الشرفة على النهر، وعدتُ أتمعّن بنسق تلك القصيدة الباهرة / وضجّت موسيقى الوجود بدمي وشهقت من فوري: أنا لا أحتمل البقاء. في مكان مسكون بكثافة غربة رمادية.. وقبل أن نرحل قال لي: هذا البيت يعود إلى واحد ٍ من أبناء (حنّا باشا) الذي رحل من البصرة صوب لندن في عام 1971، وهو رجلٌ أعزب، مغرمٌ بالجمال وبنظرية الفن للفن، أما القصيدة فهي لشاعر من أهالي (الفيصلية) صعلوك اسمه ( عبد الحسن الشذر) أعدمته سلطات البعث في نهاية عام 1981. حين وجدتُ نفسي في الشارع توافدت الألوان والارتعاشات فيا له من زمن ٍ كان بلوريّاً تكسّرت فيه المرايا وغابت عنه الأشجار.














أمّ
رفعتُ رأسي إلى المرأة التي أسميتها (العائشة في أعماق النجوم) كانت في الأربعين وأنا في الخامسة عشرة / كنتُ مراهقاً، رومانسياً انجذبت إلى النساء الأموميات/ كنتُ أتحسر على الزمن وهو يمشي سريعاً وأخشى أن تغتصبها الشيخوخة فأضيع/ رحتُ أتأمل أنوثتها وجمالها وأنا أسيرُ عبر الدروب/ كانت رصينة، بهيّة المحيا ومحتشمة حين تمرّ قرب بيتنا تحييني بحياء جمّ وودود/ لم أكد أدرك أنها تعيش وضعاً مالياً صعباً/ أحسستُ مرة ً بالرعشة الخفيّة بيني وبينها عندما حيتني في الصباح/ صرتُ هائماً مثل صبيّ بوهيمي أتمثل حضورها في جسدي وروحي/ رحتُ أمضي بعيداً عبر البساتين التي كانت تحد (الفيصلية) من كل الأطراف/ مررتُ يوماً قرب بينها فسمعتُ همساً كالبكاء/ سمعتُ نسوة يهتفن ( أم فيضي تبكي الآن لأن ابنها مخفور في التوقيف). كان ابنها بعمري، رحتُ أواسيها/ ثمّ تكرّر ترددي عليها فقد حكم على ابنها بثلاثة شهور بسبب جنحة ما/ لم أكن أتوقع ضيقها المالي، وإنها كانت تقترب مني، لأمدّ لها يد العون رحتُ أحصل على كل مال قليل أو كثير من أهلي ومن خالي الثري وأعطيه لها عندما تمضي لزيارة ابنها وتنفق عليه/ ذات يوم صارحتها ليلاً، فقد حصلت على مبلغ طيب قدمته لها فبكت. قلتُ لها أريد أن أكون ابناً لك ِ قالت لي أنت منذ الآن ابناً لي هذا الكلام: عندما أرضع ثديك ِ ستكونين أمّاً لي/ واندفعتُ أعرّي صدرها، سحبتُ ثديها الأيسر فألقمتني حلمتها الحارة/ كانت ممتلئة. رحتُ أمصّ مثل جرو ٍ أعمى قلت لها أنتِ أمي، وأنا ابنك. صرتُ أرضع بشراهة وهي تحمحم كالفرس اللاهثة/ قضيت ساعة كاملة وعندما خرجتُ في ذلك الليل البارد أحسستُ بطعم الحليب.. حليب رباني فتطلعتُ إلى السماء فطارت روحي صوب أبعد النجوم.
















طائر الحلم
يخفق النهر كجناح، ثمة نتف من غيوم سود تنحدر جنوباً، يبرز صدر السماء الأزرق عارياً وترتعش أوراق الأشجار الخضراء المظللة بدكنة الليل، وتوشوش على طول الجزيرة الصغيرة المحاصرة بمياه الأنهر العميقة المتاخمة لجوهر الأعماق الموارة.
هواء السماء يسيل كاللعاب الوردي على الأرض اللينة وقارب صغير مربوط على صخرة الضفة يطفو وينسرح، يغوص في الفراغ المنحدر ثم يعلو على ظهر الموجة، ينتظر الهارب وهو نافد الصبر، يخطو ببطء. لقد انتظرت، انتظرت طويلاً دون جدوى. كان يغمغم بأسى ويتراجع حذاء الجرف. لمح بندقيته المعبأة بالرصاص مقذوفة فوق صخور الجرف يعلوها غبار العشب المبيض، وتلفت إلى كل الاتجاهات ثم انحنى يرفع البندقية ويرفق ماسورتها بموازاة الكتف ثم يحولها إلى الكتف الأخرى. وضع يمناه على أخمصها، صوب حدقتيه الجارحتين إلى الطريق القصير المظلل بالأشجار وانحدر إلى الجرف الواطئ وظلّ يتأمل الزورق المربوط. التقط بأصبعيه حجراً صغيراً وألقى به إلى الماء. بق.. وانحدرت دوائره الصغيرة وذابت ببطء في الأعماق المظلمة. سار بخطوات يائسة فوق صخور الجرف الواطئ، فتح صدره للهواء الأزرق الذي صار يداعب منخريه المنفعلين ووجد نفسه محاصراً ومحاطاً بحلقة بيضاء رقراقة من المياه الفائرة والأرض- الغابة تحجب شموس النهارات الحالمة- الصدر المعروق يتحسسه وهو يجلس فوق الأرض المنداة، حزمة البردي الخضراء يزيحها ويلتقط بعض الأزهار الناعمة.. يشم عطرها ويدعكها بأصابعه ثم يعلكها ويبصق على أعناق البردي، يجس الطين القهوائي ويداعب العشب المبتل وتغوص عيناه في الموج العريض. حطت بعض النوارس والعصافير المائية فوق قشة عائمة من الطحلب المائي وهي تزعق ثم تنطلق لتحوم فوق الأشجار الكثيفة، ظله يراه يخفق راقصاً تحت المياه المتماوجة. تحرك إلى الأمام وانكسر الظل منحدراً مع الخط الطويل الصاعد لسرب أسود من الأسماك العريضة المستدقة وهي تحاذي جماعة من السلاحف الخضر الغامقة المتراصة كالأطباق. راوده إحساس ما، بوده لو يقتل وحدته المملة، وجاش في خياله ماض متلاش وتذكر طيراً صغيراً ناعماً وعاصفاً كالثلج.. ريشه أبيض وعيناه صفراوان ورجلاه رماديتان. كان ذلك الطير الغريب قد دخل فوهة البندقية لصغره وضآلته، فهو بحق من الأعاجيب التي تجود بها الطبيعة عادة. رفع الرجل البندقية وحدق في جوف الماسورة. رأى عينين ضيقتين صفراوين ترمقانه بخوف. زقزق سريعاً بصوت فضي وألقى الرجل البندقية جانباً وشرع يفكر بحيرة، صارت الشمس الذهبية تفرش مروحتها الصفراء فوق الفسحات الخالية. جنب الأشجار المزدحمة حيث العشب القصير المائل ينبض في روحه النسيم راح يضع كفيه على خصريه، أطلق زفرة طويلة ثم سحب نفساً عميقاَ وهو يغمغم ويتأوه.. فليكن إذاً وحشاً أملاًً أو نشيداً، فليكن أي شيء. فلطالما النهر يطفح بالسكون سأهرب من الجزيرة عبر انحدارات النهر الذي يغذي الجزيرة.. سأهرب في الوقت المناسب، وإذا لم يكن ذلك ممكناً سأموت الميتة اللائقة. شرع الطائر يغرّد نائحاً خلل الصمت والترقب فوضع كفه على رأسه، أحسّ دواراً، ثم راح يراقب قدوم الأعداء وظل يمشي جوار الأشجار الباسقة. حمل البندقية، رفع غصناً قصيراً رفيعاً. حدق في الماسورة حيث الطائر محشورا فيها. هزّ رأسه وقذف الغصن إلى الأرض ووضع البندقية جوار شجرة مائلة وتمدد جوارها وراح يراقب الأراضي المنبسطة حول الضفاف وراء النهر ثم لبث ينتظر فتمخضت الدقائق البطيئة عن زهرة بيضاء تفرش أوراقها البيضاء العريضة على العشب الأخضر، وكانت تزهر على مقربة من أنفه المدبب، زحف إليها ببطء وشرع يرمق أوراقها بعينيه القلقتين، ووضع أنفه على ساقها. شمّ عطر التراب الندي تحتها ورفع رأسه قليلاً. لامس خده أوراقها الريانة وبسط ظهر كفيه وسرح رأسه في غفوة. حلم حيث الماضي المتلاشي يعود، وظلّ الطائر ذو العينين الصفراوين، العاصف كالثلج، وهو يوشّ حين يطير، ظلّ يغرّد بصوت شجن، ولم يكن الهارب متململاً أو خائفاً، لكن قلبه الكبير غارق تحت الطحالب وأزهار الماء، يلتقط نبض الطين ورعشات السمك السابح برشاقة، وصدأ النسيان "صارت الأشياء؟....؟ أشياء الماضي تتراكم على جليد الذاكرة القلقة مثل طبقات التراب، فتصدح الطيور، وتحجب ضوء الشمس الذهبية وقلبه ظل يخفق، وعيناه مغمضتان في غفو حذر، فأي نقة من ضفدع ثرثار، حيث الاختفاء المراوغ خلف آجام بعيدة، أو لبطة من سمكة حبلى، مخاتلة تحت الطحلب ستوقظ في ذاكرته الرخوة عواصف الأيام والسنين، فالمياه الصافية تثب فجأة ً فوق صخور الجرف.. ويفيق الهارب على صخب وحشي يشرخ حاجز الصمت، فقد وثبت سمكة ضخمة في أسفل الماء عالياً في الهواء البارد، ولبطت بذيلها الغضروفي، ونحب بوم كبير فوق شجيرة قصيرة ثم قفز قط وحشي من تحت الشجيرة على جناحه الكبير فباءت محاولته بالفشل، وعاد إلى الهارب صوت الماضي القديم يصخب في أعماقه، وغمغم ثانية بأسى غريب: لقد انتظرت انتظرت طويلاً دون جدوى. فرك جفن البندقية بأصابع منفعلة ورفع ماسورتها مقرباً إياها من اذنه اليمنى. سمع صوت طقطقة، صفيراً عالياً، اهتزازاً، ناعماً خيطياً. لقد اختفى خلف شجرة ضخمة والبندقية في يده اليسرى، فاندفع بغتة من جوف الفوهة ووشّ بعصفٍ ذلك الطائر الأبيض مثل أزيز الرصاصة وغاب في شعاب الجزيرة. الرجل الهارب تحيّر ورفع البندقية، نظر في جوف الماسورة، كانت خالية تماماً.. أي شبحٍ أنت، أيها الطائر الغريب، يا عاصفاً في حياتي كالثلج الأبيض. وراح يتأهب لمعركة مجهولة، ولكنه حين رفع رأسه عالياً محدقاً في ذلك الصفاء الأبدي لتلك السماء الزرقاء الباقية، حيث الهواء البهي والجلال الأبيض ينسكبان على لوحة العالم الكبير، لمح الطائر الأبيض ملتصقاً فوق قمة قصبة عالية خضراء وعيناه تائهتان ترقبان شيئاً ما، كذلك الهارب ينظر إليه بعينين أكثر ضياعاً، ورفع البندقية وصوبها عليه. صاح الطائر بصوت مخنوق أجش وغاب، فيما ذلك الرجل شرع يهتف: ألا أنت أيها الطائر العجيب، إن كنت رسولاً قميئاً، أرسلك التافهون إليّ سأقتلك وأبصق على العالم. وحوّل البندقية إلى اليد الأخرى، هشّ على الفراغ، بصوت قوي وطار محلقاً حول الجرف مرفرفاً بجناحيه الناصعين كبياض الثلج وهبط إلى الأرض. حطّ على رقعة عشبية خضراء وفرش جناحيه.. الهارب يزحف إليه، وزقزق الطائر بلحن طفولي حزين. وضع الهارب البندقية على الأرض وراح ينظر إلى جناحيه، وانحنى إلى الأرض. التقط الطائر بأصبعين نحيلين، قبّل ريشه الأبيض وعينيه الصفراوين ووضعه على قمة رأسه ثم اختفى خلف أدغال الجزيرة.











المكان والنظرة والحدس
كان ذلك في سوق مغرقٍ بالعتق، في حواري بغداد القديمة: عندما رأيتها تجلس أمام بسطة عليها أدوات للطبخ قديمة: صحون، ملاعق، قدور فافون صغيرة وكبيرة، وفجأة ً انبثق خيط الضوء من عيوني، قلت لنفسي سأطوف عبر دروب قصيرة.. اتسع وجهها القحمي الحزين وصوّبت نظرة قوية نحوي بينما كنتُ أخطو هبّ بوجهي تراب ناعم، أبيض وبارد/ ثمة إحساس بنداوة القلب يجبرني أن أعود/ تطلعت ثانية صوبي وهي تلملم حاجياتها. وقفتُ بعيداً تحت عمودٍ في الظلّ واتجهت هي إلى أحد بيوت الشناشيل، بيت قديم جداً/ ودخلت فيه/ ظلت مويجات الهواء تضمخُ وجهي ثم عصف حراك الدم يُلهبُ كياني.. مع أنها كانت امرأة بسيطة ومتوسطة القوام ، ممتلئة الجسد، قمحية الوجه، تقارب الأربعين من العمر، لكنه صدى حدس لامتناهي يتصاعد من جحور المخ ويرسّخ المخيلة/ بعد كانت في الطابق الثاني من بناية الشناشيل/ بعد رصدٍ وتقصٍّ عن البيت علمتُ أنه تسكنهُ عدة عوائل.. بين يوم ويوم أجدها تطلّ من الشرفة وتسكب باتجاهي نظرة طويلة حاشدة بالغموض والحزن.. المحيّر في أنني كلما جئت لم أرها تجلس في السوق/ خاطبت نفسي من ذا الذي يجذبني إلى تلك المرأة الفقيرة؟ علمت أنها أرملة لديها بنتان صبيتان.. صرت أبتعد وتركت القدوم إلى المكان والمنطقة.. لكنها طوّقت كل تفكيري بحشود حضورها/ قطعت شوطاً طويلاً في الغياب.
ذات يوم خطرت ببالي فكرة العودة إلى المكان/ كان الوقت ضحى رأيتها تقف في الشرفة بكل قوامها/ كانت شبحاً إنسانياً بل حطاماً لإنسان.. صدمت لنحولها المخيف، وكل نظراتها ظلت مسلطة عليّ/ وأنا بدوري صوبت نظراتي وسلطتهما عليها.. ارتفعت الشمس وغادرت المكان، عدت عند الغروب رأيت الصبيتين ينزلنها من السُلّم ويقدنها إلى ركن الشارع البعيد.. حين قدمت في الصباح رأيت مجموعات من النساء يدخلن البيت القديم، ثم تأتي مجموعات أخرى.. كانت قد ماتت تلك المرأة المسكونة بالموت.. شعرت أني غريب عن ذلك الزمن، وكأنّ صخرة مزروعة في القلب ظلّ يحفر فيها نحّات مخيف، نحّات يحفر لأجل الوصول إلى ذلك الحدس اللانهائي المجهول/ فمن هو ذاك الذي شيّد الخيط الخفي بيني وبين تلك المرأة التي علمت لاحقاً أنها كان تصفـّي أشياء البيت، فلم تكن بائعة وإنما كانت تنشد الرحيل صوب مكان سأظلّ أجهله.








شبح البريكان الحزين
في ساحة المدينة الهائلة ذات الحافات الصخرية الموحشة يرتكن الشيخ محمود البريكان زاويته الحادة ويتطلع بإعياء ٍ إلى سورات الهواء الراكدة على أقدام العابرين الثقيلة- وعبر خطوتين حديديتين يجد نفسه في مقهاه القديم المعتم. يجلس على تخت ٍ خشب هالك وقد شرعَ يُعيدُ في خياله الحزين الأرياف التي أعطت شبابه ثمارها المغبرة.. نحن الذين تتلمذنا يوماً على يديه، قبل سنين طويلة، ندنو منه الآن وهو لا يتذكّر واحداً منا.. لبثنا نرقب سكناته وهو يغفو في العتمة، والدفتر الأسود في كفه الكليلة يسقط على الطاولة الترابية اللون- ندنو أكثر وقد اخترنا تختاً قبالته، وهو يغفو نتصفح على عجلٍ دفتره المستقر( هنالك بين صخرتين ومزرعتين جاءت على بطء ٍ سيولٌ من نار الأنهر الخرافية وطافت على تخوم الأعالي حين تدفقت الأطيار البريّة بأجنحة الغبار المتلاشية، عبر الزبد الهشّ، الأبيض، وهي تعوي فنسمي عواءها تغريداً يخلب أسماع الضحايا المصلوبين على جدران الساحة- أولئك الذين لا تنسى ذكراهم، المخيلات الصافية.).. وفيما النادل، الصبي، الحافي القدمين يدنو منه نطوي الدفتر الأسود على عجلٍ ونراه يفيق على صوت الخطى السريعة.. ماذا تطلب يا استاذ؟ - شاياً، آ، يفتح عينيه الحزينتين- أريد شاياً... تنتقل نظراته إلى أركان الساحة التي تتجسّد أمامه في فوضاها الصامتة وعبرها تمرّ الشرائع السريّة، وأبديتها التي يحب.. يخرج من جيبه الأيمن العميق تحت السترة القهوائية قاموساً قديماً- وتثرثر عينه المرتمشة بين انسجام الأشياء التي أفقدها الزمن طراوتها النحاسية، إذ تغيم الزجاجة التي تغوص في عتمة الصفحات المتوارثة من عصور البرابرة الذين جعلوها حدائق خرافية لأزاهير الدمار.
يترك النادل قدح الشاي على الطاولة ويغيب. نراه يبتسم. نحن أيضاً صرنا نبتسم في دفقات شعورية مغبطة – وننطق على غير إرادة منا (أسعدت صباحاً استاذ محمود)..
وبريبة وقشعريرة غامضة يتطلع إلينا بعينه الزجاجية الحزينة.. ثم يقف بيننا صمتٌ دهريّ عميق (كنتَ يوماً استاذنا وتعلمنا منك حب الحقيقة عبر الشعر)- ويزداد وحشة ً وصمتاً، وانكماشاً (بعد أيام سنرحل إلى أوربا- لنكمل مشوار الحقيقة، قد لا نعود – نحن من ثمار مشروعك الكبير..) يتطلع إلى أكفنا التي تحمل كتب الحداثة وما بعدها- حينئذ ينتفض بقوة ٍ، ويزيحُ الريبة والصمت، فيطلق من فمهِ ذلك السؤال المرّ الحزين (كلكم سترحلون فمن يا تُرى يبقى في الوطن؟)..
يغفو القدح بين يديه ونغيبُ نحن في زمن الصحراء العجيب.. والريح الجامحة الصهول تهمي على الساحة، تبعثر أوراقه التي شفراتها الخفيّة يرتفع من خلالها نواحهُ العميق (مزقتُ الحلم وسفحتُ أنهار المعرفة ورسمتُ الرموز الخشبيّة بيدٍ دؤوبة وخرّجتُ جيلاً أنكرَ عليّ عذابات عقلي وخرائب روحي/ وعزلتي الأزليّة، كل ذلك لأجل البوصلة التاريخية التي هزمتها معارك حياتي العاصفة.)..
ينهض البريكان من مقهاه. يتطلع إلى تلك الساخة الهائلة- يراها خالية من وجوه الشباب/ خالية من الأدمغة الثقيلة التي غابت وتلاشت في شسع الصحارى الكبرى حيث العيون المريبة هنا تثقّب الزوايا والجدران العتيقة..
كان يخطو غريباً عن الناس، يستشعر برداً في الروح، ويلوذ ببيته الأثري، داخل زقاقٍ رطبٍ ، رمادي موحش/ يتطلع إلى رفوف حجرته العالية: فتمرّ البراري عاجلة ً والكواكب مرئيّة/ والحدائق، والهياكل، والجماجم/ تمرّ الأشياء المغموسة بتاريخ الزوال- فيرمي جسمه المكدود على السرير البارد وينام.
نحن الذين تغربنا طويلاً عن الوطن، نتمثل شبحه الحزين في أخيلتنا، نراه من منفانا هناك يغيبُ عن العالم في أجمل ميتة ٍ عرفها إنسان وعينه تحتضنُ كل الوطن.
9 / 2 / 1994
قرأ البريكان ذلك النص في حياته وسأل عني لكنه بعد أعوام سيموت أبشع ميتة.




أفرشي كفـّكِ وستعودين
مرّت شبه محطّمة عبر ممر ضيق، في الحارة المظلمة، ذات الشناشيل العريقة المتلاصقة/ كانت أمها تعاني مرضاً، وكأنها تشارف على الموت.. رأت امرأة تجلس على عتبة دار عتيقة ( امرأة حنطيّة اللون، ممتلئة القوام ترتدي ثياباً سوداً- نفنوف أسودـ تغطيه عباءة فاحمة، بارقة، وواسعة، وشيلة تؤطر وجهها البهي، الواسع وهو مكتظ بعينين سوداوين متألقتين/ قالت لها تعالي يا فتاة)..
تطلعت إليها الفتاة فتوسمت فيها امرأة حانية رغم كونها حادة الملامح وصارمة، وكأنّ قوى محتشدة وخفية هي التي استدرجتها إليها/
كان جمال تلك المرأة التي تكبرها بعشرة أعوام محيّراً، تدفقت الدماء الحارة من ملامحها العجيبة، القاسية( قالت الفتاة وتكاد تذرف دمعة: أنا يائسة ومحطمة حد الهلاك، حزناً على أمي التي تركتها عليلة في البيت، وهي سترحل وتتركني أواجه مصيراً مجهولاً).
قالت لها افرشي لي كفك، عرفت الفتاة أنها امرأة بصّارة، تمتهن (أخذ الفال)- كرّرت عليها القول: تعالي، أنا أعرف طالعك، لذا اقتربت، قالت المرأة افرشي لي كفك اليمنى، ففعلت/ ضغطت البصّارة المفعمة أنوثة كفها بكف الفتاة، وكانت كفها خشنة، قاسية وصارمة/ قلت لها بصوت مخنوق، جاف، فيه بحّة غاوية، لا تشبه أصوات النساء ( اذهبي، إلى البيت وسترين أمّك معافاة، وليست حزينة، لأن طالعي لا يخطئ)..
سحبت كفها، يائسة، مهيضة الجناح، وعادت إلى البيت، فوجئت بأمها تفتح باب الثلاجة وتسكب ماءً من الأبريق في قدح أزرق مزخرف الحافات/ كانت الأم تتجرع الماء بشهية الكائن المترع بحبّ الحياة.. تطلعت إلى ابنتها وهي تبتسم وتظلل وجهها هالة ملائكية، فتدفقت أمواج الغبطة على أركان البيت/ في الصباح يممّت الفتاة وجهها صوب الحارة العتيقة، شبه المظلمة/ رأتها تجلس على العتبة، يشع الجمال من وجهها الباهر.. كان الكحل يزخرف رموشها الفاحمة/ نهضت تحتويها بذراعيها المغريين، إذ أدخلتها غرفة داخلية مفروشة بالسجاد الفاخر، ومضاءة بنور أزرق خافت، قالت لها لِمَ عدتي (قلت بنفسي حتماً سأعود)
أوقفتها وصيفتها أمام المرآة، ثم سحبت كفها، ومضت، بها صوب الحمّام.. حين خرجت تتنشف، وراحت تبرّج وجهها... تركتها بعد النشاف بعريها/ خرجت الوصيفة لتقفل عليها الباب/ ضغطت صاحبة الفأل على زر المسجّل، فتدفقت موسيقى خاصة، خيوطها الصوتية رفيعة، يفوح الإغراء من نغماتها/ خلعت ثيابها السود، وواجهتها بفخذين عارمين يعلوهما (الملك العابس)...
كان شامخاً يجلس على العرش، صارماً، قديساً، كأنه الامبراطورة العظمى كاترين، أو اليزابيث ملكة بريطانيا العظمى، مدّت أناملها الرفيعة لتفكك منافذها، وشعرها الطويل ( راحت تغتصب جسدي بقوة ثم أنهضتني بقسوة، لنحتكك ونفترك، نتلبس بعرينا الدبق، ومن يومها أصبحتُ أكبر سُحاقية في تلك المدينة..).


















التشرّد عند الغروب
عندما تحلّ ساعة الغروب من كل يوم يطلّ على المدينة رجل غريب الأطوار يسمونه (حكيم الثعالبي) يرتدي ثياباً غريبة يضع فوقها معطفاً ثقيلاً في الصيف أو الشتاء/ ففي كل غروبٍ يهيم (الثعالبي) في الشوارع والدروب على وجههِ/ يقطع المفازات والشوارع الطويلة، صامتاً، يتجنب الناس حيث الخواطر والرؤى المخيفة تتلاطم في خياله الجموح/ ولا أحد يعرف ما الذي يرمي إليه (الثعالبي) في هذه الحياة/ وما أن يحلّ الظلام القاتم حتى يعرّج إلى بيته ويقفل عليه الباب..
فهو يعيش وحيداً، في ذلك البيت المغلق/ ابتدأ حياته رساماً موهوباً وترك الرسم وكتب شعراً رائعاً وهجر الشعر ثم دخل معترك الفكر وتركه/ كان رجلاً قلقاً بكل معنى الكلمة.. وذات يوم أحبّ امرأة فاتنة هامت به عشقاً وقد بادلها الغرام بجنون،’ وفجأة هجرها بلا معنى/ فمرضت وماتت كمداً... كانت أوقات الغروب تمثل له لوثة روحيّة سوداء تتصاعد في نفسه على شكل سمفونية كبرى من سمفونيات الحزن والخراب/ وانتبه الناس بأن الثعالبي لم يره أحد يمرّ في الشوارع لعدة أيام/ لقد غاب عن المدينة قرابة اسبوع وحين عاد كان يحمل بين يديه طفلاً ميتاً في كفنه.. اصطخبت المدينة واضطربت وجوه الناس فتقدم منه ثلاثة رجال أخيار قالوا له (من هذا الميت بين يديك؟ ومن أين جئت به؟) كان الارهاق والتشتت عنيفين حيث أجابهم الثعالبي (هذا الطفل هو أنا يوم ولدتني أمي، ثم راح يمده إليهم ويقول خذوني وأعيدوني إلى قبري هناك في مقبرة الأطفال، ستجدون قبري مفتوحاً على المدخل الأيسر للمقبرة.)..
أدرك الناس إن الثعالبي قد جُنّ جنوناً مطبقاً وإن مصيبة ً قد وقعت.. وحين عاد إلى البيت وضع من فوره حبة سيانيد في فمه وانتحر/ عرف الناس أنّ ذلك الطفل قد مات قبل اسبوع وعرفه أهله من ملامحه وأدركوا إن قبره منبوش/ أبلغوا الشرطة والقضاء في الحال حيث تم اقتحام الدار وعثروا على الثعالبي ميتاً/ حيث فتشوا جيوبه عثروا على هوية أحواله الشخصية وقد تنبه المحقق وهو يتطلع فيها إنه قد ولد بنفس اليوم (هذا الذي انتحر فيه.)..











تشكيل حكائي على الزجاج
ترخي كفيّها الشاحبتين، ومن فورها تبتسم بلطفٍ غامض ٍ / فهي بعزلتها، لا تعاني قنوطاً طارئاً، لكنها عاشت مناخات خاصة أسوأ من هذا المناخ/ ورغم كل شيء فهي تشعر برغبة ملحّة في الانضمام إلى رفقة حميمة، نسائية مثلاً/ ويكاد يخلو بيتها الصغير، في هذا المناخ الحصري، شديد البرودة/ بيتها ذو الحجرة الواحدة، وصالته المستطيلة، الممتدة إلى الأمام، لتشمل أماكن البيت الشخصية.. أدوات المطبخ/ أدوات الحمّام/ معطرات التواليت/ إنه يخلو خلال فترات سفرها من وجوه الآخرين ( تقف أمام المرآة فينعكس ظلها على الزجاج، هناك على الجانبين زجاج طولي، لمرايا أخرى إضافية/ تخلع ثوبها القطني، الأحمر ذا الملمس الخشن، الفاخر، بتطاريزه الرصاصيّة/ تخلعه وتتأمّل صدرها المنتفخ، وباقي الأعضاء المشوّهة، الضعيفة... في المرآة الكبيرة يمكن رؤية الخط الغامض لأثر الجرح الخطير الذي أجرته لها لجنة من الأطباء في الخارج، حيث يمكن ملاحظة أثر الانعكاس الجسدي على روحها الضيقة، المخنوقة/ فمثلاً يمكن لمح الصفوف المتصالبة، حيث الهواجس الداخلية القلقة، تحت الجلد تترك أوشاماً خرائطية، في فوضاها اللامرئية.)
كم هي كثيفة لحظة الخطو، أو مسافة الانضمام إلى الفسحة النفسيّة، فهي تشعرها داخل الصالة بأنّ الصقيع القديم في الجانب الآخر من العالم، يوم كانت تتطلع فيه مبهورة بالبياض البرّاق المشعّ بقوة ٍ على حنايا الزجاج، وكذلك باقي النور المتكاثف على الأطر العليا للنوافذ/ إن ذلك الصقيع بخيالها المتعالي يستقطب النبل النقي وعذريّة الأرض المحيطة بأن تلهم القلب الحقيقي المتفتح للغبطة والجمال/ إنها الآن تُنحِّي الماضي لتجذبه إليها، فعلى الزهرة الزمنية الدافئة وقت الظهيرة يصلُ قطٌّ رماديّ من فوق الطوابق العليا للمبنى، وسيواجه خطوط عريها..
ترمي جسدها المهدّم على الفراش، وتظلُّ تبتسم رغم البرد في الخارج الذي يذكّر بديمومة الصقيع.. ذلك القط ضيفها العزيز الذي لم يكن يزورها إلاّ نادراً.. يواجه فحيحها في الفراش ويموء، يمرّغ ُ جسده فوق السجادة الخضراء الباردة ذات المسحة النباتية الباهرة/ يرفعُ قوائمه الأربعة فتتأمل شعره الرمادي المبيض، الناعم، المائل إلى لون الريش الصافي ( وتحت الأغطية الحريرية الفاخرة يعضعض أناملها ويهرّ، ثم يعضعض ركبتيها فتضمّه إلى صدرها المنهك.. ويلحُّ بنوباته الصوتية الرتيبة، الحادّة، الشبقة، لكنها مع ذلك تحلم بليال ٍ كانت فيها كالملكة تتدثر تحت الأغطية السميكة في الطرف الآخر من العالم، حيث تحلم وتظلّ تحلم بالصقيع الوافر، المنهمر فوق الزجاج.).




المايسترو
صُفّي الطالب الجامعي (مؤيد جابر) بسرعة قياسيّة، بعد أقلّ من اسبوع واحدٍ من اعتقاله، فقد اعتبر منشقاً عن حزب السلطة وموالٍ لحزب الدولة المجاورة سوريا/ كان (مؤيد جابر) نحيفاً، طويل القامة، صغير العينين في وجهه آثار مرض الجدري القديم، ورغم القبح البادي على وجهه فقد أخفته تلك الحيوية البارعة، والنشاط الجمّ، والطاقة الخلاقة فيه/ فقد كان منظّراً سياسياً، وشاعراً، وناقداً كبيراً، وسينارست سينمائياً، ورياضياً/باختصار إنّه شعلة متوقدة من العمل/ كان غيابه قد شكّل خسارة لمدينة الفيصليّة وبالأخص الشباب المجايلين له/ لقد اعتبر (مؤيد) المحرّك الأوّل لكل الفعاليات والأنشطة الثقافية والرياضية وحتى الاجتماعية/ لذا كانت عيون السلطة تتعقب حيويته وصخبه البارع وانشغالاته التي اعتبرتها خطراً على وجودها/ كان يماشي ويحاور الشيوعيين حيث شهدت مقاهي الفيصليّة وعتبات بيوتاتها الليلية أعنف وأروع حراكات وجدالات الفكر المحتدم، والمتقدم..
قبيل الحرب مع إيران بشهور اختطفتهُ السلطة وصُفّي بعجالة/ لم يسمح لأمه الفقيرة أن تلقي نظرة عليه/ ظلّت غرفته مقفلة وألقت أمه مفاتيحها في الساقية / كانت الأم نحيفة جداً، سمراء، ضئيلة، تدخن السجائر وتسعل كثيراً/ عندما اشتعلت الحرب انطفأت (الفيصلية) وخبت، وغاب شبابها في سوح المعارك، وفي المنافي والسجون/ لقد تغيّرت خارطة الفيصلية اجتماعياً وثقافياً حيث طالت الحرب وأحرقت الأخضر واليابس، وبعد انتهاءها بعشرة أعوام أي قرابة عشرين عاماً ماتت أم مؤيد العجوز التي قضّت كل تلك الأعوام تواجه غرفة ابنها المقفلة وتحرق السجائر/ وفي نهاية اليوم الثالث من مجلس العزاء قرّرت العائلة والأقارب والأصدقاء اقتحام الغرفة وكسر بابها/ ..
عندما دخلوا وجدوا الغبار أكواماً يغطّي الرفوف وأكداس الكتب واللوحات وثياب الفقيد وكلّ أشيائه/ تطلّع واحدٌ من أعزّ أصدقاء الراحل إلى صورة كارل ماركس المعلّقة على الحائط مع مجموعة من صور العظماء التي يغطيها الغبار، اقترب منها وداعب لحية الفيلسوف ثم أمسك بحافاتها ونهايتها السفلى ودعكها بين أصابعهِ / كانت خشنة، سحبها إليه قليلاً فطاوعته ثم سحب ثانية ً فجاءت معه/ ظلّ يتراجع واللحية تمتدّ معه/ خرج من الغرفة والصورة المعلّقة ظلّت في مكانها معلّقة على الحائط بينما اللحية تمتد/ ووجد نفسه خارج البيت عبر الشارع واللحية تتمدّد معه/ تجمّع الأهل والصحب والجيران وبقايا الأصدقاء من الشيوعيين والمثقفين والفنانين/ الكل جاءوا بينما الصبية الصغار اقتربوا ومعهم طائرة ورقيّة شدّوا بها أطرافاً من شعيرات لحية ماركس، فحلّقت الطائرة في الهواء الرحب العالي/ ظلّ الصبية يعطون الطائرة مزيداً من الخصلات واللحية تتمادى بالطول حتى تصدّرت الطائرة صدر السماء الرّحب/ حيق اللحية تتأرجح وتؤرجح معها طائرة الورق/ وفجأة فتح الماسك بلحية ماركس كفّه ودسّها في جيبه فتطلّع إلى جموع الناس الواقفين مبتسماً وقال: سيبقى ماركس مُحلِّقاً/ إنه يُحلّقُ ولا ينتهي...



















صحوة الرجل الغيور
كان الضجيج بعيداً، بعيداً جداً، ثم أخذ يقترب، والاندفاع عارماً،/ أطلّ من السطح فشاهد الجموع الهادرة تقترب/ حدث ذلك في البصرة، بالفيصلية تحديداً فجر 2 آذار عام 1991 من القرن الماضي عندما انطلقت الانتفاضة المسلحة/ لم يصدّق (أدهم القاسم) عينيه بما يجري/ وهو السياسي المحنّك، نزيل (نقرة السلمان) والمتمرّس في ثورة الأهوار 1967، والمعتقل في حقبة الثمانينات في سجن أبي غريب/ حتى إن الحركات الشيعية اللاحقة تشهد له مواقفه النـزيهة، وخصاله النبيلة وصلابته الفذة/ أنفق أدهم زهرة شبابه في السجون، وعاش أعزباً معدماً مع أمه العجوز.... حين اقتربت الجماهير من الشارع المواجه لبيته، نزل من السطح حاملاً رشاشة/ واجه الجموع المقتربة بتصويب رشاشته نحوهم... صاح به الناس هذا يومك يا أدهم، سيسقط الطاغية لا محالة وأنت الوطني صاحب التاريخ النضالي المشرّف الآن سنجعلك أنت تقود الجموع لإسقاط المحافظة/ غامت عيناه وتهدّج صوته /قال عودوا أدراجكم فوراً، أنصحكم أن تفضوّا ثورتكم لأننا لا زلنا بحاجة لوجود الدكتاتور، انفضّوا فوراً لأننا بحاجة لخدمات الدكتاتور.. ما هذا الذي تقوله يا أدهم؟ هل أنت رجل مجنون؟ أقول لكم عودوا إدراجكم رجاءً.. في تلك الأثناء اندفعت الجماهير نحوه كالسيل العارم فرشقهم بصلية كاملة أطاحت بعشرين ثائراً ما بين القتيل والجريح/ انقضّ عليه الثوّار وأمطروه ضرباً وركلاً ومزقوا ثيابه ثم سحبه إلى الرصيف مارد ٌعملاق اغتصبه على مرأى من الناس/ اغتصبه بطريقة وحشية بشعة ثم جاء أحد الثوار حاملاً مسدساً أطلق رصاصة على رأسه ورفعوه/ ليعلقوه على واحد من أعمدة الكهرباء/ وبعد ساعتين فقط سقطت البصرة بأيد المعارضة/ مرّ يومان على سقوط المدينة، اندفعت قوات الجيش المرابطة في الصحارى البعيدة بالهجوم على البصرة حيث استمرّت المعارك عشرة أيام قاسى الناس فيها من ويلات الدمار والجوع والعطش المميت/ خلال تلك الفترة ظلّ جثمان أدهم القاسم معلقاً على عمود الكهرباء/ وعندما استعاد الجيش سيطرته الكاملة وأفشل الانتفاضة المسلحة/ كذلك استعادت المنظمات الحزبية تجميع قواها وتسليح عناصرها وتطويق البصرة من كل المداخل بدعم الجيش/
أنزلوا جثمان أدهم ونقلوه إلى إحدى منظمات الحزب الرسمية ثم أعيد إلى أمّهِ بعد أن تمّ ترتيب جنازة تليق به/ ومن فورهم رفعوا تقريراً مفصلاً عن تاريخ حياته السياسي وموقفه الأخير من الانتفاضة/ ذلك التقرير تم رفعه مباشرة إلى الرئيس العراقي صدام حسين/ هناك في قصره الرئاسي اطلّع عليه بتركيز وعناية فائقتين وكتب هامشاً صغيراً أسفل التقرير بعد أن وقع عليه يقول فيه باقتضاب: إنها صحوة رجل عراقي غيور/ لقد أعيد التقرير إلى منظمة الحزب في البصرة موصياً بتكريم أمّه بالمال وإرسالها إلى الحجّ مع إقامة رمز تذكاري له في ساحة يطلق عليها (ساحة الرجل الغيور)...
ظلّ الناس لعدة أعوام حائرين بنهاية أدهم وموقفه المفاجئ الغامض/ فقد قال قوم إنّ أدهم لا بدّ أن يكون قد باع نفسه في الأعوام الأخيرة للنظام وإنه كان مدسوساً، بينما فسّر السياسيون المثقفون موقفه بأنه متأتٍ من بُعدِ نَظرٍ لسياسيٍّ مُحنّك ينطلق من حقيقة ٍ مفادها إنّ تلك الجماهير بحاجة إلى قبضة ٍ حديدية ٍ ورجل قويّ يدير دفة الحكم بصرامة وينظم فوضاها وإنّ الوقت لم يحن لثورة أو انتفاضة سريعة/ وبعض ظلّ يعتقد بأن لوثة ً أو عاهة أصابت مخه اليابس...
بعد ثماني سنوات من حدوث تلك الانتفاضة اجتاحت أميركا وبريطانيا البلاد بجحافلها المعززة بالطائرات والصواريخ والدبابات/ كان دخولها عبر البصرة فانتفضت القوى السياسية والجماهير المقموعة سابقاً فهيمنت على منظمات حزب الدولة وعلى الدوائر والمؤسسات ومراكز الشرطة والبنوك/ وعندما مرّ الثوار على (ساحة الرجل الغيور) لطخوا الجدارية الصغيرة التي ترمز لأدهم القاسم بالبوية وكتب أحدهم عليها: تلك (ساحة المُرتد المنيوك)...




محمود عبد الوهاب يدخل المقهى
قبل يومٍ واحد ٍ من مرور الذكرى الأولى على رحيل القاص الرائد محمود عبد الوهاب اتفق الأدباء على زيارة قبره في الزبير/ مقبرة الحسن البصري/ وأتذكر كلمة القاص محمد خضير حين خاطبني أتأتي غداً معنا، قلت نعم/ وصباحاً كنا هناك يوم 7/ 12/ 2012، وضعوا شموعاً وإكليلاً من الورد، ووزعوا ماءً وفاكهة ً ، وأخذوا صوراً تذكارية، نحيت نفسي قليلاً مستذكراً يوماً، في حديث ٍ حميم معه، كنت أقول له في جلسة ودٍّ ( لا تخلو موضوعة المنهزم والمنتصر من فتنة التاريخ ومأساة التاريخ/ فلنأخذ مثلاً موضوعة السيد المسيح مقابل النبي محمد/ يسوع صعد إلى الصليب ليُعدم عن عمرٍ قارب الثالثة والثلاثين / كان نحيفاً، رقيقاً، حزيناً يذكرك بنحافة الشاعر الغلبان جان دمو، ولم ينل من الدنيا سوى المطاردة والتجوال، كان يعيش على الخبز القليل والماء، وكان طهرانياً فلم ينل حظوته من النساء يقابله محمد بن عبدالله الذي اجتاح جزيرة العرب ووحّد قبائلها بسيفه وعقله وإرادته الخارقة، فأسس امبراطورية امتدت إلى تخوم الصين، ولم ينمْ ليلة واحدة إلا على صدر امرأة فنتذكر زوجاته: خديجة، عائشة، ماريا القبطية، زينب بنت جحش، وصفيّة وسؤدة وأم سلمى.. ووو/ كان قوياً فذاً نال إعجاب المؤرخ العظيم (توماس كارليل) الذي وضعه على قائمة أبطال التاريخ كذلك أعجب به فيلسوف الإرادة نيتشه والروائي الخالد فيودور دوستويفسكي.. استاذ محمود المنهزم له أيضاً فتنته وانتصاره فبعد نهاية يسوع المأساوية استلهمت روما وأوربا إشعاعه الروحي وأقامت ديمقراطياتها من ندائه للسلام فقد ترك وشماً لا يمحى من تطهير الذوات/ أما المنتصر فهو يلهم الأحرار: المجد والنجاح والانتصار عبر مسيرة الأجيال/ رشف محمود شايه واستطاب الحديث/ فلنعرّج على فان كوخ مقابل بابلو بيكاسو/ حين بيعت لوحة فان كوخ منتصف سبعينات القرن الماضي وعنوانها (زهرة السوسن) بأعلى رقم قياسي في تاريخ الفن / بِيعت بملايين الدولارات وهو الذي لم يأكل كسرة خبز من فنه في حياته/ عاش محطّماً وأفعمه الجنون وقمع المجتمع بكل كوارث الخراب ولم ينل من النساء سوى مأساة أذنه المقطوعة التي أرسلها إلى إحدى العواهر/ فيما حقق بيكاسو مجداً باهراً ففي الوقت الذي كان فيه فان كوخ منتحراً عاش بيكاسو عمراً مديداً جاوز التسعين فقد أنجز قرابة واحد وعشرين ألف لوحة ومنحوتة ناهيك عن كونه سفاحاً وزيراً لعشرات النساء فقد أصبح مليارديراً وصار أسطورة القرن العشرين بينما جسّد لنا فان كوخ الفتنة المأساوية للفنان المندحر والخالد/ استاذي محمود الحميم وأنت الوسيم حدّ الروعة والشيوعي الأجمل هل ننسى (فهداً) مقابل (ماوتسي تونغ)؟
إنّ يوسف سلمان يوسف المسيحي المتجرّد أسس حزباً شيوعياً بإرادته الصارمة ولم يكن قائداً ومفكراً (مثاقفاً) ولم تبهره طروحات الغرب كما يقول المؤرخ المتقشف (هادي العلوي) كانت كتاباته كما يقول لا تخلو من الأخطاء الإملائية والنحوية لكنها حميمة عراقوية نابعة من وجدانٍ أصيل لذا وصل صوته إلى الفلاحين بل العشائر في الأرياف وعمال المدن المسحوقين ورجال الدين الشرفاء وفي النهاية دفع الثمن غالياً عندما صعد إلى المشنقة عام 1949 الذي دخلت أنت فيه جامعة بغداد وبهذا العام نفسه دخلت قوات (ماوتسي تونغ) المنتصرة إلى العاصمة بكين ليؤسس أعظم امبراطورية في الشرق تواجه الغرب...
استاذ محمود أي جُرحٍ يمثله لك العام 1949 الذي دخلت فيه الجامعة؟ فهد يصعد إلى المشنقة وماوتسي تونغ يجلس على سدة الحكم؟ ... وضع الرائد محمود كفه على كتفي وأطرق إلى الأرض، قال لي يا (قصي) أنت تثير مواجعي.. كنتُ ألمحُ سهماً ينـزلُ فيه إلى صميم القلب وهو يغادر المكان يستعيد (أورسولا) حبيبة (كوخ) و(ماريا المجدلية) منقذها وحبيبها يسوع وقطعة من الحجر الكريم عليها اسم (سهام حمدي) حبيبة محمود .. غادر المكان عبر سحابة من الحزن ليختفي ذلك العابر الاستثنائي في زحام المدينة.
***
عدنا من مقبرة الحسن البصري، كنتُ حزيناً عبر الطريق، شربتُ خمراً كثيراً/ بعد يومين كنا في المقهى، أنا، وجاسم العايف، وحسين عبد اللطيف/ فوجئنا بمحمود عبد الوهاب يدخل مقهانا، انخطفت وجوهنا كنا معطوبين وذاهلين/ هاتفت القاص (محمد خضير) قلت له خذ تكسياً على حسابي وتعال فوراً، ما الأمر قال؟ إنها مصيبة قلت، جاء محمد خضير وخصّ الجميع بالسلام، جلس قبالة محمود، ولاذ بصمت عميق، صمت مطبق عمّ المكان، وطال الوقت، دعونا محموداً إلى بيوتنا، كان فاتراً، شاحباً، كأنه لا يعرفنا نهائياً، وحين دخل سائقه القديم (عمّار المظفر) استأذنا بالخروج.. في الساعة الثالثة بعد الظهر اتصل بي السائق عمار، قال دخل ثلاثة شبان مسلحين أخذوا محموداً معهم..
كان الخبر قد عمّ المدينة كلها، فدخل الأدباء في حالة إنذار، إنها صدمة ميتافيزيقية على حد قول(محمد خضير).. في الصباح حشّد رئيس جامعة البصرة (د. علي عباس علوان) تلميذ الاستاذ محمود رجالات الأكاديمية والفكر والفن عبر موكب دخل مقبرة الحسن البصري وكان الوقوف على قبر الاستاذ/ جاء القيمون على المقبرة، كان القبر كما هو يحفّ به الهدوء والسلام/ وفي تلك الأثناء دخل السائق (عمار المظفر).. لا تقلقوا، ذلك الرجل هو شبيه الاستاذ محمود عبد الوهاب، إنه يطابق شكله وعمره تماماً/ حين خرج من المقهى لم يحدثني تماماً، كأنه لم يعرفني/ كانت تنتظره سيارة حديثة لقد تقصيت الأمر من عمّي وكان قادماً بالصدفة، ووجدني حائراً عندما أشرت إلى الموكب الذي سار معه محمود/ كان عمّي من أكبر المهربين في ستينيات القرن الماضي، قال لي إن ذلك العجوز هو (رحيم مهنا) وهو رجل من أكبر الأثرياء في المنطقة، وهو يمثل مافيا في حد ذاته/ يمتلك ثلاثة فنادق في الكويت، وعدة فنادق في عبادان، ويقيم ما بين دبي وهونغ كونغ/ إنّه من أكبر تجار المخدرات، وهو يشبه العجوز الذي يستأجرك دوماً/ خرج موكب المثقفين من المقبرة صوب العشار/ وهناك قلت للقاص (محمد خضير) هل تعتقد إن بالإمكان كتابة ذلك؟ قال لي ذلك يعتمد على جدارة القاص، وعندي ثقة بك لتكتب قصة ناجحة، فأنت تمتلك تخيلاً لا بأس به؟ جرّب على سبيل المثال، جرّب.
















الفهرست
1. خارج الثكنة .....................3
2. وردة الجوري الحمراء..............4
3. شمسه ............................5
4. همٌ ثقيل...........................7
5. امرأة عجوز في أعلى البناية..........8
6. في عربة القطار....................10
7. الجارة الجديدة.....................12
8. خمس قملات......................14
9. تترك سراويلها وترحل..............15
10. غوستاف فلوبير....................17
11. عجوز منكوبة .....................18
12. الروائي الذي مات..................19
13. نسيان.............................20
14. جوع..............................21
15. زنابق..............................22
16. قادمون............................23
17. في قلب الطبيعة.....................24
18. مشوار.............................25
19. بهيجة..............................26
20. سليم السراج .......................28
21. نافع..............................29
22. شرفة ............................30
23. ......... .....................31
24. الخلاص...........................32
25. صورة ............................34
26. الجرّة السومرية.....................36
27. الأمير.............................37
28. تصفية ............................36
29. الشبح ........................... 39
30. الأب الروحي .....................40
31. شرفة .............................41
32. أمّ ................................43
33. طائر الحلم ....................... 45
34. المكان ونظرة الحدس................50
35. شبح البريكان الحزين................52
36. افرشي كفيك ِ وستعودين ........... 55
37. التشرد عند الغروب ................58
38. تشكيل حكائي على الزجاج..........60
39. المايسترو........................... 62
40. صحوة الرجل الغيور ............... 65
41. محمود عبد الوهاب يدخل المقهى..... 68



#قصي_حسن_الخفاجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قصي حسن الخفاجي - الجرة السومرية